الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

الآيات

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

أسباب النّزول

لقد أورد المفسّرون قصّة لسبب نزول الآيات خلاصتها أنّ سادة قريش اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرروا إرسال اثنين منهم إلى أحبار اليهود في المدينة ، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط.

قال زعماء قريش لهؤلاء : سلوا أحبار اليهود عن محمّد وصفا له صفته ، وخبراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا.

فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا أحبار اليهود عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالا لهم ما قالت قريش.

٢٠١

فقال لهما أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه أريكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو.

وفي رواية أخرى قالوا : فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكّة فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصة.

فجاءوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبركم بما سألتم غدا ولم يستثن ـ أي لم يقل إن الله ـ فانصرفوا عنه ، ومكث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكّة وتكلموا في ذلك. فشق على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يتكلم به أهل مكّة ، ثمّ جاءه جبرائيل عليه‌السلام عن الله بسورة الكهف ، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطوّاف. وأنزل عليه آية (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).

وقد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيل حين جاءه : «لقد احتبست عنّي يا جبرائيل» فقال له جبرائيل عليه‌السلام (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) الآية.

(من الجدير بالذكر هنا أنّ سورة الكهف تضمنت الجواب على سؤالين من الأسئلة الثلاثة. إلّا أنّ الآية التي تتحدث عن الروح قد مرّت علينا في سورة الإسراء. وهذا أمر لا يندر حدوثه في القرآن ، إذ تنزل آية في مناسبة معينة ، ثمّ توضع بأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة أخرى).

* * *

٢٠٢

التّفسير

بداية قصّة أصحاب الكهف

في الآيات السابقة كانت هناك صورة للحياة الدنيا ، وكيفية اختبار الناس فيها ، ومسير حياتهم عليها ، ولأنّ القرآن غالبا ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحسّاسة ، أو أنّه يذكر نماذج من التأريخ لتجسيد الوعي بالقضية ، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصّة أصحاب الكهف ، وعبرّت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).

إنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين ، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مترفة بالزّينة وأنواع النعم ، إلّا أنّهم انسلخوا من كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدّ الطاغوت ؛ طاغوت زمانهم ، وذهبوا إلى غار خال من جميع أشكال الزّينة والنعم ، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات عليه.

الملفت للنظر أنّ القرآن ذكر في البداية قصّة هذه المجموعة من الفتية بشكل مجمل ، موظفا بذلك أحد أصول فن الفصاحة والبلاغة ، وذلك لتهيئة أذهان المستمعين ضمن أربع آيات ، ثمّ بعد ذلك ذكر التفاصيل في (١٤) آية.

في البداية يقول تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً). إنّ لنا آيات أكثر عجبا في السموات والأرض ، وإن كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلّ وعلا ، وفي حياتكم ـ أيضا ـ أسرار عجبية تعتبر كل واحدة منها علامة على صدق دعوتك ، وفي كتابك السماوي الكبير هذه آيات عجيبة كثيرة ، وبالطبع فإنّ قصّة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.

أمّا لماذا سميت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إلى لجوئهم إلى الغار كي ينقذوا أنفسهم ، كما سيأتي ذلك لاحقا إن شاء الله.

٢٠٣

أمّا «الرقيم» ففي الأصل مأخوذة من (رقم) وتعني الكتابة (١) ، وحسب اعتقاد أغلب المفسّرين فإنّ هذا هو اسم ثان لأصحاب الكهف ، لأنّه في النهاية تمت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار.

البعض يرى أنّ «الرقيم» اسم الجبل الذي كان فيه الغار.

والبعض الآخر اعتبر ذلك اسما للمنطقة التي كان الجبل يقع فيها.

أمّا بعضهم فقد اعتبر ذلك اسما للمدينة التي خرج منها أصحاب الكهف ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر صحة كما يظهر.

أمّا ما احتمله البعض من أنّ أصحاب الرقيم هم مجموعة أخرى غير أصحاب الكهف، وتنقل بعض المرويات قصّة تختص بهم ، فالظاهر أنّ هذا الرّاي لا يتناسب مع الآية، لأنّ ظاهر الآية يدل على أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مجموعة واحدة ، لذلك وبعد ذكر العنوانين تذكر السورة قصّة أصحاب الكهف ولا تذكر غيرهم. وهذا بنفسه دليل على الوحدة.

وفي الرّوايات المعروفة الواردة في تفسير نور الثقلين في ذيل الحديث عن الآية ، نرى أنّ الأشخاص الثلاثة الذين دخلوا الغار قد دعوا الله بأخلص ما عملوه لوجهه تعالى أن ينجيهم من محنتهم ، ولكن هذه الرّوايات لا تتحدث عن أصحاب الرقيم بالرغم من أنّ بعض كتب التّفسير قد تعرّضت لهم.

على أية حال يجب أن لا نتردّد في أنّ هاتين المجموعتين (أصحاب الكهف والرقيم) هم مجموعة واحدة ، وأنّ سبب نزول الآيات يعضد هذه الحقيقة.

ثمّ تقول الآيات بعد ذلك : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وعند ما انقطعوا عن كل أمل توجهوا نحو خالقهم : (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ثم : (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً). أي أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا الضيق ويقربنا من

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ رقم (على وزن زخم) تعني الخط الخشن والواضح ، والبعض اعتبره النقطة في خط. وفي كل الأحوال إنّ (رقيم) تعني الكتاب أو اللوح أو الرسالة التي يكتب فيها شيئا.

٢٠٤

مرضاتك وسعادتك ، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإطاعة أوامر الله تعالى.

وقد استجيبت دعوتهم : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً).

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً).

* * *

ملاحظات

١ ـ جملة (أَوَى الْفِتْيَةُ) من مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء الفتية الهاربين من بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عند ما وصلوا إلى الغار.

٢ ـ (فتية) جمع (فتى) وهو الشاب الحدث ، ولكنها تطلق أحيانا على الأشخاص الكبار والمسنين الذين يملكون روحية شابّة ، وقد ذكرت هذه الكلمة مع نوع من الإشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.

والشاهد على هذا الكلام ما نقل عن الإمام الصادق في أصحاب الكهف إذ قال:«أمّا علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا كلّهم كهولا فسمّاهم الله فتية بإيمانهم».

بعد ذلك أضاف الإمام الصادق في معنى الفتوة قوله عليه‌السلام : «من آمن بالله واتقى فهو الفتى» (١).

وقد نقل عن الإمام الصادق ما يشبه هذا الحديث في (روضة الكافي) (٢) أيضا.

٣ ـ استخدام تعبير (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) إشارة إلى أنّ هؤلاء الفتية عند ما لجأوا إلى الغار تركوا جميع الوسائل والأسباب الظاهرية ، وكانوا لا يأملون سوى

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ و ٢٤٥.

(٢) المصدر السّابق.

٢٠٥

رحمة الله.

٤ ـ جملة (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) كناية لطيفة عن (التنويم) ، كأنّما يوضع ستار على أذن الشخص بحيث لا يسمع أي شيء ، وهو ستار النوم.

ولهذا فإنّ النوم الحقيقي هو النوم الذي يطغى على السمع ، وكذلك إذا أردنا أن نوقظ شخصا من نومه ، فإنّنا نصيح به ونناديه حتى ينفذ الصوت إلى مسامعه.

٥ ـ إنّ استخدام تعبير (سِنِينَ عَدَداً) إشارة إلى أنّ نومهم قد استمرّ لعدّة سنين كما سيأتي تفسير ذلك في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

٦ ـ إنّ استخدام تعبير (بَعَثْناهُمْ) ليقظتهم من النوم ، قد يكون لأنّ نومهم أصبح من الطول بمقدار بحيث كانوا كالموتى. فيقظتهم من النوم كبعثهم إلى الحياة مرّة أخرى.

٧ ـ جملة (لِنَعْلَمَ ...)لا تعني أنّ الله يريد أن يعلم شيئا جديدا. ويكثر استخدام هذا التعبير في القرآن ، والغرض منه هو تحقق العلم الإلهي ، بمعنى نحن أيقظناهم من المنام حتى يتحقق هذا المعنى ، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.

٨ ـ عبارة (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) إشارة لما سنتحدث عنه أثناء تفسير الآيات اللاحقة ، حيث أنّهم بعد يقظتهم اختلفوا في مقدار نومهم ، فالبعض قال : يوما ، والبعض الآخر قال: نصف يوم ، في حين أنّهم كانوا نائمين لسنين طويلة.

أمّا قول البعض بأنّ هذا التعبير هو شاهد على أنّ أصحاب الكهف هم غير أصحاب الرقيم ، فهذا كلام بعيد للغاية ولا يحتاج لمزيد توضيح (١).

* * *

__________________

(١) ذهب إلى هذا الرأي صاحب كتاب (أعلام القرآن) في صفحة ١٧٩ من كتابه.

٢٠٦

الآيات

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

التّفسير

القصّة المفصّلة لأصحاب الكهف :

بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصّة أصحاب الكهف ، بدأت الآن مرحلة الشرح المفصّل لها ضمن (١٤) آية وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) كلام خال من أي شكل من أشكال الخرافة والتزوير. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً). وكما قلنا فإنّ (فتية) جمع

٢٠٧

(فتى) وهي تعني الشاب الحدث. وبما أنّ الجسم يكون قويا في مرحلة الشباب ، فهو على استعداد لقبول نور الحق ، ومنبع للحب والسخاء والعفة. ولذا كثيرا ما تستخدم كلمة (الفتى والفتوة) للتدليل على مجموع هذه الصفات حتى لو كان أصحابها من المسنيّن.

وتشير الآيات القرآنية ـ وما هو ثابت في التأريخ ـ إلى أنّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر ، وكانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف.

مجموعة أهل الكهف ـ الذين كانوا على مستوى من العقل والصدق ـ أحسّوا بالفساد وقرروا القيام ضدّ هذا المجتمع ، وفي حال عدم تمكنهم من المواجهة والتغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.

لذا يقول القرآن بعد البحث السابق : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً).

فإذا عبدنا غيره : (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً).

نستفيد من تعبير (رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أنّ بذرة التوحيد وفكرته كانت منذ البداية مرتكزة في قلوبهم ، إلّا أنّهم لم تكن لديهم القدرة على إظهارها والتجاهر بها. ولكن الله بتقوية قلوبهم أعطاهم القدرة على أن ينهضوا ويعلنوا علانية نداء التوحيد.

وليس من الواضح فيما إذا كان هذا الإعلان قد تمّ أوّلا أمام ملك زمانهم الظالم (دقيانوس) أو أنّه تمّ أمام الناس ، أو أمام الاثنين معا (الحاكم الظالم والناس) أو أنّهم تجاهروا به فيما بينهم أنفسهم؟

لكن يظهر من كلمة (قاموا) أنّ إعلانهم كان وسط الناس ، أو أمام السلطان الظالم.

(شطط) على وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد والإفراط في الابتعاد لذا

٢٠٨

فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق ، ويقال لحواشي وضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء ، وكونها ذات جدران مرتفعة.

وفي الواقع ، إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التوحيد ونفي الآلهة. وهو قولهم : إنّنا نرى وبوضوح أنّ لهذه السماوات والأرض خالقا واحدا ، وأنّ نظام الخلق دليل على وجوده ، وما نحن إلّا جزء من هذا الوجود ، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات والأرض.

ثمّ ذكروا دليلا آخر وهو : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً).

فهل يمكن الإعتقاد بشيء بدون دليل وبرهان؟ : (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ).

وهل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمى دليلا على مثل هذا الإعتقاد؟ ما هذا الظلم الفاحش والانحراف الكبير : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

وهذا الافتراء هو ظلم للنفس ، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط والشقاء ، وهو أيضا ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات ، وأخيرا هو ظلم لله وتعرض لمقامه العظيم سبحانه وتعالى.

هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس ، وزرع غرسة التوحيد في مكانها ، إلّا أنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد ، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.

وهكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعدادا وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثمّ كان قرارهم : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ). حتى : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

«يهيّئ» مشتقة من «تهيئة» بمعنى الإعداد.

٢٠٩

«مرفق» تعني الوسيلة التي تكون سببا للطف والرفق والراحة ، وبذا يكون معنى الجملة (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أنّ الخالق سبحانه وتعالى سيرتب لكم وسيلة للرفق والراحة.

وليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الأولى إشارة إلى الألطاف المعنوية لله تبارك وتعالى ، في حين أنّ الجملة الثّانية تشير إلى الجوانب المادية التي تؤدي إلى خلاصهم ونجاتهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ الفتوة والإيمان

تتزامن روح التوحيد دائما مع سلسلة من الصفات الإنسانية العالية ، فهي تنبع منها وتؤثّر فيها أيضا ، ويكون التأثير فيما بينهما متبادلا. ولهذا السبب فإننا نقرأ في قصّة أصحاب الكهف أنّهم كانوا فتية آمنوا بربّهم.

وعلى هذا الأساس قال بعض العلماء : رأس الفتوة الإيمان.

وقال البعض الآخر منهم : الفتوة بذل الندى ، وكف الأذى ، وترك الشكوى.

والبعض الثّالث فسّر الفتوة بقوله : هي اجتناب المحارم واستعمال المكارم.

٢ ـ الإيمان والإمداد الإلهي

في عدّة مواقع من الآيات أعلاه تنعكس بوضوح حقيقة الإمداد الإلهي للمؤمنين، فإذا وضع الإنسان خطواته في طريق الله ، ونهض لأجله فإنّ الإمداد الإلهي سيشمله ، ففي مكان تقول الآية : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً).

وفى مكان آخر تقول : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ). وفي نهاية الآيات كانوا بانتظار رحمة الخالق : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ).

٢١٠

الآيات القرآنية الأخرى تؤيد هذه الحقيقة بوضوح ، فعند ما يجاهد الإنسان من أجل الله ، فإنّ الله يهديه إلى طريق الحق : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) وفي سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية (١٧) نقرأ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً).

إنّ طريق الحق مليء بالموانع والصعوبات ، ومن العسير على الإنسان طي هذا الطريق والوصول إلى الأهداف من دون لطف الله وعنايته.

ونعلم أيضا إنّ لطف الله أكبر من أن يترك العبد في طريق الحق لوحده.

٣ ـ ملجأ باسم الغار

إنّ وجود (أل) التعريف في كلمة «الكهف» قد تكون إشارة إلى أنّهم (أصحاب الكهف) كانوا مصممين على الذهاب إلى مكان معين في حال عدم نجاح دعوتهم التوحيدية ، وذلك لإنقاذ أنفسهم من ذلك المحيط الملوّث.

(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع ، وتذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان ، حيث ينعدم فيه الضوء ، ولياليه مظلمة وباردة ، وتذكرنا بآلام المحرومين ، إذ ليس ثمّة شيء من زينة الحياة المادية ، أو الحياة الناعمة المرفّهة.

ويتّضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ التأريخ ينقل لنا أنّ أصحاب الكهف كانوا من الوزراء وأصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. وقد نهضوا ضدّ الحاكم وضدّ مذهبه ، وكان اختيار حياة الكهوف على هذه الحياة قرارا يحتاج إلى المزيد من الشهامة والهمّة والروح والإيمان العالي.

وفي هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضّمن خطر الحيوانات المؤذية ، هناك عالم من النور والإخلاص والتوحيد والمعاني السامية.

إنّ خطوط الرحمة الإلهية متجلية على جدران هذا الغار ، وأمواج لطف

__________________

(١) العنكبوت ، الآية الأخيرة.

٢١١

الخالق تسبح في فضائه ، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت ، ولا يصل طوفان ظلم الجبارين إلى هذا الكهف.

هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة والتي كان سجنا لأرواحهم وذهبوا إلى غار مظلم جاف. وفعلهم هذا يشبه فعل النّبي يوسف عليه‌السلام حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة ، وإلّا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره ، لكن هذا الضغط زاد في صموده وقال متوجها إلى ربّه العظيم : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) (١).

* * *

__________________

(١) يوسف ، ٣٣.

٢١٢

الآيتان

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

التّفسير

مكان أصحاب الكهف :

يشير القرآن في الآيتين أعلاه إلى التفاصيل الدقيقة المتعلّقة بالحياة العجيبة لأصحاب الكهف في الغار ، وكأنّها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل الغار ينظر إليهم.

في هاتين الآيتين إشارة إلى ست خصوصيات هي :

أوّلا : فتحة الغار كانت باتجاه الشمال ، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإنّ ضوء الشمس كان لا يدخل الغار بشكل مباشر ، فالقرآن يقول إنّك

٢١٣

إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار ، وتغرب من جهة الشمال : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ).

وعلى هذا الأساس لم يكن ضوء الشمس يصل إلى أجسادهم بشكل مباشر ، وهو أمر لو حصل فقد يؤدي إلى تلف أجسادهم ، ولكن الأشعة غير المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.

إنّ عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكّد على هذا المعنى ، وكأنّ الشمس كانت مأمورة بأن تمرّ من اليمين (يمين الغار). وكلمة (تقرض) التي تعني (القطع) تؤكّد نفس مفهوم السابق ، وإضافة إلى هذا فإنّ كلمة «تزاور» المشتقّة من كلمة (الزيارة) المقارنة لبداية الشيء تناسب مفهوم طلوع الشمس. (وتقرض) تعني القطع والنهاية وهو معنى يتجلى في غروب الشمس.

ولأنّ فتحة الغار كانت إلى الشمال فإنّ الرياح اللطيفة والمعتدلة كانت تهب من طرف الشمال وكانت تدخل بسهولة إلى داخل الغار ، وتؤدي الى تلطيف الهواء في جميع زوايا الغار.

ثانيا : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)

لقد كان أولئك في مكان واسع من الغار ، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مستقرّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة ، بل إنّهم انتخبوا وسط الغار مستقرا لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار ، وبعيدين أيضا عن الأشعة المباشر لضوء الشمس.

وهنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية ، حيث يبيّن أنّ الهدف من ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

٢١٤

نعم ، إنّ الذين يضعون أقدامهم في طريق الله ، ويجاهدون لأجله فإنّ الله سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليس في بداية العمل فقط. إنّ الله يرعى هؤلاء حتى في أدق التفاصيل.

ثالثا : إنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ). وهذا يدل على أنّ أجفانهم كانت مفتوحة بالضبط مثل الإنسان اليقظ ، وقد تكون هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإنسان اليقظ. أو لكي يكون شكلهم مرعبا كي لا يتجرأ إنسان على الاقتراب منهم. وهذا بنفسه أسلوب للحفاظ عليهم.

رابعا : وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياما في الكهف ، فإنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ).

حتى لا يتركز الدم في مكان معين ، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدّة طويلة.

خامسا : في وصف جديد يقول تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).

كلمة «وصيد» وكما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل الغرفة أو المخزن الذي يتمّ إيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال ، إلّا أنّ المقصود به هنا هو فتحة الغار.

برغم أنّ الآيات القرآنية لم تتحدث حتى الآن عن كلب أصحاب الكهف ، إلّا أنّ القرآن يذكر هنا تعابير خاصّة تتضح من خلالها بعض المسائل ، فمثلا ذكر حالة كلب أصحاب الكهف يفيد أنّه كان معهم كلب يتبعهم أينما ذهبوا ويقوم بحراستهم.

أمّا متى التحق هذا الكلب بهم ، وهل كان كلب صيدهم ، أو أنّه كلب ذلك الراعي الذي التقى بهم في منتصف الطريق ، وعند ما عرف حقيقتهم أرسل

٢١٥

حيواناته إلى القرية والتحق بهم ، لأنّه كان يبحث عن الحقيقة مثلهم وقد رفض هذا الكلب أن يتركهم واستمرّ معهم.

ألا يعني هذا الكلام أنّ جميع المحبّين ـ لأجل الوصول إلى الحق ـ يستطيعون سلوك هذا الطريق ، وأنّ الأبواب غير مغلقة أمام أحد سواء كانوا وزراء عند الملك الظالم ثمّ تابوا ، أو كان راعيا ، بل وحتى كلبه؟!

ألم يؤكّد القرآن أن جميع ذرات الوجود في الأرض والسماء ، وجميع الأشجار والأحياء تذكر الله ، وتحبّ الله في قلوبها وصميم وجودها؟ (راجع سورة الإسراء ـ الآية ٤٤).

سادسا : قوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).

إنّها ليست المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يحفظ فيها الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالرعب والخوف ، فقد واجهتنا في الآية (١٥١) من سورة آل عمران صورة مماثلة جسّدها قول الله تبارك وتعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (١).

وفي دعاء الندبة نقرأ كلاما حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثمّ نصرته بالرعب».

أو ما هو سبب الرعب في مشاهدة أهل الكهف ، وهل يعود ذلك لظاهرهم الجسماني ، أو بسبب قوّة معنوية سرية؟

الآيات القرآنية لم تتحدّث عن ذلك ، ولكن المفسّرين ذكروا بحوثا مفصّلة في هذا المجال ، ولعدم قيام الدليل عليها صرفنا النظر عن ذكرها.

كما أنّ قوله تعالى : (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) في الحقيقة علّة لقوله تعالى :

__________________

(١) لأجل التوضيح أكثر يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (١٤٨) من سورة آل عمران والآية (١٢) من سورة الأنفال من تفسيرنا هذا.

٢١٦

(لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) يعني لكنت تهرب بسبب الخوف الذي يملأ قلبك ، وكأنّ قلبك مملوء بالخوف ، وينفذ إلى ذرّات وجودك بحيث أنّ جميع وجود الإنسان يصاب بالوحشة والخوف. على أي حال ، إذا أراد الله شيئا فإنّه يحقق أهم النتائج من خلال أبسط الطرق.

* * *

٢١٧

الآيتان

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

التّفسير

اليقظة بعد نوم طويل :

سوف نقرأ في الآيات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا للغاية بحيث استمر (٣٠٩) سنة ، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه بالموت ، ويقظتهم أشبه بالبعث ، لذا فإنّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ).

يعني مثلما كنّا قادرين على إنامتهم نوما طويلا فإنّنا أيضا قادرون على

٢١٨

إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم : (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) (١).

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

لعل التردّد والشك هنا يعود ـ كما يقول المفسّرون ـ إلى أن أصحاب الكهف دخلوا الغار في بداية اليوم ، ثمّ ناموا ، وفي نهاية اليوم استيقظوا من نومهم ، ولهذا السبب اعتقدوا في بادئ الأمر بأنّهم ناموا يوما واحدا ، وبعد أن رأوا حالة الشمس ، قالوا : بل (بَعْضَ يَوْمٍ).

وأخيرا ، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

قال بعضهم : إنّ قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة لاستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد.

وقد يكون كلامهم هذا بسبب شكّهم في أنّ نومهم لم يكن نوما عاديا ، وذلك عند ما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظفارهم وما حلّ بملابسهم.

ولكنّهم ـ في كل الأحوال ـ كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى الطعام ، لأنّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد ، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ).

ثمّ أردفوا : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً). لماذا هذا التلطّف : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ).

ثمّ : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).

* * *

__________________

(١) اللام في «ليتساءلوا» هي لام العاقبة وليست للعلّة. يعنى أنّ نتيجة يقظتهم هو أن سأل أحدهم الآخر عن طول مدّة نومهم.

٢١٩

بحوث

١ ـ أزكى الطعام

مع أنّ أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إلى الطعام ، إلّا أنّهم قالوا للشخص الذي كلّفوه بشراء الطعام : لا تشتر الطعام من أيّ كان ، وإنّما انظر أيّهم أزكى وأطهر طعاما فأتنا منه.

بعض المفسّرين تأولوا المعنى وقالوا : إنّ المقصود من (أزكى) هو ما يعود إلى الحيوانات المذبوحة ، إذ أنّهم كانوا يعلمون أنّ في تلك المدينة من يبيع لحم الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأنّ البعض يتكسّب بالحرام ، لذلك أوصوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عند ما يحاول شراء الطعام.

ولكن يظهر أنّ لهذه الجملة مفهوما واسعا يشمل كافة أشكال الطهارات الظاهرية والباطنية (المعنوية) ، وكلامهم وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق ، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب ، بل عليهم أيضا الاهتمام بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكيا نقيا من جميع الأرجاس والشبهات. وإنّ هذا الأمر ينبغي أن يلازمهم حتى في أصعب لحظات الحياة وأشدّها عسرا ، لأنّ هذا المعنى هو تعبير عن أصل في وجود المؤمن.

اليوم يسعى معظم أفراد عالمنا للاهتمام بجانب من هذا الأمر ، وهو الجانب المتعلق بالحفاظ على الطعام من أشكال التلوث الظاهري ، إذ يضعون الطعام في أواني مغطاة بعيدة عن الأيدي الملوّثة ، وعن الأتربة والغبار. وهذا العمل بحدّ ذاته جيد جدّا ، إلّا أنّ علينا أن لا نكتفي بهذا المقدار ، بل ينبغي تزكية الطعام وتطهيره من لوثة الشبهة والحرام والرّبا والغش وأي شكل من أشكال التلوّث المعنوي.

وفي الرّوايات الإسلامية هناك تأكيد كبير على الطعام الحلال النقي الزاكي وأثره في صفاء القلب واستجابة الدعاء.

٢٢٠