الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

وسألت ربّي أن يجعلك وصيي ففعل»

فقال رجلان من قريش ـ من المخالفين ـ : والله لصاع تمر في شن بال أحب إلينا ممّا سئل محمّد ربّه ، فهلا سئل ربّه ملكا يعضده على عدوه ، أو كنزا يستغني به عن فاقته؟ ... فنزلت الآيات السابقة لتكون جوابا لأولئك .. (١)

التّفسير

القرآن المعجزة الخالدة :

يبدو من هذه الآيات أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوكل إبلاغ الآيات ـ نظرا للجاجة الأعداء ومخالفتهم ـ لآخر فرصة ، لذا فإنّ الله سبحانه ينهي نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء ، أو مجيء الملائكة لتصديقه (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ).

وكما يستفاد من آيات القرآن الأخرى كما في سورة الإسراء (الآيات ٩٠ ـ ٩٣) ـ إنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النّبي ويتبعوا الحق ، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتّحجج الواهي ، فلذلك تأتي الآية معقبة (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) سواء قبلوا دعواك أم لم يقبلوا ، وسخروا منك أم لم يسخروا ، فالله هو الحافظ والناظر على كل شيء (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك ، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم ، والله سبحانه هو الذي يعرف كيف يحاسبهم ، وكيف يعاملهم.

وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النّبي كانوا أساسا منكرين لوحي الله ، ويقولون : إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل الله ، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد ـ وحاشاه من ذلك ـ على الله كذبا ، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٤٢ ، نقلا عن روضة الكافي.

٤٨١

تامة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ).

فقل لهم يا رسول الله ـ إن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من الله وأنّه من صنع الإنسان ـ فيأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات ، وليدعوا ـ سوى الله ـ ما شاؤوا (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أمّا إذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين ، ولم يلبوا طلبك على الإتيان بعشر سور مفتريات كسور القرآن ، فاعلموا أن ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أن هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله ، ولو كانت من صنع بشر ، فهم بشر أيضا .. فلما ذا لا يقدرون على ذلك (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) واعلموا أيضا أنّه لا معبود سوى الله ، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟

أي بعد ما دعوناكم للإتيان بمثل هذه السور ، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك ، فهل يبقى شك في أن هذه الآيات منزلة من قبل الله ، ومع هذه المعجزة البينة أمّا زلتم منكرين ، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقا؟!

* * *

بحوث

١ ـ من المعلوم أنّ كلمة «لعلّ» تأتي لإظهار الرجاء لعمل شيء ما وتحققه ، ولكن «لعل» هنا جاءت بمعنى النهي ، وهي تماما مثل ما يريد الأب مثلا أن ينهي ولده فيقول له : لعلك ترافق فلانا فأنت حينئذ غير مهتم للعاقبة ، فمعنى الكلام هنا : لا ترافق فلانا لأن صحبته تضرك.

إذا فعلى الرغم من أن «لعل» تفيد الرجاء ، إلّا أن المفهوم الالتزامي منها النهي عن عمل أيضا.

٤٨٢

في الآيات ـ محل البحث ـ يؤكّد الله سبحانه على النّبي ألّا يؤخر إبلاغه الوحي خوفا من تكذيب المخالفين أو طلبهم معجزات مقترحة من قبلهم.

٢ ـ يرد هنا سؤال هو : كيف يمكن للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤخر إبلاغه الوحي ، أولا يبلغه أساسا؟ مع أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ولا يصدر منه الخطأ والذنب!

الجواب : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى ما امر بتبليغ حكم فوري فمن المسلّم أنّه يبلغه فورا ودون إبطاء ، ولكن يتفق ـ أحيانا أن يكون وقت التبليغ موسعا .. والنّبي يؤخر البلاغ تبعا لأمور ... هذه الأمور ليس لها جانب شخصي بحيث تعود للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، بل لها جانب عام ودفاع عن الدين ، وهذا التأخير ليس ذنبا قطعا ، مثل ما ورد ـ في سورة المائدة في الآية ٦٧ ـ من أمر الله للرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ ، وأن لا يخاف من تهديدات الناس لأنّ الله سيحفظه حيث يقول عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وعلى هذا فلم يكن تأخير البلاغ هنا ممنوعا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن «الإسراع» فيه دليل على قاطعيته .. فالإسراع بالتبليغ يعدّ أولى من التأخير .. فالله سبحانه يريد أن يشدّ من معنوية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويثبت فؤاده ويجعله صلدا أمام المخالفين بحيث يبلغ «بضرس قاطع» ولا يلتفت إلى طلبات المخالفين وحجج المستهزئين ، ولا يستوحش من صخبهم وضجيجهم!

٣ ـ احتمل المفسّرون في معنى «أم» التي في أوّل الآية الأخرى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) احتمالين :

الأوّل : إنّه بمعنى «أو».

والثّاني : بأنّه بمعنى «بل».

ففي الصورة الأولى يكون المعنى على النحو التالي :

لعلك لم تتل آياتنا خوفا من حجج المخالفين ، أو أنّك تلوتها ولكنّهم كذبوك

٤٨٣

وقالوا افتريتها على الله سبحانه.

وفي الصورة الثّانية يكون المعنى على النحو التالي : لا تؤخر إبلاغ آياتنا لحجج المخالفين [ثمّ يضيف سبحانه] بل هم أساسا منكرون للوحي وللنّبوة ، ويزعمون أن الرّسول يكذب على الله.

وفي الحقيقة. إنّ الله يخبر نبيّه مع هذا البيان أن ما يطلبه هؤلاء من المعاجز المقترحة فليس لطلب «الحق» ، بل لأنّهم أساسا منكرون للنّبوة. وإنّما هي حجج وتعاليل يتذرعون بها!

وعلى كل حال ، فعند التأمل في الآيات آنفة الذكر ـ وخاصّة إذا دققنا النظر في كلماتها من الناحية الأدبية ـ نجد أن المعنى الثّاني أقرب إلى مضاد الآيات ، فتأملّوا!

٤ ـ لا شكّ أنّ على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يري معاجزه للذين يطلبون الحق لتكون سندا لحقانية نبوته ، ولا يستطيع أي نبي من الأنبياء أن يستند إلى ادعائه فحسب.

ولكن لا ريب ولا شك أن المخالفين الذين تحدثت عنهم الآيات لم يكونوا يطلبون الحقيقة ويبحثون عنها «وما كانوا يطلبونه من معاجز كانت معاجز اقتراحية على حسب ميولهم وأهوائهم ولا يقتنعون بأية معجزة أخرى».

ومن المسلّم أنّ هؤلاء محتالون وليسوا بطلّاب حقيقة. فهل كان يجب على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون لديه كنوز عظيمة كما كان يريده منه مشركو مكّة؟! أو أن يكون معه ملك يصدق دعوته وبلاغه؟!

وبعد هذا كلّه ألم يكن القرآن نفسه أعظم وأكبر من كل معجزة .. وإذا لم يكن أولئك في صدد التحجّج والتّحيّل ، فلما ذا لم يذعنوا لآيات القرآن الذي كان يتحدّاهم ويقول لهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

٥ ـ إنّ الآيات ـ المذكورة ـ توكّد إعجاز القرآن مرّة أخرى وتقول : ليس هذا

٤٨٤

كلاما عاديا يترشح من الفكر البشري ، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم الله اللامحدود وقدرته الواسعة ، وعلى هذا فإنّه يتحدّى جميع البشر أن يواجهوه بمثله ـ مع ملاحظة أنّ المخالفين من معاصري النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعدهم إلى يومنا هذا عجزوا عن ذلك ، وفضلوا مواجهة الكثير من المشاكل على معارضة القرآن ، وهكذا يتّضح أن مثل هذا العمل لم يكن من صنع البشر ولا يكون ، فهل المعجزة شيء غير هذا؟!

هذا نداء القرآن ما زال في أسماعنا ، وهذه المعجزة الخالدة تدعو العالمين إليها وتتحدى جميع المحافل البشرية ، لا من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات وجاذبيتها ووضوح المفاهيم فحسب. بل من حيث المحتوى والعلوم التي فيه والتي لم تكن موجودة في ذلك الزمان ، والقوانين التي تتكفل بسعادة البشرية ونجاتها ، والبيان الخالي من التناقض ، والقصص التاريخية الخالية من الخرافات ، وأمثالها. وقد بيّنا ذلك وشرحناه في تفسير الآيتين (٢٣ و ٢٤) من سورة البقرة في إعجاز القرآن.

جميع القرآن أو عشر سور منه أو سورة واحدة!

٦ ـ نحن نعلم أنّ القرآن دعا في بعض آياته المنكرين لنبوة محمّد والمخالفين له إلى الإتيان بمثل القرآن ، كما في سورة الإسراء الآية (٨٨). وفي مكان آخر إلى الإتيان بعشر سور ، كما هو في الآيات التي بين أيدينا ـ محل البحث ـ وفي مكان آخر دعا المخالفين إلى سورة مثل سور القرآن ، كما في سورة البقرة الآية (٢٣).

ولهذا السبب بحث جماعة من المفسّرين هذا «السرّ» في التفاوت في التحدّي والدعوة إلى المواجهة ، فما هو؟! ولم في مكان من القرآن يطلب الإتيان بمثله.

وفي مكان بعشر سور ، وفي مكان يطلب الإتيان بسورة واحدة؟! وقد اتبعوا طرقا مختلفة في الإجابة على هذا السؤال.

٤٨٥

ألف ـ يعتقد البعض أنّ هذا التفاوت من قبيل التنازل من مرحلة عليا إلى مرحلة أقل على سبيل المثال ، أن يقول قائل لآخر : إذا كنت ماهرا مثلي في فن الكتابة والشعر فاكتب كتابا ككتابي وهات ديوان شعر كديواني ، ثمّ يتنازل ويقول فهات فصلا مثل فصول كتابي ، إلى أن يتحدّاه بأن يأتي بصفحة مثل صفحاته.

ولكن هذا الجواب يكون صحيحا في صورة ما لو كانت سور الإسراء وهود ويونس والبقرة قد نزلت بهذا الترتيب ، كما هو منقول في كتاب «تأريخ القرآن» عن الفهرست لابن النديم ، لأنّه يقول إنّ سورة الإسراء رقمها في السور (٤٨) ، وسورة هود (٤٩) ، وسورة يونس (٥١) ، والبقرة هي السورة التسعون النازلة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن هذا الكلام لا ينسجم مع ترتيب السور في التفاسير الإسلامية.

ب ـ يرى البعض أن ترتيب السور الآنفة رغم عدم توافقها مع ترتيب التحدي من الأعلى الى الأدنى ، ولكن نعلم أنّ جميع آيات السورة الواحدة لم تنزل مجموعة في آن واحد ، فبعض الآيات كانت تتأخر في النزول مدة ثمّ يلحقها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسورة الفلانية بحسب تناسبها معها ، وفي محل كلامنا هذا يمكن أن يكون الأمر كذلك ، وعلى هذا فإنّ تاريخ السور لا يتنافى مع التنزّل ، أو التنازل من مرحلة عليا إلى مرحلة دنيا.

ج ـ هناك احتمال آخر لحل هذا الإشكال هو أنّ أجزاء «القرآن» أجزاء تطلق على الكل وعلى البعض منه ، فنحن نقرأ في الآية الأولى من سورة الجن (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) وواضح أنّهم سمعوا بعض القرآن لا أنّهم سمعوا القرآن كلّه ، ولفظ القرآن في الأساس مشتق من القراءة ، ومن المعلوم أنّ القراءة والتلاوة تصدق على جميع القرآن وعلى جزء منه أيضا ، فعلى هذا يكون التحدي بـ «مثل القرآن» غير مقصود به التحدي بالإتيان بمثل جميع القرآن ، وهو ينسجم بهذا المعنى مع التحدي بعشر سور منه أو حتى بسورة واحدة.

٤٨٦

ومن جهة أخرى فإنّ السورة في الأصل تعني «المجموعة المحدودة» ، فيكون إطلاقها على مجموعة آيات صحيحا وإن لم يكن ذلك غير جار في الاصطلاح العرفي.

وبتعبير آخر فإنّ السورة تطلق على معنيين :

الأول : يراد به مجموعة الآيات التي تبحث عن هدف معين.

والثّاني : يراد به ما بدئ ببسم الله الرحمن الرحيم وينتهي قبل بسم الله الرحمن الرحيم.

والشاهد على هذا قوله تعالى في سورة التوبة الآية (٨٦) : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) فالواضح من هذه الآية أن المراد بالسورة من قوله : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ليس إلّا الآيات التي تحمل الهدف الآنف ، وهو الإيمان بالله والجهاد مع الرّسول ، وإن كانت الآيات بعضا من سورة! ..

أمّا «الراغب الأصبهاني» فيقول في مفرداته في تفسير أوّل سورة النّور (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) أي جملة من الأحكام والحكم. فكما نلاحظ هنا أن الراغب فسّر السورة بمجموعة من الأحكام والحكم ، فلا يبقي فارق مهم بين ألفاظ «القرآن» و «عشر سور» و «سورة» من حيث المفهوم اللغوي.

والنتيجة أنّ تحدي القرآن ليس من قبيل التحدي بكلمة واحدة أو بجملة واحدة ، حتى يدعي مدع أنّه قادر على الإتيان بآية مثل آية (وَالضُّحى) أو آية (مُدْهامَّتانِ) ـ أو أنّه يستطيع أن يأتي بجمل بسيطة كما في القرآن ، بل التحدي في كل مكان بمجموعة من الآيات التي تحمل هدفا معينا «فتأمل».

٧ ـ من هو المخاطب بقوله تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)؟ هناك أقوال بين المفسّرين ، فبعض يرى أنّ المخاطب بالآية هم «المسلمون» ، أي إذا لم يستجب المنكرون لكم أيّها المسلمون فيأتوا بعشر سور مفتريات فاعلموا أنّ القرآن منزل من الله سبحانه ، وهذا كاف في الدلالة على إعجاز القرآن.

٤٨٧

وقال بعض المفسّرين : المخاطب بالآية هو. «المنكرون» أي : أيّها المنكرون إذا لم يستجب الناس لكم وكل ما دعوتم من دون الله ، ولم يقدروا على الإتيان بعشر سور فاعلموا أنّ القرآن نازل من قبل الله.

ولكن من حيث النتيجة لا يوجد تفاوت مهم بين التّفسيرين ، وإنّ الاحتمال الأوّل أقرب حسب الظاهر.

* * *

٤٨٨

الآيتان

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

التّفسير

الآيات أعلاه أكملت الحجة مع «دلائل إعجاز القرآن» على المشركين والمنكرين ، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول ـ لحفظ منافعهم الشخصيّة ـ بالرّغم من وضوح الحق ، فالآيات هذه تشير إلى مصير هؤلاء فتقول : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) نتيجة (أَعْمالَهُمْ فِيها) في هذه الدنيا (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقص من حقهم شيء في الدنيا!

«البخس» في اللغة نقصان الحق ، وجملة (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) إشارة إلى أنّهم سينالون نتيجة أعمالهم بدون أقل نقصان من حقوقهم.

هذه الآية سنة إلهية دائمة ، وهي أنّ الأعمال «الإيجابية» والمؤثرة لا تضيع

٤٨٩

نتائجها ، مع فارق وهو أنّه إذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإنّ ثمراتها في الدنيا فحسب ، وأمّا إذا كان الهدف هو «الله» وكسب رضاه فإنّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضا حيث تكون النتائج كثيرة الثمار.

الواقع إنّ القسم الأوّل من هذه الأعمال كالبناية المؤقتة والقصيرة العمر ، فلا يستفاد منها إلّا قليلا ، ثمّ مصيرها الى الزوال والفناء.

أمّا القسم الثّاني منها فإنّها تشبه البناء المرصوص المحكم الذي يدوم قرونا وينتفع به مدّة مديدة.

وهذا من قبيل ما نراه بوضوح على أرض الواقع المعاش ، فالعالم الغربي فتح أسرارا كثيرة من العلم بسعيه المتواصل والمنسّق ، وأصبح متسلطا على قوى الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر واستقامة وجد. فلا كلام في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات مشرقة ، ولكن لأنّ هدفه الحياة الماديّة فحسب ، فإنّ أعماله لا تثمر غير توفر الإمكانات المادية ، حتى الأعمال الإنسانية كبناء المستشفيات والمراكز الصحية والمراكز الثقافية وإعانة بعض الأمم الفقيرة وأمثال ذلك ، «مصيدة» لاستعمارهم واستثمارهم للآخرين .. فلأنّها تحمل هدفا ماديا فقط ومن أجل حفظ المنافع المادية فإنّ أثرها يكون ماديّا فحسب. كذلك الحال بالنسبة لمن يعمل رياء.

فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) ليزول كل أثر أخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) وكل ما كان لغير الله فسيزول أثره (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

«الحبط» في الأصل يطلق على حالة خاصّة من أكل الحيوانات للعلف بشكل غير طبيعي ، فتنتفخ بطونها ويتعطل الجهاز الهضمي عندها فتبدو وكأنّها قد سمنت

٤٩٠

ولكنّها في الباطن وفي الحقيقة مريضة.

هذا التعبير الطريف يقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية ، إلّا أنّها في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!

* * *

ملاحظات

١ ـ من الممكن أن يتصور في البداية أنّ الآيتين محل البحث متعارضتان ، فالآية الأولى تقول : إن من كان هدفه الحياة الدنيا فإنّه سينال جزاءه فيها كاملا غير منقوص (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أمّا الآية الثّانية فتقول إن أعماله تكون بلا أثر وباطلة : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ولكن مع الالتفات إلى أن إحدى الآيتين تشير إلى ما يجري في الدنيا والثّانية تشير إلى الدار الآخرة ، يتّضح الجواب على هذا الإشكال ، وهو أنّهم ينالون جزاء أعمالهم في هذه الدنيا ، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى ولو كان من أهم الأعمال ـ إذا لم يكن لها في الآخرة أيّ أثر. لأنّ هدفهم لم يكن نقيّا ونيّتهم غير خالصة ، حيث كانوا يسعون لتحصيل سلسلة من المنافع المادية ، وقد تحققت لهم في الدنيا.

٢ ـ ذكر كلمة «الزينة» بعد «الحياة الدنيا» تدلّ ذم عبادة الدنيا وزخرفها وزبرجها ، وليس المقصود من ذلك الاستفادة باعتدال من مواهب هذا العالم!

فكلمة «الزينة» التي جاءت هنا ببيان مغلق ، إلّا أنّها في آيات أخرى فسرت بالنساء الجميلات والكنوز والمراكب والزخارف .. إلخ.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) (١) (٢).

__________________

(١) آل عمران ، ١٤.

(٢) لمزيد من الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية ١٤ من سورة آل عمران.

٤٩١

٣ ـ ذكر كلمة «الباطل» بعد كلمة «الحبط» يمكن أن تكون إشارة إلى أن أعمالهم لها ظاهر بدون محتوى ، ولذلك تذهب نتيجتها أدراج الرياح.

ثمّ يضيف أن أعمالهم أساسا باطلة من البداية ولا خاصية لها ، غاية ما في الأمر إنّ كثيرا من حقائق الأمور لما كانت في الدنيا غير معروفة فإنّها تنكشف في الدار الآخرة التي هي محل كشف الأسرار ، فيتّضح أنّ هذه الأعمال لم يكن لها قيمة منذ البداية!.

٤ ـ في كتاب «الدر المنثور» حديث منقول عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآيات يبيّن مفاد هذه الآيات بجلاء «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة صارت أمتي على ثلاث فرق : فرقة يعبدون الله خالصا ، وفرقة يعبدون الله رياء. فرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا».

فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا : بعزّتي وجلالي ، ما أردت بعبادتي؟ فيقول : الدنيا ، فيقول : لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه. انطلقوا به إلى النّار.

ويقول للذي يعبد الله رياء : بعزّتي وجلالي ، ما أردت بعبادتي؟ قال : الرياء ، فيقول: إنّما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إلي منها شيء ولا ينفعك اليوم ، انطلقوا به إلى النّار.

ويقول للذي كان يعبد الله خالصا : بعزّتي وجلالي ، ما أردت بعبادتي؟ فيقول : بعزّتك وجلالك لأنت أعلم منّي ، كنت أعبدك لوجهك ولدارك ، قال : صدق عبدي ، انطلقوا به إلى الجنّة» (٢).

* * *

__________________

(٢) نقلا عن تفسير الميزان ، ج ١٠ ، ص ١٨٦.

٤٩٢

الآية

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

التّفسير

هناك أقوال كثيرة ـ في تفسير الآية أعلاه ـ بين المفسّرين ، ولهم نظرات مختلفة في جزئيات الآية وكلماتها وضمائرها والأسماء الموصولة فيها وأسماء الإشارة ، وما نقل عنهم يخالف طريقتنا في هذا التّفسير ، ولكنّ تفسيرين منها أشد وضوحا من غيرهما ننقلهما هنا على حسب الأهميّة :

١ ـ في بداية الآية يقول الحق سبحانه :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي من الله تعالى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...).أي التوراة التي تؤيّد صدقه وعظمته ، مثل هذا الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة.

هذا الشخص هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، «البيّنة» ودليله الواضح هو القرآن المجيد ،

٤٩٣

والشاهد المصدق بنبوّته كلّ مؤمن حق أمثال علي عليه‌السلام ، ومن قبل وردت صفاته وعلائمه في التوراة ، فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقّة واضحة.

الأوّل : القرآن الكريم الذي هو بيّنة ودليل واضح في يده.

الثّاني : الكتب السماوية التي سبقت نبوّته وأشارت إلى صفاته بدقّة ، وأتباع هذه الكتب السماوية في عصر النّبي كانوا يعرفونه حقا ، ولهذا السبب كانوا ينتظرونه.

والثّالث : أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحّون الذين كانوا يبيّنون دعوته ويتحدثون عنه، لأن واحدا من علائم حقانيّة مذهب ما هو إخلاص اتباعه وتضحيتهم ودرايتهم وإيمانهم وعقلهم ، إذ أن كلّ مذهب يعرف بأتباعه وأنصاره.

ومع وجود هذه الدلائل الحيّة ، هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدعين ، أم هل ينبغي التردّد في صدق دعوته؟! (١).

ثمّ يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحقّ والباحثين عن الحقيقة ، يدعوهم إلى الإيمان دعوة ضمنية فيقول : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي النّبي الذي لديه هذه الدلائل الواضحة.

وبالرغم من أنّ مثل هؤلاء الذين أشير إليهم بكلمة «أولئك» في الآية لم يذكروا في الآية نفسها ، ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يمكن استحضارهم في جوّ هذه الآية والإشارة إليهم.

ثمّ يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ).

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير يكون المقصود بـ «من» هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبيّنة هي القرآن ، والشاهد ويراد به معنى «الجنس» من كل مؤمن صادق وفي مقدمتهم الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ويعود الضمير في كلمة «منه» إلى الله سبحانه ، ويعود الضمير في كلمة «من قبله» إلى القرآن أو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومجموع الجملة مبتدأ وخبره محذوف تقديره : كمن ليس كذلك ، أو كمن يريد الحياة الدنيا.

٤٩٤

وفي ختام الآية ـ كما هي الحال في كثير من آيات القرآن ـ يوجه الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبيّن درسا عاما لجميع الناس ، ويقول : بعد هذا كلّه من وجود الشاهد والبيّنة والمصدق بدعوتك ، فلا تتردد في الطريق ذاته (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) لأنّه من قبل الله سبحانه (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولكن كثيرا من الناس ونتيجة لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

٢ ـ التّفسير الثّاني لهذه الآية هو أنّ هدفها الأصل بيان حال المؤمنين الصادقين الذين يؤمنون بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وجود الدلائل الواضحة والشواهد على صدق دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء في الكتب السماوية السابقة في شأنه ، فأولئك هم المؤمنون ، واستنادا إلى هذه الدلائل جميعا يؤمنون به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلى هذا يكون المقصود من قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) جميع الذين لديهم دلائل مقنعة ، حيث سارعوا إلى الإيمان بالقرآن ومن جاء به ، وليس المقصود بكلمة «من» في الآية هو النّبي.

والذي يرجع هذا التّفسير على التّفسير السابق هو وجود الخبر في الآية صريحا وليس محذوفا ، والمشار إليه «أولئك» مذكور في الآية نفسها ، والقسم الأوّل من الآية يبدأ بقوله: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويشكل جملة كاملة من دون أي حذف وتقدير .. ولكن من دون شك فإنّ التعبيرات الأخرى في هذه الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير كثيرا ، ولهذا جعلنا هذا التفسير في المرحلة الثّانية «فتأمل»!

وعلى كل حال ، فالآية تشير إلى امتيازات الإسلام والمسلمين الصادقين واستنادهم إلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا .. وفي قبال ذلك تذكر ما بصير إليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضا ..

* * *

٤٩٥

بحوث

١ ـ ما المقصود «بالشاهد» في الآية؟!

قال بعض المفسّرين : إن المقصود بالشاهد هو جبرئيل عليه‌السلام أمين وحي الله ، ومنهم من فسّره بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهم من قال : إنّ معناه لسان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حالة فهم معنى «يتلو» من التلاوة أي القراءة ، لا بمعنى التلّو الذي معناه مجيء شخص بعد آخر.

ولكن كثيرا من كبار المفسّرين فسروا «شاهد» بالإمام علي عليه‌السلام ، ففي روايات كثيرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين ، وفي بعض كتب تفسير أهل السنة ـ أيضا ـ هناك تأكيد على أنّ المقصود من «الشاهد» في الآية هو الإمام علي عليه‌السلام أوّل من آمن بالنّبي والقرآن الكريم ، وكان معه في جميع المراحل ولم يقصر لحظة في التضحية دونه وحمايته إلى آخر نفس (١).

وفي حديث منقول عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «ما من رجل من قريش إلّا وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب الله ، فقال له رجل من القوم : وماذا أنزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال : أما تقرا الآية التي في هود (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّنة من ربّه وكنت أنا الشاهد» (٢).

وفي آخر سورة الرعد عبارة تؤيد هذا المعنى ، حيث يقول سبحانه : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

هناك روايات كثيرة عن طرق الشيعة وأهل السنة تبيّن أنّ المراد بقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو الإمام علي عليه‌السلام.

وممّا يجدر ذكره ـ كما أشرنا سابقا ـ أن واحدا من أفضل طرق حقانية أيّ مذهب هو مطالعة شخصية أتباعه والمدافعين عنه وحماته. فحين نلاحظ جماعة

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ونور الثقلين ، والقرطبي ، ومجمع البيان ، وسائر التفاسير.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢١٣ ، ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٤٦.

٤٩٦

أتقياء ، أذكياء ، مؤمنين مخلصين اجتمعوا حول أحد القادة ، أو مذهب معين فسيتّضح جيدا أنّ هذا القائد وهذا المذهب على درجة عالية من الحق والصدق.

ولكن حين نرى جماعة انتهازيين محتالين غير مؤمنين ولا متقين تجمعوا حول مذهب مّا أو قائد مّا ، فقلّ أن نصدّق أن ذلك المذهب أو القائد على حق.

وينبغي الإشارة إلى هذا الأمر ، وهو أنّه لا منافاة بين تفسير كلمة الشاهد بالإمام على ، وبين شمولها لجميع المؤمنين من أمثال أبي ذرّ وسلمان وعمّار واضرابهم ، لأنّ هذه التفاسير تشير إلى الشخص البارز والشاخص في هؤلاء المؤمنين ، أي إنّ المقصود هو جماعة المؤمنين الذين في طليعتهم الإمام علي عليه‌السلام.

والدليل على هذا الكلام رواية منقولة عن الإمام الباقر عليه‌السلام : قال : «الذي على بينّة من ربّه رسول الله الذي تلاه من بعده الشاهد منه أمير المؤمنين ثمّ أوصياؤه واحد بعد واحد» (١).

وعلى الرغم من أنّ هذه الرّواية تذكر المعصومين فحسب ، ولكنّها تدل على أن الرّوايات التي تفسر الشاهد بالإمام علي لا تعني شخصه فحسب ، بل كونه مصداقا وشاخصا للمؤمنين! ...

٢ ـ لماذا أشير إلى التوراة فحسب؟!

إن واحدا من دلائل حقانية النّبي كما ذكر في الآية الآنفة ـ الكتب السابقة على نبوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن لم تذكر الآية من بينها سوى التوراة ، ونحن نعرف أن الإنجيل بشّر بظهور نبي الإسلام أيضا.

ويمكن أن يكون السبب هو أنّ المحيط الذي نزل فيه القرآن وظهر الإسلام فيه (أي مكّة والمدينة) متشبعا بأفكار اليهود أكثر من غيرهم من أهل الكتاب ، وكان المسيحيون يعيشون في أماكن أبعد من اليهود كاليمن والشامات ونجران والجبال

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

٤٩٧

الشمالية في اليمن التي تقع على فاصلة عشرة منازل من صنعاء!

أو لأن أوصاف النّبي وردت في التوراة بشكل أوسع وأجمع.

وعلى كل حال ، فالتعبير عن التوراة بـ «إماما» قد يكون لأجل أحكام شريعة موسى عليه‌السلام كانت موجودة فيه بشكل أكمل ، حتى أنّ المسيحيين يرجعون إلى تعليمات التوراة!

٣ ـ من هو المخاطب في قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ)؟

هناك احتمالان في من هو المخاطب بهذه الآية :

الاحتمال الأوّل : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، أي : يا رسول الله لا تتردد في حقانيّة القرآن وشريعة الإسلام أقلّ تردد!

وبالطبع فإنّ النّبي بحكم كونه يدرك الوحي شهودا ، ويدرك بالحواس أنّ القرآن نازل من قبل الله ، بل كان في درجة أعلى من الإحساس ، فلم يكن لدية تردد في حقانية هذه الدعوة ، ولكن ليس هذه أوّل خطاب يوجه إلى النّبي ويكون المقصود به عموم الناس ، وكما يقول المثل العربي «إيّاك أعني واسمعي يا جارة».

وهذا التعبير أساسا هو ضرب من البلاغة ، حيث يوضع المخاطب غير الحقيقي مكان المخاطب الحقيقي لأهميته ولأغراض أخرى.

والاحتمال الثّاني : إنّه المخاطب بهذه الآية كل مكلّف عاقل ، أي «فلا تك أيّها المكلف العاقل في مرية وتردد». وهذا وارد إذا لم يكن المقصود بالآية (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل جميع المؤمنين الصادقين (فتدبّر).

ولكن التّفسير الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية

* * *

٤٩٨

الآيات

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢))

التّفسير

أخسر النّاس أعمالا :

بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النّبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأتي آيات أخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم.

ففي أوّل آية من هذه الآيات يقول سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ

٤٩٩

كَذِباً) ويعني أن تكذيب دعوة النّبي الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الواقع هو تكذيب لكلام الله وافتراء عليه بالكذب وتكذيب من لا يتحدث عن أحد سوى الله يعدّ تكذيبا لله (١).

وكما تقدم في عدّة مواضع ، فالقرآن المجيد يعبر في عديد من الآيات عن جماعة من الناس بقوله : «أظلم» في حين أنّ أعمالهم ـ كما يبدو ـ مختلفة ، ولا يمكن أن نعدّ جماعات كثيرة مع وجود أعمال مختلفة بأنّهم أظلم الناس! بل ينبغي أن يعدّ البعض ظالمين ، والبعض الآخر أظلم منهم ، وسواهما أشدّ ظلما منهما جميعا ..

ولكن ـ كما أجبنا عن هذا السؤال عدّة مرات ـ جذر جميع هذه الأعمال يعود لشيء واحد ، وهو الشرك وتكذيب الآيات الإلهية ، وهو أعظم البهتان «ولمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (٣١) من سورة الأنعام».

ثمّ يبيّن ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يعرضون على محكمة العدل الإلهي (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) حينئذ يشهد «الأشهاد» على أعمالهم وأنّ هؤلاء هم الذين كذبوا على الله العظيم الرحيم وولي النعمة ..

(وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) ثمّ ينادون بصوت عال (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

ولكن من هم الأشهاد؟ أهم الملائكة ، أم الحفظة على الأعمال ، أم الأنبياء؟

للمفسّرين احتمالات وآراء ، ولكن مع ملاحظة أن آيات أخرى من القرآن تشير إلى أنّ الأنبياء هم الأشهاد ، فالظاهر أنّ المراد بالأشهاد هنا هم الأنبياء أيضا .. أو المفهوم الأوسع وهو أنّ الأنبياء وسائر الأشهاد يشهدون على «الأعمال» يوم القيامة!

__________________

(١) ما يقوله المفسّرون من أنّ المراد من هذه الجملة هو الردّ على من كان يقول : إنّ النّبي يكذب على الله ، بعيد جدّا ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة لا تناسب هذا التّفسير ، بل المناسب أنّها تشير إلى الكفار.

٥٠٠