الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-40-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٤٩٦

عمّه أبا طالب فأخبرته فقال : يا آل قريش ، اتبعوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترشدوا ، فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق ، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال : إن كان محمّد قاله فنعم ما قال ، وإن قاله ربّه فنعم ما قال) (١).

ونقرأ في حديث آخر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال : (يا ابن أخي (٢) أعد ، فأعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الوليد : إنّ له الحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسلفه لمغدق ، وما هو قول البشر) (٣).

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «جماع التقوى في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٤).

ونستفيد من هذه الأحاديث ـ وأحاديث أخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إسلامي عام ، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإسلام في كل زمان ومكان ، حتى روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه كان يقرأ الآية المباركة قبل الانتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها : «اللهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى» (٥) ثمّ ينزل من على المنبر.

فإحياء الأصول الثلاثة «العدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى» ، ومكافحة الانحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر ، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأن يجعل الدنيا عامرّة بالخير ، وهادئة من كل اضطراب ، وخالية من أي سوء وفساد ، وإذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله : (هذه الآية أجمع آية في كتاب الله للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل تفسير الآية مورد البحث.

(٢) قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.

(٣) مجمع البيان : ذيل تفسير الآية مورد البحث.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٨.

(٥) الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٧.

٣٠١

«صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي ، فقيل : يا رسول الله، من هما؟ قال : الفقهاء والأمراء».

وذكر المحدّث القمّي في (سفينة البحار) حديثا بعد نقله لهذا الحديث مرويا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تكلم النّار يوم القيامة ثلاثة : أميرا ، وقارئا ، وذا ثروة من المال ، فتقول للأمير : يا من وهب الله له سلطانا فلم يعدل ، فتزدرده كما تزدرد الطير حبّ السمسم ، وتقول للقارئ : يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي ، فتزدرده ، وتقول للغني:يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا وسأله الحقير اليسير قرضا ، فأبى إلّا بخلا ، فتزدرده؟

وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركنا إسلاميا مهمّا جدّا ضمن تفسيرنا للآية (٨) من سورة المائدة.

* * *

٣٠٢

الآيات

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤))

سبب النّزول

يقول المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) في شأن نزول أوّل

٣٠٣

آية من هذه الآيات أنّها نزلت في الذين بايعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام (وكان من المحتمل أن ينقض بعضهم البيعة لقلّة المسلمين وكثرة الأعداء) ، فقال سبحانه مخاطبا لهم لا يحملنّكم قلّة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة.

التّفسير

الوفاء بالعهد دليل الإيمان :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإسلام الأساسية (العدل، والإحسان ، وما شابههما) ، يتناول في هذه الآيات قسما آخر من تعاليم الإسلام المهمّة (الوفاء بالعهد والأيمان).

يقول أوّلا : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) ، ثمّ يضيف : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

إنّ ظاهر معنى «عهد الله» ـ مع كثرة ما قال المفسّرون فيه ـ وهو : العهود التي يبرمها الناس مع الله تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النّبي عهد مع الله أيضا) ، وعليه فهو يشمل كل عهد إلهي وبيعة في طريق الإيمان والجهاد وغير ذلك.

بل إنّ التكاليف الشرعية التي يعلنها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي من نوع من العهد الإلهي الضمني ، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية ، لأنّ إعطاء العقل والإدراك من الله عزوجل للإنسان إنّما يرافقه عهد ضمني ، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع لعهد الله.

أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين ، أيّ : القسم) التي وردت في الآية ـ والتي عرض فيها المفسّرون آراء كثيرة ـ فلها معنى واسع ، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث أنّه يشمل العهود التي يعقدها الإنسان مع الله عزوجل ، بالإضافة إلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق الله.

وبعبارة أخرى : يدخل بين إطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم الله

٣٠٤

وباستعمال صيغة القسم ، وما يؤكّد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).

ونتيجة القول : أنّ جملة (أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) خاصّة ، وجملة (لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) عامّة.

وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأسس في ثبات أيّ مجتمع كان ، تواصل الآية التالية ذكره بأسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ ، فتقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (١).

والآية تشير إلى (رابطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية ، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر ، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن ، ولهذا عرفت بين قومها ب (الحمقاء).

فما كانت تقوم به (رابطة) لا يمثل عملا بالا ثمر ـ فحسب ـ بل هو الحماقة بعينها ، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهدا مع الله وباسمه ، ثمّ يعمل على نقضه ، فهو ليس بعابث فقط ، وإنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) (٢) ، أي لا تنقضوا عهودكم مع الله بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.

وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد ، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع

__________________

(١) «أنكاث» : جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حل خيوطه الصوف والشعر بعد برمها ، وتطلق أيضا على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر ، وأمّا محل إعرابها في الآية فهو (حال) للتأكيد على قول البعض ، فيما اعتبرها آخرون (مفعولا ثانيا) لفعل «نقضت» أي (جعلت غزلها أنكاثا).

(٢) «الدّخل» : (على وزن الدغل) ، بمعنى الفساد والتقلب ومنها أخذ معنى (الداخل) ، وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) ـ على ما قلناه من تفسير ـ جملة حاليّة ، إلّا أنّ بعض المفسّرين اعتبرها جملة استفهامية ، والتّفسير الأوّل يوافق ظاهر الآية.

٣٠٥

المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.

واعلموا (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ).

واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان ، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عددا بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.

وعلى أية حال .. ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل : (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من هذا الأمر وغيره.

والآية التالية تجيب على توهم غالبا ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الامتحان الإلهي والتأكيد على الالتزام بالعهود والوظائف ، وخلاصته : هل أنّ الله لا يقدر على إجبار الناس جميعا على قبول الحق؟ فتقول : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

«أمّة واحدة» من حيث الإيمان والعمل على الحق بشكل إجباري ، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإنسان في قبوله الحق ، وعليه فقد جرت سنّة الله بترك الناس أحرارا ليسيروا على طريق الحق مختارين.

ولا تعني هذه الحرية بأنّ الله سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم ، وإنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه ، حتى يصلوا لهدفهم ، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية ، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.

ولهذا يواصل القرآن الكريم القول ب : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

ولكنّ الهداية الإلهية أو الإضلال لا تسلب المسؤولية عنكم ، حيث أنّ الخطوات الأولى على عواتقكم ، ولهذا يأتي النداء الرباني : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ

٣٠٦

تَعْمَلُونَ).

وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم ، وتؤكّد على تحميلهم مسئولية تلك الأعمال ، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإضلال الإلهيين وأن أيّا منهما لا يستبطن صفة الإجبار أبدا.

وقد بحثنا هذا الموضوع سابقا (راجع تفسير الآية (٢٦) من سورة البقرة).

وتأكيدا على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمّة في ثبات المجتمع) يقول القرآن : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي وسيلة للخداع والنفاق ، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين :

الأوّل : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) ، لأنّ من يبرم عهدا أو يطلق قسما ونيته أن لا يفي بذلك فسوف لا يعول عليه الناس ولا يثقون به ، ومثله كمن وضع قدمه على أرض قد بدت له أنّها صلبة ومحكمة ، إلّا أنّها زلقة في الواقع ، وستكون سببا في انزلاقه وسقوطه.

الثّاني : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في هذه الدنيا (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة.

من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفرهم من الدين الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام ، وإن عقدوا معكم عهدا فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به ، وهذا ما يؤدي لمساوي ، ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.

وأمّا على صعيد الحياة الأخرى فإنه سيكون سببا للعقاب بالعذاب الإلهي.

* * *

٣٠٧

بحثان

١ ـ فلسفة احترام العهد

كما هو معلوم فإنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثل أهم دعائم رسوخ المجتمع ، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإخراجه من حالة الآحاد المتفرقة وإعطائه صفة التجمع ، وبالإضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الاجتماعية والتعاون على مستوى واسع.

والعهد والقسم من مؤكدات حفظ هذا الارتباط وهذه الثقة ، وإذا تصورنا مجتمعا كان نقض العهد فيه هو السائد ، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عام في ذلك المجتمع ، وعندها سوف يتحول المجتمع الى آحاد متناثرة تفتقد الارتباط والقدرة والفاعلية الاجتماعية.

ولهذا نجد أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة الوفاء بالعهد والأيمان ، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام والجاهلية واعتبره من أهم المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر «فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا من تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر» (١).

ونجد في أحكام الحرب الإسلامية أنّ إعطاه الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدو يوجب مراعاة ذلك على كل المسلمين!

يقول المؤرخون والمفسّرون : من جملة الأمور التي جعلت الكثير من الناس

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٠٨

في صدر الإسلام يعتنقون هذا الدين الإلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم.

وما لهذا الأمر من أهمية بحيث دفع سلمان الفارسي لأن يقول : (تهلك هذه الأمّة بنقض مواثيقها) (١).

أي أنّ الوفاء بالعهد والميثاق كما أنّه يوجب القدرة والنعمة والتقدم ، فنقضهما يؤدي إلى الضعف والعجز والهلاك.

ونجد في التأريخ الإسلامي أنّ المسلمين عند ما غلبوا جيش الساسانيين في عهد الخليفة الثّاني وأسروا الهرمزان قائد جيش فارس ، وجاؤوا به إلى عمر ، قال له عمر : ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرّة بعد أخرى؟

فقال : أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.

قال : لا تخف ذلك ، واستسقى ماء فأتى به في قدح غليظ.

فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتى به في إناء يرضاه ..

فقال : إنّي أخاف أن أقتل وأنا أشرب.

فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه ...

فقال عمر : أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش ..

فقال : لا حاجة لي في الماء ، إنّما أردت أن أستأمن به.

فقال عمر له : إنّي قاتلك.

فقال : قد أمنتني.

فقال : كذبت.

قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته.

فقال عمر : يا أنس ، أنا أؤمن قالت مجزأة بن ثور ، والبراء بن مالك! ولله لتأتّين

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية (٩٤).

٣٠٩

بمخرج أو لأعاقبنّك.

قال : قلت له : لا بأس عليك حتى تخبرني ، ولا بأس عليك حتى تشربه ..

وقال له من حوله مثل ذلك ...

فأقبل على الهرمزان وقال : خدعتني ، والله لا أنخدع إلّا أن تسلم فأسلم (١).

٢ ـ ما لا يقبل في نقض العهود :

إنّ قبح نقض العهد الشناعة بحيث لا أحدا على استعداد لأن يتحمل مسئولية بصراحة إلّا النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك اعذارا وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته. وقد ذكرت لنا الآيات أعلاه نموذجا لذلك .. فبعض المسلمين يتذرعون بحجج واهية ككثرة الأعداء وقلة المؤمنين للتنصل من عهودهم مع الله والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتكون مواقفهم متزلزلة ، في حين أنّ الأكثرية من حيث العدد لا تمثل القدرة والقوة في واقع الحال، وانتصار القلّة المؤمنة على الكثرة غير المؤمنة من الشواهد المعروفة في تأريخ البشرية ، ثمّ إنّ حصول القدرة والقوة للأعداء ـ على فرض حصولها ـ لا تسوغ لأن تكون مبررا مقبولا لنقض العهد ، ولو دققنا النظر في الإمر لرأينا في واقعة أنّه نوع من الشرك والجهل باللهعزوجل.

وقد تجسّد هذا الموضوع بعينه في عصرنا الحاضر ولكن بصورة أخرى ..

فقسم من الدول الإسلامية الصغيرة في الظاهر قد تنصلت عن أداء وظائفها في نصرة المؤمنين لخوفها من الدول الاستعمارية الكبرى ، فتقدم في حساباتها قدرة البشر الهزيلة على قدرة الله المطلقة ، وتلتجئ إلى غير الله وتخشى غيره ، وتنقض عهدها مع بارئها ، وكل ذلك من بقايا الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

__________________

(١) الكامل في التاريخ ، ج ٢ ، ص ٥٩٤.

٣١٠

الآيات

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

سبب النّزول

نقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي عن ابن عباس قوله : إنّ رجلا من حضر موت يقال له عيدان الأشرع قال : يا رسول الله ، إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي ، والقوم يعلمون إنّي لصادق ، ولكنّه أكرم عليهم منّي ، فسأل رسول الله أمرا القيس عنه فقال : لا أدري ما يقول ، فأمره أن يحلف. فقال عيدان : إنّه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه ، فلما ذا قال ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ...)الآيتان فلمّا قرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال امرؤ القيس:أمّا ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول ، لقد اقتطعت أرضه ولم أدركم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها ، فنزل فيه (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ... الآية.

٣١١

التّفسير

ثمن الحياة الطيبة :

جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة أخرى ولتبيّن عذرا آخرا من أعذار نقض العهد الواهية ، فحيث تطرقت الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان.

ولهذا تقول : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

أي إنّ قيمة الوفاء بعهد الله لا تدانيها قيمة ، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإنّه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد الله.

وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر : (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) لأنّ المنافع المادية وإن بدت كبيرة في الظاهرة ، إلّا أنّها لا تعدو أن تكون فقاعات على سطح ماء ، في حين أنّ الجزاء والثواب الإلهي النابع من ذات الله المطلقة المقدسة أعلى وأفضل من كل شيء.

ثمّ يضيف قائلا : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ) ـ وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان ـ (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

إنّ التعبير بـ «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة ، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن ، ولكنّ الله تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون ، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية ، كما لو مثلنا لذلك في مثل من حياتنا كأن يعرض بائع أنواعا من البضائع المتفاوتة في النوعية ، فقسم منها بضائع جيدة ، وقسم آخر بضائع رديئة ، والبقية بين الإثنين ، فيأتي مشتري ليأخذ الجميع بسعر النوعية الجيدة!

٣١٢

ولا تخلو جملة (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ...) من الإشارة إلى أنّ الصبر والثبات في السير على طريق الطاعة ، وخصوصا حفظ العهود والإيمان هي من أفضل أعمال الإنسان.

وقد روي عن علي عليه‌السلام قوله : «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في إيمان لا صبر معه» (١).

ثمّ يبيّن القرآن الكريم بعد ذلك ـ على صورة قانون عام ـ نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان التي يؤديها الإنسان وبأية صورة كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فيقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وعليه ، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط ، من حيث السن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية أو ما شابه ذلك في هذا الأمر.

و «الحياة الطيبة» في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من الإيمان، أي أنّ المجتمع البشري سيعيش حينها حياة هادئة مطمئنة ملؤها الرفاه والسلم والمحبّة والتعاون ، بل وكل ما يرتبط بالمجتمع من المفاهيم الإنسانية ، وفي أمان من الآلام الناتجة عن الاستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية التي تملأ الدنيا ظلاما وظلامات.

وعلاوة على كل ما تقدم فإنّ الله سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون (كما تقدم تفسيره).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٨٢.

٣١٣

بحوث

١ ـ منابع الخلود

إنّ طبيعة الحياة في هذا العالم المادي هي الفناء والهلاك ، فأقوى الأبنية وأكثر الحكومات دواما وأشد البشر قدرة لا يعدون أن يصيروا في نهاية أمرهم إلى الضعف فالفناء ، وكل شيء معرض للتلف بلا استثناء في هذا الأمر.

أمّا لو تمكنت الكائنات من أن توجد لها ارتباطا على نحو ما مع الذات الإلهية المقدسة ، وتبقى تعمل لأجلها وفي سبيلها ، فإنّها والحال هذه ستصطبغ بصبغة الخلود ، لأنّ ذات الله المقدسة أبدية وأزلية وكل من ينتسب اليه يحصل على صبغة الأبدية.

فالأعمال الصالحة أبدية ، الشهداء لهم حياة أبدية ، والأنبياء والعلماء المخلصون والمجاهدون في سبيل الله يبقى ذكرهم خالدا في ذاكرة التاريخ .. لأنّهم يحملون الصبغة الإلهية.

ولهذا ، تذكّرنا الآيات أعلاه وتدعونا لأن ننفذ ذخائر وجودنا من الفناء ، ونودعها في صندوق لا تطاله يد الزمان ولا تفنيه الليالي والأيّام.

فهلموا لبذل الطاقات في سبيل الله وفي خدمة خلق الله ، وكسب رضا الباري ، لتصبح من مصاديق «عند الله» ولتكون باقية بمقتضى (ما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا عن ثلاث:صدقة جارية ، علم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له» (١).

وعن علي عليه‌السلام أنّه قال : «شتّان ما بين عملين : عمل تذهب لذته وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره» (٢).

__________________

(١) إرشاد الديلمي.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ١٢١.

٣١٤

٢ ـ التساوي بين الرجل والمرأة

ممّا لا شك فيه أنّ بين الرجل والمرأة تفاوت واختلاف من الناحيتين الجسمية والروحية، وهذا الفرق هو الذي جعلهما مختلفين في وظائفها وشؤونهما الاجتماعية ، إلّا أنّ طبيعة الاختلاف الموجود لا تنعكس على الشخصية الإنسانية ، ولا توجد اختلافا في مقامهما عند الله عزوجل ، فهما في هذا الجانب متساويان ومتكافئان ، ويحكم شخصية أي منهما مقياس واحد ألا وهو الإيمان والعمل الصالح والتقوى ، وإمكانية تحصيل ذلك لأيّ منهما متساوية.

إنّ الآيات أعلاه قد بيّنت هذه الحقيقة بكل وضوح لتخرس الأفواه المشككة في الطبيعة الإنسانية للمرأة في الماضي والحاضر ، ولترد بقوّة أولئك الذين يعطون للمرأة مقاما أقل ورتبة أنزل من الناحية الإنسانية نسبة إلى الرجل ، وقد أعلنت الآيات المنطق الإسلامي في هذه المسألة الاجتماعية المهمّة ، فقالت : إنّ الإسلام خلافا لقاصري الفكر ليس دين الرجال ، فهو يخص المرأة بنفس القدر الذي يخص الرجل.

فمن عمل صالحا وهو مؤمن رجلا كان أو امرأة ، فله الحياة الطيبة : وسينال ثواب الله تعالى من غير تمايز في الجنس ، ولا تفاضل بينهما إلّا من خلال ما يتفوق أيّ منهما على الآخر من حيث الإيمان والعمل الصالح.

٣ ـ جذور العمل الصالح ترتوي من الإيمان

العمل الصالح : مصطلح له من سعة المفهوم ما يضم بين طياته جميع الأعمال الإيجابية والمفيدة والبناءة على كافة أصعدة الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ... إلخ.

ويشمل : الاختراع الذي يبذل فيه العالم جهده سنوات طويلة من أجل خدمة الإنسانية .. جهاد الشهيد الذي حمل روحه على كفه وخاض ساحة الصراع بين

٣١٥

الحق والباطل فبذل دمه الشريف في سبيل الله .. الآلام التي تتحملها الأمّ المؤمنة عند الولادة وما تواجه من صعاب في تربية أبنائها .. وتشمل ما يعانيه العلماء في تحرير كتبهم الثمينة.

وتشمل أيضا : أعظم الأعمال ، كحمل رسالة النبوة .. وأقل وأصغر الأعمال ، كرفع حجر صغير من طريق المارة ، نعم ، فكل ما ذكره يدخل ضمن مفهوم العمل الصالح.

والحال هذه .. يواجهنا «السؤال» الآتي : لما ذا قيّد العمل الصالح بشرط الإيمان ، في حين يمكن أداؤه بدون هذا الشرط ، والساحة البشرية فيها كثير من الشواهد التي تحكي ذلك؟

و «الجواب» ينصب على تبيان مسألة واحدة ، ألا وهي (الباعث الإيماني) ، فإن لم يحرز هذا الباعث فغالبا ما تكون الأعمال المنجزة ملوّثة (وقد تشد عن هذه القاعدة العامّة بعض المتفرقات هنا وهناك) ، وأمّا إذا ارتوت جذور شجرة العمل الصالح من ماء التوحيد والإيمان بالله ، فنادرا ما يصيب هذا العمل آفات مثل : العجب ، والرياء ، الغرور ، التقلب ، المنّة .. إلخ ، ولذلك نرى القرآن الكريم غالبا ما يربط بين هذين الأمرين ، لما لارتباطهما من واقعية.

ونوضح المسألة في مثال : لو افترضنا أنّ شخصين أرادا بناء مستشفى ، أحدهما يدفعه الباعث الإلهي لخدمة خلق الله ، والآخر هدفه التظاهر بالعمل الصالح والحصول على السمعة والمكانة الاجتماعية المرموقة.

وفي النظرة الأولى وبتفكير سطحي يمكننا أن نقول ـ إنّ المستشفى ستقام ، وسيستفيد الناس من عملهما على السواء ، وصحيح أن أحدهما سيحصل على الثواب ، الإلهي والآخر لا يحصل عليه ، ولكنّ ظاهر عمليهما لا اختلاف فيه.

وكما قلنا فإنّ هذا القول ناتج عن رؤية سطحية للموضوع ، أمّا لو أمعنا النظر لرأينا أنّهما مختلفان من جهات متعددة ، فعلى سبيل المثال : إنّ الشخص الأوّل

٣١٦

سينتخب مكانا لمستشفاه يكون قريبا من أكثر طبقات المنطقة فقرا وحرمانا ، ولربّما تكون في محلة غير معروفة ومنزوية ، أمّا الشخص الثّاني فإنّه سيبحث عن منطقة أكثر شهرة حتى وإن كانت حاجتها للمستشفى قليلة جدّا.

وسيسعى الشخص الأوّل في انتخاب مواد البناء وطريقته بما يلحظ فيه المستقبل البعيد ، ويحكم أساس البناء ليصمد البناء لسنين طويلة ، أمّا الشخص الآخر فإنّه سيحاول أن يسرع في البناء وتعجيل افتتاح المستشفى ويكثر الضجيج والإعلام لينال مراده. وسيجدّ الأوّل في إحكام باطن العمل في حين أنّ الثّاني سيهتم بمظهره ورونقه. وعند انتخاب الأقسام الطبية ، الأطباء ، الممرضين وسائر احتياجات المستشفى ، فثمّة اختلاف كبير بين الشخصين ، فاختلاف النيّة يترك أثره على جميع مراحل وشؤون العمل وبعبارة أخرى : إنّ العمل يصطبغ بصبغة النيّة.

٤ ـ ما هي الحياة الطيبة؟

لقد ذكر المفسّرون في معنى الحياة الطيبة تفاسير عديدة :

فبعض فسرها ب : الرّزق الحلال.

وبعض ب : القناعة والرضا بالنصيب.

وبعض ب : الرزق اليومي.

وبعض ب : العبادة مع الرزق الحلال.

وبعض ب : التوفيق لطاعة أوامر الله ... وما شابه ذلك.

ولعله لا حاجة بنا للتذكير بأن مفهوم الحياة الطيبة من السعة بحيث يشمل كل ما ذكروه وغيره ، فالحياة الطيبة بجميع جهاتها ، وخالية من التلوثات والظلم والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم ، وفيها ما يجعل حياة الإنسان صافية كماء زلال.

٣١٧

وبملاحظة تعبير الآية عن الجزاء الإلهي وفق أحسن الأعمال ، ليفهم من ذلك أنّ الحياة الطيبة ترتبط بعالم الدنيا بينما يرتبط الجزاء بالأحسن بعالم الآخرة.

وعند ما سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) ، قال:«هي القناعة» (١).

ولا شك أنّ هذا التّفسير لا يعني حصر معنى الحياة الطيبة بالقناعة ، بل هو بيان لأحد مصاديقها الواضحة جدّا ، حيث أنّ الإنسان لو أعطيت له الدنيا بكاملها وسلبت منه روح القناعة فإنه ـ والحال هذه ـ سيعيش دائما في عذاب وألم وحسرة ، وبعكس ذلك، فإذا امتلك الإنسان القناعة وترك الحرص والطمع ، فإنّه سيعيش مطمئنا راضيا على الدوام.

وقد ورد في روايات أخرى تفسير الحياة الطيبة بمعنى الرضا بقسم الله ، وهذا المعنى قريب الأفق مع القناعة.

وينبغي أن لا نعطي لهذه المفاهيم صفة تخديرية أبدا ، وإنّما الهدف الواقعي من بيان الرضا والقناعة هو القضاء على الحرص والطمع واتباع الهوى في نفس الإنسان ، التي تعتبر من العوامل المؤثرة في إيجاد الاعتداءات والاستغلال والحروب وإراقة الدماء ، والمسببة للذل والأسر.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٢٩.

٣١٨

الآيات

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

التّفسير

اقرأ القرآن هكذا :

لم يفت ذاكرتنا ما ورد قبل عدّة آيات أنّ القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ثمّ تمّ البحث عن قسم من أهم الأوامر الإلهية في القرآن.

وتبيّن الآيات مورد البحث طريقة الاستفادة من القرآن وتتطرق إلى كيفية تلاوته ، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا ، ولا بد من رفع الحجب المخيمة على وجودنا وإزالتها عن محيط فكرنا وروحنا ، كي نتمكن من تحصيل هذا المحتوى الثر الغني.

ولهذا يقول القرآن : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

ولا يقصد من الاستعاذة الاكتفاء بذكر بل ينبغي لها أن تكون مقدمة لتحقيق وإيجاد الحالة الروحية المطلوبة .. حالة : التوجه إلى الله عزوجل ، الانفصال عن

٣١٩

هوى النفس والعناد المانع للفهم والدرك الصحيح للإنسان ، البعد عن التعصبات والغرور وحبّ الذات ومحورية الذات التي تضغط على الإنسان ليسخر كل شيء (حتى كلام الله) في تحقيق رغباته المنحرفة.

وإن لم تتحقق للإنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إدراك الحقائق القرآنية ، وربّما سيجعل القرآن وسيلة لتبرير آرائه ورغباته الملوّثة بالشرك بواسطة «تفسير بالرأي».

وتأتي الآية التالية لتكون دليلا على ما جاء في الآية التي قبلها : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) ، لأنّهم يعتبرون أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر الله!

* * *

بحوث

١ ـ موانع المعرفة

مع كل ما للحقيقة من ظهور ووضوح فإنّها لا تلحظ إلّا بعين باصرة ، وبعبارة أخرى، ثمة شرطان لمعرفة الحقائق :

الأوّل : وضوح الحقيقة.

الثّاني : وجود وسيلة للنظر إليها وإدراكها.

فهل يمكن للأعمى أن يرى قرص الشمس يوما ما مع البقاء على حالة العمى؟ وهل يمكن للأصم أن يسمع نغمات هذا العالم الجميلة؟ فكذا الحال بالنسبة لفاقد البصيرة الثاقبة والأذن السميعة ، فإنّه محروم من رؤية جلال الحق ، ومحروم من سماع آياته الرائعة.

ولكن ، لما ذا يفقد الإنسان قدرته على المعرفة؟!

٣٢٠