الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

لا تفهم ممّا نقول شيئا! (١).

وفي الآية التالية إشارة إلى واحدة من العلل الأساسية لمخالفة المشركين ، فتقول : إنّ هؤلاء لم ينكروا القرآن بسبب الإشكالات والإيرادات ، بل إن تكذيبهم وإنكارهم إنّما كان بسبب عدم اطلاعهم وعلمهم به : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).

في الواقع ، إنّ سبب إنكارهم هو جهلهم وعدم اطلاعهم ، لكن المفسّرين احتملوا احتمالات متعددة فيما هو المقصود من هذه الجملة وأن الجهل بأي الأمور كان ، وكان تلك الاحتمالات يمكن أن تكون مقصودة من الجملة : الجهل بالمعارف الدينية والمبدإ والمعاد ، كما ينقل القرآن قول المشركين في شأن المعبود الحقيقي (الله) ، حيث كانوا يقولون : (أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢). أو أنّهم كانوا يقولون في مسألة المعاد: (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٣) ، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (٤).

في الحقيقة لم يكن لهؤلاء أي دليل على نفي المبدأ والمعاد ، وكان الجهل والتخلف الناشئ من الخرافات والتعود على مذهب الأجداد هو السد الوحيد في طريقهم.

أو الجهل بأسرار الأحكام.

أو الجهل بمفهوم بعض الآيات المتشابهة.

أو الجهل بمعنى الحروف المقطعة.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٤٢٢.

(٢) سورة ص ، ٥.

(٣) الإسراء ، ٩٧.

(٤) سورة سبأ ، ٨.

٣٦١

أو الجهل بالدروس والعبر التي هي الهدف النهائي من ذكر تاريخ الماضين.

إن مجموع هذه الجهالات والضلالات كانت تحملهم على الإنكار والتكذيب ، في حين أن تأويل وتفسير وتحقق المسائل المجهولة بالنسبة لهؤلاء لم يبيّن بعد (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).

«التأويل» في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشيء وعلى هذا فإنّ كل عمل أو قول يصل إلى هدفه النهائي نقول عنه : إن تأويله قد حان وقته ، ولهذا يطلق على بيان الهدف الأصلي من إقدام معين ، أو التّفسير الواقعي لكلمة ما ، أو تفسير وإعطاء نتيجة الرؤيا ، أو تحقق فرضية في ارض الواقع ، اسم التأويل. وقد تحدثنا بصورة مفصلة حول هذا الموضوع في المجلد الثّاني ذيل الآية (٧) من سورة آل عمران.

ثمّ يضيف القرآن مبينا أن هذا المنهج الزائف لا ينحصر بمشركي عصر الجاهلية ، بل إنّ الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضا بهذه المسألة ، فإنّهم كانوا يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع ، أو انتظار تحققه : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وقد مرت الإشارة أيضا في الآيات (١١٣) و (١١٨) من سورة البقرة إلى وضع الأمم السابقة من هذه الناحية.

الواقع ، إنّ عذر هؤلاء جميعا كان جهلهم ورغبتهم عن التحقيق والبحث في الحقائق الواقعية ، في حين أن العقل والمنطق يحكمان بأنّه لا ينبغي للإنسان انكار ما يجهله مطلقا ، بل يبدأ بالبحث والتحقيق.

وفي النهاية وجهت الآية الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي إنّ هؤلاء سيلاقون أيضا نفس المصير.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى فئتين عظيمتين من المشركين ، فتقول : إنّ هؤلاء لا يبقون جميعا على هذا الحال ، بل إنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة الأخرى ستبقى في عنادها وإصرارها وجهلها ، وسوف لا تؤمن أبدا : (وَمِنْهُمْ مَنْ

٣٦٢

يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ).

ومن الواضح أنّ أفراد الفئة الثّانية فاسدون ومفسدون ، ولذلك قالت الآية في النهاية : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) وهي إشارة إلى أن الذين لا يذعنون للحق ، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع ، ولهم دور مهم في إفساده.

الجهل والإنكار :

كما يستفاد من الآيات أعلاه أنّ قسما مهمّا من مخالفة الحق ومحاربته تنبع عادة من الجهل ، ولهذا السبب قالوا : عاقبة الجهل الكفر!

إنّ أوّل مهمّة تقع على عاتق كل إنسان يطلب الحق أن يتريت في مقابل ما يجهل ، يتحرك صوب البحث ثمّ وتحقيق كل جوانب المطلب الذي يجهله ، وما لم يحصل على الدليل القاطع على بطلانه فلا ينبغي له رفضه ، كما أنّه لا ينبغي له قبوله والاعتقاد به إذا لم يحصل لديه دليل قاطع على صحته نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان حديثا رائعا عن الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الباب ، حيث يقول «إنّ الله خص هذه الأمّة بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون ، وأن لا يردوا ما لا يعلمون ، ثمّ قرأ : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، وقرأ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).

* * *

٣٦٣

الآيات

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

التّفسير

العمي والصمّ :

تتابع هذه الآيات البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول إنكار وتكذيب المشركين، وإصرارهم على ذلك ، فقد علّمت الآية الأولى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقة جديدة في المواجهة ، فقالت : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

إنّ لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا ، والمقترن بالاعتماد والإيمان القاطع بالمذهب ، أثرا نفسيا خاصا ، وبالذات على المنكرين المعاندين ، فهو يفهمهم بعدم وجود أي إجبار وإصرار على قبولهم الدعوة الإسلامية. بل إنّهم بعدم تسليمهم

٣٦٤

أمام الحق سيحرمون أنفسهم ، ولا يضرون إلّا أنفسهم.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن ، كما نقرأ في سورة الكافرون : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

ومن هذا البيان يتّضح أن محتوى مثل هذه الآيات لا ينافي مطلقا الأمر بالتبليغ أو الجهاد في مقابل المشركين كيما تعتبر مثل هذه الآيات منسوخة. بل إنّ هذا نوع من المواجهة المنطقية عن طريق عدم الاكتراث لهؤلاء الأشخاص المعاندين.

وتشير الآيتان التاليتان إلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إذعانهم للحق ، وتبيّن أنّ التعليمات الصحيحة ، والآيات المعجزة التي تهزّ الوجدان والدلالات الأخرى الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الإنسان ، بل إنّ استعداد التقبل ولياقة قبول الحق لازمة أيضا ، كما أنّ البذر لوحده ليس كافيا لإنبات النبات والأوراد ، بل إنّ الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (١) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ).

وهناك فئة ثانية يشخصون بأبصارهم إليك ، وينظرون إلى أعمالك المتضمنة أحقيتك وصدق قولك ، إلّا أنّهم عمي لا يبصرون : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ (٢) أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ).

ولكن اعلم وليعلم هؤلاء أنّ قصور الفكر هذا ، وعدم البصيرة والعمى عن رؤية وجه الحق ، والصمم عن سماع كلام الله ليس شيئا ذاتيا لهم نشؤوا عليه منذ ولادتهم ، وإنّ الله تعالى قد ظلمهم ، بل إنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم بأعمالهم السيئة وعدائهم وعصيانهم للحق ، وعطلوا بذلك عين بصيرتهم وأذن أفئدتهم عن

__________________

(١) في الحقيقة هناك جملة مقدرة في هذه الآية تقديرها : «كأنّهم صم لا يستمعون».

(٢) هنا أيضا جمله مقدرة هي : كأنّهم عمي لا يبصرون.

٣٦٥

سماع الحق واتباعه ، فـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

* * *

ملاحظتان

وهنا ينبغي الالتفات لملاحظتين :

١ ـ ما نقرؤه في الآية الثّانية من أنّهم يستمعون إليك ، وفي الآية الثّالثة من أنهم ينظرن إليك ، إشارة إلى أنّ جماعة من هؤلاء يسمعون هذا الكلام المعجز ، وجماعة أخرى ينظرون إلى معجزاتك التي تدل كلها بوضوح على صدق كلامك وأحقية دعوتك ، إلّا أنّ أحدا من هاتين الفئتين لم ينتفع من استماعه أو نظره ، لأنّ نظرهم لم يكن نظر فهم وإدراك ، بل نظر انتقاد وتتبع عثرات ومخالفة.

وكذلك لا يستفيدون من استماعهم ، لأنّهم لا يستمعون لإدراك محتوى الكلام ، بل للعثور على ثغرات فيه لتكذيبه وإنكاره ، ومن المعلوم أن نيّة الإنسان ترسم شكل العمل وتغيّر من آثاره.

٢ ـ جاءت في آخر الآية الثّانية جملة : (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) وفي آخر الآية الثّالثة جملة : (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) وهي إشارة إلى أنّ الاستماع ـ أي إدراك الألفاظ ـ ليس كافيا بمفرده ، بل إنّ التفكر والتدبر فيها لازم أيضا لينتفع الإنسان من محتواها. وكذلك لا أثر للنظر بمفرده ، بل إنّ البصيرة ـ وهي إدراك مفهوم ما يبصره الإنسان ـ لازمة أيضا ليصل إلى عمقها ويهتدي.

* * *

٣٦٦

الآيات

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

التّفسير

بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة ، أشير هنا إلى وضعهم المؤلم في القيامة. تقول الآية : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ).

الإحساس بقلة مقدار الإقامة في دار الدنيا وقصره ، إمّا لأنّه بالنسبة للحياة الاخروي لا يبلغ سوى ساعة واحدة. أو لأنّ هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة بحيث كأنّها لم تكن أكثر من ساعة ، أو لأنّهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الاستفادة الصحيحة ، فيتصورون أنّها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة!.

بناء على ما قلناه في التّفسير أعلاه ، فإنّ جملة (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) إشارة إلى

٣٦٧

مقدار بقائهم في الدنيا ، أي إنّهم يحسون أنّ أعمارهم كانت قصيرة إلى الحد الذي يكفي لالتقاء شخصين وتعارفهما ثمّ تفرقهما!.

وقد احتمل أيضا ـ في تفسير هذه الآية ـ أنّ المقصود هو الإحساس بقصر الزمان بالنسبة لحياة البرزخ ، أي إنّ هؤلاء يعيشون في فترة البرزخ حالة شبيهة بالنوم بحيث لا يشعرون بمرور السنين والقرون والأعصار ، ويظنون في القيامة أن مرحلة برزخهم التي استغرقت آلاف أو عشرات الآلاف من السنين ، لم تكن إلّا ساعة. والشاهد على هذا التّفسير الآيتان (٥٥) ـ (٥٦) من سورة الروم ، اللتان تقولان : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

يستفاد من هاتين الآيتين أنّ مجموعة من المجرمين يقسمون في القيامة أن فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة ، إلّا أنّ المؤمنين يقولون لهم : إنّ المدّة كانت طويلة ، والآن قد قامت القيامة وأنتم لا تعلمون. ونحن نعلم أن البرزخ ليس متساويا بالنسبة للجميع ، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.

وبناء على هذا التّفسير ، فإنّ معنى جملة (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) سيكون : إنّ هؤلاء يحسون بأنّ زمان البرزخ كان قصيرا بحيث أنّهم لم ينسوا أي أمر من أمور الدنيا ، ويعرف بعضهم البعض الآخر جيدا. أو أنّ كلا منهم يرى أعمال الآخرين القبيحة هناك ، ويطّلع كل منهم على باطن الآخر ، وهذا بحد ذاته فضيحة كبرى بالنسبة لهؤلاء.

ثمّ تضيف الآية أنّه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) وأنفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) بسبب هذا التكذيب والإنكار والإصرار على الذنب ، ولأنّ قلوبهم وأرواحهم كانت مظلمة.

٣٦٨

وتقول الآية التالية تهديدا للكفار ، وتسلية لخاطر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ).

وتبيّن الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانونا كليا في شأن كل الأنبياء ، ومن جملتهم نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلّم ، وكل الأمم ومن جملتها الأمّة التي كانت تحيا في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) فإذا جاء رسولها وبلغ رسالته ، وآمن قسم منهم وكفر آخرون ، فإنّ الله سبحانه يقضي بينهم بعدله ، ولا يظلم ربّك أحدا ، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمتعون بالحياة ، أمّا الكافرون فإنّهم فمصيرهم الفناء او الهزيمة : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

وهذا ما حصل لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته المعاصرة له ، فإنّ أعداءه هلكوا في الحروب ، أو انهزموا في النهاية وطردوا من ساحة المجتمع وأخذ المؤمنون زمام الأمور بأيديهم. وبناء على هذا فإنّ القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو القضاء التكويني في هذه الدنيا ، وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّه إشارة إلى حكم الله يوم القيامة. فهو خلاف الظاهر.

* * *

٣٦٩

الآيات

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))

التّفسير

العذاب الإلهي واختيارات الرّسول :

بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري الحق ، فإنّ هذه الآيات تنقل أوّلا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم وانكارهم. فتقول:(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هذا الكلام كان كلام مشركي عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ، لأنّ الآيات التالية التي

٣٧٠

تتضمن جواب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدة على هذا المطلب.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم بتهديدات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة ، وتقوية قلوب الذين خافوا من هذه التهديدات وتهدئة خواطرهم ليرجعوا إلى صفوفهم.

وفي مقابل هذا السؤال ، فإنّ الله سبحانه أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بعدّة طرق:

فيقول أوّلا : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فإنّي لست إلّا رسوله ونبيّه ، وإنّ تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط ، وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ، فمن باب الأولى أن لا أملكهما لكم.

إنّ هذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شيء في هذا العالم بالله سبحانه ، وكل الحركات والأفعال معلولة لإرادته ومشيئته ، فهو الذي ينصر المؤمنين بحكمته ، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.

من البديهي أنّ ذلك لا ينافي أنّ الله قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها جلب النفع ودفع الضرر ، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا ، وبتعبير آخر فإنّ هذه الآية تنفي الملكية بالذات لا بالغير ، وجملة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قرينة واضحة على هذا الموضوع.

ومن هنا يعلم أنّ استدلال بعض المتعصبين ـ ككاتب تفسير المنار ـ بهذه الآية على نفي جواز التوسل بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيف جدّا ، لأنّه إذا كان المقصود من التوسل أن نعتبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذا قدرة ذاتية ومالكا للنفع والضر ، فإنّ هذا شرك قطعا ، ولا يمكن أن يؤمن بهذا أي مسلم ، أمّا إذا كانت هذه الملكية من الله سبحانه وهي داخلة تحت عنوان : إلّا ما شاء الله ، فما المانع من ذلك؟ وهذا هو عين الإيمان والتوحيد. إلّا أنّه نتيجة الغفلة عن هذه النكتة أتلف وقته ووقت قرّاء تفسيره بالبحوث الطويلة ، وهو مع الأسف (رغم كل الامتيازات الموجودة في تفسيره) قد ارتكب كثيرا من هذه الأخطاء ، والتي يمكن اعتبار التعصب منبعها جميعا!

٣٧١

ثمّ يتطرق القرآن إلى جواب آخر ويقول : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وبتعبير آخر فإنّ أي أمّة إذا انحرفت عن مسير الحق ، فسوف لا تكون مصونة من العذاب الإلهي الذي هو نتيجة أعمالها ، فعند ما ينحرف الناس عن قوانين الخلقة والطبيعة فسيبددون طاقاتهم وملكاتهم في فراغ ويسقطوا في النهاية في هاوية الانحطاط ويحتفظ تاريخ العالم في ذاكرته بنماذج كثيرة من ذلك.

في الواقع إنّ القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب الإلهي بأن لا يعجلوا ، فعند ما يحل موعدهم فإنّ هذا العذاب سوف لن يتأخر أو يتقدم لحظة.

ويجب الالتفات إلى أنّ الساعة قد تعني أحيانا لحظة ، وأحيانا المقدار القليل من الزمن ، بالرغم من أنّ معناها المعروف اليوم هو الأربع والعشرون ساعة التي تشكل الليل والنهار.

وتطرح الآية الأخرى الجواب الثّالث ، فتقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجئ غير المرتقب؟ وإذا كان الحال كذلك ف (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)؟

وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء المجرمين الجريئين إن لم يتيقنوا نزول العذاب فليحتملوا على الأقل أن يأتيهم فجأة ، فما الذي يضمن لهؤلاء أنّ تهديدات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف لن تقع أبدا؟ إنّ الإنسان العاقل يجب أن يراعي الاحتياط على الأقل في مقابل مثل هذا الضرر المحتمل ويكون منه على حذر.

وورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن ، وبتعبيرات أخرى ، مثل :(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) سورة الإسراء ، الآية (٦٨). وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الكلام والأصول

٣٧٢

بقاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل» (١).

وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء ، فهي تقول : إذا كنتم تفكرون أن تؤمنوا حين نزول العذاب ، وأنّ إيمانكم سيقبل منكم ، فإنّ ظنّكم هذا باطل لا صحّة له : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) ، لأنّ أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد نزول العذاب ، وليس للإيمان حينئذ أدنى أثر ، بل يقال لكم : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).

هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي ، وفي الآخرة : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ، فإنّ أعمالكم في الواقع هي التي أخذت بأطرافكم ، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.

* * *

ملاحظات

١ ـ كما قلنا في ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف ، فإنّ بعض أهل البدع والأديان المختلقة في عصرنا استدلوا بآيات. مثل : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) التي وردت مرّتين في القرآن ، على نفي خاتمية نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوصلوا إلى أن كل دين ومذهب ينتهي في النهاية ويخلي مكانه لمذهب آخر. في حين أن الأمّة تعني القوم والجماعة. لا المذهب.

إنّ هدف هذه الآيات هو أنّ قانون الحياة والموت لا يختص بالأفراد ، بل إنّه يشمل الأقوام والأمم أيضا ، فإذا سلكوا طريق الظلم والفساد فإنّهم سينقرضون لا

__________________

(١) يتّضح ممّا قلناه أعلاه ، أنّ الآية المذكورة تشتمل على قضية شرطية ، ذكر شرطها ، إلّا أنّ جزاءها مقدر ، وجملة : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جملة مستقلة. وتقدير الآية هكذا : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا كنتم تقدرون على دفعه أو تعدونه أمرا محالا فإذا كان الأمر كذلك (ماذا يستعجل منه المجرمون). وما احتمله البعض من أن جملة : ماذا يستعجل .. هي جزاء الشرط بعيدا جدا. دققوا ذلك.

٣٧٣

محالة ، خاصّة إذا لا حظنا في هذا البحث الآية التي قبلها والتي بعدها ، فستثبت هذه الحقيقة بوضوح ، وهي أنّ الكلام ليس عن نسخ المذهب ، بل عن نزول العذاب وفناء قوم أو أمّة ، لأنّ الآية السابقة واللاحقة تتحدثان عن نزول العذاب والعقاب الدنيوي.

٢ ـ إذا لا حظنا الآيات أعلاه سيأتي هذا السؤال ، وهو : هل ستبتلي المجتمعات الإسلامية أيضا بهذا العقاب والعذاب في هذا العالم؟

والجواب عن هذا السؤال بالإيجاب ، إذ لا دليل لدينا على أنّ هذه الأمّة مستثناة ، بل إنّ هذا القانون في حق كل الأمم والملل ، وما قرأناه في بعض آيات القرآن ـ الأنفال ـ من أنّ الله سبحانه سوف لا يعذب هذه الأمّة ، فهو مشروط بواحد من شرطين : إمّا وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أولئك ، أو الاستغفار والتوبة من الذنوب ، لا أنّه بدون قيد أو شرط.

٣ ـ توكّد الآيات أعلاه مرّة أخرى على هذه الحقيقة ، وهي أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ ، وسبب ذلك واضح ، لأنّ التوبة في مثل هذه الأحوال تكون عن إكراه وإجبار ، ومثل هذه التوبة لا قيمة لها.

* * *

٣٧٤

الآيات

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

التّفسير

لا معنى للشك في العذاب الإلهي :

كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر ، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضا.

فالآية الأولى تقول : إنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) ومن المعلوم أنّ «الحق» هنا ليس في مقابل الباطل ، بل المراد منه هو : هل إنّ لهذه العقوبة حقيقة وواقعا وأنّها ستتحقق؟ لأنّ الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة ، ومن البديهي

٣٧٥

أنّ الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود ، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.

ويأمر الله سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) وإذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي فأنتم على خطأ كبير : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

الواقع إنّ هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع ، ففي الجملة الأولى يقول : إن عذاب المجرمين امر واقعي ، ويضيف في الجملة الثّانية أن أية قدرة لا تستطيع أن تقف أمامه ، تماما كالآيات (٨) ـ (٩) من سورة الطور : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ).

إنّ التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الانتباه ، فمن جهة القسم ، ومن جهة أخرى إنّ ولام التأكيد ، ومن جهة ثالثة جملة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وكل هذه توكّد على أنّ العقاب الإلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.

وتوكّد الآية الأخرى على عظمة هذه العقوبة ، وخاصّة في القيامة ، فتقول : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) (١). في الواقع ، إنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإلهي ، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئا ، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس ابرة ، خاصّة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية ، وهي أنّهم : يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم ممّا يوجب لهم اظهار الندم مزيدا من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم إبراز الندم : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ).

ثمّ توكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك ، فإنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل ، ولا يظلم أحد منهم : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). إنّ هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائما في مسأله العقوبة والعدالة ، لأنّ تأكيدات

__________________

(١) في الواقع ، إن في الجملة أعلاه جملة مقدرة ، وهي : (من هول القيامة والعذاب).

٣٧٦

الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين توهّم أنّ المسألة مسألة انتقام ، ولذا فإنّ القرآن يقول أوّلا إنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط ، ثمّ يؤكّد على أنّ أي أحد من هؤلاء سوف لا يظلم.

ثم ، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإلهية مأخذ الهزل ، ولكي لا يظنوا أنّ الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود ، تضيف الآية : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.

وتوكّد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرّة أخرى ، حيث تقول : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) وبناء على ذلك فإن له القدرة على إماتة العباد ، كما أن له القدرة على إحيائهم لمحكمة الآخرة ، وفي النهاية : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك.

* * *

ملاحظتان

١ ـ من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه : هل أنّ لسؤال المشركين عن واقعية العقاب الإلهي صفة الاستهزاء ، أم أنّه كان سؤالا حقيقيا؟

ذهب البعض الى أنّ السؤال الحقيقي علامة الشك ، وهو لا يناسب وضع المشركين ، إلّا أنّه بملاحظة أنّ كثيرا من المشركين كانوا في حالة تردد ، وجماعة منهم أيضا كانوا على علم بأحقية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب والعناد وأمثال ذلك ، فسيبدو واضحا أن كون سؤال هؤلاء حقيقيا ليس بعيدا أبدا.

٢ ـ إن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتّضحت آثاره السلبية سواء استطاع الإنسان أن يجبر ذلك أم لا ، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثّاني ، وإنّما كتموه لأنّ إظهاره سيزيد من فضيحتهم.

* * *

٣٧٧

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

التّفسير

القرآن رحمة إلهية كبرى :

لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضا ، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطابا عالميا وشموليا وتقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن ، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لا بدّ أن نعتمد أوّلا على لغاتها ومعناها.

٣٧٨

«الوعظ» و «الموعظة» ، كما جاء في المفردات : هو النهي الممتزج بالتهديد ، أنّ معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهرا ، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في نفس كتاب المفردات ، أنّ الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب. وفي الحقيقة فإنّ كل نصح وإرشاد يترك أثرا في المخاطب ، ويخوفه من السيئات ويرغّبه في الصالحات يسمى وعظا وموعظة. وطبعا ليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير ، بل المراد أنّها تؤثر في القلوب المستعدة.

والمقصود من شفاء أمراض القلوب ، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور ، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية ، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك ، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.

والمقصود من «الهداية» هو الهداية نحو المقصود ، أي تكامل ورقي الإنسان في كافة الجوانب الإيجابية.

والمراد من «الرحمة» هي النعم المادية والمعنوية الإلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، كما نقرا في كتاب المفردات أنّ الرحمة متى ما نسبت إلى الله فإنّها تعني بذله وهبته للنعم ، وإذا ما نسبت إلى البشر فإنّها تعني العطف ورقة القلب.

في الواقع ، إنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإنسان في ظل القرآن.

المرحلة الأولى : مرحلة الموعظة والنصيحة.

المرحلة الثّانية : مرحلة تطهير روح الإنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.

المرحلة الثّالثة : مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.

المرحلة الرّابعة : هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى أن يكون لائقا لأن تشمله رحمة الله ونعمته.

٣٧٩

وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها ، والجميل في الأمر أنّها تتمّ جميعا في ظل نور القرآن وتوجيهاته.

القرآن هو الذي يعظ البشر ، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة ، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها ، والقرآن أيضا هو الذي ينزل النعم الإلهية على الفرد والمجتمع.

ويوضح أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير ، حيث يقول : «فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على ولائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق ، والغي والضلال» (١).

وهذا بنفسه يبيّن أنّ القرآن وصفة لتحسين حال الفرد والمجتمع ، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والاجتماعية ، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان ، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي ، فإنّهم يبحثون عن دوائهم وعلاجهم في المذاهب الأخرى ، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط ، لا كتاب تفكر وعمل!

وتقول الآية الأخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإلهية الكبرى ـ أي القرآن المجيد ـ : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ولا يفرحوا بمقدار الثروات ، وعظم المراكز ، وعزة القوم والقبيلة ، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن ، فهو أفضل من كل ما جمعوه ، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع ، إذا (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

٣٨٠