الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-40-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٤٩٦

الإيمان ، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضا ـ تأكيدا ثانيا لدعوة القرآن إلى أفضل السبل وأكثرها استقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إنّها لم تقل : لا تعبد مع الله إلها آخر ، بل تقول : (لا تَجْعَلْ) هذا اللفظ أشمل وأوسع ، إذ هو يعني : لا تجعل معبودا آخر مع الله لا في العقيدة ، ولا في العمل ، ولا في الدعاء ، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك : (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً).

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز ، فمثلا يقال : قعد به الضعف عن القتال. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّا في وجود الإنسان ، هي :

١ ـ الشرك يؤدي إلى الضعف والعجز والذّلة ، في حين أنّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

٢ ـ الشرك موجب للذم واللوم ، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل ، ويعتبر كفرا واضحا بالنعم الإلهية ، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الانحراف يستحق الذم.

٣ ـ الشرك يكون سببا في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها ، ويمنع عنه حمايته ، وبما أنّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إنسان أو دفع الضرر عنه ، ولأنّ الله لا يحمي مثل هؤلاء ، لذا فإنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إنّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أخرى ، إذ نقرأ مثلا في الآية (٤١) من سورة العنكبوت : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي ، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات

٤٤١

الأنبياء عليهم‌السلام للإنسان ، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أخرى على التوحيد ـ تقول : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي ، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي ، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب ، سواء كانا مسلمين أو كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إحسانا» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها (١).

ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّ الأمر عادة ما ينصبّ على الأمور الإيجابية ، بينما جاء هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ... ألا تعبدوا ...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول : إنّ جملة (وَقَضى ...)تتضمن تقديرا جملة إيجابية ، يمكن أن نقدرها بالقول : وقضى ربّك أن تعبده ، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) التي تتضمن «النفي والإثبات» جملة إيجابية واحدة ، إذ هي تحصر العبادة بالله دون غيره ثمّ تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإحسان إلى الوالدين فتقول : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) بحيث يحتاجان الى الرعاية والاهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ كلمة «إحسان» تتعدى غالبا بـ «إلى» مثل قولنا «أحسن إليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإظهار المباشرة ، أي إظهار المحبّة والاحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

٤٤٢

شكل من إشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «أف» : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) (١) بل : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) وكن أمامهما في غاية التواضع (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

الأهمية الاستثنائية لاحترام الوالدين :

إنّ الآيتين السابقتين توضحان جانبا من التعامل الأخلاقي الدقيق ، والاحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين :

١ ـ من جانب أشارت الآية إلى فترة الشيخوخة ، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إلى المحبّة والاحترام أكثر من أي فترة سابقة ، إذ الآية تقول : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ). من الممكن أن يصل الوالدان إلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين ، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم ، وهنا يبدأ الاختبار العظيم للأبناء ، فهل يعتبرون وجود مثل هذين الوالدين دليل الرحمة ، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاء ومصيبة وعذابا .. هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات ، أم أنّهم يوجهون الإهانات ويسيئون الأدب لهم ، ويتمنون موتهم؟!

٢ ـ من جانب آخر .. تقول الآية : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك منهم (وَلا تَنْهَرْهُما) ثمّ تؤكّد مرّة أخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم ، إذ اللسان مفتاح إلى القلب (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

٣ ـ من جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم ، هذا التواضع الذي يكون علامة

__________________

(١) هناك قولان حول «إما» في جملة «إما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إلى أنّها مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الشرطية ، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا ، فيرى أنّها مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التأكيد.

٤٤٣

المحبة ، ودليل الود لهم : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

٤ ـ أخيرا تنتهي الآيات ، إلى توجيه الإنسان نحو الدعاء لوالديه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتا أم أحياء ، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به من تربية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

إضافة إلى ما ذكرناه ، فثمّة ملاحظة لطيفة أخرى يطويها التعبير القرآني ، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول : إذ أصبح والداك مسنّين وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما ، فلا تنس أنّك عند ما كنت صغيرا كنت على هذه الشاكلة أيضا ، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك ، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم ، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان ، وعن قصد وعلم في أحيان أخرى ، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ). وهذه إشارة إلى أنّ علم الله ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الاشتباهات ، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم ، ولكن بدون قصد وعن جهل ، ثمّ تاب بعد ذلك وأناب ، وندم على ما فعل وأصلح ، فإنّه سيكون مشمولا لعفو الله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

«أوّاب» مشتقة من «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإرادة ، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإرادة أو بدونها ، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر) ، إلى الله ، مع الإرادة.

وبما أنّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مبالغة ، لذا فإنّها تقال للأشخاص الذين كلما

٤٤٤

أذنبوا رجعوا إلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إشارة إلى تعدّد عوامل العودة والرجوع إلى الله. فالإيمان بالله أوّلا ، والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانيا ، والضمير الحي ثالثا ، والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعا ، كل هذه العوامل تعمل سوية لأجل عودة الإنسان من طريق الانحراف ، نحو الله.

* * *

بحوث

أوّلا : احترام الوالدين في المنطق الإسلامي

بالرغم من أنّ العاطفة الإنسانية ومعرفة الحقائق ، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين ، إلّا أنّ الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل ، أو أن تدلّ عليها العاطفة الإنسانية المحضة ، لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما ، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلّا في قضايا نادرة أخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى :

ألف : في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة ، وهذا الاقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (٨٣) نقرأ : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

وفي سورة النساء آية (٣٦) نقرأ قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). أما الآية (١٥١) من سورة الأنعام فإنّها تقول : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

ب ـ إنّ مسألة احترام الوالدين ورعاية حقّهما من المنزلة بمكان ، حتى أنّ

٤٤٥

القرآن والأحاديث والرّوايات الإسلامية ، تؤكدان معا على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين ، إذ نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً).

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى ، إذ تقول الآية (١٤) من سورة لقمان : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ).

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإسلام وشريعته ، بالرغم من أن نعم الله التي يشكرها الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين ، ولا يجيز ذلك ، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما» (١).

ه ـ بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية ، إلّا أنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه ، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين ، بالطبع هذا إذا لم يكن الجهاد واجبا عينيا ، وإذ توفرّ العدد الكافي من المتطوعين له.

في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّ رجلا جاء إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له ، إنّي أحبّ الجهاد ، وصحتي جيدة ، ولكن لي أمّ لا ترتاح لذلك ، فما ذا أفعل ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إرجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة» (٢).

ولكن عند ما يجب الجهاد وجوبا عينيا ، وتصبح بلاد الإسلام في خطر يلزم الجميع بالحضور ولا تقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى ، وكذلك المستحبات.

__________________

(١) يلاحظ : جامع السعادات ، النراقي ، ج ٢ ، ص ٢٥٨.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦٠.

٤٤٦

و ـ عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاك وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنّة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ» (١).

هذا التعبير ينطوي على إشارة لطيفة ، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب ، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جدا منها ولا يستطيعون الاقتراب منها.

وينقل «سيد قطب» حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيه : «عن بريدة عن أبيه، أنّ رجلا كان في الطواف حاملا أمّه يطوف بها ، فرأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله : هل أديت حقّها؟ فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة ، أو الطلقة الواحدة ، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع (٢).

إذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال ، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكن ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنّ كل ما يقال في هذا المجال فهو قليل ، لأنّ الوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة ، أشير إلى أنّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى ـ غير شرعية ، طبعا في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة ، ولكن من الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق ، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيرا نختم الكلام بحديث عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال فيه : إنّ رجلا جاء النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن حق الأدب على ابنه ، فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له» (٣) (اي لا يفعل شيئا يؤدي

__________________

(١) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٢٢ ، الطبعة العاشرة.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٤٤٧

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانيا : بحث حول كلمة «قضى» :

«قضى» أصلها من كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما ، إمّا بالعمل وإمّا بالكلام. وقال بعض : إنّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما ، وفي الواقع فإنّ المعنيين متقاربان. وبما أنّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة ، لذا فإنّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مختلفة ، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي :

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (١٢) من سورة فصلت (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ).

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (٧٢) من سورة طه (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ).

* «قضى» بمعنى الانتهاء من شيء ، ومثله الآية (٤١) من سورة يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (٤٧) : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (٤٤) من القصص : (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) (١).

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إلى هذه المعاني قوله :

* «قضى» بمعنى «الإخبار والإعلام» مثل قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥٣.

٤٤٨

إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (١).

ونستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى ، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (١٥) من سورة القصص (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ).

المهم هنا ، أنّ بعض المفسّرين وضع أكثر من (١٣) معنى لكلمة في القرآن الكريم(٢).

ولكن لا يمكن اعتبار كل هذه معاني متعدّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إلى مفهوم واحد. لذلك فإنّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي من باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة منها ، ما هي في واقعها إلّا مصداقا للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى ، والخالق يضع نهاية لما خلق ، والمخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإنكار أنّ بعض هذه المصاديق ، ومن كثرة الاستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مثل الحكم أو إعطاء الأوامر.

ثالثا : بحث حول معنى كلمة «أف» :

أصل «أف» كلّ مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك لكلّ مستخف به استقذارا له. ويمكن أن نشتق منه فعلا ، كمثل قولنا : قد أففت لكذا ، إذا قلت ذلك استقذارا له. (مفردات الراغب صفحة ١٩).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع ، و «الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا : «أف» و «تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضا ، وينقل الرازي عن الأصمعي أنّ «الأف» وسخ الأذن ، و «التف» وسخ الظفر ، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يتأذى منه ، وتذكر اللفظة أيضا عند كل مكروه يصل

__________________

(١) تفسيره أبو الفتوح الرازي ، ج ٧ ، ص ١٨٨.

(٢) وجوه القرآن للتفليسي ، ص ٢٣٥.

٤٤٩

إليهم (١).

وهناك معان أخرى لكلمة «أف» منها أنّها تعني الشيء القليل ، أو الأذى من الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال : إنّ أصل هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عند ما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها ، وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد منها فيما بعد للتعبير عن التنفّر وعدم الراحة من الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه ، وبالإضافة إلى قرائن أخرى يمكن القول بأنّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإنسان من فمه عند ما يتذمّر أو ينفخ لإزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال منها ، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومنتهى الكلام هنا ، أنّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة ، إنّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية ، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى.

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢ ، ص ١٨٨.

٤٥٠

الآيات

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

التّفسير

رعاية الاعتدال في الإنفاق والهبات :

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية ، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين ، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ، حيث تقول الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

٤٥١

«تبذير» من «بذر» وهي تعني بذر البذور ، إلّا أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر : إنّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا ، بينما إذا صرف في محلّه فلا يعتبر تبذيرا ولو كان كثيرا. ففي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، نقرأ قوله : «من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد» (١).

وينقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى ، فقال : «لا تفعل إن هذا من التبذير ، وإنّ الله لا يحب الفساد» (٢).

وفي مكان آخر نقرأ ، أنّ رسول الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بسعد وهو يتوضأ ، فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أفي الوضوء سرف؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم وإن كنت على نهر جار» (٣).

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين ، هل هم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قربى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنّ ذوي القربى هم قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض الرّوايات تشير إلى أنّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

ولكن مخاطبة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على اختصاص هذا الحكم به ، لأنّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإسراف ومداراة السائل والمسكين ، والنهي عن البخل ، هي أحكام عامّة بالرغم من أنّها تخاطب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهناك نقطة ينبغي الالتفات إليها ، وهي مجيء النهي عن التبذير والإسراف ،

__________________

(١) يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٥٢

بعد إعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصدقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّا يستحق أو يتحمل ، فيعتبر ذلك إسرافا وتبذيرا ، وهما مذمومان دائما.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربّه ، فهذا واضح ، لأنّ الله أعطاه قدرة وقوة واستعدادا وذكاء خارقا للعادة ، ولكن الشيطان استفاد من هذه الأمور في غير محلّها ، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إخوان الشياطين ، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله ، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان ، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة ، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم ، كما توضح ذلك الآية (٣٩) من سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

أمّا لما ذا جاءت كلمة الشيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إلى أنّ لكل إنسان غافل عن خالقه وربّه ، شيطان قرين له ، كما نرى هذا المعنى واضحا في الآية (٣٦) و (٣٨) من الزخرف : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ .. حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

ثمّ أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحيانا ، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرّف بالنحو الآتي : (إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

«ميسور» مشتقّة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة ، أمّا هنا فلها مفهوم واسع ، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبّة ، وإذا فسّرها

٤٥٣

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإنّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات ، أنّه بعد نزول هذه الآية ، كان إذا جاء شخص محتاج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرّسول لا يملك شيئا لإعطائه ، قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرزقنا الله وإيّاكم من فضله» (١).

وقديما عند ما كان السائل يطرق الباب ، ويطلب منّا شيئا لا نستطيع إعطاءه إيّاه ، نقول له «العفو» وذلك تأكيدا على أنّ لهذا السائل حق علينا يطالبنا به ، وإذا كنّا لا نملك قضاء حاجته وإعطاءه حقّه ، فإننا نطلب منه العفو.

الاعتدال هو شرط في كل الأمور بما فيها الإنفاق والمساعدة الآخرين ، لذلك تنتقل الآية للقول : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ). وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة ، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بخلا وخشية من الإنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء ، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والابتعاد عن الناس : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

و «تقعد» مشقّة من «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير ملوم» فهو يشير إلى أنّ عاقبة الإسراف لا تؤدي إلى توقف الإنسان عن عمله ونشاطه وحسب ، وإنّما تؤدي إلى إيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مشتقّة من كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإظهار بعض البدن من تحته ، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع ، بأنه «حاسر». وأيضا يقال للحيوان الذي يتعب من كثرة المشي بأنّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان ، عند تفسير الآية.

٤٥٤

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يطلق على كل إنسان عاجز عن الوصول إلى هدفه بأنّه «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن ، فهي مشتقة من هذه الكلمة ، وتطلق على الإنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإنفاق ، فهو إذا تجاوز الحد المقرّر بحيث يستنفذ طاقة الإنسان ، فإنّه يؤدي إلى أن يصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسئولياته ، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى ، إذ أنّها تتحدث أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوما في بيته فجاءه سائل يسأله إعطاءه ملابس ، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يعطي السائل ، فقد خلع لباسه وأعطاه إيّاه ، الأمر الذي أدّى إلى بقاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كان هذا الحادث سببا لتقولات الكفار المنافقين ، الذين قالوا : إنّ الرّسول نائم ، أو إنّه في لهو أنساه صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إلى إيقاع اللوم شماتة الأعداء والانقطاع عن الأصحاب ، وأصبح بذلك مصداقا للملوم والمحسور ، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإيثار» فسنبحثه في الملاحظات القادمة إن شاء الله.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية ، هو أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطي ما يوجد في بيت المال إلى المحتاج بحيث إذا جاءه محتاج آخر ، فلن يجد شيئا يعطيه له ، فيلوم ذلك المحتاج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤذيه ، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفق كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال : لما ذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الأفضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

٤٥٥

الجواب : تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). إنّه اختبار لنا ، فالله قادر على كل شيء ، ولكنّه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء.

إضافة إلى ذلك ، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرد (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. من ناحية أخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين) ، وهكذا تقتضي المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء ، وهذا دليل الحكمة ، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد ، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهدا وسعيا.

العلّامة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان : «إنّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء ، فلا يبسطه كل البسط ، ولا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد ، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط» (١).

* * *

بحوث

أوّلا : من هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة «ذي القربى» تعني الأرحام والمقربين ، وهناك كلام بين المفسّرين ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٨٤.

٤٥٦

حول المقصود بها ، إذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء :

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين ، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنّ المخاطب في الآية هو الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغرض هو إيصال حقوق أقرباء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كخمس الغنائم ، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنّة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى فاطمة عليها‌السلام بعد نزول هذه الآية ، ووهبها فدكا (١).

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف : «لما نزل قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا» (٢).

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام أثناء سيره إلى الشام بعد واقعة كربلاء ، استدلّ بهذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسين عليه‌السلام ، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى : فيما كان أهل الشام يغمطونهم هذا الحق! (٣).

ولكن ـ كما أشرنا سابقا ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين ، فالكل مكلفون بإيتاء حقوق ذوي القربى ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي اعتبر قائدا للأمّة

__________________

(١) فدك أرض معمورة وخصبة ، كانت بالقرب من خبير وعلى بعد (١٤٠) كم عن المدينة المنورة ، وفدك بعد خبير كانت مركزا لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب : مراصد الاطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون حرب ، أعطى الرّسول هذه الأرض إلى فاطمة الزّهراء عليها‌السلام وذلك وفقا للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع ، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إلى العلويين.

(٢) نقل هذا الحديث «البذار» و «أبو يعلى» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردوية» عن «أبي سعيد» [لا حظ كتاب ميزان الاعتدال المجلد الثّاني صفحة (٢٨٨) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (١٥٨)] وقد ورد هذا الحديث أيضا في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية ، وفي الدر المنثور أيضا وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معا.

(٣) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٥.

٤٥٧

الإسلامية مكلّف أيضا بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة ، فأهل بيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم في الواقع من أوضح مصاديق القربى له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقوق ذوي القربى لهم ، فأعطى فاطمة فدكا ، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك ، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه.

ثانيا : مصائب الإسراف والتبذير :

لا ريب في أنّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها ، بشرط واحد ، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب ، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط ، والّا فإنّ هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أخرى ، أو إنّ إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان ، حذّر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض ، لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (١٤١) من الأنعام و (٣١) من الأعراف نقرأ قوله تعالى (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

أمّا في غافر (٤٣) فنقرأ : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

والآية (١٥١) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ).

أمّا الآية (٨٣) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ).

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (٢٨) من سورة غافر : (إِنَ

٤٥٨

اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).

وأخيرا تتحدث الآية (٩) من سورة الأنبياء عن مصيرهم : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ).

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان الشياطين. والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان ، ولكنّها عادة تستخدم في المصروفات.

ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أنّ الإسراف هو في مقابل التقتير ، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين ، كما في الآية (٦٧) من سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

ثالثا : الفرق بين الإسراف والتبذير :

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير ، ولكن عند التأمّل بأصل هذه الكلمات في اللغة ، يتبيّن أنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، ولكن دون أن نسخر شيئا ، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أنّ ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه ، أو أنّنا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف ، وهي تمثّل خروجنا عن حدّ الاعتدال ، ولكن من دون أن نخسر شيئا.

أمّا كلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير ، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشيء وتضييعه ، فمثلا نهيّئ طعام عشرة أشخاص لشخصين ، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا ، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم من هذا التمييز ، لا بدّ من القول بأنّ كثيرا ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد ، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإمام علي في نهج البلاغة يقول : «ألا إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير

٤٥٩

وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإسلام بحيث كثيرا على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنّه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار ، وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة ، حتى بات يستفيد من كلّ شيء ، فهو مثلا يستفيد من فضولات المنازل في صنع السماد ، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات ، لأنّه أحسّ أنّ المصادر الطبيعية محدودة ، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة ، وإنّما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعا : هل ثمّة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الاعتدال في الإنفاق، يثار سؤال مؤدّاه ، إنّ في سورة الدهر مثلا ، وآيات أخرى ، وفي مجموعة من الأحاديث والرّوايات ، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين ، فكيف يا ترى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إنّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال ، إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها (مَلُوماً مَحْسُوراً) وكذلك إذا كان الإيثار سببا في التضييق على أبنائه أو أنّه يهدّد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي من هذين المحذورين ، فإنّ الإيثار يعتبر أفضل السبل ، نضيف إلى ذلك أنّ الاعتدال في الإنفاق يعتبر حكما عاما ، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصّة ، وليس ثمّة تضاد بين الاثنين.

* * *

٤٦٠