الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-40-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٤٩٦

ليس إلّا.

وجملة (لا يَسْتَطِيعُونَ) سبب لجملة «لا يملكون» أي : إنّها لا تملك شيئا من الأرزاق لعدم استطاعتها الملك ، فكيف بالخلق!

ثمّ تقول الآية التالية كنتيجة لما قبلها : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) وذلك (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

قال بعض المفسّرين : إنّ عبارة (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) تشير إلى منطق المشركين في عصر الجاهلية (ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه أولئك المشركين) حيث كانوا يقولون: إنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نتملك الأهلية لعبادة الله ، فنعبدها لتقربنا إلى الله! وإنّ الله مثل ملك عظيم لا يصل إليه إلّا الوزراء والخواص ، وما على عوام الناس إلّا أن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إلى خدمة الله!!

هذا الانحراف في التوجه والتفكير ، والذي قد يتجسم أحيانا على هيئة أمثال منحرفة، إنّما هو من الخطورة بمكان بحيث يطغى على كل الانحرافات الفكرية.

ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلا : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات (ممكنة الوجود) ومليئة بالنواقص.

وإنّكم لو أحطتم علما بعظمة وجوده الكريم وبلطفه ورحمته المطلقة ، لعرفتم أنّه أقرب إليكم من أنفسكم ولما جعلتم بينكم وبينه سبحانه من واسطة أبدا.

فالله الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه ، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار ، لا ينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أيّ أحد من الوصول إليه ودخول قصره إلّا بعض الخواص (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ).

لقد أكّدنا في بحوثنا السابقة حول صفات الله عزوجل : أنّ منزلق التشبيه يعتبر من أخطر المزلقات في طريق معرفة صفاته سبحانه وتعالى ، ولا ينبغي مقايسة صفاته سبحانه بصفات العباد ، لأنّ الباري جلت عظمته وجود مطلق ، وكل

٢٦١

الموجودات بما فيها الإنسان محدودة ، فهل يمكن تشبيه المطلق بالمحدود؟! وإذا ما اضطررنا إلى تشبيه ذاته المقدسة بالنّور وما شابه ذلك فينبغي أن لا يغيب عن علمنا بأنّ هذا التشبيه ناقص على أيّة حال ، وأنّه لا يصدق إلّا من جهة واحدة دون بقية الجهات ـ فتأمل.

وبما أنّ أكثر الناس قد غفلوا عن هذه الحقيقة ، وكثيرا ما يقعون في وادي التشبيه الباطل والقياس المرفوض فيبتعدون عن حقيقة التوحيد ، فلذا نجد القرآن الكريم كثيرا ما يؤكّد على هذه المسألة ، فمرّة يقول كما في الآية (٤) من سورة التوحيد ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، وأخرى كما في الآية (١١) من سورة الشورى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وثالثة كما في الآية مورد البحث : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ).

ولعل عبارة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، في ذيل الآية مورد البحث ، تشير إلى أنّ أغلب الناس في غفلة عن أسرار صفات الله.

* * *

٢٦٢

الآيات

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

التّفسير

مثلان للمؤمن والكافر!

ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن : الإيمان ، الفكر ، المؤمنين ، الكافرين والمشركين ، تشخص الآيات مورد البحث حال المجموعتين (المؤمنين والكافرين) بضرب مثلين حيين وواضحين.

٢٦٣

يشبه المثال الأوّل المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة لمولاه ، ويشبه المؤمنين بإنسان غني ، يستفيد الجميع من إمكانياته .. (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ).

والعبد ليس له قدرة تكوينية لأنّه أسير بين قبضة مولاه ومحدود الحال في كل شيء ، وليس له قدرة تشريعية أيضا لأنّ حق التصرف بأمواله (إن كان له مال) وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه ، وبعبارة أخرى إنّه : عبد للمخلوق ، ولا يعني ذلك إلّا الأسر والمحدودية في كل شيء.

أمّا ما يقابل ذلك فالإنسان المؤمن الذي يتمتع بأنواع المواهب والرزق الحسن : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) والإنسان الحر مع ما له من إمكانيات واسعة (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) فاحكموا : (هَلْ يَسْتَوُونَ).

قطعا ، لا ... فإذن : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الله الذي يكون عبده حرّ وقادر ومنفق ، وليس الأصنام التي عبادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

ثمّ يضرب مثلا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين ، فيشبه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبه الآخر بإنسان حر يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ)(٢)ولهذا (... أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ).

وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية :

أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).

__________________

(١) المثال المذكور عبارة عن تشبيه للمؤمن والكافر (على ضوء تفسيرنا) ، إلّا أنّ جمعا من المفسّرين ذهب إلى أنّ العبد المملوك يرمز إلى الأصنام ، وأنّ المؤمن الحر المنفق إشارة إلى الله سبحانه وتعالى (ويبدو لنا أنّ هذا التشبيه بعيد).

(٢) يقول الراغب في مفرداته : الأبكم هو الذي يولد أخرس ، فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم ، ويقال: بكم عن الكلام ، إذا أضعف عنه لضعف عقله فصار كالأبكم.

٢٦٤

وعاجز لا يقدر على شيء.

وكلّ على مولاه.

وأينما يوجهه لا يأت بخير.

مع أنّ الصفات المذكورة علة ومعلول لبعضها الآخر ولكنّها ترسم صورة إنسان سلبي مائة في المائة حيث أن وجوده لا ينم عن أي خير أو بركة إضافة لكونه «كلّ» على أهله ومجتمعه.

فـ (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)؟!

وأمّا الرجل الآخر في مثل الآية فهو صاحب دعوة مستمرّة إلى العدل وسائر على الصراط المستقيم ، وما هاتان الصفتان إلّا مفتاح لصفات أخرى متضمنة لها ، فصاحب هاتين الصفتين : لسانه ناطق ، منطقه محكم ، إرادته قوية ، شجاع وشهم ، لأنّه لا يمكن أن يتصور لداعية العدل أن يكون : أبكم ، جبانا وضعيفا! ولا يمكن أن يكون من هو على صراط مستقيم إنسانا عاجزا أبله وضعيف العقل ، بل ينبغي أن يكون ذكيا ، نبيها ، حكيما وثابتا.

وتظهر المقايسة بين هذين الرجلين ذلك البون الشاسع بين الاتجاهين الفكريين المختلفين لعبدة الأصنام من جهة ، وعباد الله عزوجل من جهة أخرى ، وما بينهم من تفاوت تربوي وعقائدي.

كما رأينا من ربط القرآن في بحوثه المتعلقة بالتوحيد ومحاربة الشرك مع بحث المعاد ومحكمة القيامة الكبرى ، نراه هنا يتناول الإجابة على إشكالات المشركين فيما يخص المعاد ، فيقول لهم : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وكأن الآية جواب على الإشكال العالق في أذهان وألسنة منكري المعاد الجسماني بقولهم : إنّنا إذا متنا وتبعثرت ذرات أجسامنا بين التراب ، فمن يقدر على جمعها؟! وإذا ما افترضنا أنّ هذه الذرات قد جمعت وعدنا إلى الحياة ، فمن سيعلم بأعمالنا التي طوتها يد النسيان فنحاسب عليها؟!

٢٦٥

وبعبارة مختصرة تجيب الآية على كل أبعاد السؤال ، فالله عزوجل «يعلم غيب السماوات والأرض» فهو حاضر في كل زمان ومكان ، وعليه فلا يخفى عليه شيء أبدا ، ولا مفهوم لقولهم إطلاقا ، وكل شيء يعلمه تعالى شهودا ، وأمّا تلك العبارات والأحوال فإنّما تناسب وجودنا الناقص لا غير.

ثمّ يضيف قائلا : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١).

وهذا المقطع القرآني يشير إلى رد إشكال آخر كان يطرحه منكر والمعاد بقولهم : من له القدرة على المعاد ومن يتمكن من انجاز هذا الأمر العسير؟!

فيجيبهم القرآن ، بأن هذا الأمر يبدو لكم صعبا لأنّكم ضعفاء ، أمّا لصاحب القدرة المطلقة فهو من السهولة والسرعة بحيث يكون أسرع ممّا تتصورون ، وإن هو (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) منكم.

وبعد أن شبّه قيام الساعة بلمح البصر ، قال : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، أي : إنّ التشبيه بلمح البصر جاء لضيق العبارة واللغة ، وإنّما هو من السرعة بما لا يلحظ فيه الزمان أساسا ، وما ذلك الوصف إلّا لتقريبه لأذهانكم من حيث أنّ لمح البصر هو أقصر زمان في منطقكم.

وعلى أيّة حال ، فالعبارتان إشارة حيّة لقدرة الله عزوجل المطلقة ، وبخصوص مسألتي المعاد والقيامة ، ولهذا يقول الباري في ذيل الآية : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

بحوث

١ ـ الإنسان بين الحرية والأسر

__________________

(١) لمح : (على وزن مسح) بمعنى ظهور البرق ، ثمّ جاءت بمعنى النظر السريع ، وينبغي الانتباه إلى أنّ «أو» هنا بمعنى (بل).

٢٦٦

إنّ مسألة التوحيد والشرك ليست مسألة عقائدية ذهنية صرفة كما يتوهم البعض وذلك لما لها من آثار بالغة على كافة أصعدة الحياة ، بل وأنّ بصماتها لتراها شاخصة على كافة مرافق ومناحي الحياة ـ فالتوحيد إذا دخل قلبا أحياه وغرس فيه عوامل الرّشد والكمال، لأنّه بتوسيع أفق نظر وتفكير الإنسان بشكل يجعله مرتبطا بالمطلق.

والشرك على العكس من ذلك تماما ، حيث يجعل الإنسان يعيش في دوامة عالم محدود ، وتتقاذف كيانه تلك الأصنام الحجرية والخشبية ، أو ميول وشهوات الأصنام البشرية الضعيفة ، فيختزل فكر وإدراك وقدرة وسعي الإنسان في دائرة تلك الأبعاد الضيقة التقاذف.

وقد صورت الآيات تصويرا دقيقا لهذا الواقع ، وجمعته في مثال تقريبا للأذهان وقال : إنّ المشرك في حقيقة أبكم وممارساته تنم عن خطل تفكيره وفقدانه للمنطق السليم ، وقد قيد الشرك إمكانياته فجعله خواء لا يقوى على القيام بأي شيء فانسلخت منه حريته بعد أن أسلم نفسه أسيرا في يد الخرافات والأوهام.

وبسبب هذه الصفات المذمومة فهو كلّ على المجتمع ، لأنّه يستهين بكرامة وعزّة المجتمع من خلال تسليم مقدراته بيد الأصنام أو المستعمرين.

وهو تابع أبدا ما دام لم يتحرر من ربقة الشرك ، ولن يذوق طعم الحرية والاستقلال الحق إلّا بعد أن يتوجه إلى التوحيد بصدق.

ونتيجة لمتبنياته الفكرية الضالة فلن يخترق طريقا إلّا ضاع به ، ولن يجد الخير أينما حط (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ).

فكم هي الفاصلة بين ذلك الخرافي ، ضيق الأفق ، الأسير ، العاجز .. وبين هذا الحر، الشجاع ، الذي لا يكتفي بنهج خط العدل ، بل يدعو إليه ليعم كل الناس؟!

الشخص الذي يمتلك الفكر المنطقي المنسجم مع نظام التوحيد الحاكم على

٢٦٧

الخليقة يسير دوما على صراط مستقيم ، وهذا السير سيوصله بأقرب وأسرع طريق إلى الهدف المنشود دون أن يفني ذخائر وجوده في طرق الضلال والانحراف.

وخلاصة القول : فالتوحيد والشرك ليسا أمرا عقائديا ذهنيا بحتا ، بل نظام كامل لكل الحياة ، وبرنامج واسع يشمل : فكر ، أخلاق وعواطف الإنسان ويتناول كذلك حياته الفردية ، الاجتماعية ، السياسية ، الاقتصادية والثقافية.

لو وضعنا مقايسة بين عرب الجاهلية المشركين والمسلمين في صدر الإسلام لوجدنا الفرق الواضح بين المسيرين ...

الأشخاص الذين كانوا في : جهل ، تفرقة ، انحطاط ، ولا يعرفون إلّا محيطا محدودا مملوءا بالفقر والفساد ، نراهم قد أصبحوا وكلهم : وحدة ، علم ، قدرة ... حتى أصبح العالم المتمدن في ذلك الزمان تحت تأثيرهم وقدرتهم .. كل ذلك بسبب تغيير سير خطواتهم من الشرك إلى التوحيد.

٢ ـ دور العدل والاستقامة في حياة الإنسان

من الملفت للنظر اشارة الآيات إلى الدعوة للعدل والسير على الصراط المستقيم من بين صفات وشؤون الموحدين ، لتبيان ما لهذين الأمرين من أهمية في خصوص الوصول إلى المجتمع الإنساني السعيد ، وهو ما يتم من خلال امتلاك برنامج صحيح بعيد عن أي انحراف يمينا أو شمالا (لا شرقي ولا غربي) ، ومن ثمّ الدعوة لتنفيذ ذلك البرنامج المبني على أصول العدل ، كما وينبغي أن لا يكون البرنامج وقتيا ينتهي بانقضاء المدّة ، بل كما يقول القرآن : (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (حيث يعطي الفعل المضارع معنى الاستمرار) برنامج مستمر ودائمي.

٢٦٨

٣ ـ أمّا الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام

الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام بخصوص تفسير هذه الآية تذكر أنّ :«الذي يأمر بعدل أمير المؤمنين والأئمّة صلوات الله عليهم».

وذكر بعض المفسّرين : أنّ جملة (مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) نزلت في : حمزة وعثمان بن مظعون أو في عمار.

و «أبكم» في : أبي بن مخلف وأبي جهل ومن شابههم.

وكل ذلك إنّما هو من جهة بيان مصاديق مهمّة وواضحة للآية ، ولا يمكن بأية حال أن يكون سببا للحصر ، مع ملاحظة أنّ التفاسير التي تناولت الآيات المبحوثة مبينة على أساس بيان الفرق بين المشركين والمؤمنين ، وليس بين الأصنام وبين الله عزوجل.

* * *

٢٦٩

الآيات

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

التّفسير

أنواع النعم المادية والمعنوية :

يعود القرآن الكريم مرّة أخرى بعرض جملة أخرى من النعم الإلهية كدرس

٢٧٠

في التوحيد ومعرفة الله ، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله .. ويقول : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شيء ، ولكن عند ما تنتقلون إلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل ، ولهذا فقد زودكم الباري سبحانه بوسائل إدراك الحقائق ومعرفة الموجودات (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

* * *

ملاحظات

وهنا نطرح الملاحظات التالية :

١ ـ بداية الإدراك عند الإنسان

تصرّح الآية بوضوح بأنّ الإنسان حين يولد فإنّه لا يدرك من الأشياء شيئا ، وكل ما يدركه إنّما هو بعد الولادة وبواسطة الحواس التي منحه الله إيّاه.

ويواجهنا الإشكال التالي : إنّ الإنسان مزود بجملة من العلوم الفطرية كالتوحيد ومعرفة الله ، بالإضافة إلى بعض البديهيات مثل (عدم اجتماع النقيضين ، الكل أكبر من الجزء ، حسن العدل ، قبح الظلم ... إلخ) وكل هذه العلوم قد أودعت في قلوبنا وتولدت معنا .. فكيف يقول القرآن إنّ الإنسان حين يخرج من محيط الجنين ليس له من العلم شيئا؟

وهل علمنا بوجودنا (والذي هو علم حضوري) لم يكن فينا وإنّما نكتسبه عن طريق السمع والبصر والفؤاد؟

وللإجابة على هذا الإشكال ، نقول : إنّ العلوم البديهية والضرورية والفطرية

٢٧١

لم تكن في الإنسان بصورة فعلية حين ولادته ، وإنّما على شكل استعداد ووجود بالقوّة.

وبعبارة أخرى : إنّنا عند الولادة نكون في غفلة عن كل شيء حتى عن أنفسنا التي بين جنبينا ، إلّا أن مسألة إدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوّة لا الفعل ، وبالتدريج تحصل لأعيننا قوّة النظر ولآذاننا قوة السمع ولعقولنا القدرة على الإدراك والتجزئية والتحليل ، فنعم بهذه العطايا الإلهية الثلاث التي بواسطتها نستطيع أن ندرك كثيرا من التصورات ونودعها في العقل لكي ننشئ منها مفاهيم كلية ، ومن ثمّ نصل إلى الحقائق العقلية بطريق (التعميم) و (التجريد).

وتصل قدرتنا الفكرية إلى إدراك أنفسنا (باعتبارها علما حضوريا) ومن ثمّ تتحرر العلوم التي أودعت فينا قوة لتصبح علوما بالفعل ، ونجعل بعد ذلك من العلوم البديهية والضرورية سلّما للوصول إلى العلوم النظرية وغير البديهية.

وعلى هذا .. فالعموم والكلية التي نطقت بها الآية (من أنّنا لا نعلم شيئا عند الولادة) ليس لها استثناء ولا تخصيص.

٢ ـ نعمة وسائل المعرفة

ممّا لا شك فيه عدم امكانية استيعاب ودخول العالم الخارجي في وجودنا ، والحاصل الفعلي هو رسم صورة الشيء الخارجي المراد في الذهن وبواسطة الوسائل المعينة لذلك ، وعليه .. فمعرفتنا بالعالم الخارجي تكون عن طريق أجهزة خاصّة منها السمع والبصر.

وتنقل هذه الآلات والأجهزة كل ما تلتقطه من الخارج لتودعه في أذهاننا وعقولنا ، ونقوم بواسطة العقل والفكر بعملية التجزئة والتحليل ..

ولذلك بيّنت الآية مسألة عدم علم الإنسان المطلق حين الولادة : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لكي تحصلوا على حقائق الوجود وتدركوها.

٢٧٢

ونشاهد تقديم ذكر السمع على البصر في الآية مع ما للعين من عمل أوسع من السمع ، ولعل ذلك لسبق الأذن في العمل على العين بعد الولادة ، حيث أنّ العين كانت في ظلام دامس (في رحم الأم) ونتيجة لشدّة أشعة النّور (بعد الولادة) فإنّها لا تستطيع العمل مباشرة بسبب حساسيتها ، وإنّما تتدرج في اعتيادها على مواجهة النّور حتى تصل للحالة الطبيعية المعتادة ، ولذا نجد الوليد في بداية أيّامه الأولى مغلق العين. أمّا بخصوص الأذن .. فثمة من يعتقد بأنّ لها القدرة على السماع (قليلا أو كثيرا) وهي في عالم الأجنّة وأنّها تسمع دقات قلب الأم وتعتاد عليها!

أضف إلى ذلك أنّ الإنسان إنّما يرى بعينه الأشياء الحسيّة فقط ، في حين أن الأذن تعتبر وسيلة للتربية والتعليم في جميع المجالات ، فالإنسان يصل بواسطة سماع الكلمات إلى معرفة جميع الحقائق سواء ما كان منها في دائرة الحس أو ما كان خارجها ، وليس للعين هذه السعة ، وصحيح أنّ الإنسان يمكنه تحصيل العلم بواسطة القراءة ، إلّا أنّ القراءة ليست عامّة لكل الناس وسماع الكلمات أمر عام.

أمّا سبب ورود «السمع» بصيغة المفرد و «الأبصار» بصيغة الجمع ، فقد بيّناه عند تفسيرنا للآية (٧) من سورة البقرة.

وثمّة ملاحظة أخرى ينبغي ذكرها تتعلق بكلمة «الفؤاد» ، فقد جاءت هنا بمعنى القلب (العقل) الذي يعيش حالة التوقد ، وبعبارة أخرى : يعيش حالة التّفسير والتحليل والابتكار.

يقول الراغب في مفرداته : (الفؤاد كالقلب ، لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى الفؤاد أي التوقد). ومن المسلّم به أن هذا الموضوع يحصل للإنسان بعد حصوله على تجارب كافية.

وعلى أية حال ، فآلات المعرفة وإن لم تنحصر بهذه الأجهزة الثلاث ، إلّا أنّها أفضل الأجهزة جميعا ، لأنّ علم الإنسان إمّا أن يكون عن طريق التجربة أو عند

٢٧٣

طريق الاستدلالات العقلية ، ولا تجربة بدون السمع والبصر ، ولا استدلالات عقلية من غير الفؤاد (العقل).

٣ ـ لعلكم تشكرون

تعتبر نعمة أجهزة تحصيل العلم من أفضل النعم التي وهبها الله للإنسان ، فلا يقتصر دور العين والأذن (مثلا) على النظر إلى آثار الله في خلقه ، والاستماع إلى أحاديث أنبياء الله وأوليائه ، وتفهم ذلك وتدركه بالتحليل والاستنتاج ، بل إنّ كل خطوة نحو التكامل والتقدم مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه الوسائل الثلاثة.

وغاية إعطاء هذه الوسائل إنّما تستوجب شكر الواهب ، لأنّه من خلالها يمكن الحصول على العلم والمعرفة اللذين بهما امتاز الإنسان عن غيره من الحيوانات.

وممّا لا شك فيه أنّ الإنسان ليقف عاجزا أمام حق شكر المولى وليس له إلّا الاعتذار.

وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة الله عزوجل في علم الوجود ، وتقول : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ).

«الجو» لغة : هو الهواء (كما ذكره الراغب في مفرداته) ، أو ذلك الجزء من الهواء البعيد عن الأرض (كما ورد في تفسير مجمع البيان وتفسير الميزان وكذلك تفسير الآلوسي).

وبما أنّ الأجسام تنجذب إلى الأرض طبيعيا فقد وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير ، أي : أنّ الباري سبحانه قد جعل في أجنحة الطيور قوّة ، وفي الهواء خاصية ، تمكنان الطيور من الطيران في الجو على رغم قانون الجاذبية.

ويضيف قائلا : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ).

صحيح أنّ ثمّة أمور مجتمعة تعطي للطيور إمكانية التحليق والطيران ، مثل :

٢٧٤

الخاصية الطبيعية للأجنحة ، قدرة عضلات الطيور ، هيكل الطير بالإضافة إلى خواص الهواء الملائمة .. ولكن ، من الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟

ومن الذي أقرّ هذا النظام الدقيق؟

فهل هي الطبيعة العمياء ، أم من يعلم بجميع الخواص الفيزيائية للأجسام وأحاط علمه المطلق بكل هذه الأمور؟؟

فإذا ما رأينا نسبة هذه الأمور إلى الله ، لأنّ منبع وجودها منه تعالى ، وأمثال هذا التعبير في نسبة الأسباب والعلل إلى الله كثيرة في القرآن الكريم.

وفي نهاية الآية ، يأتي قوله عزّ من قائل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إنّهم ينظرون إلى هذه الأمور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون ويسمعون ، وبذلك يقوى إيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.

* * *

بحوث

١ ـ أسرار تحليق الطيور في السماء

إنّنا لا نشعر بأهمية الكثير من عجائب عالم الوجود لاعتيادنا على كثرة مشاهدتها ، ولعدم انشغالنا بالتدقيق العلمي عند المشاهدة ، حتى باتت هذه العادة كحجاب يغطي تلك العظمة ، ولو استطاع أيّ منّا رفع ذلك الحجاب عن ذهنه لرأى العجائب الكثيرة من حوله.

وتحليق الطيور في السماء لا تبتعد عن هذه الحقيقة ، فحركة جسم ثقيل بخلاف قانون الجاذبية من دون أية صعوبة ، وارتفاعه بسرعة حتى ليغيب عن أعيننا في لحظات لأمر يدعو إلى التأمل والدراسة.

ولو دققنا النظر في بناء جسم الطائر لوجدنا ذلك الترابط الدقيق بين كل صفاته وحالاته التي تساعده على الطيران ، فهيكله العام مدبب ليقلل من مقاومة

٢٧٥

الهواء على بدنه لأقصى حد ممكن ، وريشه خفيف مجوف ، وصدره مسطح يمكنه من ركوب أمواج الهواء ، وطبيعة أجنحته الخاصّة تمنحه القوة الرافعة (١) التي تساعده على الارتفاع ، وكذلك الطبيعة الخاصّة لذيل الطائر التي تعينه على تغيير اتجاه طيرانه وسرعة التحوّل يمينا وشمالا وأعلى وأسفل (كذيل الطائرة) ، وذلك التناسق الموجود بين النظر وبقية الحواس التي تشترك جميعا في عملية الطيران ... وكل ذلك يعطي للطائر إمكانية الطيران السريع.

ثمّ إنّ طريقة تناسل الطير (وضع البيض) ، وعملية تربية الجنين ونموه تجري خارج رحم الأم ممّا يرفع عنها حالة الحمل والتي تعيق (بلا شك) عملية الطيران .. وثمّة أمور كثيرة تعتبر من العوامل المؤثرة فيزيائيا في عملية الطيران.

وكل ما ذكر يكشف عن وجود علم وقدرة فائقين لخالق ومنظم بناء وحركة هذه الكائنات الحية ، وكما يقول القرآن : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

إنّ عجائب الطيور لأكثر من أن تسطر في كتاب أو عدّة كتب ، فهناك مثلا الطيور المهاجرة وما يكتنف رحلاتها من عجائب ، وحياة هذه الطيور مبنية على التنقل بين أرجاء المعمورة المختلفة حتى أنّها لتقطع المسافة ما بين القطبين الشمالي والجنوبي على طولها ، وتعتمد في تعيين اتجاهات رحلاتها على إشارات رمزية تمكنها من عبور الجبال والأودية والبحار ، ولا يعيق تحركها رداءة الجو أو حلكة الظلام في الليالي التي يتيه فيها حتى الإنسان وبما يملك.

ومن غريب ما يحدث في رجلاتها أنّها : قد تنام أحيانا بين عباب السماء

__________________

(١) «القوة الرافعة» : اصطلاح فيزيائي حديث يستعمل في حقل الطائرات ، وخلاصته : أنّ الجسم إذا كان له سطحين متفاوتين بالاستواء (كجناح الطائرة حيث سطحه الأسفل مستويا والأعلى محدبا) وتحرك أفقيا فستتولد فيه قوة خاصّة ترفعه إلى الأعلى ، تنشأ من ضغط الهواء على سطحه الأسفل والذي يكون أكثر منه على السطح الأعلى ، لأنّ الأسفل مساحته أصغر ، والسطح العلوي أوسع مساحة ، وهذا ما تعتمد عليه حركة الطائرات .. وإذا ما دققنا النظر في اجنحة الطيور فسنرى هذه الظاهرة بوضوح ـ فتأمل. وعموما ، ينبغي القول : ما بناء الطائرات إلّا تقليد لأجسام الطيور في جوانب مختلفة!

٢٧٦

وهي طائرة! وقد تستغرق بعض رحلاتها عدّة أسابيع دون توقف ليل نهار وبدون أن يتخلل تلك المدّة أية فترة لتناول الطعام! حيث أنّها تناولت الطعام الكافي قبل بدءها حركة الرحيل (بإلهام داخلي) ويتحول ذلك الطعام إلى دهون تدخرها في أطراف بدنها!

وثمّة أسرار كثيرة تتعلق في : بناء الطير لعشه ، تربية أفراخه ، كيفية التحصن من الأعداء ، كيفية تحصيل الغذاء اللازم ، تعاون الطيور فيما بينها بل ومع غير جنسها أيضا ...إلخ ، ولكل ممّا ذكر قصّة طويلة.

نعم ، وكما تقول الآية المباركة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

٢ ـ ترابط الآيات :

لا شك أنّ هناك ترابطا بين الآية أعلاه والتي تتحدث عن كيفية طيران الطيور وما قبلها من الآيات يتمثل في الحديث عن نعم الله عزوجل في عالم الخليقة ، وعن أبعاد عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ، ولكن لا يبعد أن يكون ذكر تحليق الطيور بعد ذكر آلات المعرفة يحمل بين طياته إشارة لطيفة في تشبيه تحليق هذه الطيور في العالم المحسوس بتحليق الأفكار في العالم غير المحسوس ، فكلّ منها يحلق في فضائه الخاص وبما لديه من آلات.

يقول الإمام علي عليه‌السلام في خطبته الشقشقية : «ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير».

وكذا في كلماته عليه‌السلام القصار في بيان فضيلة مالك الأشتر رحمه‌الله ، ذلك القائد الشجاع: «لا يرتقيه الحافر ، ولا يوفي عليه الطائر» (١).

وعدّ في هذه السورة خمسين نعمة كلها تدعو إلى معرفة الله جل وعلا وتدفع

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٤٤٣.

٢٧٧

إلى شكره ، ولذلك ذهب البعض لتسميتها ب (سورة النعم).

وتستمر الآيات في الإشارة إلى النعم الإلهية حتى نصل إلى الآية الثّالثة (مورد البحث) لتقول : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً).

وحقّا إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم ، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.

«البيوت» : جمع بيت ، مأخوذ من (البيتوتة) : وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلا ، وأطلقت كلمة (بيت) على الحجرة أو الدار لحصول الاستفادة منهما للسكن ليلا.

ويلزمنا هنا التنويه بالملاحظة التالية : إنّ القرآن الكريم لم يقل : إنّ الله جعل بيوتكم سكنا لكم ، وإنّما ذكر كلمة (من) التبعيضية أوّلا وقال : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) وذلك لدقة كلام الله التامة في التعبير ، حيث أنّ الدار أو الحجرة الواحدة تلحقها مرافق أخرى كالمخزن والحمام وغيرها.

وبعد أن تطرق القرآن الكريم إلى ذكر البيوت الثابتة عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) (١).

وهي من الخفة بحيث (تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) ـ أي رحيلكم ـ (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ).

بل وجعل لكم : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

وكما هو معلوم فإنّ الشعر الذي يحمله بدن الحيوان بعضه خشن تماما كشعر الماعز ويطلق عليه (شعر) ، وجمعه (أشعار) ، وبعضه الآخر أقل خشونة بقليل وهو (الصوف) وجمعه (أصواف) ، (والوبر) أقل نعومة من الصوف وجمعه (أوبار) ، وبديهي أنّ الاختلاف الحاصل في طبيعته وخشونته يؤدي إلى تنوع الاستفادة

__________________

(١) إنّ صناعة الخيام من الجلود قليلة في عصرنا المعاش ، ولكنّ الآية المباركة أرادت أن تظهر أن هذا النوع من الخيام كان من أفضل الأنواع في تلك الأزمان ، واختص بالذكر دون بقية الأنواع ربما لكونها أكثر مأمنا أمام عواصف الصحراء الحارقة في الحجاز.

٢٧٨

منها ، فمن بعضها تصنع الخيام ، ومن البعض الآخر يصنع اللباس ، ومن الثّالث الفرش وهكذا ..

أمّا عن المقصود بـ «الأثاث» و «المتاع» في الآية فقد ذكر المفسّرون لذلك جملة احتمالات.

قال بعضهم : «الأثاث» بمعنى الوسائل المنزلية ، وهي في الأصل من (أثّ) بمعنى الكثرة والتجمع ، وأطلقت على الوسائل والأدوات المنزلية لكثرتها عادة.

ويطلق «المتاع» على كل ما يتمتع به الإنسان ويستفيد منه (فالمصطلحان إشارة إلى شيء واحد من جهتين مختلفتين).

ومع ملاحظة ما ذكر فاستعمال المصطلحين على التوالي يمكن أن يشير إلى هذا المعنى: إنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها.

واحتمل البعض ومنهم «الفخر الرازي» : «الأناث» بمعنى الأغطية والملابس ، و «المتاع بمعنى الفرش ، إلّا أنّه لم يذكر أيّ دليل لتفسيره.

واحتمل «الآلوسي» في (روح المعاني) : «الأثاث» إشارة إلى الوسائل المنزلية ، و «المتاع» إشارة إلى الوسائل المستخدمة في التجارة.

ويبدو أنّ ما قلناه أوّلا أقرب من الجميع.

وذكرت وجوه عديدة في تفسير (إِلى حِينٍ) ولكنّ الظاهر من مقصودها هو:استفيدوا من هذه الوسائل في هذا العالم حتى نهاية الحياة فيه ، وهو إشارة إلى عدم خلود الحياة في هذا العالم وما فيه من وسائل ولوازم وأنّ كل ما فيه محدود.

٣ ـ الظلال ، المساكن ، الأغطية :

ويشير القرآن الكريم إلى نعمة أخرى بقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً).

٢٧٩

«الأكنان» : جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ ، ولهذا فقد أطلقت على المغارات وأماكن الاختفاء وفي الجبال.

ونرى إطلاق كلمة «الظلال» في الآية لتشمل كل الظلال ، سواء كانت ظلال الأشجار أو المغارات الجبلية أو ظل أي شيء آخر ، باعتبارها إحدى النعم الإلهية (وحقيقة الأمر كذلك) ، فكما يحتاج الإنسان إلى النّور في حياته فكثيرا ما يحتاج إلى الظلل كذلك ، لأنّ النّور إذا ما استمر في اشراقه فسوف تكون الحياة مستحيلة ، ويكفينا أن نلمس ما لظل الكرة الأرضية (والمسمى بالليل) على حياتنا ، وكذلك دور الظلال الأخرى خلال النهار في مختلف الأمكنة والحالات.

وكأن ذكر نعمة «الظلال» و «أكنان الجبال» بعد ذكر نعمة «المسكن» و «الخيام» في الآية السابقة ، للإشارة إلى : أنّ طوائف الناس لا تخرج عن إحدى ثلاثة .. واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها ، وأخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام ، وثالثة أولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى .. ولم يترك الباري جل شأنه المجموعة الثّالثة تعيش حالة الحيرة من أمرها ، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم.

وقد لا يدرك سكنة المدن ما لوجود المغارات الجبلية من أهمية ، ولكنّ عابري الصحاري والمسافرين العزل والرعاة وكل من حرم من نعمة البيوت الثابتة أو السيارة (مؤقتا أو دائما) عند ما يكونون تحت سطوة حرارة الصيف اللاهبة أو تحت وطأة زمهرير الشتاء القارص ، سيعرفون عندها أهمية تلك المغارات ، وخصوصا كونها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء ، وهي ملاذ ينجي من موت قريب ـ في بعض الأحيان ـ للإنسان أو الحيوانات.

وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية ، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، وثمّة ألبسة أخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ).

٢٨٠