الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

أدلة استقلال الروح

كان الكلام حتى الآن عن الماديين الذين يصرّون على أنّ الظواهر الروحية هي افرازات لخلايا الدماغ ، ويعتبرون الفكر والإبداع والحب والتنفر والغضب وجميع العلوم ، مثل القضايا المادية التي تخضع لأسلوب العمل المختبري وتشملها قوانين المادة ، إلّا أنّ الفلاسفة الذي يعتقدون باستقلالية الروح ذكروا أدلة قاطعة على نفي هذه العقيدة ، منها :

أوّلا : ادراك الواقع الخارجي

إنّ أوّل سؤال يمكن أن نطرحه على الماديين ، هو أنّه إذا كانت الأفكار والظواهر الروحية هي نفسها الخواص (الفيزيكيميائية) للدماغ ، ففي مثل هذه الحالة ينبغي أن تنعدم الخلافات والفروق بين عمل الدماغ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد ، حيث أنّ عمل المعدة هو التركيب الأساس ومجموعة من الفعاليات الفيزيائية والكيميائية ، إذ بواسطة نشاط معين وإفرازات حامضية تتم عملية هضم الطعام ويصبح جاهزا للامتصاص من قبل الجسم. وإذا كان إفراز اللعاب عملا فيزيائيا وكيميائيا في آن واحد ، فإنّنا نرى أنّ العمل الروحي يختلف عن هذه الأعمال.

إن كل أعمال أجهزة الجسم لها تشابه بدرجة معينة مع بعضها البعض ، ما عدا (الدماغ) الذي له وضع استثنائي ، إنّ أجهزة الجسم مرتبطة جميعا بجوانب داخلية ، في حين أنّ الظواهر الروحية لها جهة خارجية وتخبرنا عن الواقع الخارجي المحيط بنا.

ولأجل توضيح هذا الكلام يجب ذكر بعض الملاحظات :

الملاحظة الأولى : هل هناك عالم خارج وجودنا؟

من البديهي وجود مثل هذا العالم ، أمّا المثاليين الذين ينكرون وجود العالم

١٢١

الخارجي ويقولون بأنّ كل ما وجود هو (نحن) و (تصوراتنا) ويعتبرون العالم الخارجي مجموعة من التصورات والأحلام التي تشاهد في النوم ، فهؤلاء على خطأ ، وقد أثبتنا خطأهم هذا في أحد الأبحاث ، وأثبتنا أنّه كيف يتحول هؤلاء المثاليون إلى واقعيين في العمل، إذ أن ما يفكرون به في محيط مكتباتهم ينسونه عند ما يتجولون في الشارع ويتنقلون من مكان إلى آخر.

الملاحظة الثّانية : هل ندرك ونعلم بوجود العالم الخارجي ، أم لا؟

بالطبع الجواب على هذا السؤال بالإيجاب ، لأنّنا نملك معرفة كبيرة عن العالم الخارجي، وعندنا معلومات كثيرة عن الموجودات المحيطة بنا.

والآن نصل إلى هذا السؤال : هل هناك وجود للعالم الخارجي في داخل وجودنا؟ طبعا لا ، ولكن ارتساماته وصورته منعكسة في أذهاننا حيث نستفيد من خاصية (انعكاس الواقع الخارجي) لإدراك العالم الخارجي.

هذا الإدراك الذهني للعالم الخارجي ـ في الحقيقة ـ ليس من الخواص الفيزيكيميائية للدماغ لوحدها ، إذ أنّ هذه الخواص وليدة إحساسنا وتأثرنا بالعالم الخارجي ، وفي الاصطلاح : فإنّها معلولة لها. ونفس الشيء يقال بالنسبة لتأثير الطعام على معدتنا ، فهل تأثير الطعام على معدتنا والنشاطات الفيزيائية والكيميائية تكون سببا لمعرفة المعدة بالأطعمة؟

إذن كيف يستطيع الدماغ أن يتعرف على عالمه الخارجي؟

بعبارة أخرى نقول : في التعرف على الموجودات الخارجية هناك حاجة إلى نوع من الإحاطة بها ، وهذه الإحاطة ليست من عمل الخلايا الدماغية ، إذ الخلايا الدماغية تتأثر بالخارج فقط ، وهذا التأثر مثله كمثل سائر أجهزة الجسم ، وهذا الموضوع ندركه نحن بشكل جيد.

وإذا كان مجرّد التأثّر بالخارج دليلا على إدراكنا ومعرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي ، فيجب أن تتساوى في ذلك معدتنا ولساننا وأن يكون لها

١٢٢

نفس قابلية الفهم ، في حين أنّنا نعرف أنّ واقع الحال ليس كذلك. وخلاصة القول : إنّ الوضع الاستثنائي لإدراكنا دليل على أنّ هناك حقيقة أخرى كامنة فيها ، بحيث أنّ نظامها والقوانين المتحكمة فيه تختلف عن القوانين والنظم الفيزيائية والكيميائية. (فتدبّر ذلك).

ثانيا : وحدة الشخصية

الدليل الآخر على استقلال الروح وتمايزها هو مسألة وحدة الشخصية في طول عمر الإنسان.

إذا أردنا نشك في كل شيء ، فإنّنا لا نستطيع أن نشك في موضوع وجودنا (أي مقولة : أنا موجود) وليس ثمّة شك في وجودي وفي علمي بوجودي أو ما يصطلح عليه بـ «العلم الحضوري» وليس «العلم الحصولي» أي أنّني موجود عند نفسي وغير منفصل عنها.

على أي حال إنّ معرفتنا بأنفسنا من أوضح معلوماتنا ، ولا تحتاج إلى استدلال وإثبات.

أمّا بالنسبة للاستدلال المشهور الذي استدلّ به الفيلسوف الفرنسي ديكارت حول وجوده ، والذي يقول فيه (بما أنّني أفكر فإذن أنا موجود) فهو استدلال زائد وغير صحيح، لأنّه قبل أن يثبت وجوده اعترف مرّتين بوجوده (المرّة الأولى عند ما يقول : إنّني ، والثّانية عند ما يقول : أنا) هذا من جانب.

ومن جانب ثان فإنّ (إنّني) هذه منذ بداية العمر حتى نهايته واحدة ف (إنّني اليوم) هي نفسها (إنّني بالأمس) وهي نفسها (إنّني منذ عشرين عاما) ف (أنا) منذ الطفولة وحتى الآن تعبير عن شخص واحد لا أكثر ، إنّني نفس ذلك الشخص الذي كنت وسأبقى إلى آخر عمري نفس ذلك الشخص ، وليس شخصا آخر ، طبعا خلال هذه الفترة يكون الإنسان قد درس وتعلم ووصل إلى مراحل عالية

١٢٣

في العلم ، ولكن في جميع الأحوال يبقى هو هو ، ولا يصبح إنسانا آخر ، وهكذا في تعامل الآخرين معه حيث يعتبره الآخرون شخصية واحدة منذ أوّل حياته وإلى آخر لحظة فيها باسم واحد وجنسية معينة.

والآن لنرى ما هو هذا الكائن المتوغّل في اعماقنا؟ فهل هو ذرات وخلايا جسدنا ومجموعة الخلايا الدماغية وتأثيراتها؟ إنّ كل هذه الأمور قد تغيّرت على مدى عمرنا عدّة مرّات ، تقريبا في كل سبع سنوات مرّة واحدة ، حيث نعرف أنّه في كل يوم تموت ملايين الخلايا في جسدنا لتحل محلها ملايين أخرى جديدة ، ومثلها في ذلك مثل البناء الذي يتمّ إخراج الطابوق القديم منه ووضع طابوق جديد في مكانه فلو استمر التعمير في هذا البناء فإنّ البنية الأساسية لن تتغير ، ولكن يبقى البيت هو نفس ذاك البيت برغم أنّ الناس السطحيين لا يلتفتون لذلك. ومثل خلايا الجسم التي تموت وتحيا كمثل المسبح الكبير الذي يدخله الماء ببطء ويخرج من طرف آخر. طبيعي أنّ ماء هذا المسبح سيتغير بعد مدّة بشكل كامل بالرغم من عدم التفات الناس إلى ذلك ، إذ يظنون أنّ ماء المسبح ما زال على حاله لم يتغيّر.

وبشكل عام ، إنّ كل موجود يحصل على الطعام ومن جانب ثان يستهلك هذا الطعام ، فإنّه في الواقع يتجدّد ويتغّير بالتدريج.

لذا فإنّ إنسانا في السبعين من عمره لا يبعد أن يكون جسمه قد تغّير عشر مرات ، وإذا كان الأمر كما يقول الماديون ، من أنّ الإنسان هو نفس جسمه وأجهزته الدماغية والعصبية وخواصه الفيزيائية والكيميائية ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون ال (أنا) قد تغيّر عشر مرات خلال هذه السنوات السبعين! ولهذا يكون هذا الإنسان ليس الإنسان السابق، إلّا أنّ هذا الكلام لا يقبله أي وجدان.

ومن هنا يتّضح أن ثمّة حقيقة واحدة ثابتة على طول العمر ، هي غير الأجزاء المادية، هذه الحقيقة لا تتغّير كالأجزاء المادية ، وهي أساس وجودنا وتتحكم في حياتنا وهي سبب وحدة شخصيتنا.

١٢٤

الحذر من هذا الاشتباه!

البعض يتصوّر أن الخلايا الدماغية لا تتغّير ، ويقولون : لقد قرأنا في الكتب الفسيولوجية أنّ عدد الخلايا الدماغية واحد وثابت منذ البداية وحتى نهاية العمر ، وهي لا تزيد ولا تنقص وإنّما تكبر. لذلك إذا أصيبت بخلل فلن تكون قابلة للعلاج. وعلى هذا الأساس فإنّنا نملك وحدة ثابتة في مجموع بدننا ، هذه الوحدة هي الخلايا الدماغية التي تحفظ لنا وحدة شخصيتنا.

إنّ هذا الكلام ـ في الواقع ـ يمثل اشتباها كبيرا ، فهو خلط بين مسألتين ، إذ أن ما أثبته العلم من ثبات عدد الخلايا الدماغية منذ البداية حتى النهاية وأنّها غير قابلة للزيادة والنقصان ، لا يعني أنّ الذرات المكوّنة لهذه الخلايا لا تتغيّر ، فكما قلنا : إنّ خلايا الجسم التي تأخذ الطعام وتطرد الذرات القديمة بالتدريج تكون خاضعة للتغيير ، مثلها في ذلك مثل ذلك الشخص الذي يأخذ المال من طرف وينفقه من طرف آخر ، فهذا الشخص سيتغير رأس ماله بالتدريج ، بالرغم من أن مقدار رأس المال لم يتغيّر. وكذلك يمكن أن نذكّر بمثال ماء المسبح.

لذلك ، يتبيّن أنّ الخلايا الدماغية ليست ثابتة ، بل متغيّرة مثل سائر خلايا الجسم.

ثالثا : عدم تطابق الكبير مع الصغير

افترضوا أنّنا جلسنا على ساحل البحر ، وشاهدنا أمامنا عددا من الزوارق مع باخرة كبيرة ، ثمّ نظرنا إلى جانب الشمس فرأيناها تميل للغروب ، بينما القمر بدأ يبزغ من الجانب الآخر. وعلى الشاطئ هناك صفوف من طيور الماء الجميلة وقد اقترب بعضها نحو الماء. ونشاهد على الطرف الآخر جبلا عظيما تناطح قمته السماء علوا. والآن ، إزاء هذا المنظر ، لنغمض عيوننا برهة من الزمن ونتخيل ما شاهدناه : جبل عظيم ، بحر واسع ، سفينة كبيرة ، كل هذه الأمور ترتسم في مخيلتنا

١٢٥

كاللوحة الكبيرة للغاية في مقابل روحنا ، أو في داخل روحنا.

والسؤال هنا : أين مكان هذا المخطط في وجودنا ... هل تستطيع الخلايا الدماغية الصغيرة والمحدودة للغاية أن تستوعب حجم اللوحة الكبيرة والمخطط الكبير؟ الإجابة ـ طبعا ـ هي النفي ، ولذلك لا بدّ أنّنا نمتلك قسما آخر في وجودنا يكون فوق المادة الجسمية ، وهو من السعة بمقدار بحيث يستوعب كل هذه المناظر والمخططات واللوحات.

وإلّا فهل نستطيع تنفيذ مخطط لبناية ذات مساحة (٥٠٠) متر على قطعة أرض ذات مساحة بضعة ميلي مترات؟

الجواب ـ طبعا ـ سيكون بالنفي ، لأنّ موجودا أكبر لا يمكنه الانطباق على موجود أصغر مع احتفاظه بكبره وسعته ، إذ من ضرورات الانطباق أن يكونا متساويين ، أو أن يكون أحدهما أصغر من الثّاني ، فيمكن حينذاك تنفيذ الصغير على الكبير.

مع هذا الوضع كيف يمكن لخلايا دماغنا الصغيرة استيعاب الصور الذهنية الكبيرة؟

إنّنا نستطيع تصوّر الكرة الأرضية بحزامها الذي يبلغ أربعين مليون متر في أذهاننا ، ونستطيع أن نتصوّر ذهنيا كرة الشمس التي تكبر الأرض بمقدار مليون ومائتي ألف مرّة ، وكذلك يمكننا تصوّر المجرات والتي هي أكبر من الشمس بملايين المرّات. ولكن كل هذه الصور لا يمكن ارتسامها عمليا في خلايا الدماغ الصغيرة ، وذلك وفقا لقاعدة عدم انطباق الكبير على الصغير.

إذن يجب أن نعترف ونقرّ بوجود كامن فينا هو أكبر من جسمنا في قدرة استيعابه وإحاطته بالأشياء والمخطوطات والموجودات الكبيرة :

١٢٦

سؤال مهم :

يمكن أن يقول البعض : إن تصوراتنا الذهنية هي مثل المايكرو فيلم أو الخرائط الجغرافية التي تحتوي على مقياس للرسم مثل ١٠٠٠٠٠٠ / (١) أو ١٠٠٠٠٠٠٠٠ / (١) حيث يرمز هذا المقياس إلى مقدار التصغير وكذلك كثيرا ما يحدث لادراك عظمة باخرة كبيرة جدا وتصوير حجمها أن أحد الأشخاص يقف على عرشتها ويؤخذ لهما صورة لكي يعرف الناظر لها عظمة حجمها من خلال روية الشخص الواقف عليها.

وتصوراتنا الذهنية على منوال الصور المصغّرة وذات مقايس رسم معينة ، وعند ما نكبّرها بنفس المقدار فإنّنا نحصل على المخطط أو الحجم الصحيح والواقعي. وبالطبع فإنّ المخططات والأحجام الصغيرة يمكن أن تستوعبها الخلايا الدماغية.

في الجواب نقول : إنّ المايكرو فيلم يتمّ تكبيرة بواسطة (البرجكتر والشاشة الكبيرة التي تنعكس عليها الصور) كما أنّ الخرائط الجغرافية نستطيع التعرّف على ما تطويه من أحجام حقيقية بواسطة الأرقام الموجودة تحت الخرائط ، فعند ما نضرب المساحات بهذا الرقم نحصل على الخريطة الكبيرة الواقعية مجسمة في أذهاننا.

والآن نطرح هذا السؤال : أين هي هذه الشاشة أو الصفحة العظيمة التي ينعكس عليها مايكروفيلم الذهن؟ هل تمثل الخلايا الدماغية الصفحة أو الشاشة المعنية؟

بالطبع لا ، لأنّ الخريطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها بمقياس الرسم لتتحوّل إلى حجمها الحقيقي ، لا يمكن أن يكون مكانها الخلايا الدماغية الصغيرة في حجمها.

وبعبارة أوضح نقول : بالنسبة إلى المايكرو فيلم والخارطة الجغرافية ، فإنّنا

١٢٧

نرى أنّ الشيء الموجود في الخارج هو الفيلم والخارطة الصغيرة ، إلّا أنّه في صورنا وإدراكاتنا الذهنية تكون الصور بمقدار وجودها الخارجي ، ولا بدّ بالتالي من مكان يستوعبها ، فهل يمكن للخلايا الدماغية وهي بمساحتها وحجمها المعروف أن تستوعب كل هذه الأحجام العظيمة؟

وخلاصة القول : إنّنا نتصوّر الصور الذهنية للأشياء بنفس أحجامها وسعتها في موضوعاتها الخارجية ، وهذا التصوّر العظيم لا يمكن أن ينعكس في الخلايا الدماغية ، لذلك فهي تحتاج إلى مكان ومحل خاص ، وهكذا ندرك أن فينا وجودا حقيقيا أكبر من هذه الخلايا وفوقها جميعا.

رابعا : عدم تشابه الظواهر الروحية مع الأوضاع المادية

هناك دليل آخر على استقلال الروح وعدم ماديتها ، ففي الظواهر الروحية نشاهد خواصا وأوضاعا معينة تختلف عن الخواص والأوضاع المادية ، وليس ثمّة تشابه بينهما. ومثال ذلك ما يلي :

١ ـ الموجودات المادية تحتاج إلى الزمان ولها بعد تدريجي.

٢ ـ بمرور الزمن تبلى هذه الموجودات المادية.

٣ ـ من صفاتها أنّها قابلة للتقسيم إلى أجزاء متعدّدة.

ولكن الظواهر الذهنية ليست لها هذه الآثار والخواص ، حيث أنّنا نستطيع أن نتصوّر عالما كعالمنا الحالي في ذهننا دون الحاجة إلى مرور الزمن والتدرّج.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ اللقطات الموجودة في الذهن منذ عهد الطفولة لا تصبح قديمة ولا تستهلك أو تبلى بمرور الزمن ، بل تحتفظ بنفس شكلها ، ويمكن أن يستهلك دماغ الإنسان ، إلّا أنّ صورة البيت المتجسّدة في الدماغ منذ عشرين عامّا ثابتة فيه لا تتغيّر ولا تستهلك ولها نوع من الثبات الذي هو صفة عالم ما وراء الطبيعة.

١٢٨

إنّ روحنا تظهر خلاقية عجيبة اتجاه الصور ، وفي لحظة واحدة وبدون أي مقدمة يمكن رسم صور معينة في أذهاننا كالكرات السماوية والمجرات والكائنات الأرضية والجبال وما شابهها. إنّ هذه الخاصية ليست لكائن مادي ، بل هي دليل لكائن ما فوق المادة.

إضافة إلى ذلك فإنّنا لا نشك في أن (٢ + ٢ = ٤) حيث يمكن تجزئة طرفي المعادلة ، مثلا تجزئة الرقم (٢) أو الرقم (٤) إلّا أنّ هذا مفهوم التساوي هذا لا يمكن تجزئته ، فنقول مثلا : إنّ التساوي له نصفان وكل نصف هو غير النصف الآخر ، فالتساوي مفهوم لا يقبل التجزئة ، فإمّا أن يكون موجود أو غير موجود ، إذ لا يمكن تنصيفه أبدا.

لذا فإنّ هذا النوع من المفاهيم الذهنية غير قابل للتقسيم ، ولهذا السبب فهي ليست مادية ، إذ لو كانت مادية لكان يمكن تجزئتها ، ولهذا السبب فإنّ روحنا التي هي مركز للمفاهيم غير المادية لا يمكن أن تكون مادية ، لذا فإنّها فوق المادة. (فدقق في ذلك) (١)

* * *

__________________

(١) عرض وتلخيص عن كتاب : المعاد وعالم ما بعد الموت ، الفصل المتعلق باستقلال الروح.

١٢٩

الآيتان

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

التّفسير

ما عندك هو من رحمته وبركته :

تحدثت الآيات السابقة عن القرآن ، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضا ينصبان في نفس الاتجاه.

ففي البداية تقول الآية : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). وبعد ذلك:(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائدا وهاديا للناس ، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك ، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

وعند ربط هذه الآيات بالآية السابقة التي كانت تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فإنّنا نعرف أنّ الله إذا شاء يأخذ حتى هذا العلم الذي أعطاه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الآية التي بعدها جاءت لتستثني ، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك ، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا ، حيث يقول تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وهذه

١٣٠

الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك ، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري ، وهذه الرحمة ـ في الواقع ـ مكمّلة لرحمة الخلق.

إنّ الله الذي خلق البشر بمقتضى رحمته الخاصّة والعامّة ، وألبسهم لباس الوجود الذي هو أفضل الألبسة ، هو نفسه الذي بعث إليهم قادة وأعين معصومين وحريصين رؤوفين .. ذوي استقامة وقدرة لهداية الناس ، لأنّ من مقتضيات رحمة الله أن لا تخلو الأرض من حجّة له عزوجل.

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى : (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).

إنّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة ، وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة أخرى ، جعلا فضل الله عليك كبيرا للغاية فقد فتح الله أمامك أبواب العلم ، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان ، وعصمك من الخطأ ، حتى تكون أسوة وقدرة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.

كما أنّه ينبغي أن نشير إلى أنّ الجملة الاستثنائية الواردة هنا ترتبط مع الآية السابقة ، ومفهوم المستثنى والمستثنى منه هو هكذا : إذا أردنا فإنّنا نستطيع أن نمنع عنك هذا الوحي الذي أرسلناه لك ، إلّا أنّنا لا نفعل ، لأنّ الرحمة الإلهية شملتك وتشمل جميع الناس (١).

ومن الواضح أنّ هذا الاستثناء لا يعني أنّ الله يحجب في يوم من الأيّام رحمته عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو دليل على أنّ الرّسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك شيئا من عنده ، فعلمه ووحيه السماوي هو من الله ومرتبط بمشيئته وإرادته.

* * *

__________________

(١) في الحقيقة إنّ مفهوم الجملة هو هكذا : «ولكن لا نشاء أن نذهب بالذي أوحينا إليك رحمة من ربّك».

١٣١

الآيتان

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

التّفسير

معجزة القرآن :

الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن إعجاز القرآن ، ولأنّ الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات ، فإنّ الآية التي بين أيدينا ـ في الحقيقة ـ مقدمة للبحث القادم حول المعجزات.

إنّ أهم وأقوى دليل ومعجزة لرسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي هي معجزته الدائمة على طول التأريخ ، هو القرآن الكريم الذي بوجوده تبطل حجج المشركين.

بعض المفسّرين أراد أن يؤكّد ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة من خلال

١٣٢

مجهولية الروح وأسرارها وقياسها بمجهولية القرآن وأسراره. ولكن العلاقة التي أشرنا إليها آنفا تبدو أكثر من هذا الربط (١).

على أية حال فإنّ الله يخاطب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول له : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

إنّ هذه الآية دعت ـ بصراحة ـ العالمين جميعهم ، صغارا وكبارا ، عربا وغير عرب ، الإنسان أو أي كائن عاقل آخر ، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم ... لقد دعتهم جميعا لمواجهة القرآن ، وتحدّيه الكبير لهم ، وقالت لهم : إذا كنتم تظنون أنّ هذا الكلام ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان ، فأنتم أيضا بشر ، فأتوا إذا بمثله ، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم ، فهذا العجز أفضل دليل على إعجاز القرآن.

إنّ هذه الدّعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد بـ «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة ، وعند ما يرد هذا التعبير في أي مكان ، نفهم بوضوح أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات.

ونلاحظ في هذه الآية عدّة نقاط ملفتة للنظر :

١ ـ عمومية دعوة التحدّي والتي تشمل كل البشر والموجودات العاقلة الأخرى.

٢ ـ خلود دعوة التحدّي واستمرارها ، إذ هي غير مقيّدة بزمان ، وعلى هذا الأساس فإنّ هذا التحدّي اليوم جار مثلما كان في أيّام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيبقى كذلك

__________________

(١) يراجع في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٥٨.

١٣٣

في المستقبل.

٣ ـ استخدام كلمة «اجتمعت» إشارة لأشكال التعاون والتعاضد والتساند الفكري والعملي ، الذي يضاعف حتما من نتائج أعمال الأفراد مئات ، بل آلاف المّرات.

٤ ـ إنّ تعبير (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) تأكيد مجدّد على قضية التعاون والتعاضد ، وهي أيضا إشارة ضمنية إلى قيمة هذا العمل وتأثيره على صعيد تحقق الأهداف وتنجزها.

٥ ـ إنّ تعبير (بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) دلالة على الشمول والعموم ، وهو يعني (المثل) في جميع النواحي والأمور ، من حيث الفصاحة والبلاغة والمحتوى ، ومن حيث تربية الإنسان، والبحوث العلمية والقوانين الاجتماعية ، وعرض التأريخ ، والتنبؤات الغيبية المرتبطة بالمستقبل ... إلى آخر ما في القرآن من أمور.

٦ ـ إنّ دعوة جميع الناس للتحدّي دليل على أنّ الإعجاز لا ينحصر في ألفاظ القرآن وفصاحته وبلاغته وحسب ، وإلّا لو كان كذلك ، لكانت دعوة غير العرب عديمة الفائدة.

٧ ـ المعجزة تكون قوية عند ما يقوم صاحب المعجزة بإثارة وتحدّي أعدائه ومخالفيه،وبتعبيرنا تقول : يستفزهم ، ثمّ تظهر عظمة الإعجاز عند ما يظهر عجز أولئك وفشلهم.

وفي الآية التي نبحثها يتجلى هذا الأمر واضحا ، فمن جانب دعت جميع الناس،ومن جانب آخر تستفزهم بصراحة في قولها (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ثمّ تحرضهم وتدفعهم للتحدي بالقول (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

الآية التي بعدها ـ في الواقع ـ توضيح لجانب من جوانب الإعجاز القرآني ، متمثلا في شموليته وإحاطته بكل شيء ، إذ يقول تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي

١٣٤

هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). ولكن بالرغم من ذلك : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

«صرّفنا» من «تصريف» بمعنى التغيير أو التبديل.

أمّا «كفورا» فتعني إنكار الحق.

حقّا إنّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب ، خاصّة وأنّه صدر من شخص لا يعرف القراءة والكتابة ، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصّة حول قضايا العقائد ، وذكرت ـ أيضا ـ الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرّض القرآن ـ أيضا ـ إلى قضايا وأحداث تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها،وخالية من الخرافات.

وتعرض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثّر في القلوب المستعدّة كتأثير المطر في الأرض الميتة.

القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم ، إذ ذكرت بعض الحقائق التي لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أي عالم.

والخلاصة : إنّ القرآن سلك كل واد وتناول في آياته أفضل النماذج.

وإذا توجهنا إلى حقيقة محدودية معلومات الإنسان كائنا من كان (كما تشير إلى ذلك أيضا الآيات القرآنية) وأنّ رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترعرع في بيئة محدودة في القضايا العلمية والمعرفية حتى أنّها لم تبلغ من معلومات ومعارف الإنسان في زمانها إلّا مبلغا يكاد لا يذكر ... وسط كل ذلك ، ألا يعتبر التنوع في القرآن في قضايا التوحيد والأخلاق والاجتماع والسياسة والأمور العسكرية وغيرها ، دليلا على أنّ هذا القرآن ليس من صنع عقل بشري،بل من الخالق جلّ وعلا؟

ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

١٣٥

لنفترض أنّ جميع العلماء والمتخصصين يجتمعون اليوم لتأليف دائرة معارف، وينظموها بأفضل ما لديهم من خبرات فنية ومعرفية ، فإنّ النتيجة ستكون عملا يلقى صداه الحسن في مجتمع اليوم ، أمّا بعد خمسين عاما فسيعتبر هذا العمل ناقصا وقديما.

أمّا القرآن ففي أي عصر وزمان يقرأ ، وخاصّة في زماننا الحاضر ، فإنّه يبدو كأنّه نزل ليومنا هذا ، ولا يوجد فيه أي أثر يدل على أنّه قديم.

* * *

١٣٦

الآيات

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون استنادا للروايات الواردة أسبابا عديدة لنزول هذه الآيات ، وفيما يلي سنتعرض بشكل موجز إلى هذه الأسباب معتمدين بشكل مباشر على تفسير مجمع البيان الذي قال :

إنّ جماعة من وجهاء قريش ـ وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ـ اجتمعوا عند الكعبة ، وقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه. فبعثوا إليه : إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك. فبادر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ظنّا منه ، أنّهم بدا لهم في أمره ، وكان حريصا على رشدهم ، فجلس إليهم ، فقالوا : يا محمّد إنا دعوناك لنعذر إليك ،

١٣٧

فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، شتمت الآلهة ، وعبت الدين وسفهت الأحكام ، وفرقت الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك ، وإن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا ، وإن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولا ، وأنزل كتابا ، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه أصبر حتى يحكم الله بيننا».

قالوا : فإذن ليس أحد أضيق بلدا منّا فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال ، ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصيّ فإنّه شيخ صدوق لنسألهم عمّا تقول أحق أم باطل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بهذا بعثت».

قالوا : فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكا يصدقك ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بهذا بعثت ، وقد جئتكم بما بعثني الله به ، فإن قبلتم وإلّا فهو يحكم بيني وبينكم».

قالوا : فأسقط علينا السماء كما زعمت ، إن ربّك إن شاء فعل ذلك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذاك إلى الله إن شاء فعل».

وقال قائل منهم : لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فقام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل ، ثمّ سألوك أن تعجّل ما تخوفهم به فلم تفعل ، فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر ، ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك ، وكتاب يشهد لك.

١٣٨

وقال أبو جهل : إنّه أبى إلّا سبّ الآلهة وشتم الآباء ، وأنا أعاهد الله لأحملن حجرا فإذا سجد ضربت به رأسه.

فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزينا لما رأي من قوله ، فأنزل الله سبحانه الآيات أعلاه(١).

* * *

التّفسير

أعذار وذرائع مختلفة :

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن ، جاءت هذه الآيات تشير إلى ذرائع المشركين ، هذه الذرائع تثبت أنّ مواقف هؤلاء المشركين إزاء دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جاءت أصلا لإحيائهم ، لم تكن إلّا للعناد والمكابرة ، حيث أنّهم كانوا يطالبون بأشياء غير معقولة في مقابل اقتراح الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنطقي وإعجاز القوي.

هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي :

١ ـ في البداية يقولون : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً).

«فجور وتفجير» بمعنى الشق. وهي عامّة ، سواء كان شق الأرض بواسطة العيون أو شق الأفق بواسطة نور الصباح (مع الأخذ بنظر الإعتبار أن تفجير هي صيغة مبالغة لفجور).

«ينبوع» مأخوذة من «نبع» وهو محل فوران الماء ، والبعض قالوا بأنّ الينبوع هي عين الماء التي لا تنتهي أبدا.

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآيات. وكذلك جاء مثله مع تفاوت في الدر المنثور للسيوطي أثناء تفسير الآيات.

١٣٩

٢ ـ قولهم كما في الآية : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً).

٣ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً).

٤ ـ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً).

«قبيل» تعني في بعض الأحيان «الكفيل والضامن» وتعني ـ في أحيان أخرى ـ الشيء الذي يوضع قبال الإنسان وفي مواجهته ، وقال بعضهم بأنّها جمع (قبيلة) أي الجماعة من الناس.

وطبقا للمعنى الأوّل يكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة كضامنين على صدقك!

وأمّا طبقا للمعنى الثّاني فيكون المعنى أن تأتي بالله والملائكة وتضعهما في مقابلنا! وأمّا طبقا للمعنى الثّالث فيكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة على شكل مجموعة مجموعة!

ويجب الانتباه إلى أنّ هذه المفاهيم الثلاثة لا تتعارض فيما بينها ، ويمكن أن تكون مجتمعة في مفهوم الآية ، لأنّ استخدام كلمة واحدة لأكثر من معنى ممكن عندنا.

٥ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ).

«زخرف» في الأصل تعني (الزينة) ، ويقال للذهب «زخرف» لأنّه من الفلزات المعروفة والمستخدمة لأغراض الزينة ، ويقال للبيوت المزيّنة والملونة أنّها (مزخرفة) ، كما يقال للكلام المزوّق والمخادع بأنّه «كلام مزخرف».

٦ ـ (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ).

ثمّ يصدر الأمر من الخالق جلّ وعلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

* * *

١٤٠