الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

الواقع ـ هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة ، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعا ، إذ هي تخاطب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ).

ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات ، هو أفضل من كل ما تفكّر به : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

ونلاحظ في هذه الآية عدة أمور :

١ ـ تناسب الصفات الثلاثية

في الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاث صفات من صفات الله ، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.

أوّلا : نفي الولد ، لأنّ امتلاك الولد دليل على الحاجة ، وأنّه جسماني ، وله شبيه ونظير ، والخالق جلّ وعلا ليس بجسم ولا يحتاج لولد ، وليس له شبيه ونظير.

الثّاني : نفي الشريك (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة ، وهو دليل العجز والضعف ، ويقتضي وجود الشبيه والنظير. والخالق جلّ وعلا منزّه عن هذه الصفات ، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة ، وليس له أي شبيه.

الثّالث : نفي الولي والحامي عند التعرّض للمشاكل والهزائم (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ).

ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي .. إنّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له ، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل منه (كالولي).

نقل العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر

١٨١

أسماءهم بصراحة قولهم : «إنّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع:المجموعة الأولى هم المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق ، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك له سبحانه ، لذلك فإنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة : لبيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة ، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق».

٢ ـ ما هو التكبير؟

القرآن يؤكّد على رسوله أن يكبّر الله ، وهذا تعني أنّ الغرض من ذلك هو الإعتقاد بهذا الأمر ، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.

إنّ معنى الإعتقاد بأنّ (الله أكبر) أن لا نقيسه مع المخلوقات الأخرى ، ونقول بأنّه أعظم وأكبر منها ، لأنّ مثل هذه المقايسة خطأ من الأساس. إنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر من أن نقيسه بشيء ، كما يعلمنا ذلك الإمام الصادق عليه‌السلام في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى ، حيث نقرأ فيها ما نصّه :

قال رجل عند الإمام الصادق عليه‌السلام : الله أكبر.

فقال عليه‌السلام : «الله أكبر من أي شيء؟».

قال الرجل : من كل شيء.

فقال عليه‌السلام : «حددته».

فقال الرجل : كيف أقول؟

قال عليه‌السلام : قل : «الله أكبر من أن يوصف» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا نقرأ عن جميع بن عمير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أي شيء ، الله أكبر».

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.

١٨٢

فقلت : الله أكبر من كل شيء.

فقال : «وكان ثمّ شيء فيكون أكبر منه».

فقلت : فما هو؟

قال عليه‌السلام : «أكبر من أن يوصف» (١).

٣ ـ الإجابة على هذا السؤال

قد يطرح هنا هذا السؤال : كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية ، في حين أنّنا نعلم بأنّ (الحمد) هو في قبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة ، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مع التسبيح فكيف مع الحمد؟

في الجواب على هذا السؤال نقول : بالرغم من أنّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإنّ إحداهما تتلاءم مع التسبيح والأخرى تتلاءم مع الحمد ، إلّا أنّه في الوجود الخارجي (العيني) يكون الاثنان لازمين وملزومين ، فنفي الجهل عن الخالق يكون ملازما لإثبات العلم له ، كما أنّ إثبات العلم لذاته جلّ وعلا ملازم لنفي الجهل.

وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة من ذكر اللازم وأخرى من ذكر الملزوم.

كما ذكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).

دعاء الختام : إلهي املأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك ، ونؤمن بما وعدت ، ونلتزم ما أمرت ، لا نعبد غيرك ، ولا نتوكل إلّا عليك.

إلهنا ، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الاعتدال ، وأن نبتعد عن كل إفراط وتفريط.

__________________

(١) المصدر السّابق.

١٨٣

إلهنا ، لك الحمد ولك الشكر ، وأنت الواحد الكبير ، أكبر من أن تحدّ في وصف،فاغفر لنا ، وثبتنا في خطواتنا ، وانصرنا على أعدائنا ، وأوصل انتصاراتنا بالانتصار النهائي للمصلح المهدي عليه‌السلام ، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.

نهاية سورة الإسراء

* * *

١٨٤

سورة الكهف

مكّية

وعدد آياتها مائة وعشر آيات

١٨٥
١٨٦

سورة الكهف

فضيلة سورة الكهف

١ ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا : بلى.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر الله له إلى الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيّام ، وأعطي نورا يبلغ السماء ، ووقي فتنة الدجّال» (١).

٢ ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف،ثمّ أدرك الدجّال لم يضره. ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة» (٢).

٣ ـ وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال في فضل سورة الكهف : «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا ، وبعثه الله مع الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء» (٣).

لقد قلنا مرارا : إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي ، وبركاتها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ص ٤٤٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٤٧.

١٨٧

الأخلاقية ، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقا لمضامينها.

وبما أنّ قسما مهمّا من هذه السورة يتعرض إلى قصّة تحرك مجموعة من الفتية ضدّ طاغوت عصرهم ، ودجّال زمانهم ، هذا التحّرك الذي عرّض حياتهم ووجودهم للخطر وللموت لولا عناية الباري بهم ورعايته لهم. لذا فإنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة ينير القلب بنور الإيمان ، ويحفظه من الذنوب وإغواءات الدجالين ، ويعصمه من الذوبان في المحيط الفاسد.

إنّ ممّا يساعد على تكميل هذا الأثر النفوس والقلوب هو ما تثيره السورة من أوصاف الآخرة ويوم الحساب ، والمستقبل المشؤوم الذي ينتظر المستكبرين ، وضرورة الالتفات إلى علم الخالق المطلق وإحاطته بكل شيء.

إنّ كل ذلك ممّا يحفظ الإنسان من فتن الشيطان ، ويجعل نور الإيمان يشع فيه ، ويغرس العصمة في قلبه ، وتكون عاقبته مع الشهداء والصدقين.

محتوى سورة الكهف

تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا ، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة ـ كما في أغلب السور المكّية ـ إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضا إلى قضية مهمّة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيّام بشدّة ، وهي عدم استسلام الأقلية ـ مهما كانت صغيرة ـ إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية ، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف ، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة ، فعليهم خوض الجهاد والصراع ، وإن

١٨٨

عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

من قصص هذه السورة أيضا قصّة شخصين ، أحدهما غنيّ مرفه إلّا أنّه غير مؤمن ، والآخر فقير مستضعف ولكنّه مؤمن. وقد صمد الفقير المستضعف المؤمن ولم يفقد شرفه عزته وإيمانه أمام الغني ، بل قام بنصيحته وإرشاده ، ولمّا لم ينفع معه تبرأ منه ، وقد انتهت المواجهة إلى انتصاره.

وهذه القصّة تذكر المسلمين وخاصّة في بداية عصر الإسلام وتقول لهم : إنّ من سنة الأغنياء أن يكون لهم فورة من حركة ونشاط مؤقت سرعان ما ينطفئ لتكون العاقبة للمؤمنين.

كما يشير جانب آخر من هذه السورة إلى قصة موسى والخضر عليهما‌السلام لم يستطع الصبر في مقابل أعمال كان ظاهرها يبدو مضرا ، ولكنّها في الواقع كانت مليئة بالأهداف والمصالح ، إذ تبيّنت لموسى عليه‌السلام وبعد توضيحات الخضر مصالح تلك الأعمال ، فندم على تعجله.

وفي هذا درس للجميع أن لا ينظروا إلى ظاهر الحوادث والأمور ، وليتبصروا بما يكمن خلف هذه الظواهر من بواطن عميقة وذات معنى.

قسم آخر من السورة يشرح أحوال (ذي القرنين) وكيف استطاع أن يطوي العالم شرقه وغربه ، ليواجه أقواما مختلفة بآداب وسنن مختلفة ، وأخيرا استطاع بمساعدة بعض الناس أن يقف بوجه مؤامرة (يأجوج) و (مأجوج) وأقام سدا حديديا في طريقهم ليقطع دابرهم (تفصيل كل هذه الإشارات المختصرة سيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى) حتى تكون دلالة هذه القصة بالنسبة للمسلمين ، هو أن يهيئوا أنفسهم ـ بأفق أوسع ـ لنفوذ إلى الشرق والغرب بعد أن يتحدوا ويتحصنوا ضدّ أمثال يأجوج ومأجوج.

الظريف أنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف ، قصة

١٨٩

موسى والخضر ، وقصة ذي القرنين) حيث أنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية (٩٦) من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

وخلاصة الكلام أن السورة تحتوي على مفاهيم تربوية مؤثرة في جميع الأحوال.

* * *

١٩٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

التّفسير

البداية باسم الله ، والقرآن :

تبدأ سورة الكهف ـ كما في بعض السور الأخرى ـ بحمد الله ، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمّة ومطلوبة ، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج ، فتقول الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً).

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم ، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

١٩١

(قَيِّماً) وينذر الظالمين من عذاب شديد : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ). وفي نفس الوقت فهو : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً). وهؤلاء في نعيمهم (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً).

ثمّ تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين ، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين ، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فهي تحذر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن الله ، وتحذر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن الله، وتحذّر المشركين لظّنهم بأنّ الملائكة بنات الله.

ثمّ تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الادعاءات الفارغة فتقول : إنّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام ، وإنّما هم مقلدون فيه للآباء ، وإنّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ). بل : ولد؟ أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدودا ... إنّه كلام رهيب ، ومثل هؤلاء الذين يتفوهون به لا ينطقون إلّا كذبا : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

بحوث

* * *

١ ـ افتتاح السورة بحمد الله سبحانه وتعالى

هناك خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بحمد الله ، ثمّ تعرج بعد الحمد والثناء على قضايا خلق السموات والأرض (أو ملكية الله سبحانه وتعالى لها) أو هداية العالمين ، عدا هذه السورة التي تتناول بعد الحمد والثناء مسألة نزول القرآن على نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي حقيقة الأمر إنّ السور الأربع «الأنعام ـ سبأ ـ فاطر ـ الحمد» تتناول القرآن التكويني ، فيما تتطرق سورة الكهف إلى القرآن التدويني ، وكما هو معلوم فإنّ الكتابين، أي (القرآن التدويني) وخلق الكون وما فيه (القرآن التكويني) كل

١٩٢

منهما مكمّل للآخر ، وهذا يوضح أنّ للقرآن وزن يعادل الخلق. وأساسا فإنّ تربية الخلائق الواردة في الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) غير ممكنة ، ما لم يستفاد بصورة تامة من الكتاب السماوي العظيم ، أي القرآن.

٢ ـ القرآن كتاب ثابت ومستقيم وحافظ

كلمة «قيّم» على وزن كلمة «سيّد» ومشتقة من مصدر الكلمة «قيام» وهنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنّها تعني المدبّر والحافظ لبقية الكتب السماوية ، كما تعني كلمة «قيّم» في نفس الوقت الاعتدال والاستقامة التي لا اعوجاج فيها وإضافة إلى أنّ كلمة «قيم» هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته ، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن ، وخلوّه من أي شكل من أشكال التناقض ، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم ، وكونه أسوة لحفظ الأصالة ، وإصلاح الخلل ، وحفظ الأحكام الإلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة (القيّم) مشتقة من (قيمومة) الباري عزوجل التي تعني اهتمام الباري عزوجل وحفظه جميع الكائنات ، والقرآن الذي هو كلام الله له نفس الصفة أيضا.

كما وصف الله سبحانه وتعالى دينه في عدّة آيات قرآنية بأنّه (القيّم) حتى أنّه أمر نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعمل وفق ما يمليه الدين القيّم والمستقيم : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (١).

وما ذكر أعلاه بشأن تفسير كلمة «قيّم» ، أخذ من عدّة تفاسير مختلفة ، وهو خلاصة لما قاله المفسّرون من أنّ كلمة «قيّم» تعني الكتاب الباقي الذي لا ينسخ ، أو الكتاب الحافظ للكتب السابقة ، أو الكتاب القيّم على الدين ، أو الخالي من الاختلافات والتناقضات ، وكل هذه المعاني انصبت في المفهوم الذي ذكرناه.

__________________

(١) الروم ، ٤٣.

١٩٣

واعتبر بعض المفسّرين أنّ جملة (لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) تعني فصاحة ألفاظ القرآن وكلمة «قيما» تعني البلاغة والاستقامة بالرغم من عدم امتلاكهم لأي دليل واضح على هذا التباين (١) ، والظاهر أنّ الكلمتين تؤكّد كل منهما الأخرى ، مع فرق أن كلمة «قيّم» لها مفهوم واسع ، وتعني اضافة إلى معنى الاستقامة ، المحافظ والمصلح للكتب المساوية الأخرى (٢).

٣ ـ انذارين شديدين عام وخاص :

بعد الإنذار العام الذي وجهته الآيات في البداية لكافة البشر ، وجهت الآيات المذكورة آنفا إنذارا خاصّا للذين ادّعوا بأنّ لله ولدا وهذا ما يوضح خطورة الانحراف العقائدي الذي أصاب المسيحيين واليهود والمشركين ، وانتشر بصورة واسعة في الأجواء التي نزل القرآن ، ومن الطبيعي فإنّ انتشار مثل هذه الأفكار يقضي على روح التوحيد في ذلك المجتمع ، إذ حدّوا الله سبحانه وتعالى بحدود مادية وجسمية ، وأنّه يمتلك عواطف وأحاسيس بشرية ، إضافة إلى وجود أكفاء وشركاء له ، وأنّه يحتاج إلى الآخرين.

وبسبب هذه المعتقدات نزلت آيات عديدة للردّ على تلك الشبهات ، ومنها الآية (٦٨) في سورة يونس : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) والآيات من (٨٨) إلى (٩١) في سورة مريم : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً).

وما جاء في هذه الآيات المباركة يوضح قوّة الرّد الإلهي على تلك الادعاءات ، حيث أكّدت على العقاب الشديد الذي ينتظر من يعتقدون بمثل هذه

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ١٥ ، أثناء تفسير الآية.

(٢) «قيم» من الناحية اللغوية «حال» وعامله «أنزل».

١٩٤

الخرافة ، لأنّ من يدّعي باتّخاذ الله سبحانه وتعالى ولدا ، إنّما يمس كبرياء الباري عزوجل وعظمته ، وينزله إلى المستوى البشري المادي (١).

٤ ـ الادعاء الفارغ

إنّ البحث في المعتقدات والمبادئ المنحرفة ، كشف عن أنّ أغلبها ليس له أي دليل واقعي ، ولكن بعض الأشخاص يتخذها كشعار كاذب كي يتبعه الآخرون ، وتنتقل أحيانا من جيل إلى آخر كعادة. والقرآن هنا يلقي علينا دروسا في تجنب الادعاءات التي ليس لها أي دليل أو سند قوي ، ويأمرنا بعدم إعارة أية أهمية لناقلها ومروجها ، وقد اعتبر الله تبارك وتعالى تلك الأعمال من الكبائر ، وعدّها مصدرا للكذب والدجل.

ولو اتّخذ المسلمون هذا الأصل منهجا في حياتهم ، أي عدم التحدّث بشيء من دون التأكيد منه ، ورفض أي شيء ليس له دليل ، وعدم الاهتمام بالإشاعات الفارغة ، لتحسن الكثير من أمورهم وتصرفاتهم الخاطئة.

٥ ـ العمل الصالح برنامج مستمر

الآيات المذكورة أعلاه عند ما تتحدّث عن المؤمنين ، تعتبر العمل الصالح بمثابة برنامج مستمر ، إذ أنّ كلمة (يعملون في قوله تعالى : (يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فعل مضارع ، والفعل المضارع يدل على الاستمرارية ، فالعمل الصالح يمكن أن يصدر صدفة أو بسبب ما عن أي شخص ، فلا يكون حينئذ دليلا على الإيمان الصادق ، لكن استدامة العمل الصالح دليل الإيمان الصادق.

__________________

(١) حول عقيدة التثليث واعتقاد المسيحيين بأنّ المسيح ابن الله يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (١٧١) من سورة النساء في تفسيرنا هذا.

١٩٥

٦ ـ صفة العبد أرقى وسام للإنسان

وأخيرا ، إنّ القرآن عند ما يتحدّث في آياته عن قضية نزول الكتاب السماوي يقول:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) وهذا يعني أن صفة «العبد» هي أرقى وسام وأعلى مرتبة ينالها الإنسان في معراج تكامله المعنوي ، فإذا نال الإنسان وسام العبودية لله تعالى ، فإنّه يرى أن كل شيء في العالم ملكا لله ، وعملا يسلك سبيل الطاعة لأوامر الله والتمسك بالنهج الذي رسمه وحدّده تعالى للإنسان ، ولا يفكر في سواه ويرى أنّ خير شرف للإنسان أن يكون عبدا صالحا وملتزما بأوامر ونواهي الباري عزوجل.

* * *

١٩٦

الآيات

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

التّفسير

العالم ساحة اختبار :

الآيات السابقة كانت تتحدّث عن الرسالة وقيادة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها الآن ، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة ، ألا وهي الإشفاق على الأمّة فتقول:(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

وهنا يجب الانتباه إلى بعض الملاحظات :

أوّلا : «باخع» من «بخع» على وزن ، «نخل» وهي بمعنى إهلاك النفس من شدّة الحزن والغم.

ثانيا : كلمة «أسفا» والتي تبيّن شدّة الحزن والغم ، هي تأكيد على هذا الموضوع.

ثالثا : «آثار» جمع «أثر» وهي في الأصل تعني محل موضع القدم ، إلّا أنّ أي

١٩٧

علامة تدل على شيء معين تسمّى أثرا.

إنّ الاستفادة من هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إلى ملاحظة لطيفة ، وهي أنّ الإنسان قد يغادر في بعض الأحيان مكانا ما ، ولكنّ آثاره ستبقى بعده ، وتزول إذا طال زمن المغادرة. فالآية تريد أن تقول : أنّك على قدر من الحزن والغم ولعدم إيمانهم بحيث تريد أن تهلك نفسك من شدّة الحزن قبل أن تمحى آثارهم.

ويحتمل أن يكون الغرض من الآثار أعمالهم وتصرفاتهم.

رابعا : استخدام كلمة (حديث) للتعبير عن القرآن ، هو إشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير ، يعني أنّ هؤلاء لم يفكروا في أن يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدّة. وهذا دليل على عدم المعرفة ، بحيث أنّ الإنسان بقدر قربه من هذا الكتاب ، إلّا أنّه لا يلتفت إليه.

خامسا : صفة الإشفاق لدى القادة الإلهيين.

نستفيد من الآيات القرآنية وتأريخ النبوات ، أنّ القادة الإلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس ، وكانوا يريدون لهم الإيمان والهداية. ويألمون عند ما يشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي ، ويأنون من شدّة العطش ، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهارا ، ويبلغون سرّا وجهارا ، وينادون في المجتمع من أجل هداية الناس. إنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح الى الطرق المسدودة ، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعض الأحيان إلى حدّ الموت. ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة من الاهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد.

وبالنسبة لرسول الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إلى مرحلة خطرة على حياته بحيث أنّ الله تبارك وتعالى يسلّيه.

في سورة الشعراء نقرأ في الآيتين (٣ ، ٤) قوله تعالى (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا

١٩٨

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).

الآية التي بعدها تجسّد وضع هذا العالم وتكشف عن أنّه ساحة للاختبار والتمحيص والبلاء ، وتوضح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها).

لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة ، بحيث أنّ كلّ جانب فيه يذهب بالقلب ، ويحيّر الأبصار ، ويشير الدوافع الداخلية في الإنسان ، كيما يتسنى امتحانه في ظل هذه الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها ، لتظهر قدرته الإيمانية ، ومؤهلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

أراد بعض المفسّرين حصر معنى (ما عَلَى الْأَرْضِ) بالعلماء أو بالرجال فقط، ويقولوا : إنّ هؤلاء هم زينة الأرض ، في حين أنّ لهذه الكلمة مفهوما واسعا يشمل كل الموجودات على الكرة الأرضية.

والظّريف هنا استخدام الآية لتعبير (أَحْسَنُ عَمَلاً) وليس (أكثر عملا) وهي إشارة إلى أنّ حسن العمل وكيفيته العالية هما اللذان يحدّدان قيمته عند ربّ العالمين ، وليس كثرة العمل أو كميته.

على أي حال فإنّ هنا إنذار لكل الناس ، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا ، وبدلا من ذلك عليهم أن يفكروا بتحسين أعمالهم.

ثمّ يبيّن تعالى أنّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة ، بل مصيرها إلى المحو والزوال : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

«صعيد» مشتقّة من «صعود» وهي هنا تعني وجه الأرض ، الوجه الذي يتّضح فيه التراب.

١٩٩

و «جرز» تعني الأرض التي لا ينبت فيها الكلأ وكأنّما هي تأكل نباتها ، وبعبارة أخرى فإنّ «جرز» تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إنّ المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال عند ما تبتسم الورود وتتفتح النباتات ، وحيث تتناجى الأوراق ، وحيث خرير الماء في الجداول ... إنّ هذه الحالة سوف لا تدوم ولا تبقى ، إذ لا بدّ أن يأتي الخريف ، حيث تتعرى الأغصان وتنطفئ البسمة من شفاه الورود ، وتذبل البراعم ، وتجف الجداول ، وتموت الأوراق ، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحوّل ، فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تناطح السماء ، ولملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها الإنسان ، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والاعتبارات ، وسوف لن يبقى شيء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة ، وهذا درس عظيم.

* * *

٢٠٠