الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-45-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٧٦

للذين يئنّون من مرض حبّ الدنيا والارتباط بالمادة والشهوة. والقرآن وصفة شفاء لهذه الدنيا التي تشتعل فيها النيران في كل زاوية ، وتئن من وطأة السباق في تطوير الأسحلة المدمرة وخزنها ، حيث وضعت رأس مالها الاقتصادي والإنساني في خدمة الحرب وتجارة السلاح.

وأخيرا فإنّ كتاب الله وصفة شفاء لإزالة حجب الشهوات المظلمة التي تمنع من التقرب نحو الخالق عزوجل.

نقرأ في الآية (٥٧) من سوره يونس قوله تعالى : (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ).

وفي الآية (٤٤) من سورة فصّلت نقرأ قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ).

ولإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قول جامع في هذا المجال ، حيث يقولعليه‌السلام في نهج البلاغة : «فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال» (١).

وفي مكان آخر نقرأ لإمام المتقين علي عليه‌السلام قوله واصفا كتاب الله : «ألا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم». (٢)

وفي مقطع آخر يضمّه نهج علي عليه‌السلام ، نقرأ وصفا لكتاب الله يقول فيه عليه‌السلام:«وعليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والري الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق ، لا يعوج فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع ، من قال به صدق ، ومن عمل به سبق» (٣).

هذه التعابير العظيمة والبليغة ، والتي نجد لها أشباها كثيرة في أقوال النّبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي كلمات الإمام علي عليه‌السلام الأخرى والأئمّة الصادقين عليهم‌السلام ، هي دليل يثبت بدقة ووضوح أنّ القرآن وصفة لمعالجة كل المشاكل والصعوبات

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٥٨.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٥٨.

١٠١

والأمراض ، ولشفاء الفرد والمجتمع من أشكال الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

إنّ أفضل دليل لإثبات هذه الحقيقة هي مقايسة وضع العرب في الجاهلية مع وضع الذين تربوا في مدرسة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مطلع الإسلام. إنّ المقايسة بين الوضعين ترينا كيف أنّ أولئك القوم المتعطشون للدماء ، والمصابون بأنواع الأمراض الاجتماعية والأخلاقية ، قد تمّ شفاؤهم ممّا هم فيه بالهداية القرآنية ، وأصبحوا برحمة كتاب الله من القوّة والعظمة بحيث أنّ القوى السياسية المستكبرة آنذاك خضعت لهم أعنّتها ، وذلت لهم رقابها.

وهذه هي نفس الحقيقة التي تناساها مسلمو اليوم ، وأصبحوا على ما هم عليه من واقع بائس مرير غارق بالأمراض والمشاكل ... إنّ الفرقة قد اشتدت بينهم ، والناهبين سيطروا على مقدراتهم وثرواتهم ، مستقبلهم أصبح رهينة بيد الآخرين بعد أن أصيبوا بالضعف والهوان بسبب الارتباط بالقوى الدولية والتبعية الذليلة لها.

وهذه هي عاقبة من يستجدي دواء علّته من الآخرين الذين هم اسوأ حالا منه ، في حين أن الآخرين ، ليأخذ منهم علاج الدواء حاضر بين يديه وموجود في منزله!

القرآن لا يشفي من الأمراض وحسب ، بل إنّه يساعد المرضى على تجاوز دور النقاهة إلى مرحلة القوّة والنشاط والانطلاق ، حيث تكون (الرحمة) مرحلة لا حقة لمرحلة (الشفاء).

الظريف في الأمر أنّ الأدوية التي تستخدم لشفاء الإنسان لها نتائج وتأثيرات عرضية حتمية لا يمكن توقيها أو الفرار منها ، حتى أنّ الحديث المأثور يقول : «ما من دواء إلّا ويهيج داء» (١).

__________________

(١) سفينة البحار.

١٠٢

أمّا هذا الدواء الشافي ، كتاب الله الأعظم ، فليست له أي آثار عرضية على الروح والأفكار الإنسانية ، بل على عكس ذلك كله خير وبركة ورحمة.

وفي واحدة من عبارات نهج البلاغة نقرأ في وصف هذا المعنى قول علي عليه‌السلام:«شفاء لا تخشى أسقامه» واصفا بذلك القرآن الكريم (١).

يكفي أن نتعهد باتباع هذه الوصفة لمدّة شهر ، نطيع الأوامر في مجالات العلم والوعي والعدل والتقوى والصدق وبذل النفس والجهاد ... عندها سنرى كيف ستحل مشاكلنا بسرعة.

وأخيرا ينبغي القول : إنّ الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأخرى ، لا يمكن أن تعطي ثمارها وأكلها من دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقة ، وإلّا فإنّ قراءة وصفة الدواء مائة مرّة لا تغني عن العمل بها شيئا!!

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٩٨.

١٠٣

الآيتان

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

التّفسير

كل يتصرف وفق فطرته :

بعد أن تحدّثت الآية السابقة عن شفاء القرآن ، تشير الآية التي بين أيدينا إلى أحد أكثر الأمراض تجذرا فتقول : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ). ولكن عند ما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلا : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً).

(أعرض) مشتقة من (إعراض) وهي تعني عدم الالتفات ، والمقصود منها هنا هو عدم الالتفات للخالق عزوجل ، وإعراض الوجه عنه وعن الحق.

(نأى) مشتقّة من (نأي) وهي على وزن (رأي) وهي بمعنى الابتعاد ، وعند إضافة كلمة (بجانبه) إليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية.

ويمكن الاستفادة من مجموع هذه الجملة الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور

١٠٤

عند مجيء النعم ، بحيث أنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم ، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب ، بل ينتقل إلى الاعتراض التكبر وعدم الالتفات للخالق.

جملة (مَسَّهُ الشَّرُّ) تشير إلى أدنى سوء يصيب الإنسان. والمعنى أنّ هؤلاء من الضعف وعدم التحمّل بحيث أنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرّد أن تصيبهم أبسط مشكلة.

الآية الثّانية تخاطب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء من آيات القرآن الكريم ، والظالمون لا يستفيدون من القرآن سوى مزيد من الخسران ، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حال النعمة. ويصابون باليأس في حال ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعا يتصرفون وفق أمزجتهم ، هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإنسان نفسه.

وفي هذه الأحوال جميعا فإنّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً).

* * *

بحوث

١ ـ الغرور واليأس

يتداول على ألسنتنا أنّ فلانا أصبح بعيدا عن الله ، أو أنّه نسي الله بعد أن تحسنت أموره. ورأينا أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون باليأس الذلة والهلع عند ما تنزل بهم أبسط الشدائد ، بحيث لا نكاد نصدّق بأنّهم سبق وأن كانوا على غير هذه الحال!

أجل ، هكذا حال هؤلاء الجماعة من ضيقي التفكير وضعيفي الإيمان ، وعلى العكس من ذلك حال أولياء الله ، حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة

١٠٥

نيّرة إزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغا شديدا ، إنّهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد ، إذا وهبتهم الدنيا فلا يؤثر ذلك فيهم ، وإذا أخذت منهم العالم أجمع لا يتأثرون.

والعجيب في الأمر أنّ هؤلاء القوم الذي يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم السور القرآنية في آيات متعدّدة (مثل يونس ـ آية ١٢ ، لقمان ـ آية ٣٢ ، الفجر ـ آية ١٤ ، ١٥ ، فصلت ـ الآية ٤٨ ، ٤٩) هم أنفسهم يعودون إلى الله ، ويستجيبون لنداء الفطرة عند ما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد ، ولكنّهم عند ما تهدأ أمواج الحوادث والضواغط يتغيرون ، أو في الواقع يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا ويكون مثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه!

إنّ العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإيمان ، وترك العبودية لما هو دون الله وسواه ، وفك الارتباط مع الشهوة والمادة ، والعيش في إطار من القناعة والزهد البنّاء.

وممّا ذكرنا تظهر الإجابة على سؤال ، وهو : إنّ الآيات التي نبحثها تصف حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد بـ «يؤوس» في حين أنّ آيات أخرى مثل الآية (٦٥) من سورة العنكبوت تصفهم بأنّهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وهي دلالة على غاية التوّجه نحو الخالق عزوجل؟

في الواقع ليس ثمّة من تضاد بين هاتين الحالتين ، بل إنّ إحداهما هي بمثابة مقدمة للأخرى ، فهؤلاء الأشخاص عند ما تصادفهم المشكلات ييأسون من الحياة ، وهذا اليأس يكون سببا لأنّ تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم العظيم.

إنّ هذا التوّجه الاضطراري إلى الخالق عزوجل ـ طبعا ـ ليس فخرا لأمثال هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم ، لأنّهم بمجرّد انصراف المشاكل عنهم يعودون إلى حالتهم السابقة.

١٠٦

أمّا أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عند ما يقعون في المشاكل والمحن ، بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى ، وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإنّهم يتمتعون بقوّة لمواجهة المشاكل ولا معنى لليأس في وجودهم.

إنّ هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب ، وإنّما في اتصال دائم معه في كل الحالات إذ يستمدون العون منه تعالى ، وتكون قلوبهم منيرة برحمته وهدايته.

٢ ـ ما معني (شاكلة)؟

«شاكلة» في الأصل مشتقة من (شكل) وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان. و (شكال) تقال لنفس الزمام ؛ وبما أنّ طبائع وعادات كل إنسان تقيّده بصفات معينة لذا يقال لذلك «شاكلة». أمّا كلمة «إشكال» فتقال للاستفسار والسؤال وسائر الأمور التي تحدّد الإنسان نوعا ما (١).

لهذا فإنّ مفهوم الشاكلة لا يختص بالطبيعة الإنسانية ، لذلك ذكر العلّامة الطبرسي في مجمع البيان لهذه الكلمة معنيين ، هما : الطبيعة والخلقة ، ثمّ الطريقة والمذهب والسنّة ، على اعتبار أنّ كل واحدة من هذه الأمور تحدّد الإنسان من حيث العمل.

ومن هنا يتّضح خطأ أولئك الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على إلزامية الصفات الذاتية للإنسان بشكل يخرج عن إرادته ، وهو دليلهم على عقيدة الجبر ، وإذ أنكروا قيمة التربية والتزكية.

هذا النوع من التفكير الذي يخضع في أسبابه إلى عوامل سياسية واجتماعية ونفسية ـ والتي ذكرناها في بحوثنا عن الجبر والإختيار ـ له هيمنة على ثقافة

__________________

(١) مفردات الراغب مادة «شكل».

١٠٧

وأدب الكثير من المجتمعات والنظم ، حيث تستخدم هذه الثقافة لتبرير النواقص.

إنّ هذه الثقافة تعتبر من أخطر الإعتقادات التي يمكن أن تجر المجتمع سنين بل قرون إلى الذلة والتأخّر.

بناء على ما ذكرنا نعتقد أن عقيدة الجبر هي دوما ذريعة للتسلط الاستعماري ، لكي تبقى القوّة المسيطرة في ظل ثقافة الجبر بمنأى عن ردود الفعل المقاومة للسيطرة والتي يمكن أن تنطلق من صفوف المسحوقين المستضعفين.

والتعبير المشهور هنا ، يوضح هذه الحقيقة بشكل دقيق ، إذ يقول : «الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان».

وخلاصة القول هنا : إنّ الشاكلة لا تعني أبدا الطبيعة الذاتية ، بل هي تطلق على كلّ عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإنسان اتجاها معينا.

لذا فإنّ العادات والصفات التي يكتسبها الإنسان بتكرار الأعمال اختياريا وإراديا ، وكذلك الإعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يطلق عليها كلّها كلمة «شاكلة».

وعادة ما تكون الملكات الإنسانية لها صفة اختيارية ، لأنّ الإنسان عند ما يكرّر عملا ما ففي البداية يقال له (حالة) ثمّ تتحوّل الحالة إلى (عادة) والعادة إلى (ملكة) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معينا لأعمال الإنسان وتحدّد خطّه في الحياة ، وهي عادة ما تظهر بفعل العوامل الاختيارية والإرادية.

وفي بعض الرّوايات تمّ تفسير «الشاكلة» بأنّها النيّة ، فقد ورد في أصول الكافي عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ، قوله : «النّية أفضل من العمل ، ألا وإنّ النّية هي العمل ، ثمّ تلا قوله عزوجل : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، يعني على نيّته» (١).

هذا التّفسير ينطوي على ملاحظة لطيفة ، وهي أنّ الإنسان والتي تنبع من

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢١٤.

١٠٨

اعتقاداته تغطي شكلا لعمله ، وعادة فإنّ النيّة هي نوع من الشاكلة ، بمعنى الأمر المقيّد. لذا تفسّر النيّة أحيانا بأنّها نفس العمل. وفي أحيان أخرى بأنّها أفضل من العمل ، لأنّه ـ في كل الأحوال ـ يكون خط العمل واتجاهه ناتجا عن خط النيّة واتجاهها.

وفي رواية «من لا يحضره الفقيه» عن صالح بن الحكم ، قال : سئل الصّادقعليه‌السلام عن الصلاة في البيع والكنائس ، فقال عليه‌السلام: «صلّ فيها» قلت : أصلي فيها وإن كانوا يصلون فيها؟ قال : «نعم. أمّا تقرأ القرآن» : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) صلّ على القبلة ودعهم» (١).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢١٤.

١٠٩

الآية

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

التّفسير

ما هي الرّوح؟

تبدأ هذه الآية في الإجابة على بعض الأسئلة المهمّة للمشركين ولأهل الكتاب ، إذ تقول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

مفسّر والإسلام الكبار ـ السابقون منهم واللاحقون ـ لهم كلام كثير عن الروح ومعناها ، ونحن في البداية سنشير إلى معنى كلمة (روح) في اللغة ، ثمّ موارد استعمالها في القرآن ، وأخيرا تفسير الآية والرّوايات الواردة في هذا المجال.

وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية :

١ ـ (الرّوح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأنّ (الروح) و (الرّيح) مشتقّتان من معنى واحد ، وإذ تمّ تسمية روح الإنسان ـ التي هي جوهرة مستقلة ـ بهذا الاسم فذلك لأنّها تشبه النفس والريح من حيث الحركة والحياة ،

١١٠

وكونها غير مرئية مثل النفس والريح.

٢ ـ استخدمت كلمة (الرّوح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني متعدّدة ، فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدّسة التي تساعد الأنبياء على أداء رسالتهم كما في الآية (٢٥٣) من سورة البقرة والتي تقول : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

وفي بعض الأحيان تطلق على القوّة الإلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين وتدفعهم ، كما في قوله تعالى في الآية (٢٢) من سورة المجادلة : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).

وفي موارد أخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف ب (الأمين)، كما في الآية (١٩٣) من سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).

وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) من ملائكة الله الخاصين ، أو مخلوق أفضل من الملائكة كما في الآية (٤) من سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). وفي الآية (٣٨) من سورة النباء : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا).

ووردت ـ أيضا ـ بمعنى القرآن أو الوحي السماوي ، كما في الآية (٥٢) من سورة الشورى في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا).

وأخيرا وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإنسانية ، كما في آيات خلق آدم:(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (١). وكذلك قوله تعالى في الآية (٢٩) من سورة الحجر : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢).

__________________

(١) السجدة ، ٩.

(٢) قلنا سابقا : إنّ إضافة (روح) إلى الله هي إضافة تشريفية ، والهدف هو الروح الكبيرة التي وهبها الله تبارك وتعالى

١١١

٣ ـ والآن لنر من خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي نبحثها؟

ما هي الرّوح التي سأل عنها جماعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجابهم بقوله تعالى:(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)؟

يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أنّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية ، هذه الروح العظيمة التي تميّز الإنسان عن الحيوان ، وقد شرفتنا بأفضل الشرف ، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها ، وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمّل السماء ، نكتشف أسرار العلوم ، ونتوغل في أعماق الموجودات إنّهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!!

ولأنّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة ، ولها أصول تحكمها تختلف عن الأصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية ، لذا فقد صدر الأمر إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم من أنّها أقرب شيء إليكم.

وفي تفسير العياشي نقل الإمام الباقر والصّادق عليهما‌السلام أنّهما قالا في تفسير آية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ما نصّه : «إنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوّة وتأييد ، يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين» (١).

وفي حديث آخر عن الإمامين الباقر والصادق أنّهما عليهما‌السلام قالا : «هي من الملكوت ، من القدرة» (٢).

__________________

للآدميين.

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢١٦.

(٢) المصدر السّابق.

١١٢

وفي الرّوايات المتعدّدة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنّة نقرأ أنّ هذا السؤال عن الروح أخذه المشركون من علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع قريش ، كي يختبروا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ قالوا لهم : إذا أعطاكم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه ، لذلك نراهم قد تعجبوا من إجابة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلّة كلماتها.

ولكن نقرأ في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، في تفسير هذه الآية ، أنّ الروح مخلوق أفضل من جبرائيل وميكائيل ، وكان هذا المخلوق برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبرفقة الأئمّة الصادقين عليهم‌السلام من أهل بيته من بعده ، حيث كان يعصمهم من أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم (١).

إنّ هذه الرّوايات لا تعارض التّفسير الذي قلناه ، بل هي متناسقة معه وداعمة له ، لأنّ الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات ، فتلك المرتبة من الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّا ، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإنّ روحا مثل هذه هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبّر)

أصالة واستقلال الرّوح :

يظهر تأريخ العلم والمعرفة الإنسانية أنّ قضية الروح وأسرارها الخاصّة كانت محط توجّه العلماء ، حيث حاول كل عالم الوصول إلى محيط الروح السري. ولهذا السبب ذكر العلماء آراء مختلفة وكثيرة حول الروح.

ومن الممكن أن تكون علومنا ومعارفنا اليوم ـ وكذلك في المستقبل ـ قاصرة عن التعرف على جميع أسرار الروح والإحاطة بتفصيلاتها ، بالرغم من أنّ روحنا هي أقرب شيء لدينا من جميع ما حولنا. وبسبب الفوارق التي تفصل بين

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢١٥.

١١٣

جوهرة الروح وبين ما نأنس به من عوالم المادة ، فإنّنا لن نحيط بأسرار وكنه الروح ، أعجوبة الخلق ، والمخلوق الذي يتسامى على المادة.

ولكن كل هذا لا يمنعنا من رؤية أبعاد الروح بعين العقل ، وأن نتعرف على النظم والأصول العامّة الحاكمة عليها.

إنّ أهم أصل يجب أن نعرفه هو قضية أصالة واستقلال الروح ، في مقابل آراء المذاهب الوضعية التي تذهب إلى مادية الروح ، وأنّها من افرازات الذهن والخلايا العصبية ولا شيء غير ذلك!

وسنبحث هذا الموضوع هنا ونتوسع فيه ، لأنّ مسألة (بقاء الروح) وقضية (التجرد المطلق أو عالم البرزخ) يعتمدان على هذا الأمر.

ولكن قبل الورود في البحث لا بدّ من ذكر ملاحظة هامّة ، وهي أن تعلق الروح بجسم الإنسان ليست ـ وكما يظن البعض ـ من نوع الحلول ، وإنّما هي نوع من الارتباط والعلاقة القائمة على أساس حاكمية الروح على الجسم وتصرفها وتحكمها به ، حيث يشبهها البعض بعلاقة تعلق المعنى وارتباطه باللفظ.

هذه المسألة ـ طبعا ـ ستتوضح أكثر ضمن حديثنا عن استقلال الروح.

والآن لنرجع إلى أصل الموضوع.

لا يشك أحد في أنّ الإنسان يختلف عن الحجارة والخشب ، لأنّنا نشعر ـ بشكل جيّد ـ بأنّنا نختلف عن الجمادات ، بل وحتى عن النباتات ، فنحن نفهم ونتصوّر ونصمّم ، ونريد ، ونحب ، ونكره ، و... الخ.

إلّا أنّ الجمادات والنباتات ليس لها أيّ من هذه الإحساسات ، لذلك فثمّة فرق أساسي بيننا وبينها ويتمثل في امتلاكنا للروح الإنسانية.

ثمّ إنّه لا الماديون ولا أي مجموعة فكرية مذهبية أخرى تنكر أصل وجود الروح ، ولذلك يعتبرون علوما مثل علم النفس (سيكولوجيا) ، وعلم العلاج النفسي (بسيكاناليزم) من العلوم المفيدة والواقعية ، وهذين العلمين بالرغم من

١١٤

أنّهما يعيشان مراحل طفولتهما بلحاظ بعض العوامل والقضايا ، ولكنّهما مع ذلك يدخلان اليوم ضمن المناهج الدراسية في الجامعات ، حيث يقوم أساتذة كبار بالبحث والتحقيق فيهما ، وكما سنلاحظ ، فإنّ النفس والروح ليستا حقيقتين منفصلتين ، بل هما مراحل مختلفة لحقيقة واحدة.

وإنّنا هنا سنطلق كلمة (النفس) عند ما يتعلق الحديث بالارتباط بين الروح والجسم والتأثير المتبادل لكل منهما على الآخر. أمّا عند ما يكون الحديث عن الظواهر الروحية مع غض النظر عن البدن فإنّنا سنطلق عليها كلمة (الروح).

وخلاصة القول : أنّه أحد يستطيع أن ينكر حقيقة وجود الروح والنفس عندنا.

والآن ينبغي أن نتفحّص مجالات السجال والحرب بين المذاهب المادية من جهة ، وبين مجموع هذه المذاهب وتيارات ومذاهب الفلاسفة الروحيين والميتافيزيقيين من جهة أخرى.

إنّ العلماء الإلهيين والفلاسفة الروحيين يعتقدون بأنّ الإنسان وبالإضافة إلى المواد التي تدخل في تشكيل جسمه ، ينطوي وجوده على حقيقة جوهرية أخرى لا تتجلى فيها صفات المادة ، وإن جسم الإنسان يخضع لتأثيرها بشكل مباشر وفاعل.

وبعبارة أخرى ، فإنّ الروح هي حقيقة من حقائق ما وراء الطبيعة (أي ميتافيزيقية) حيث أنّ تركيبها وفعاليتها تختلف عن تركيب وفاعلية عالم المادة ؛ صحيح أنّها مرتبطة مع عالم المادة ، إلّا أنّها ليست مادة ولا تملك خواص المادة.

في المقابل هناك الفلاسفة الماديون الذين يقولون : إنّنا لا نعرف موجودا مستقلا عن المادة يسمى بالروح ، أو أي اسم آخر ، وإنّ كل ما موجود هو هذه المادة الجسمية وآثارها الفيزيائية أو الكيميائية.

إنّنا نملك جهازا يسمّى (الذهن والأعصاب) وهو يقوم بقسم مهم من أعمالنا

١١٥

الحياتية ، وهو مثل باقي الأجهزة المادية حيث يخضع في نشاطه لقوانين المادة.

إنّنا نملك غددا تحت اللسان تسمّى الغدد اللعابية والتي تقوم بفاعلية فيزيائية وكيميائية ، فعند ما يدخل الطعام إلى الفم تقوم هذه الغدد بالعمل بشكل أوتوماتيكي حيث تقوم بإفراز السائل بالمقدار الذي يحتاجه الطعام حتى يلين ويمضغ بشكل جيّد ، فهناك ـ أطعمة تحتوي على سوائل وهناك أطعمة قليلة السوائل أو جافّة ، وكل نوع من هذه الأطعمة يحتاج إلى مقدار معين من هذه السوائل (اللعاب).

المواد الحامضية تزيد من عمل هذه الغدد ، خاصّة عند ما تكون كثافة الطعام كبيرة ، حتى يحصل الطعام على كميّة أكبر من السوائل ليلين ، ومن ثمّ لا تصاب جدران المعدة بضرر.

عند ما نبلع الطعام ينتهي عمل هذه الغدد والقنوات. وخلاصة القول : إنّ هناك نظاما عجيبا يتحكم بهذه الغدد والقنوات بحيث أنّها إذا فقدت تعادلها لمدّة ساعة ، فإمّا أن يسيل اللعاب بشكل دائم عبر الشفتين ، أو أن يكون الفم جافا بحيث لا يمكن ابتلاع الطعام. هذا هو العمل الفيزيائي للعاب ، إلّا أنّنا نعلم أنّ العمل الأهم للعاب هو عمله الكيمياوي ، فهناك مواد متنوعة متداخلة معه حيث تتفاعل مع الطعام وتقلل من تعب المعدة.

الماديون يقولون : إن عقلنا وأعصابنا يشبهان عمل الغدد اللعابية وما شابهها من أجهزة الجسم من حيث العمل الفيزيائي والكيميائي (حيث يسمّى المجموع فيزيوكيميائي) وهذا العمل الفيزيوكيميائي نحن نسمّيه بـ «الظواهر الرّوحية أو «الرّوح».

الماديون يقولون : عند ما نفكّر تصدر سلسلة من الأمواج الكهربائية من عقلنا ، هذه الأمواج يمكن التقاطها اليوم بواسطة أجهزة خاصّة وتدوينها على الأوراق ودراستها ، خاصّة في مستشفيات الأعصاب ، حيث يتمّ تشخيص

١١٦

الأمراض العصبية ومعالجتها ، وهذه هي الفعالية الفيزيائية لعقلنا.

إضافة إلى هذا ، فإنّ خلايا العقل عند التفكير ، وكذلك عند النشاطات العصبية المختلفة ، تقوم بمجموعة من الأفعال والانفعالات الكيمياوية.

لذلك فإنّ الروح والصفات الروحية ليست سوى الخواص الفيزيائية والأفعال الكيميائية للخلايا العقلية والعصبية.

إنّ الماديين يستفيدون من كل هذا العرض لبلورة النتائج التالية :

١ ـ بما أنّ نشاط الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل وجود جسم الإنسان ، بل إنّها وجدت بعد وجوده ، لذا فإنّ النشاطات الروحية تظهر بعد ظهور الدماغ والجهاز العصبي ، وتموت هذه الفعاليات بموت الإنسان.

٢ ـ الروح من خواص الجسم ، إذن فهي مادية وليس لها أي صفات ميتافيزيقية.

٣ ـ الروح خاضعة لجميع القوانين التي تحكم جسم الإنسان.

٤ ـ ليس هناك وجود مستقل للروح بدون جسم ، ولا يمكن أن يكون ذلك.

دلائل الماديين على عدم استقلال الروح

لقد أورد الماديون شواهد لإثبات دعواهم بأنّ الروح والفكر وسائر الظواهر الروحية هي قضايا مادية ، أي تكون انعكاسا للخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا العصبية والدماغية ، ونستطيع أن نشير هنا إلى هذه الشواهد من خلال هذه النقاط :

١ ـ «يمكن الإشارة وبسهولة إلى تعطّل قسم من الأغراض الروحية عند عطل أو إصابة قسم من المراكز العصبية أو سلسلة من الأعصاب» (١).

فمثلا تمّ اختبار حالة رفع فيها قسم من دماغ الطير ، ولم يؤد ذلك إلى موته ،

__________________

(١) پيسيكولوجي دكتور آراني ، ص ٢٣.

١١٧

بل إنّه فقد قسما كبيرا من معلوماته ، مثلا يفقد شهيته للطعام فإذا أعطيناه طعاما فإنّه يأكله ويهضمه ، ولكنّا إذا لم نعطه ووضعنا الحب أمامه فإنّه لا يأكل وسيموت من الجوع.

كما شوهد أنّ إصابة دماغ الإنسان نتيجة للحوادث أو الأمراض ببعض الضربات أو الصدمات ، يؤدي إلى فقدان الدماغ لجزء كبير من نشاطه ، حيث ينسى الإنسان جانبا من معلوماته.

وقد قرأنا قبل فترة في الصحف أنّ شابا مثقفا من مدينة (الأهواز) الايرانية تعرض لضربة على دماغه في حادثة ، فنسي جميع أحداث حياته الماضية حتى أنّه نسي أمّه وأخته ونسي نفسه وعند ما جاؤوا به إلى بيته والمكان الذي ولد وترعرع فيه ، فإنّه لم يعرف هذا المكان وبدا فيه غريبا.

إنّ هذه الأمور وما شابهها تثبت وجود علاقة قريبة بين نشاطات الخلايا الدماغية والظواهر الروحية.

٢ ـ «عند ما نفكر تكثر التغييرات المادية على سطح الدماغ .. الدماغ يحتاج إلى طعام أكثر ، ويطرح مواد فسفورية أكثر. ولكن عند النوم فإنّ الدماغ لا يقوم بالتفكير ، لذا فإنّه يحتاج إلى طعام قليل ، وهذا يعتبر دليلا على أنّ الآثار الفكرية للإنسان تترشح من فعاليات مادية» (١).

٣ ـ تظهر التجارب أن وزن أدمغة المفكرين هي أكثر من الحد المتوسط (الحد المتوسط لدماغ الرجل في حدود (١٤٠٠) غرام ، والحد المتوسط لدماغ المرأة أقل من هذا بقليل) ، وهذا دليل آخر ـ بزعم الماديين ـ على مادية الروح.

٤ ـ إذا كانت قوة التفكير والظواهر الروحية دليلا على الوجود المستقل للروح ، فيجب أن نقبل ذلك أيضا في الحيوانات ، لأنّها تملك قدرة الإدراك.

والخلاصة : إنّ الماديين في أدلتهم بأننا ندرك ونحس بأنّ روحنا ليست

__________________

(١) البشر في النظرة المادية ، دكتور آراني ، ص ٢.

١١٨

موجودا مستقلا ، والتطورات المتعلقة بمعرفة الإنسان ودراسته تؤيد هذه الحقيقة.

ومن مجموع هذه الاستدلالات ، يستنتج هؤلاء أنّ التقدم الفيزيولوجي الإنساني والحيواني يوضحان يوما بعد آخر حقيقة وجود العلاقة القربية بين الظواهر الروحية والخلايا الدماغية.

نقد هذه النظرية :

الخطأ الكبير الذي وقع فيه الماديون في أدلتهم واستنتاجاتهم ، أنّهم خلطوا بين (وسائل العمل) و (القائم بالعمل).

ولأجل معرفة هذا الخلط نذكر هنا مثالا للتوضيح نرجو أن يدقق فيه القارئ الكريم جيدا :

منذ زمان غاليلو وحتى يومنا الحاضر ، حصل تحوّل كبير في دراسة حركة الأفلاك والأجرام السماوية ، فغاليلو الإيطالي استطاع وبمعونة أحد صانعي العوينات الزجاجية من صناعة مجهر صغير ، فطار غاليلو به فرحا ، بحيث أنّه شرع عند المساء بدراسة نجوم السماء بواسطة مجهره الذي أظهر له أوضاعا عجيبة إذ أنّه شاهد عالم لم يستطيع أي إنسان مشاهدته حتى ذلك اليوم. لقد فهم غاليلو أنّه توصّل إلى اكتشاف مهم ، ومنذ ذلك اليوم أصبحت دراسة أسرار العالم الأعلى في متناول الإنسان.

لقد كان الإنسان حتى ذلك اليوم مثل الفراشة التي لم تكن ترى من حولها سوى بعض سيقان الشجر ، أمّا عند ما صنع الإنسان التلسكوب فإنّه استطاع أن يشاهد من حوله مقدارا من أشجار الغابة الكبيرة.

لقد تطور العمل في التلسكوب حتى وصل إلى وضعه الراهن حيث بنيت مختبرات كبيرة ومراصد جبارة يبلغ قطر عدساتها عدّة امتار لقد نصبت هذه

١١٩

المراصد في أعالي الجبال المرتفعة حيث يتميز الأفق بصفاء خاص ممّا يسهل على الفلكيين دراسة النجوم ، وبواسطة هذه المراصد الجبارة استطاع الإنسان أن يشاهد عوالم أخرى كان عاجزا عن مشاهدتها بالعين المجرّدة قبل ذلك.

والآن لنتصوّر أن الإنسان يكون بمقدوره مستقبلا أن يتوصل إلى صناعة مرصد بقطر (١٠٠) متر بحيث يكون حجم الأجهزة المستخدمة فيه بحجم مدينة بكاملها ، فما هي يا ترى العوالم التي سوف تنكشف له بواسطة ذلك؟

والآن نطرح هذا السؤال : لو أخذت منّا هذه المجاهر والعدسات ، أفلا يتعطّل قسم من معلوماتنا ومعارفنا حول السماوات ... وهل الناظر الأصلي نحن أم التلسكوب والمجهر؟

هل المجهر والتلسكوب وسيلة نستطيع بواسطتها الرؤيا والمشاهدة ، أم أنّها هي التي تقوم بالعمل والنظر الحقيقي؟

وفيما يخص الدماغ لا يستطيع أي شخص أن ينكر أنّه بدون الخلايا الدماغية لا يمكن أن تتمّ عملية التفكير ، ولكن هل الدماغ هو وسيلة عمل للروح ، أم أنّه هو الروح؟

وخلاصة القول : إنّ جميع الأدلة التي ذكرها الماديون تثبت وجود الارتباط بين خلايا العقل والدّماغ وبين إدراكاتنا ، إلّا أنّ أيا منها لا يثبت أنّ الدماغ يقوم بالإدراك ، بل أنّه مجرّد وسيلة لذلك.

وهنا يتّضح لماذا لا يفهم الموتى شيئا ، إذ أنّهم وبسبب عدم وجود الارتباط بين الروح والبدن يعجزون عن ذلك ، وبالتالي فإنّ الموت لا يعني فناء الروح وانعدامها ، ومثل الميت مثل السفينة أو الطائرة التي عطّل فيها جهاز اتصالها (اللاسلكي) فالسفينة والطائرة بمن فيهما موجودون إلّا أنّ اتصالهم مع الساحل أو المطار مقطوع بسبب فقدانهم لوسيلة الارتباط والاتصال.

١٢٠