الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

وعدّها واهية لا أساس لها ، وأنّها عارية من الصحة ، إذ قال : لا مهديّ إلّا عيسى ، إلّا أنّ علماء الإسلام ورجاله ردّوا على مقالته ، وخاصّة أبو العباس بن عبد المؤمن في كتابه «الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون» الذي خصّص في كتابه بحثا مسهبا في هذا الشأن ، وقد نشر الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

ويقول حفاظ الأحاديث والعلماء الكبار بصراحة ، إن الأحاديث في المهدي تشتمل على الصحيح والحسن ، ومجموعها متواتر ، فبناء على ذلك فالاعتقاد بظهور المهدي واجب على كل مسلم ، ويعدّ هذا من عقائد أهل السنة والجماعة ولا ينكرها إلّا الجهلة أو المبتدعون ... إلخ.

مدير إدارة مجمع الفقه الإسلامي

محمّد المنتصر الكنائي

* * *

الانتظار وآثاره البنّاءة :

كان الكلام في البحث السابق أن هذا الإعتقاد لم يكن ممّا طرا على التعاليم الإسلامية ، بل هو من أكثر المباحث القطعية المأخوذة عن مؤسس دعائم الإسلام صلوات الله عليه ، ويتفق على ذلك عموم الفرق الإسلامية ، والأحاديث في هذا الشأن متواترة أيضا.

والآن لنقف على آثار الانتظار في المجتمعات الإسلامية وما هي عليه من أحوال ، لنرى هل أن الإيمان بظهور الإمام المهدي عليه‌السلام يجعل الإنسان عارفا في الوهم والخيال ثمّ ليستسلم لجميع الظروف ، أو هو نوع من الدّعوة إلى النهوض وبناء الإنسان والمجتمع؟!

هل يدعو إلى التحرك ، أم إلى الركود؟

هل يبعث في الإنسان روح المسؤولية ، أم هو مدعاة للفرار منها؟

٢١

وأخيرا : أهو مخدّر ، أم موقظ؟

إلّا أنّه قبل أن نوضح الإجابة على هذه الأسئلة ـ لا بدّ من الالتفات إلى هذه الملاحظة وهي أن أسمى المفاهيم وأكرم الدساتير متى ما وقعت في أيدي أناس جهلة أو غير جديرين بها ، فمن الممكن أن تمسخ بسوء استفادتهم فتكون النتيجة خلافا للهدف الأصلي تماما وتتعاكس في المسار ، ومثل هذا واقع بكثرة ، وسنرى أن مسألة انتظار المهدي عليه‌السلام من هذه المسائل أيضا.

ومن أجل تحاشي والأخطاء والاشتباهات في مثل هذه المباحث ، ينبغي ـ كما قيل ـ أن ننهل الماء من معينه العذب ، لئلا نجد فيه كدر الأنهار أو السواقي المشوبة. أي علينا أن نراجع النصوص الإسلامية الأصيلة مباشرة وأن نفهم الانتظار من لسان رواياتها المختلفة، حتى نطّلع على الهدف الأصليّ منها!

الرّوايات الشّريفة :

١ ـ سأل بعضهم الإمام الصّادق عليه‌السلام : ما تقول في رجل موال للأئمّة عليهم‌السلام وينتظر ظهور حكومة الحق ، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟!

فقال الإمام الصادق عليه‌السلام : هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : هو كمن كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة :

٢ ـ إذ جاء في بعضها : بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.

٣ ـ وفي بعضها : كمن قارع مع رسول الله بسيفه.

٤ ـ وفي بعضها : بمنزلة من كان قاعدا تحت لواء القائم.

٥ ـ وفي بعضها : بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.

٦ ـ وفي بعضها : بمنزلة من استشهد مع رسول الله.

__________________

(١) محاسن البرقي ، طبقا لما ورد في البحار ، الطبعة القديمة ، ج ١٣ ، ص ١٣٦.

٢٢

فهذه التشبيهات السبعة في الرّوايات الست المذكورة ، آنفا في شأن المهدي عليه‌السلام ، تبيّن هذه الواقعية وهي أنّ هناك علاقة وارتباط بين مسألة الانتظار من جانب ، وجهاد العدوّ في أشدّ أشكاله من جانب آخر «فتأملوا بدقّة».

٧ ـ كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل العبادات ، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلام الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

فقد ورد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من اللهعزوجل». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث آخر : «أفضل العبادة انتظار الفرج». (٢)

وهذان الحديثان يشيران إلى انتظار الفرج ، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو بمفهومه الخاص أي انتظار ظهور المصلح ويبيّنان أهمية الانتظار بجلاء أيضا.

ومثل هذه التعابير تعني أنّ الانتظار معناه الثورية المقرونة بالتهيؤ للجهاد ، فلا بدّ أن نتصوّر هذا المعنى لنفهم المراد من الانتظار ، ثمّ نحصل على النتيجة المتوخاة.

مفهوم الانتظار!

الانتظار : يطلق عادة على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإيجاد وضع أحسن.

فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه ، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر ، فهما أي المريض والأب مشفقان ، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده ، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.

وكذلك ـ مثلا ـ حال التّاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط

__________________

(١) الكافي ، حسب ما جاء في البحار ، ص ١٣٦ و ١٣٧.

(٢) المصدر السّابق.

٢٣

الاقتصادي. فهاتان الحالتان أي : الاحساس بالأزمة ، والسعي نحو الأحسن هما من الانتظار.

فبناء على ذلك ، فإنّ مسألة انتظار حكومة الحق والعدل ، أي حكومة «المهدي عليه‌السلام» وظهور المصلح العالمي ، مركبة في الواقع من عنصرين : عنصر نفي ، وعنصر إثبات، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر ، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن!

وإذا قدّر لهذين العنصرين أن يحلّا في روح الإنسان فإنّهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما :

١ ـ ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد ، بل عليه أن يقاومها ، هذا من جهة.

٢ ـ وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية ، من جهة أخرى.

ولو أمعنّا النظر لوجدنا أنّ هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي.

ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل ، ندرك بصورة جيدة معنى الرّوايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم ، وعندها نعرف لم سمّت الرّوايات المنتظرين بحقّ بأنّهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه «عجل الله فرجه» أو أنّهم تحت لوائه ، أو أنّهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه ، أو كالمتشحط بدمه! ... إلخ ....

ترى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل ، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟

كما أنّ ميزان التضحية ومعيارها ليسن في درجة واحدة ، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين ، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم ، فكذلك الانتظار

٢٤

وبناء الشخصيّة والاستعداد ، كل ذلك ليس في درجة واحدة ، وإن كان كلّ من هذه «العناوين» من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكلّ منهما جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات ، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنّه مستقر في مركز القيادة ، وعند آمرية الحكومة الاسلامية! فلا يمكن أن يكون إنسانا غافلا جاهلا ، فذلك المكان ليس مكانا لكل أحد وإنّما هو مكان من يستحقه بجدارة!

فكذلك الأمر عند ما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح ، فعليه أن يكون مستعدا بشكل كامل روحيا وفكريا وقتاليا.

ولمزيد التعرف على الآثار الواقعية لانتظار ظهور المهدي عليه‌السلام لاحظوا التوضيح التّالي:

الانتظار يعنى الاستعداد الكامل :

إذا كنت ظالما مجرما ، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟! وإذا كنت ملوّثا غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوّثين؟! والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة ، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت ، لأنّ كيفية الانتظار تتناسب دائما والهدف الذي نحن في انتظاره.

١ ـ انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.

٢ ـ انتظار عودة حبيب عزيز جدا.

٣ ـ انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.

كل من هذه الأنواع من الانتظار مقرون بنوع من الاستعداد ، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم ، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الأدوات

٢٥

والسلال وهكذا ... والآن سنتصوّر كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإنسانية مثيلا له؟

الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة ، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما ، بل هي عامّة وللجميع ، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس ، فهي ثورة سياسية ، ثقافية ، اقتصادية، أخلاقية.

الحكمة الأولى ، بناء الشّخصية الفرديّة :

إنّ بناء الشّخصية ـ قبل كل شيء ـ بحاجة إلى عناصر معدّة ذات قيم إنسانية ، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإصلاحي للعالم ، وهذا الأمر بحاجة ـ أوّلا ـ إلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي ، لتطبيق ذلك المنهج العظيم.

فالتحجر ، وضيق النظر والحسد ، والاختلافات الصبيانية ، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.

والمسألة المهمّة ـ هنا ـ أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ممّا أشرنا إليه آنفا ، بل لا بدّ أن يقف في الصف الآخر ، أي صف الثائرين المصلحين ، فالإيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول ، لا يسمح له أبدا أن يكون في صف «المثبطين» المتقاعسين ، بل يكون في صف المخلصين المصلحين ، ويكون عمله خالصا وروحه أكثر نقاء ، وأن يكون شهما عارفا معرفة كافية بالأمور.

فإذا كنت فاسدا معوجّا فكيف يمكنني أن أنتظر نظاما لا مكان فيه للفاسدين؟أليس مثل هذا الانتظار كافيا لأن أطهّر نفسي وفكري ، وأغسل جسمي وروحي من التلوّث؟!

والجيش الذي ينتظر جهادا تحرريا لا بدّ له أن يكون في حالة من الاستعداد الكامل ، وأن يهيئ السلاح الجدير بالمعركة ، وأن يصنع الملاجئ والمواضع

٢٦

العسكرية اللازمة وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده ، ويقوي روحيّاتهم ، يسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة فإنّ جيشا ليس فيه مثل هذه الاستعدادات لا يكون جيشا (منتظرا) وإذا ادعى الانتظار فهو «كاذب»!

إنّ انتظار المصلح ، «العالمي» معناه الاستعداد الكامل فكريا ، وأخلاقيا ، ماديا ومعنويا ، الاستعداد لإصلاح العالم كلّه. فتصوّروا أنّ مثل هذا الاستعدادكم يكون بنّاء؟!

فإصلاح المعمورة كلّها ، وإنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملا بسيطا ، ولا هو بالمزاح أو الهزل ، بل الاستعداد لمثل هذا الهدف الكبير ينبغي أن يتناسب معه ، وأن يكون بسعته وعمقه!

فلا بدّ من وجود رجال كبار مصممين ذوي إرادة أقوياء لا ينكصون ولا ينهزمون أبدا ، ذوي نظرة واسعة واستعداد تام وتفكير عميق ، حتى تتحقق مثل هذه الثورة الإصلاحية العالمية.

وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف يستلزم الارتباط بأشد المناهج الأخلاقية ، والفكرية والاجتماعية أصالة وعمقا ، فهذا هو معنى الانتظار الواقعي! ترى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول : إن مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلا.

الحكمة الثّانية ، التعاون الاجتماعي :

إنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء «شخصيتهم» عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين ، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إصلاح ذاتهم ... لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجا فرديّا ، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية ، وأن يكون العمل جماعيا عاما ، وأن تتسق المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.

ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنبا إلى جنب ، لا يمكن لأحد

٢٧

منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشدّ أزرهم وأن يسدّ الثغرة ويصلح نقطة الضعف إن وجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها ، لأنّه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعّالة متسقة متناسقة! فبناء على ذلك فالمنتظرون بحقّ عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإضافة إلى إصلاح حالهم.

فهذا هو الأثر الآخر البنّاء ، الذي يورثه الانتظار لقيام مصلح عالمي ، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها ، المنتظرون بحق.

الحكمة الثّالثة ، المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد :

إنّ الأثر المهم الآخر للانتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد ، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبدا.

وتوضيح ذلك : أنّه حين يعم الفساد المجتمع ، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي ، أو بتعبير آخر : في طريق مسدود «لليأس من الإصلاحات التي يتوخّاها».

وربّما يتصور «المنتظرون» أنّه لا مجال للإصلاح ، وأن السعي والجدّ من أجل البقاء على «النقاء» والطهارة وعدم التلوّث ، كل ذلك لا طائل تحته ، أو لا جدوى منه ، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفساد ، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة ، وأنّهم سيفتضحون إن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.

والشيء الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل ويدعوهم الى المقاومة والتجلد وعدم الذّوبان والانحلال في المحيط الفاسد ، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي ، فهم في هذه الحال ـ فحسب ـ لا يسأمون عن الجد والمثابرة ، بل يواصلون طريقهم في

٢٨

سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضا.

وحين نجد ـ في التعاليم الإسلامية ـ أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر ، فقد يتعجب بعض الجهّال : كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية ، حتى أنّه أشدّ من سائر الذنوب الأخرى ، فإنّ حكمته و «فلسفته» في الحقيقة هو ما أشرنا إليه آنفا ، لأنّ العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئا ينقذه ويخلصه من عذاب الله ، فلا يفكر بإصلاح الخلل ، أو ـ يكفّ عن الذنب على الأقل لأنّه يقول في نفسه : أنا الغريق فهل أحشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنّم ، وقد اشتريتها ، فما عسى أن أفعل؟ ... وما الى ذلك.

إلّا أنّه حين تنفتح له نافذة الأمل ، فإنّه سيرجو عفو ربّه ، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله ، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه الى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح.

ومن هنا يمكننا أن نعتبر أنّ الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد.

والنتيجة أنّ معنى انتظار ظهور المصلح ، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر ، والانتظار يكون له أثر نفسي كبير ، فيضمن للنفوس القوّة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد ، فهم ليسوا أربط جأشا فحسب ، بل بمقتضى قول الشاعر :

عند ما يأزف ميعاد الوصال

فلظى العشّاق في أيّ اشتعال

إذن فهم يسعون أكثر للوصول الى الهدف المنشود ، وتنشد همتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه.

وممّا ذكرناه ـ آنفا ـ نستنتج أن الأثر السلبي للانتظار إنّما يكون في صوره ما لو مسخ مفهومه أو حرّف عن واقعه ، كما حرفه المخالفون والأعداء ، ومسخه

٢٩

الموافقون ، غير أنّه لو أخذ بمفهومه الواقعي لكان عاملا تربويّا مهمّا بنّاء محرّكا باعثا على الأمل والرجاء.

وممّا يؤيد هذا الكلام ما ورد عن الأئمّة الطّاهرين عليهم‌السلام في تفسير هذه الآية :(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) إذ جاء أنّ المراد من الآية هو «القائم وأصحابه». (١)

كما جاء في حديث آخر أنّها ، أي هذه الآية نزلت في المهدي عليه‌السلام.

وقد عبّرت هذه الآية عن الإمام المهدي وأصحابه ب (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

فبناء على ذلك فإنّ تحقّق هذه الثورة الإصلاحية بدون إيمان مستحكم يقضي على كل أنواع الضعف والتحلّل وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإصلاح العالم ، فإن هذا التحقّق مستبعد جدّا.

والطالبون لهذا التحقّق عليهم أن يزدادوا إيمانا ومعرفة ، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإصلاح ذاتهم.

وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق ، لا من ركن الى الظلم والجور ....

وليس المنتظر لتلك الحكومة الأشخاص الضعاف الهمة والجبناء الذين يخافون حتى من ظلّهم.

ولا البطّالون الساكتون عن الحق التّاركون للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيطهم الفاسد. أجل ... هذا هو الأثر الإيجابي البناء لانتظار قيام المهدي عليه‌السلام في المجتمع الإسلامي.

* * *

__________________

(١) راجع البحار الطبعة القديمة ج ١٣ ، ص ١٤.

٣٠

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

التّفسير

كنز الأموال :

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك ، إذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله.

الآية الأولى محل البحث تقول : إنّ أولئك مضافا إلى كونهم غير جديرين بالألوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضا ، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة.

٣١

فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

الطريف هنا أنّنا نواجه الأسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أخرى من آياته ، فالآية هنا لم تقل : إنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون ، بل قالت : (إِنَّ كَثِيراً) فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم ، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن ، وقد أشرنا الى ذلك سابقا.

لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز ، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» فقد أشرنا سابقا الى ذلك في آيات أخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضا ، وذلك :

أوّلا : إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى عليه‌السلام في توراته وعيسى عليه‌السلام في إنجيله ، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد ، «الدين الإسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر ، كما أشارت الى ذلك الآيات (٤١) و (٧٩) و (١٧٤) من سورة البقرة.

والثّاني : إنّهم بأخذهم «الرّشوة» كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّا ، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء ، كما أشارت الى ذلك الآية (٤١) من سورة المائدة.

ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى بـ «صكوك الغفران وبيع الجنّة» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس ، ويبيعون الجنّة بـ «صكوك الغفران» والغفران ودخول الجنّة منحصران بإرادة الله وأمره ، وهذا الموضوع ـ أي صكوك الغفران ـ يضجّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم.

وأمّا صدّهم عن سبيل الله فهو واضح ، لأنّهم كانوا يحرفون آيات الله ، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة ، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفا لمقامهم ومنافعهم ، ويحاكمونه ـ في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ

٣٢

وجه ، ويصدرون عليه أحكاما جائرة قاسية جدّا.

ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل الله ، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم ، فبناء على ذلك يمكن أن يقال ـ بكل جرأة ودون تحفظ ـ أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أولئك «الرهبان والأحبار» لأنّهم كانوا سببا في بقائهم في الظلمات ، ظلمات الكفر والضلال ....

وما زالت الكنيسة لحدّ الآن تبذل قصارى وسعها ـ ولا يقصر في ذلك اليهود أيضا ـ لتغيير أفكار عامّة الناس ، وإلفاتهم عن الإسلام ، كما وجه اليهود تهما كثيرة عجيبة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أسلوب الكنيسة في مواجهة الإسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالإسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر.

وتعقيبا على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل ، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء ، الذين يكنزون أموالهم ، فيقول: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

والفعل «يكنزون» مأخوذ من مادة «الكنز» وهو المال المدفون في الأرض ، وهو في الأصل جمع أجزاء الشيء ، ومن هنا فقد سمّي البعير ذو اللحم الكثير بأنّه «كناز اللحم» ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وادخاره ودفنه ، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن.

فبناء على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإخفاء والمحافظة.

«الذهب والفضة» معدنان مشهوران ، وكان النقد أو العملة سابقا بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ.

٣٣

ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولغتيهما «كما ذكر ذلك العلّامة الطبرسي في مجمع البيان» فقال : إنّما سمّي الذهب ذهبا لذهابه عن اليد عاجلا ، وإنّما سمّيت الفضة لانفضاضها أي لتفرّقها ، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين ـ الذهب والفضة).

ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة ـ سلعة بسلعة ـ رائجة بين الناس ، فكان كلّ يبيع ما يجده زائدا على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر ، أو بضاعة أخرى ، لأنّ النقد «الدينار أو الدرهم» لم يكن آنئذ ، لكن لما كانت المبادلة ـ أعني مبادلة الأجناس أو البضائع ـ تحدث بعض المشاكل أو المصاعب ، لعدم وجود ما يحتاجه البائع ، دائما فقد يكون هناك شيء آخر ـ مثلا ـ يراد تبديله ، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد.

وقد كان وجود الفضة ، بل الأهم منه وجود الذهب ، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة ، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية ، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية ، وبهما اتّخذت المعاملات رونقا جديدا بارزا.

فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد ـ الذهب والفضة ـ هي سرعة تحرك عجلة المبادلات الاقتصادية.

أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة ، فهم لا يكونون سببا لركود الوضع الاقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب ، بل إنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه.

فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال ، والثروة بصراحة ، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله ، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق ، وإلّا فلينتظروا «العذاب الأليم».

وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب ، بل يشملهم في الدنيا ـ لإرباكهم الحالة الاقتصادية ولإيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضا.

٣٤

وإذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإسلامي بالأمس ، فنحن نستطيع أن ندركه جيدا ، لأنّ الأزمات الاقتصادية التي أبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة «أنانية» ، وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء ، غير خاف على أحد أبدا.

حتى يعدّ جمع الثروة كنزا؟

هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية ـ محل البحث ـ فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزا ، لأنّه زائد على حاجة الإنسان ، فهو حرام وفق مفهوم الآية ...أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثمّ ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة ...أو أنّه يجب على الإنسان دفع زكاته سنويا لا غير ، فإذا دفع الإنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟ في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيت عليهم‌السلام وروايات أهل السّنة ، يلوح لنا التّفسير الثّالث ، ففي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز». (١)

كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر ، فقالوا : ليس لنا أن ندخر شيئا لأبنائنا إذا ، ثمّ سألوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إن الله لم يفرض الزكاة إلّا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنّما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم». (٢)

أي أن جمع المال لو كان ـ بشكل عام ممنوعا ـ لما وجدنا لقانون الإرث موضوعا.

__________________

(١) المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٤.

(٢) المصدر السّابق.

٣٥

وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي قدس سرّه ورد هذا المضمون ذاته عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز». (١)

إلّا أنّنا نقرأ روايات أخرى في المصادر الإسلامية لا ينسجم ظاهرا ـ ولأوّل وهلة ـ والتّفسير الآنف الذكر ، ومنها ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام في مجمع البيان أنّه قال : «ما زاد على أربعة آلاف (٢) فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها ، وما دونها فهي نفقة ، فبشرهم بعذاب أليم». (٣)

وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير ، أنّه سمع عن الصادق عليه‌السلام يقول : «لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات ، وما بقي فهو حلال لهم ، إلّا أنّه إذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ). (٤)

ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام ، كان يقرأ الآية ـ محل البحث ـ في شأن معاوية ، ويقول بصوت عال صباح مساء :«بشر أهل الكنوز بكيّ في الجباه وكيّ بالجنوب وكيّ بالظهور أبدا حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم». (٥)

كما يظهر من استدلال أبي ذر رضى الله عنه بالآية في وجه عثمان ، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة ، بل تشمل غيرهم أيضا.

ويمكن الاستنتاج من مجموع الأحاديث ـ آنفة الذكر ـ منضمة إليها الآية محل البحث ، أنّه في الظروف الاعتيادية المألوفة ، حيث يرى الناس آمنين ، أو غير محدق بهم الخطر ، والمجتمع في حال مستقر ، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢) المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة.

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآية محل البحث ، ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٤) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٥) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٤ وتفسير البرهان ، ج ١ ، ص ١٢٢.

٣٦

يعد كنزا. وينبغي الالتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإسلامية ، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح ، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة ، لأنّ الإسلام وضع قيودا وشروطا للمال لا يتسنى للإنسان معها جمع الأموال وادّخارها.

وأمّا في الحالات غير الطبيعية وغير الاعتيادية ، وعند ما يقتضي حفظ مصالح المجتمع الإسلامي ذلك ، فإنّ الحكومة الإسلامية ، تحدّد لجمع المال مقدارا ، كما مرّ في حديث الإمام علي عليه‌السلام أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّا ، كما هو الحال في قيام المهدي ، إذ مرّت رواية الإمام الصادق عليه‌السلام مع ذكر العلّة ... «فيستعين به (أي المال) على عدوّه».

إلّا أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإسلامية ، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والاقتضاء «فلاحظوا بدقّة».

وأمّا قصّة أبي ذر رضى الله عنه فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته ، إذا كان المجتمع الإسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال ، وكان جمع المال وكنزه مخالفا لمنافع المجتمع وحفظ وجوده.

ومع أن أبا ذر رضى الله عنه كان ناظرا الى أموال «بيت المال» التي كانت عند عثمان ومعاوية ، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة ، بل يجب دفعه الى أصحابه فورا ، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبدا.

على أنّ التواريخ الإسلامية ـ سنّية وشيعية ـ مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه ، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصرا ضحما أحيا به أساطير قصور الساسانيين ، وكان لأبي ذر رضوان الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها.

٣٧

أبو ذر والاشتراكية!!

من المؤاخذات على الخليفة الثّالث مسألة إبعاد أبي ذر رضى الله عنه المصحوب بالقسوة والخشونة الى الرّبذه ، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبو ذر والتي كانت غير صالحة من حيث الماء والهواء ، حتى انتهى الأمر الى موت هذا الصحابي الجليل والمجاهد المضحي في سبيل الإسلام ، وهو الذي قال فيه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».

ونعرف أنّ الاختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأنّ أبا ذر كان يتمنى المال أو المقام، بل على العكس فقد كان أبو ذر زاهدا عابدا ورعا من جميع الوجوه ، بل منشأ الخلاف وأساسه ، هو أن عثمان فرّق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه وأصحابه وأنفقه بلا حساب.

وكان أبو ذر رضى الله عنه متشددا في الأمور المالية ، ولا سيّما ما كان منها متعلقا ببيت مال المسلمين ، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النّبي في هذا المجال ، والتصرف بالمال ، لكننا نعرف أنّ الأمور أخذت طابعا آخر في عصر الخليفة الثّالث عثمان.

وعلى كل حال ، فإنّ أبا ذرّ رضى الله عنه لما واجه الخليفة الثّالث بشدّة ، وعنّفه في إنفاق المال ، أرسله عثمان الى الشام بادئ الأمر ، فواجه أبو ذر معاوية هناك بصورة أشدّ نقدا وأكثر صراحة ، حتى أنّ ابن عباس قال : لقد برم معاوية من كلام أبي ذر وكتب الى عثمان : إنّه إن كانت لك حاجة في الشام فخذ أبا ذر ، فإنّه إن بقي فيها فسوف يصرف أهلها عنك.

فكتب عثمان كتابا وأحضر أبا ذرّ الى المدينة ، وكما يقول بعض المؤرّخين :كتب عثمان الى معاوية ، أن ابعث أبا ذرّ في جماعة من شرطتك ولا ترفّه عليه ، وليجدّوا به السير ليل نهار ، ولا يدعوه يستريح لحظة ، حتى أن أبا ذر لما وصل المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هيّنا على عثمان وأتباعه ، فقد

٣٨

نفوه الى «الرّبذة» حتى مات رحمه‌الله فيها.

وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثّالث ويتّهم أبا ذر أحيانا بأنّه اشتراكي ، إذ كان يرى أنّ جميع الأموال عائدة الى الله ، وكان ينكر الملكية الفردية!!

وهذا الاتهام في منتهى الغرابة ، فمع أنّ القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة ـ وفق شروط معينة ـ وكان أبو ذر رضى الله عنه من المقرّبين الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتربّى في حضن الإسلام والقرآن ، وما أظلت الخضراء أصدق منه ، فكيف يتهم أبو ذر بمثل هذا الاتهام؟!

إنّ قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإسلامي ، وكانوا قد سمعوا الآيات التي تتعلق بالتجارة والإرث ، فكيف يمكن أن يصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟

أليس ذلك لأنّ المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثّالث والأعجب من ذلك تبرئة معاوية وحكومته ـ اتهموا أبا ذرّ بمثل هذا الاتهام ، وما يزال بعض من عمي العيون صمّ الآذان يقلدون أسلافهم؟!

أجل إن أبا ذر رضى الله عنه ـ بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصّة آية الكنز ـ كان يعتقد ويصرّح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول الى ملكية فردية بيد الأشخاص ، ويجب ألّا يحرم المستضعفون والمحتاجون منه ، وينبغي أن ينفق في سبيل تقوية الإسلام ومصالح المسلمين ، فلا يجوز تبذير الأموال ، وأن بيت المال ليس ملكا لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور الأكاسرة والقياصرة!

ثمّ إنّ أبا ذرّ كان يعتقد يومئذ أنّه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف ، ليواسوا إخوانهم الفقراء ، وينفقوا أموالهم في سبيل الله.

فإذا كان أبو ذر رحمه‌الله ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلّا أن المؤرّخين المتملقين ، أو الذين يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم ، غيرّوا صورة هذا الصحابي المجاهد

٣٩

الناصع فجعلوه اشتراكيا!!

وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضا هو حبّه الشديد للإمام علي عليه‌السلام ، فقد كان هذا كافيا لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية بإسقاط حيثية أبي ذر ، إلّا أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإسلامية كانت ناصعة الى درجة أنّهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم.

ومن جملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثّالث ، ما ذكره ابن سعد في «الطبقات» : إنّ جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أبا ذرّ عند ما نفاه عثمان الى الرّبذه فقالوا : إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك ، فهل مستعد أن ترفع راية تقاتل بها عثمان ، ونحن نقاتله تحت رايتك؟ فقال أبو ذر : كلّا ، لو أرسلني عثمان من المشرق الى المغرب لكنت مطيعا لأمره. (١)

ولم يلتفت هؤلاء الوضّاعون الى أنّه لو كان مطيعا لأمره ، لما كان عثمان يضيق ذرعا به فيكون عليه ـ في المدينة ـ عبئا ثقيلا لا يستطيع حمله أبدا.

والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار ـ ذيل الآية محل البحث ـ مشيرا الى قصّة أبي ذر وما جرى بينه وبين عثمان ، فيقول : إنّ قصّة أبي ذر تدل على أن عصر الصحابة ـ ولا سيما عصر عثمان ـ كان إظهار العقيدة فيه مألوفا ، وكان العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء ، حتى أن معاوية لم يجرأ أن يقول شيئا لأبي ذر ، بل كتب كتابا الى من هو فوقه مرتبة ـ أي عثمان ـ وطلب منه أن يرى فيه رأيه!!

والحق أنّ التعصّب قد يصنع الأعاجيب ، فهل كان ـ التبعيد والنفي الى الأرض اليابسة الحارة المحرقة «الرّبذة» أرض الموت والنّار تعبير عن احترام حرية الفكر ومحبّة العلماء!!

هل أنّ تسليم هذا الصحابي الجليل «بيد الموت» يعدّ دليلا على حرية العقيدة!!

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦.

٤٠