الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

بحوث

١ ـ جواب الرّسول للمتذرعين

لقد تبيّن من خلال الآيات أعلاه والحديث الوارد في أسباب النّزول ، أنّ طلبات المشركين العجيبة والغريبة لم تكن تنع من روح نشدان الحقيقة ، بل كان هدفهم البقاء على الشرك وعبادة الأصنام لأنّه كان يمثل الدعامة الأساسية والقوّة المادية لزعماء مكّة ، وكذلك منع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاستمرار في طريق الدعوة الى التوحيد بأي صورة ممكنة.

إلّا أنّ الرّسول الهادي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجابهم بجوابين منطقيين وفي جملة واحدة وقصيرة :

الجواب الأوّل : إنّ الخالق جلّ وعلا منزّه عن هذه الأمور ، منزّه التأثّر بهذا وذاك ، ومنزّه من أن يستسلم للاقتراحات الباطلة والواهية لأصحاب العقول السخيفة : (سُبْحانَ رَبِّي).

الجواب الثّاني : بغض النظر عمّا مضى فإنّ الإتيان بالمعجزات ليس من عملي ، فأنا بشر مثلكم ، إلّا أنّني رسول الله ، والقيام بالمعاجز من عمل الخالق وبإرادته تتمّ ، وبأمره تنجز ، فأنا لا أستطيع أن أطلب مثل هذه الأمور من الخالق ولا يحق لي أن أتدخل في مثل الأمور ، فمتى شاء سبحانه فسيبعث بالمعجزات الإثبات صدق دعوة رسوله : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

صحيح أنّ هناك ترابط بين هذين الجوابين ، إلّا أنّهما يعتبران جوابين منفصلين ، فأحدهما يثبت ضعف البشر في مقابل هذه الأمور ، والثّاني تنزيه ربّ البشر عن القبول بهذه المعجزات المقترحة.

وعادة فإنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إنسانا استثنائيا يجلس في مكان معين ، ويأتي الأشخاص يقترحون عليه المعجزات كيفما يشاءون ، ويتلاعبون بقوانين وسنن الخلق والوجود، وإذا لم تعجبهم معجزة معينة يطلبون غيرها ... وهكذا.

١٤١

إنّ مسئولية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إثبات ارتباطه بالخالق عن طريق المعجزة ، وعند ما يأتي بالقدر الكافي من المعاجز ، فليست عليه أية مسئولية أخرى.

إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لا يعرف بزمان نزول المعجزات ، وقد يطلب المعجزة من ربّه عند ما يعلم بأنّ الإتيان بها يرضي الله تعالى.

٢ ـ الأفكار المحدودة والطلبات غير المعقولة

كل إنسان يتكلم بحدود فكره ، ولهذا السبب فإنّ حديث أي شخص هو دليل على مقدار عمق أفكاره.

الأفراد الذي لا يفكرون إلا بالمال والجاه يتصورون أنّ كل من يتحدث عن شيء إنّما يقصد هذا المجال.

لهذا السبب كان مشركو مكّة يقترحون ـ بسبب قصور تفكيرهم ـ على رسول الله اقتراحات تتصل بالمال وقضاياه ، يطلبون منه أن يترك دعوته مقابل المال ، إنّهم يقيسون الروح الواسعة لرسول الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضيق أفكارهم.

إنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ من لا يجاهد في سبيل المال أو المقام مجنون حتما ، ومثلهم كمثل المسجون في غرفة صغيرة لا يرى السماء الواسعة والشمس العظيمة والجبال الشامخة والبحار الواسعة ولا يحس بعظمة عالم الوجود. لقد أرادوا مقايسة الروح السمحة العظيمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقاييسهم.

إضافة لذلك ، لنر ما هي الأشياء التي أرادوها من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تكن موجودة في الإسلام ، لقد أرادوا الأراضي المزروعة والعيون المتفجّرة ، وبساتين النخيل والأعناب ، والبيوت المزخرفة. ونحن نعلم أنّ الإسلام قد فتح أبواب التقدّم والتكنولوجيا بحيث يمكن في ظل التقدم الاقتصادي تحقيق الكثير من هذه الأمور ، بل ونلاحظ بأنّ المسلمين في ظل البرامج القرآنية وصلوا إلى تحقيق تقدّم أكثر ممّا كان يدور في عقول المشركين ذوي الأفق الضيق.

١٤٢

فهؤلاء لو كانوا ينظرون بعين الحقيقة لكانوا قد شاهدوا هذا التطوّر المعنوي العظيم في هذا الدين ، وكذلك الانتصارات المادية المنظورة حيث يضمن القرآن سعادة الإنسان في المجالين الدنيوي والأخروي.

بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ اقتراحاتهم السفيهة الأخرى تدل على مدى التكبّر والغرور والجهل المسيطر على عقولهم .. كقولهم : أو تسقط السماء علينا ..

وقولهم : أن تضع سلما وتصعد الى السماء.

وقولهم : أن تحضر أمّامنا الله والملائكة!! حتى أنّهم لم يطلبوا منه أن يأخذهم الى الله تعالى .. فما اشدّ هذا الجهل والغرور والتكبر!!

٣ ـ ذريعة أخرى لنفي الإعجاز

بالرغم من وضوح الآيات أعلاه ، وأنّها غير معقّدة ، وأنّ طلبات المشركين من رسولالله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة ، وكذلك سبب تعامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلبي مع هؤلاء معلوم أيضا ، إلّا أنّ الآيات أصبحت ذريعة بيد بعض المتذرعين في عصرنا الذين يصرّون على نفي أي معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهؤلاء يعتبرون هذه الآيات من أوضح الأدلة على نفي الإعجاز عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث طلب المشركون منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي ستة أنواع من المعاجز سواء من الأرض أو السماء وسواء كانت مفيدة لهم أو قاضية بموتهم ، إلّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستطيع تنفيذ أيّ منها ، جوابه الوحيد لهم كان (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

نحن نقول : إذا لم يكن متذرعو اليوم كأسلافهم ، فإنّ ما ورد في الآيات يكفيهم جوابا على ما أوردوا ، إذ ينبغي أن نلاحظ ما يلي :

١ ـ البعض من الطلبات الهزيلة ، كمثل طلبهم إحضار الخالق جلّ وعلا والملائكة ، أو المجيء برسالة من السماء فيها أسماؤهم وعناوينهم! البعض

١٤٣

الآخر مما طلبوا ، فيها أجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ، سوف لن يبقى أثر لهم ، وبالتالي لن تكون قضية المعجزة ذات أثر في إيمانهم أو عدمه ، مثل قولهم أن يسقط عليهم كسفا من السماء ، أي أن تنزل عليهم صخور من السماء.

أمّا بقية الطالبات المقترحة فتشمل الحصول على المزيد من وسائل الحياة المرفّهة والأموال والثروات الكبيرة ، في حين أنّ الأنبياء لم يأتوا لتحقيق هذه الأمور.

وإذا افترضنا خلو ما اقترحه المشركون من المآخذ ، فإنّنا نعلم ـ كما تخبر بذلك الآيات ـ أنّ ما طلبوه كان من نمط التحجّج والتذرّع أمام دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس من مسئولية رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم إلى ذرائعهم وتحججاتهم هذه ، بل إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدّم المعجزة بمقدار ما يثبت صدق دعوته ، ولا شيء أكثر من ذلك.

٢ ـ بعض تعابير هذه الآيات توضح بنفسها ـ بصراحة شديدة ـ مدى عناد وتذرّع هؤلاء بمثل هذه الطلبات ، فمثلا هم يقترحون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصعود الى السماء ، ولكنّهم يقولون له ، بأنّنا لا نصدّق صعودك إن لم تأتنا برسالة من السماء.

إذا كان هؤلاء طلّاب معجزة ـ فقط ـ فلما ذا لا يكفيهم صعود الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السماء ، ثمّ هل هناك دليل أوضح من هذا على عدم واقعية هؤلاء القوم وعدم منطقية عروضاتهم؟

٣ ـ إضافة إلى كلّ ما مر ، فإنّنا نعلم أنّ المعجزة من عمل الخالق جلّ وعلا وليست من عمل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين يظهر واضحا من كلامهم أنّهم كانوا يعتبرون المعجزة من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا كانوا ينسبون جميع الأعمال إليه مثل قولهم : (تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ) وما إلى ذلك من طلبات.

الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد بأنّ عليه أن يزيل هذه الأوهام من عقولهم ، ويثبت

١٤٤

لهم بأنّه ليس هو الله ولا هو شريكه ، والمعجزة من الله دون سواه ، فأنا بشر مثلكم ، والفارق أنّ الوحي ينزل عليّ ، وبمقدار ما يلزم الأمر فإنّ الله ينزل المعاجز على يدي ، ولا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا ، وقوله (سُبْحانَ رَبِّي) شاهد على هذا المعنى ، إذا أنّ الخالق منزّه عن أي شريك وشبيه.

وبالرغم من أنّ القرآن ذكر معاجز متعدّدة لعيسى عليه‌السلام مثل إحياء الموتى وشفاء المرضى وغير ذلك ، إلّا أنّ هذه المعجزات جميعا كانت ملحقة بكلمة «بإذني» أو «بإذن الله» أي إنّها تتم ـ فقط ـ بإذن الخالق ، وأجريت على يد المسيح عليه‌السلام (١).

٤ ـ أيّ إنسان يصدّق بأنّ إنسانا يدّعي النّبوة ، بل يعتبر نفسه خاتم النّبيين ، ويذكر في كتابه المعاجز الكثيرة للأنبياء السابقين ، إلّا أنّه نفسه لا يستطيع أن يأتي بمعجزة؟!

ثمّ إنّ الناس على هذا الفرض ، ألا يعترضون على مثل هذا النّبي ويقولون له : كيف تكون نبيّا في حين أنّك تعجز عن القيام بمعاجز مثل معاجز الأنبياء الآخرين ... فإن كنت تدّعي أنّك أفضل منهم جميعا وخاتمهم ، فكيف إذن تستقيم الدعوة مع عدم الإتيان بالمعجزات؟

إنّ هذا الواقع ـ بحدّ ذاته ـ دليل على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء ـ عند الضرورة واللزوم ـ بالمعجزات ، ومن هنا يتّضح أن عدم استسلام رسول الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطلبات المشركين الآنفة إنّما يعود لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم جدواها في إثبات ما يلزم من نبوته ، وأنّها انطلقت ـ فقط ـ على سبيل التحجج والتذرّع من قبل عتاة قريش وكبرائها ، لذلك أهمل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام ولم يستجب لاقتراحاتهم غير المنطقية وغير المعقولة.

* * *

__________________

(١) يمكن في هذا الصدد مراجعة الآيات (١١٠) من سورة المائدة ، و (٤٩) من سورة آل عمران.

١٤٥

الآيتان

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

التّفسير

ذريعة عامّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن تذرّع المشركين ـ أو قسم منهم ـ في قضية التوحيد ، أمّا الآيات التي نبحثها فإنّها تشير إلى ذريعة عامّة في مقابل دعوة الأنبياء ، حيث تقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً).

هل يمكن التصديق بأنّ هذه المهمّة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان ... ثمّ والكلام للمشركين ـ ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمّة ـ وهذه المسؤولية ـ على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة ـ مثلا ـ كي يستطيعوا أداء هذه المهمّة بجدارة ... إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!

إنّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخص

١٤٦

مجموعة أو مجموعتين من الناس ، بل إنّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تذرّعوا به في مقابل الأنبياء والرّسل.

قوم نوح عليه‌السلام ـ مثلا ـ كانوا يعارضون نبيّهم بمثل هذا المنطق ويصّرحون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما حكت ذلك الآية (٢٤) من سورة المؤمنون.

أمّا قوم هود فقد كانوا يواجهون نبيّهم بالقول : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) كما ورد في الآية (٣٣) من سورة المؤمنون. ثمّ أضافت الآية (٣٤) من نفس السورة قولهم : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

نفس هذه الذريعة تمسّك بها المشركون ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمام دعوة الإسلام التي جاء بها ، إذ قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (١).

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعا في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات ، قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً).

يعني أنّ القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه ، ومن جنس أتباعه ، فالإنسان لجماعة البشر ، والملك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح ؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة وأسوة ، وهذا لا يتمّ إلّا أن يكون القائد من جنسهم ، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس ، ونفس مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته ، فلو كان الرّسول إلى البشر من جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون إلى الطعام والمسكن والملبس ، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لمن

__________________

(١) الفرقان ، ٧.

١٤٧

بعث إليهم ، بل إنّ الناس سوف يقولون : إنّ هذا النّبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا وضمائرنا ، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إلى ذلك ، إنّ مثل هذا الرّسول سوف يتحدث إلى نفسه فقط ، إذ لو كان مثلنا يملك نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكان مثل حالنا أو أسوأ ، لذا لا اعتبار لكلامه.

أمّا عند ما يكون القائد مثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي يقول: «إنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي أمنة يوم الخوف الأكبر» (١). فإنّ مثله يصلح أن يكون الأسوة والقدوة لمن يقودهم.

من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادرا على علاجهم ، والإجابة على أسئلتهم ، لهذا السبب نرى أنّ الأنبياء برزوا من بين عامّة الناس ، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس ، وذاقوا جميع مرارات الحياة ، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها ومصابرة مشكلات الحياة.

* * *

ملاحظات

١ ـ قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ ...) يعني إن سبب عدم إيمانهم هو هذا التذرّع، إلّا أنّ هذا التعبير ليس دليلا على الحصر ، بل هو للتأكيد وبيان أهمية الموضوع.

٢ ـ عبارة : (مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) موضع اختلاف في أقوال وآراء المفسّرين ، فالبعض يعتبرها إشارة إلى قول عرب الجاهلية الذين كانوا يقولون بأنّنا كنّا نعيش في هذه الجزيرة حياة هادئة ، وقد جاء محمّد ليجلب الفوضى والقلق ، إلّا أنّهم جوبهوا بقول القرآن لهم بأنّه حتى لو كانت الملائكة تسكن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة رقم ٤٥.

١٤٨

الأرض وكانوا يعيشون حياة هادئة ـ كما تدّعون ـ فإنّنا كنّا سنرسل لهم رسولا من جنسهم وصنفهم.

البعض الآخر من المفسّرين فسّرها بأنّها «اطمئنان إلى الدنيا ولذاتها والابتعاد عن أي مذهب ودين».

وأخيرا فسّرها بعضهم بمعنى (السكن والتوطّن) في الأرض.

لكن الاحتمال الأقوى هو أن يكون هدف الآية : لو كانت الملائكة ساكنة في الأرض ، وكانوا يعيشون حياة هادئة وخالية من الصراع والنزاع ، فرغم ذلك كانوا سيشعرون بالحاجة إلى قائد من جنسهم ، حيث أنّ الهدف من إرسال الأنبياء وبعثهم ليس لإنهاء الصراع والنزاع وإيجاد أسباب الحياة المادية الهادئة وحسب ، بل إنّ هذه الأمور هي مقدمة لطي سبيل التكامل والتربية في المجالات المعنوية والإنسانية ، ومثل هذا الهدف يحتاج إلى قائد إلهي.

٣ ـ يستفيد العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان من كلمة «أرض» في الآية أعلاه، أنّ طبيعة الحياة المادية على الأرض تحتاج إلى نبي ، وبدونه لا يمكن الحياة.

إضافة الى ذلك فإنّه يرى أنّ هذه الكلمة إشارة لطيفة إلى جاذبية الأرض حيث أنّ التحرّك بهدوء واطمئنان بدون وجود الجاذبية يعتبر أمرا محالا.

* * *

١٤٩

الآيتان

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧))

التّفسير

المهتدون الحقيقيون :

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطا في مجال التوحيد والنّبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين ، فإنّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث ، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل أولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنّبوة والمعاد فقل لهم : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١).

إنّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلا : تهدّد المعارضين المتعصبين

__________________

(١) من حيث التركيب : إنّ «الباء» في (كَفى بِاللهِ) زائدة ، و «الله» فاعل «كفى» و «شهيدا» تمييز، أو حال كما يقول البعض.

١٥٠

والمعاندين ، بأنّ الله خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم ، فلا تظنوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنّ شيئا من أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثّاني : هو أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر إيمانه القاطع بما قال ، حيث أنّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول له أثر نفسي عميق في المستمع ، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثرا فيهم ، ويهز وجودهم ، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أن الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى بنور الإيمان في قلبه : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أمّا من أظلّه الله بسوء أعماله : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ). فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه ويطلبوا نور الهداية منه.

هاتان الجملتان تثبتان أنّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان ، فما لم يكن هناك توفيق إلهى لا يستقر الإيمان أبدا.

هذا التعبير يشبه دعوتنا لمجموعة لأن تفعل الخير بعد أن نشرح لهم أهمية الموضوع بواسطة الأدلة المختلفة ، إلّا أنّ الحصيلة العملية ستكون موافقة البعض ، وامتناع البعض الآخر عن فعل الخير برغم صحة الأدلة. وبذلك لا يكون كل واحد لائقا لفعل الخير.

وهذه حقيقة فليس كل قلب يليق لأن ينال نور الحق ، إضافة إلى أنّ الكلام يثير المستمع ، وقد يحدث أن يترك الشخص بتأثير هذا الكلام عناده ولجاجته ليثبت لياقته للحق ويستسلم له.

وقلنا مرارا : إنّ الهداية والضلالة الإلهيتين ليستا شيئين جبريين ، بل تخضعان للأثر المباشر لأعمال الإنسان وصفاته ، فالأشخاص الذين جاهدوا أنفسهم وسعوا بجدية في طريق القرب الإلهي ، فمن البديهي أن الله سيوفّقهم

١٥١

ويهديهم : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١).

أمّا أولئك الذين يسلكون طريق العناد والمكابرة وتتلوّث فطرتهم وقلوبهم بأنواع الذنوب والمفاسد والمظالم ، فإنّهم قد قضوا على أي استعداد أو جدارة لديهم في قبول الحق بالتالي مستحق للضلالة : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ)(٢).(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّاالْفاسِقِينَ)(٣).(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٤).

أمّا عن سبب مجيء «أولياء» بصيغة الجمع ، فقد يعود ذلك للإشارة إلى تعدّد الآلهة الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها ، فيكون المقصود أنّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر ، وكل ما تؤلهون من آلهة من دون الله ، لا يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة.

ثمّ تذكر الآيات ـ بصيغة التهديد القاطع ـ جانبا من مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فبدلا من الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة ، فإنّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنّم على وجوهم تعذيبا لهم.

البعض يعتقد أنّ هؤلاء يسبحون يوم القيامة بسبب عجزهم في ذلك اليوم عن المشي،لذلك فإنّهم يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

نعم ، فأولئك محرومون من نعمة كبيرة ، هي نعمة المشي على الأرجل ، لأنّهم لم يستفيدوا من هذه الوسيلة في هذه الدنيا في سلوك طريق السعادة والهداية ، بل خصصوها لسلوك طرق الذنوب والمعاصي.

ثمّ هم يحشرون : (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا). وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو : إنّ

__________________

(١) العنكبوت ، ٦٩.

(٢) إبراهيم ، ٢٧.

(٣) البقرة ، ٢٦.

(٤) غافر ، ٣٤.

١٥٢

المجرمين وأهل الجحيم ينظرون ويسمعون ويتكلمون ، فكيف تقول هذه الآية (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١)؟

للمفسّرين أقوال متعدّدة في الإجابة على هذا السؤال ، إلّا أن أفضلها جوابان نستطيع إجمالهما فيما يلي :

أوّلا : إنّ مراحل ومواقف يوم القيامة متعدّدة ، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صما وبكما وعميا ، وهذا نوع من العقاب لهم ، لأنّهم لم يستفيدوا من هذه النعم الإلهية بصورة صحيحة في حياتهم الدنيا. إلّا أنّه ـ في مراحل لاحقة ـ فإنّ عيونهم تبدأ بالنظر ، وآذانهم بالسماع ، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين ، ويبدأون بالتأوه والصراخ وإظهار ضعفهم ، حيث أن كل هذه الأمور هي نوع آخر من العقاب لهم.

ثانيا : إنّ المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سارّ ومن سماع أمور تبعث على الفرح ، ومن قول كلام يستوجب نجاتهم ، بل على العكس من ذلك ، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلّا ما يؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ).

لكن لا تظنّوا أنّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية ، بل هي : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)

* * *

__________________

(١) في الآية (٥٣) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وفي الآية (١٣) من سورة الفرقان قوله تعالى : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) وفي الآية (١٢) من الفرقان نقرأ : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً).

١٥٣

الآيات

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

التّفسير

كيف يكون المعاد ممكنا؟

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ يوما سيئا ينتظر المجرمين في العالم الآخر. هذه العاقبة التي تجعل أي عاقل يفكّر في هذا المصير ، لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تقف على هذه الموضوع بشكل آخر.

في البداية تقول : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا إِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً).

«رفات» كما يقول الراغب في «المفردات» هي قطع من (التبن) لا تتهشم بل

١٥٤

تنتشر وتتناثر هنا وهناك. والأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح ، فالإنسان يتحول تحت التراب إلى عظام نخرة ثمّ إلى تراب ، ثمّ تتلاشى ذرات التراب هذه وتنتشر.

وبعد تعجبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمرا غير ممكن ، يقول القرآن بأسلوب واضح ومباشر وبلا فصل : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). وعلى هؤلاء أن لا يعجلوا فإنّ القيامة وإن تأخّرت ، إلّا أنّها سوف تتحقق بلا ريب : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ).

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم هذه الآيات : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً).

وحيث أنّهم كانوا يصرخون ويصّرون على أن لا يكون النّبي من البشر حسدا من عند أنفسهم وجهلا وضلالا ، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من التصديق بإمكانية أن يعطي الله كل هذه المواهب لإنسان ، لذا فإنّ الخالق جلّ وعلا يخاطبهم بقوله : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ). ثمّ يقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).

«قتور» من «قتر» على وزن «قتل» وهي تعني الإمساك في الصرف ، وبما أنّ (قتور) صيغة مبالغة فإنّها تعني شدّة الإمساك وضيق النظر.

* * *

ملاحظات

١ ـ المعاد الجسماني

الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني ، فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة ، والقرآن يجيبهم بأنّ القادر على خلق السماوات والأرض ، لديه القدرة على جمع الأجزاء

١٥٥

المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرّة أخرى.

ولا ندري كيف ينكر بعض من يدعي الإسلام قضية المعاد الجسماني ، ويقتصرون في إيمانهم على المعاد الروحي برغم الدلالات الواضحة لهذه الآيات وغيرها؟

كما إنّ الاستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزوجل في إثبات المعاد ، هو واحد من الأدلة التي يذكرها القرآن مرارا ويعتمد عليها كثيرا. ويظهر مثل هذا النمط من الاستدلال بالقدرة الكلية على المعاد في الآية الأخيرة من سورة (يس) والتي تتضمّن عدّة أدلة لإثبات المعاد الجسماني (١).

٢ ـ أيّ الآيات؟

هناك احتمالات عديدة في أنّ الغرض من هذه (الآيات) في جملة (كَفَرُوا بِآياتِنا)هي آيات التوحيد أو أدلة النّبوة ، أو الآيات المرتبطة بالمعاد. ولكن وقوع الجملة في بحث المعاد ، ترجح اعتقادنا بأنّها إشارة إلى آيات المعاد ، وهي في الحقيقة مقدمة للردّ على منكري المعاد.

٣ ـ ما هو الغرض من «مثلهم»؟

إنّنا نعرف أنّ الله ـ بسبب قدرته العظيمة ـ قادر في يوم القيامة على إرجاع الناس ، في حين أنّنا نقرأ في الآيات أعلاه أنّه يستطيع أن يخلق مثلهم. وقد يكون هذا التعبير مدعاة لاشتباه أو استفسار البعض عمّا إذا كان الناس الذين يردون القيامة هم ليسوا هؤلاء الناس أنفسهم؟

بعض المفسّرين يرى أن الغرض من (مثل) هنا هو (عين) ففي بعض الأحيان نقول (مثلك يجب ألّا يقوم بهذا العمل) إلّا أنّنا نقصد أنّك أنت الذي يجب أن لا

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب : «العالم والمعاد بعد الموت».

١٥٦

تقوم بهذا العمل ، لكن هذا التّفسير بعيد ، لأنّ مثل هذه التعابير لها محل آخر لا يتناسب مع ما نبحثه الآن.

الظاهر أنّ الغرض من استخدام تعبير (مثل) في هذه الآية هو إعادة الحياة. فإعادة الخلق مرّة ثانية لا تكون حتما كالمرّة الأولى ، حيث هناك على الأقل زمان آخر وظروف أخرى ، وصورة جديدة بالرغم من أنّ المادة هي نفس المادة القديمة. وكمثال لذلك إذا جمعنا اجزاء متناثرة لقطعة من الآجر ووضعناها في قالبها القديم ، فإنّنا لا نستطيع أن نقول عن الآجر الجديد أنّه نفس قطعة الآجر القديمة ، بالرغم من أنّه ليس إلّا الطين السابق. بل نقول: إنّه مثله. وهذا دليل على التعابير المختارة والمنتخبة في القرآن الكريم.

ومن المسلّم به أنّ روح الإنسان تحدّد شخصيته ، ونحن نعلم أنّ الروح الأولى هي التي عند البعث ، إلّا أنّ المعاد الجسماني يقول لنا : إنّ الروح ستكون مع نفس المادة الأولى ، يعني أنّ تلك المادة المتلاشية ستتجمّع مرّة أخرى وتندمج مع روحها ، وفي موضوع المعاد أثبتنا أن روح الإنسان بعد أن تتخذ شكلا معينا لا يمكنها أن تنسجم مع غير جسدها الأصلي الذي تربت وعاشت معه. وهذا هو السر في البعث الروحي والجسدي معا.

٤ ـ ما هو (الأجل)؟

إنّ (الأجل) هو نهاية العمر. ولكن هل (الأجل) في هذه الآيات إشارة إلى نهاية العمر ... أو هو إشارة إلى نهاية عمر الدنيا وبداية البعث؟

وبما أنّ الحديث يدور حول المعاد ، لذا فإنّ المعنى الثّاني أكثر صحة. وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من أنّ هذا الكلام لا يتناسب مع جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) لأنّ منكري المعاد كانوا يشكّون حتما في قضية المعاد. فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ مفهوم مثل هذا التعبير هو أنّه يجب أن لا نسمح للشك بأنّ يدخل إلى أنفسنا نحن ،

١٥٧

لا أنّ أحدا لا يشك بذلك!

لذا فإنّ المفهوم الكلي للآية يصبح على هذه الصورة. إنّ الله الذي خلق السماوات والأرض يستطيع ـ حتما ـ أن يعيد الحياة لهؤلاء البشر ، أمّا إذا لم يحدث هذا الأمر بسرعة، فذلك بسبب أنّ السنة الإلهية لها أجل محدود وحتمي بحيث لا مجال للشك فيها.

وتصبح النتيجة : إنّ الدليل القاطع في قبال منكري المعاد هي هذه القدرة ، وأمّا قوله : (جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) فهو جواب على سؤال حول سبب تأخير القيامة. (فدقق في ذلك).

٥ ـ الترابط بين الآيات

عند مطالعة هذه الآيات يثار سؤال حول كيفية الارتباط والصلة بين كلمة (قتورا) التي هي بمعنى (بخيل) الواردة في آخر الآية ، وبين ما نبحثه؟

بعض المفسّرين قالوا : إنّ هذه الجملة إشارة إلى موضوع طرح قبل عدّة آيات من قبل عبدة الأصنام ، فقد طلبوا من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يملأ أرض مكّة بالعيون والبساتين. أمّا القرآن فيقول في جواب هؤلاء : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً ...).

إلّا أنّ هذا التّفسير مستبعد لأنّ كلام المشركين لم يكن عن مالكية هذه العيون والبساتين ، بل إنّهم طالبوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصل هذا العمل والذي يعتبر عملا إعجازيا.

التّفسير الآخر الذي ذكر في بيان الصلة وهو أفضل من التّفسير الأوّل ، هو أنّهم ـ بسبب بخلهم وضيق أنفسهم ـ كانوا يتعجبون من منح هذه الموهبة (النّبوة) للإنسان،وهذه الآية بمثابة ردّ عليهم حيث تقول لهم : إن بخلكم بلغ درجة بحيث أنّكم لو ملكتم جميع الدنيا فسوف لا تتركون صفاتكم السيئة والقبيحة هذه.

١٥٨

٦ ـ هل أن جميع البشر بخلاء؟

لقد قلنا ـ لمرّات عديدة ـ إنّ القرآن يذكر الإنسان بشكل عام ، ويلومه بأنواع اللوم، ويصفه بصفات كالبخل والجهل .. والعجول والظلوم وما شابهها.

إنّ هذه التعابير لا تتنافى مع كون المؤمنين والصالحين يتحلّون بضد هذه الصفات ، حيث يشير التعبير إلى أنّ الطبيعة الآدمية هي هكذا ، وإذا لم يخضع الإنسان لتربية القادة الإلهيين ، وترك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعدا للاتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أنّ ذاته خلقت هكذا ، أو أنّ عاقبة الجميع كذلك (١).

٧ ـ استخدام تعبير (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ)

يعني الخوف من الفقر ، ذلك الفقر الذي يكون سببه كثرة الإنفاق ، كما يظنون.

* * *

__________________

(١) في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.

١٥٩

الآيات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

التّفسير

لم يؤمنوا رغم الآيات :

قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنّ المشركين طلبوا أمورا عجبية غريبة من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما أنّ هدفهم ـ باعترافهم هم أنفسهم ـ لم يكن لأجل الحق وطلبا له ، بل لأجل التذرّع والتحجج والتعجيز ، لذا فإنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ عليهم ورفض الانصياع إلى طلباتهم.

١٦٠