الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.

إنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل : (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا). ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأولى بأنّه من (الْمُسْرِفِينَ) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظَّالِمِينَ) ، وفي آخر آية بأنّهم من (الْكافِرِينَ).

إنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأنّ الإنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإسراف أوّلا ، أي التعدي على الحدود ، ثمّ الظلم ، وينتهي عمله أخيرا إلى الكفر والإلحاد!

* * *

٤٢١

الآيات

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

التّفسير

المرحلة الرّابعة : مرحلة البناء من أجل الثّورة :

شرحت هذه الآيات مرحلة أخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد الفراعنة.

فتقول أولا : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

٤٢٢

ثمّ تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنويا وروحيا ، فقالت : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة ، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي ، ولا برنامجا معنويا بنّاء ، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل ، وخاصّة في الجانب الروحي :

١ ـ الاهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن ، وعزل مساكنهم عن الفراعنة ، وكان لهذا العمل عدّة فوائد :

إحداها : أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأخرى : أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إلى حياة مستقلة.

والثّالثة : أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

٢ ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل ، وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنى ثانوي لهذه الكلمة (١).

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إسرائيل بشكل فاعل ، واستطاعوا بذلك

__________________

(١) بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل ، بل فسروها بنفس معناها ، اي قبلة الصلاة ، ويعتبرون جملة : (وأقيموا الصلاة) شاهدا على ذلك ، إلّا أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي ، إضافة إلى أن إرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إشكال فيه أيضا ، كما مر علينا نظير هذا مرارا.

٤٢٣

وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق ، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية ، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

٣ ـ التوجه إلى العبادة ، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد ، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات ، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب ، وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإنسان.

٤ ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائدا ـ بأن يطهّر روح بني إسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي ، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إسرائيل من أولاد يعقوب ، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعا، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة ، وسعوا في عمران هذا الوطن ، إلّا أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل هذا الوضع المأساوي. إنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد ، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.

ثمّ أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه ، فتقول على لسان موسى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).

إنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة ، أي إنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا ، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئا غير هذا ، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدهم وبذلك

٤٢٤

لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم ، فلا يجدوا بدّا من معارضة الأنبياء.

ثمّ يطلب موسى عليه‌السلام من الله طلبا فيقول : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ).

«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفا وحجرا بعد هذه اللعنة ، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماما وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثمّ أضافت (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) اي : اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضا لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء ، وسينفتح أمامنا طريق الثورة ، وتوجيه الضربة النهائية لهؤلاء.

اللهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعا من روح الانتقام والحقد ، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبدا : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ومن الطبيعي أنّ الإيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريبا ـ لا ينفع هؤلاء أيضا.

ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه : الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إسرائيل (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل ، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين ، بل استمرا في برنامجكما الثوري (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

* * *

٤٢٥

الآيات

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

التّفسير

الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين :

هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأخرى تفهم من الجمل السابقة واللاحقة.

٤٢٦

فتقول أوّلا : إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعند ما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) إلّا أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً).

«البغي» يعني الظلم ، «والعدو» بمعنى التعدي ، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعا ، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى ، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى ، إلّا أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إسرائيل للبحر ، وأي إعجاز وقع في ذلك الحين ، فإنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (٦٣) من سورة الشعراء ، إن شاء الله تعالى.

على كل حال ، فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فلست مؤمنا بقلبي فقط ، بل إنّي من المسلمين عمليا: (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

ولما تحققت تنبؤات موسى عليه‌السلام الواحدة تلو الأخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل!

إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة ، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله ، ولهذا فإنّ الله سبحانه خاطبه

٤٢٧

فقال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

وقد قرأنا سابقا في الآية (١٨) من سورة النساء : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضا في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم ، مثل :

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

لكن (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا ، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّا بحيث أنّ الكثير لو لا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا ، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إلّا أنّ البعض الآخر قالوا : إنّ أحد معاني البدن هو الدرع ، وهذا إشارة إلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه ، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضا تستحق الانتباه ، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

٤٢٨

والنقطة الأخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) قد بدأت بفاء التفريع ، ومن الممكن أن يكون ذلك إشارة إلى أن إيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح ، حتى لا يكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء ، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء ، أم لا؟

لا يمكننا اثبات ذلك ، إلّا أنّ تعبير (لِمَنْ خَلْفَكَ) يقوي هذا الاحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان ، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة ، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الأجيال في المستقبل (فتدبر جيدا).

ويقول في نهاية الآية : إنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله ، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإنّ الكثير معرضون عنها (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل ، والرجوع إلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة ، فتقول : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ).

إنّ التعبير ب (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إسرائيل وأرجعهم إلى الوطن الموعود ، أو أنّ (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) إشارة إلى طهارة وقدسية هذه الأرض ، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر ، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (٢٥) ـ (٢٨) : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ).

٤٢٩

وقد جاء هذا المضمون في الآية (٥٧) ـ (٥٩) من سورة الشعراء ، ونقرأ في آخرها : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إلى الشام ، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة ، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلّا أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى ، وأدلة صدق دعوته ، إلّا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم ، فسيذوقونه غدا.

وقد احتمل ـ أيضا ـ في تفسير هذه الآية ، أن يكن المراد من الاختلاف هو الاختلاف بين بني إسرائيل واليهود المعاصرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول دعوته ، أي إنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية ، فإنّهم اختلفوا ، فآمن بعضهم ، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته ، وإنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إسرائيل المليء بالعبر ، والذي بيّن ضمن آيات في هذه السورة ، وما أشبه حال أولئك بمسلمي اليوم ، فإنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إعجازية ، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أولئك المتجبرين ، إلّا أنّهم وللأسف الشديد ، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإسلام في جميع أرجاء العالم ، فإنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإيجاد النفاق والاختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللهم نجّنا من كفران النعمة هذا.

* * *

٤٣٠

الآيات

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

التّفسير

لا تدع للشك طريقا إلى نفسك!

لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأمم السابقة ، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحة ذلك ، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال ، وليسألوهم عن ذلك ، لأنّ كثيرا من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.

إلّا أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء ، خاطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ).

٤٣١

ويحتمل أيضا أنّ الآية أعلاه تطرح بحثا جديدا ومستقلا في صدق دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعلم المخالفين أنّهم إن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإنجيل.

ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير (١) يؤيد هذا المعنى ، وهو أن جمعا من كفار قريش كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن لم ينزل من الله ، بل إنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد ، فأجابهم بهذه الآية.

هل كان النّبي شاكّا؟!

يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شاكّا في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه ، وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه.

ولكن واقع الأمر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة ـ كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى ـ ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد. إضافة إلى أنّ هذا الأسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف ، وهذا هو المراد من المثل المعروف : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.

إضافة إلى أن ذكر الجملة الشرطية لا يدل دائما على احتمال وجود الشرط ، بل هو للتأكيد على مسأله ما أحيانا ، أو لبيان قانون كلي عام ، فنقرأ مثلا في الآية (٢٣) من سورة الإسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وينبغي الانتباه إلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهرا ، إلّا أنّه لما كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أباه قبل ولادته وأمّه في

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، الجزء ٦ ، ص ٢٢٧ ذيل الآية.

٤٣٢

طفولته ، فإنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهرا هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكذلك نقرأ في سورة الطلاق : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وهذا التعبير لا يدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته ، بل هو بيان قانون عام ، والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي ، وفي نهايتها كل الناس.

ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون ، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.

ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح ، عند ما يسأله الله يوم القيامة : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ فإنّه ينكر هذه المسألة بصراحة ، ويضيف : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) سورة المائدة من الآية (١١٦).

ثمّ تضيف الآية التّالية : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.

إنّ الآية السابقة تقول بأنّك إن كنت في شك فاسأل أولئك المطلعين العالمين ، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك ، وإلّا فإنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلّا الخسران.

إنّ هذه الآية قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآية السابقة هم عموم الناس بالرغم من أن الخطاب موجه إلى شخص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ من البديهي أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يكذب الآيات الإلهية مطلقا ، بل كان المدافع المستميت الصلب عن دينه.

ثمّ أنّها تخبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إيمانهم ، فإنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية ، وتوغلوا في طريق الباطل إلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماما ، وتحولوا إلى

٤٣٣

موجودات لا يمكن اختراقها ، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التعبير : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنّهم لا يؤمنون : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.

إنّ الآيات الأولى من الآيات مورد البحث تدعو عامّة الناس إلى المطالعة والتحقيق والسؤال من أهل العلم ، ثمّ طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه بعد أن اتّضح لهم. إلّا أنّ الآيات الأخيرة تقول : لا تتوقّع أن يؤمن كل هؤلاء ، لأنّ البعض قد فسد قلبه بحيث لا يمكن إصلاحه ، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم ، بل توجه إلى الأكثرية من الناس ممّن لهم أهلية الهداية.

وكما كررنا مرارا ، فإنّ التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على الجبر أبدا ، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإنسان ، لكن لما كان أثر كل شيء بأمر الله ، فإنّ هذه الأمور تنسب إلى الله أحيانا.

ويبدو أنّ ذكر هذه النقطة مهم أيضا ، وهي أنّنا قرأنا في بعض الآيات السابقة في شأن فرعون أنّه قد أظهر الإيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان ، إلّا أن مثل هذا الإيمان لما كان يتصف بالاضطرار لم ينفعه. إلّا أنّ هذه الآيات تقول إنّ هذا لم يكن أسلوب وطريق فرعون وحده ، بل هو طريق كل العنودين الأنانيين المستكبرين المسودّه قلوبهم الذين وصلوا إلى قمة الطغيان ولديهم نفس هذه الحالة ، فإنّ هؤلاء أيضا لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، ذلك الإيمان العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.

* * *

٤٣٤

الآية

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))

التّفسير

الامّة التي آمنت في الوقت المناسب!

تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة ، والأقوام السابقة بصورة عامّة ، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإيمان بالله في وقت الإختيار والسلامة ، إلّا أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعا لهم آنذاك.

وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام ، فتقول : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها). ثمّ استثنت قوم يونس فقالت : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي إلى آخر عمرهم.

إنّ كلمة «لو لا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين ، ولذلك تمّ الاستثناء منها بواسطة «إلّا» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة : لم يؤمن أي من الأقوام والأمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله

٤٣٥

بصورة جماعية إلّا قوم يونس.

إلّا أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لو لا» لم تأت بمعنى النفي ، بل أتت دائما بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلّا أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفيا ، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ «إلّا».

وعلى كل حال ، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضا ، إلّا أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة ، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإلهي الحتمي ، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإلهي بالعذاب الحتمي ، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإيمان ، إلّا أنّ إيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقا ـ لم يكن له أثر ولا نفع.

قصّة إيمان قوم يونس :

كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ ، أنّه عند ما يئس يونس من إيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق ، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم ، في حين أنّ عالما كان معهم أيضا اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم ، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم ، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم ، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد ، إلّا أنّ علاماته قد شرعت في الظهور ، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأمهات والأولاد ، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.

إلّا أنّ هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى الله ، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن

٤٣٦

وعي مقترن بالإخلاص قد أثر أثره ، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.

وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (١٣٤ ـ ١٤٨) من سورة الصافات ، إن شاء الله تعالى.

والجدير بالذكر ، إنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإلهي ، الحتمي ، وإلّا لم تقبل توبتهم ، بل كانت تأتيهم الإنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي ، وقد كان مقدارها كافيا للتوعية ، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإنذارات مرارا ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلّا أنّهم لم يعبئوا بها مطلقا ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الابتلاءات ليؤمنوا ، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقا.

ثمّ إنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأمّة ، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر ، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإحساس بالمسؤولية.

* * *

٤٣٧

الآيتان

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

التّفسير

لا خير في الإيمان الإجباري :

لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعا أبدا ، ولهذا فإنّ الآية الأولى من هذه الآيات تقول : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألما لعدم إيمان جماعة من هؤلاء ، فإنّ من مستلزمات أصل حرية الإرادة والإختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون ، وإذا كان الأمر كذلك (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؟

إنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإسلام بصورة مكررة ، حيث يقولون : إنّ الإسلام دين السيف ، وقد فرض بالقوّة والإجبار على شعوب العالم ، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ بأنّ الإيمان الإجباري لا قيمة له ، والدين والإيمان شيء ينبع عادة من أعماق

٤٣٨

الروح ، لا من الخارج وبواسطة السيف ، خاصّة وأنّها حذرت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إكراه وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.

الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ البشر وإن كانوا أحرارا في اختيارهم ، إلّا أنّه (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ولهذا فإنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل ، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم ، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال ، إذ (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ).

* * *

ملاحظتان

١ ـ من الممكن أن يتصور في البداية أنّ هناك تنافيا وتضادا بين الآية الأولى والثّانية، إذ أنّ الآية الأولى تقول : إنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان ، في حين أن الآية الثّانية تقول : إنّ أحدا لا يمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!

إلّا أنّ التنبه إلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري ، وهي أنّنا نعتقد بأنّ الجبر غير صحيح ، كما أنّ التفويض غير صحيح أيضا ، أي أن الناس ليسوا مجبورين تماما على أعمالهم ، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون ما يشاءون ، بل إنّهم في الوقت الذي يكونون فيه أحرارا في الإرادة ، فإنّهم في حاجة للمعونة الالهية ، لأنّ الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإرادة ، فالعقل والوجدان الطاهر هما من مواهبه وعطاياه ، وإرشاد الأنبياء وهداية الكتب السماوية من جانبه أيضا ، وبناء على هذا ففي عين حرية الإرادة والإختيار ، فإنّ منبع هذه الهبة وما ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.

٢ ـ إنّ آخر جملة من الآية الأخيرة ، أي (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) لا ينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقا ، لأنّ جملة (لا يَعْقِلُونَ) دليل على

٤٣٩

اختيار هؤلاء ، أي أنّ هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أوّلا. فاتلوا في النهاية بهذا العقاب ، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على الإيمان ، إلّا أنّه ينبغي الانتباه إلى أنّ مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم ، وفي مثل هذه الأحوال فإنّ الله تعالى لا يأذن في إيمان هؤلاء.

وبتعبير آخر ، فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ إذن الله وأمره ليس أمرا اعتباطيا غير مدروس ومحسوب ، بل إنّه يشمل أولئك الذين لهم أهلية الإيمان ، أمّا غير اللائقين فإنّهم سيحرمون منه.

* * *

٤٤٠