الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

وممّا لا شك فيه أنّ القرب والقربة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لا تعني القرب المكاني ، بل القرب المقامي ، أي السير إلى الذات المقدسة والكمال المطلق والتعرض لأنوار صفات جماله وجلاله وفي دائرة الفكر والروح.

* * *

١٨١

الآية

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

التّفسير

السّابقون إلى الإسلام :

بالرغم من أن المفسّرين قد نقلوا أسبابا عديدة للنزول ، إلّا أنّ أيّا منها ـ كما سنرى ـ ليس سببا للنزول ، بل إنّها في الواقع بيان المصداق والوجود الخارجي لها.

على كل حال ، فإنّ هذه الآية ـ التي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال الكفار والمنافقين ـ تشير إلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين ، وقسمتهم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : السابقون في الإسلام والهجرة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ).

الثّاني : السابقون في نصرة وحماية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المهاجرين : (وَالْأَنْصارِ).

١٨٢

الثّالث : الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم ، وقبولهم الإسلام والهجرة ، ونصرتهم للدين الإسلامي ، فإنّهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) (١).

ممّا قلناه يتبيّن أنّ المقصود من «بإحسان» في الحقيقة هو بيان الأعمال والمعتقدات لهؤلاء السابقين إلى الإسلام التي ينبغي اتباعها ، وبتعبير آخر فإنّ (إحسان) وصف لبرامجهم التي تتّبع.

وقد احتمل أيضا في معنى الآية أنّ (إحسان) بيان لكيفية المتابعة ، أي أن هؤلاء يتبعونهم بالصورة اللائقة والمناسبة. ففي الصورة الأولى الباء في (بإحسان) بمعنى (في) ، وفي الصورة الثّانية بمعنى (مع). إلّا أنّ ظاهر الآية مطابق للتفسير الأوّل.

وبعد ذكر هذه الأقسام الثّلاثة قالت الآية : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

إن رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها ، ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر. وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء قد نفذوا كل ما أراده الله منهم ، وفي المقابل أعطاهم الله كل ما أرادوا ، وعلى هذا فكما أنّ الله سبحانه راض عنهم ، فإنّهم راضون عن الله تعالى.

ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإلهية ، المادية منها والمعنوية ، الجسمية والروحية ، لكن الآية أضافت من باب التأكيد ، وبيان التفصيل بعد الإجمال:(وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) ومن امتيازات هذه النعمة أنّها خالدة ، وسيبقى هؤلاء (خالِدِينَ فِيها) وإذا نظرنا إلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

__________________

(١) لقد عدّ الكثير من المفسّرين (من) الواردة في جملة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) تبعيضية ، وظاهر الآية أيضا كذلك ، لأن حديث الآية عن طلائع الإسلام والسابقين إليه ، لا عن جميع المسلمين. أمّا الباقون فإنّهم يدخلون في مفهوم الجملة التالية ، أي : (التابعون).

١٨٣

أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه ، وقد وقّع على قبول أعماله؟ وأي فوز أعلى من أن يحصل الإنسان على مواهب خالدة نتيجة أعمال محدودة يعملها في أيّام هذا العمر الفاني؟

* * *

بحوث

١ ـ موقع السّابقين

في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة ، فإنّ طلائع الثورة هم أعمدتها ، وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها ، وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى عناصر الثورة ، لأنّهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في ساعات المحنة والوحدة رغم أنّهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلّا أنّهم لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم. خاصّة وإن مطالعة تاريخ صدر الإسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون والرعيل الأوّل من المسلمين!

كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنّهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة آلامهم ، كانوا يتهمونهم ، يسحبونهم بالسلاسل ، وبالتالي يقتلونهم. ورغم كل ذلك ، فإنّ هؤلاء قد وضعوا قدما في هذا السبيل بإرادة حديدية ، وعشق ملتهب ، وعزم راسخ ، وإيمان عميق ، ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب.

ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأوّلين هو الأرجح ، ومن بعدهم الأنصار الأوائل ، أي الذين دعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا أصحابه واعتبروهم كإخوانهم ، ودافعوا عنهم بكل وجودهم ، بل قدموهم حتى على قومهم. وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماما خاصا ، فلهذه العوامل.

١٨٤

إلّا أنّ القرآن الكريم في الوقت نفسه ـ كما هي طريقته دائما ـ لم يبخس حقّ الآخرين ، وذكر كل الأقسام والفئات الأخرى الذين التحقوا في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأعصار التالية ، والذين هاجروا ، أو آووا المهاجرين ونصروهم تحت عنوان التابعين بإحسان ، وبشر الجميع بالأجر والجزاء الحسن.

٢ ـ من هم التابعون؟

اصطلح جماعة من العلماء على أنّ كلمة «التابعين» تعني تلامذة الصحابة ، وجعلوها من مختصاتهم ، أي أولئك الذين لم يروا النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم تصدوا لاكتساب العلوم الإسلامية ووسعوها ، وبعبارة أخرى : إنّهم اكتسبوا علومهم الإسلامية من صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن مفهوم الآية ـ كما قلنا قبل قليل ـ من الناحية اللغوية وإلّا ينحصر بهذه المجموعة ولا يختص بها ، بل يشمل كل الفئات والمجموعات التي اتبعت برامج وأهداف الطلائع الإسلامية والسابقون إلى الإسلام في كل عصر وزمان.

وتوضيح ذلك أنّه على خلاف ما يعتقده البعض من أن الهجرة والنصرة ـ اللتين هما من المفاهيم الإسلامية البناءة ـ مختصتان بعصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهما توجدان في كل عصر ـ وحتى في عصرنا الحاضر ـ ولكن بأشكال أخرى ، وعلى هذا فإنّ كل الأفراد الذين يسيرون في هذا المسير ـ مسير الهجرة والنصرة ـ يدخلون تحت هذين المفهومين.

إذن ، المهم أن نعلم أن القرآن الكريم بذكره كلمة (إحسان) يؤكّد على أن اتباع خط السابقين إلى الإسلام ، والسير في طريقهم يجب أن لا يبقى في حدود الكلام والادعاء ، بل وحتى مجرّد الإيمان الخالي من العمل ، بل يجب أن تكون هذه المتابعة أو الاتباع اتباعا فكريا وعمليا وفي كل الجوانب.

١٨٥

٣ ـ من هو أوّل من أسلم؟

إنّ أكثر المفسّرين يطرح هنا سؤالا ـ لمناسبة بحث الآية ـ وهو : من هو أوّل من أسلم ، وثبت هذا الافتخار العظيم باسمه في التاريخ؟

وفي جواب هذا السؤال ، فقد قالوا بالإجماع ، إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفية المضحية. وأمّا من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم ، وفريق كبير من أهل السنة قالوا : إنّ عليّا عليه‌السلام أوّل من أسلم ولبّى دعوة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إنّ اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حدا ادّعى جماعة منهم الإجماع عليه واتفقوا على ذلك. ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري في (المستدرك على الصحيحين) وفي كتاب (المعرفة) ، فإنّه يقول في ص ٢٢ : لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أنّ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أوّلهم إسلاما ، وإنّما اختلفوا في بلوغه (١).

وكتب ابن عبد البر في (الاستيعاب) ج ٢ ، ص ٤٥٧ : اتفقوا على أنّ خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ، من علي بعدها (٢).

وكتب أبو جعفر الإسكافي : قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إلى الإسلام. (٣)

وبعد هذا ، فإنّ الرّوايات الكثيرة التي نقلت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن علي عليه‌السلام نفسه ، والصحابة ـ في هذا الباب بلغت حد التواتر ، وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث :

١ ـ قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّلكم ورودا على الحوض أوّلكم إسلاما ، علي بن أبي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٠٧٥.

(٢) الغدير ، ج ٣ ، ص ٢٣٨ و ٢٣٧.

(٣) المصدر السّابق.

١٨٦

طالب عليه‌السلام». (١)

٢ ـ نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أخذ بيد علي عليه‌السلام وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من يصافحني ، وهذا الصديق الأكبر». (٢)

٣ ـ نقل أبو سعيد الخدري عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه وضع يده بين كتفي علي عليه‌السلام وقال : «يا علي ، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة : أنت أوّل المؤمنين بالله إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ...»(٣)

وكما أشرنا سابقا ، فإنّ عشرات الرّوايات في مختلف كتب التأريخ والتّفسير والحديث قد نقلت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآخرين في هذا الباب ، ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص ٢٢٠ ـ ٢٤٠ ، وكتاب إحقاق الحق الجزء ٣ ص ١١٤ ـ ١٢٠.

وهنا التفاتة لطيفة ، وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق علي عليه‌السلام في الإيمان والإسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر ، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع ، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي عليه‌السلام ، ويدعي أنّه أول من أسلم.

فهم يقولون تارة إنّ عليّا عليه‌السلام في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره ، وهو غير بالغ طبعا ، وعلى هذا فإن إسلامه يعني إسلام صبي ، ومثل هذا الإسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء (هذا القول ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية).

وهذا عجيب حقّا ، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) الحديث أعلاه ـ حسب نقل الغدير ـ جاء في مستدرك الحاكم ، ج ٢ ، ص ١٣٦ ، والإستيعاب ، ج ٢ ، ص ٤٥٧ ، وشرح ابن أبي الحديد ، ج ٣ ، ص ٢٥٨.

(٢) في المصدر السابق إنّ هذا الحديث قد نقل عن الطبراني ، والبيهقي ، والميثمي في المجتمع ، والحافظ الكنجي في الكفاية ، والإكمال ، وكنز العمال.

(٣) هذا الحديث ـ حسب نقل الغدير ـ قد نقل في كتاب حلية الأولياء ، ج ١ ، ص ٦٦.

١٨٧

لأنا نعلم أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرض الإسلام على عشيرته وقومه يوم الدار ، ولم يقبله إلّا عليّ عليه‌السلام حين قام وأعلن إسلامه ، فقبل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلامه ، بل وخاطبه بأنّك : أخي ووصي وخليفتي.

إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث ، من الشيعة والسنة ، في كتب الصحاح والمسانيد ، وكذلك جمع من مؤرخي الإسلام ، واستندوا عليه ، يبيّن أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى قبوله إسلام علي عليه‌السلام في ذلك السن الصغير ، فإنّه عرفه للحاضرين ـ وللناس فيما بعد ـ بأنّه أخوه ووصيه وخليفته (١).

ويعبرون تارة أخرى بأنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة ، ومن الرجال أبو بكر ، ومن الصبيان علي عليه‌السلام ، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي عليه‌السلام. (ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية المبحوثة).

إلّا أنّ أوّلا : كما قلنا ، إنّ سن علي عليه‌السلام الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه ، ولا يقلل من شأنه ، خاصّة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢) ، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى عليه‌السلام من أنّه تكلم وهو في المهد ، وخاطب أولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣).

إنّنا إذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إلى الحديث الذي نقلناه آنفا من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عليّا عليه‌السلام وصيه وخليفته اتّضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلّا عن تعصب مقيت.

__________________

(١) هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة ، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإسكافي في كتاب (نهج العثمانية) ، وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء) ، وابن الأثير في (الكامل) ، وآخرون. لمزيد الاطلاع والاستيضاح راجع الجزء الثّاني من الغدير ، ص ٢٧٨ ـ ٢٨٦.

(٢) مريم ، ١٢.

(٣) مريم ، ٣٠.

١٨٨

ثانيا : إنّ من غير المسلم تاريخيا أنّ أبا بكر هو ثالث من أسلم ، بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أخرى أسلمت قبله.

وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب ، وهو أنّ عليا عليه‌السلام أشار مرارا وتكرارا في خطبه إلى أنّه أوّل من أسلم ، وأوّل من آمن ، وأوّل من صلّى مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّن موقعه من الإسلام ، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.

إضافة إلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإسكافي المعتزلي ، أن البعض يقول : إذا كان أبو بكر قد سبق إلى الإسلام ، فلما ذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدّع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة. (١)

٤ ـ هل كان الصحابة كلهم صالحين؟

لقد أشرنا سابقا إلى هذا الموضوع ، وإلى أنّ علماء أهل السنة يعتقدون ـ عادة ـ بأن جميع أصحاب النّبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنّة. ولمناسبة الآية لهذا البحث ، والتي جعلها البعض دليلا قاطعا على هذا المدعى ، فإنّنا هنا نحلّل ونفصل هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساسا ومنبعا لاختلاف كثيرة أخرى في المسائل الإسلامية.

إنّ كثيرا من مفسّري أهل السنة نقلوا حديثا في ذيل هذه الآية ، وهو أن حميد بن زياد قال : ذهبت إلى محمّد بن كعب القرظي وقلت له : ما تقول في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة ، محسنهم ومسيئهم! فقلت : من أين قلت هذا؟ فقال : اقرأ هذه الآية : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصار) إلى قوله تعالى (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ثمّ قال : لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير (ففي هذه الصورة فقط هم من

__________________

(١) الغدير ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

١٨٩

الناجين ، أمّا الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط) (١).

إلّا أنّ هذا الادعاء لا يمكن قبوله ، وهو مردود بأدلة كثيرة :

أوّلا : إن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضا ، والمقصود من التابعين ـ كما أشرنا سابقا ـ كل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم وأهدافهم وبرامجهم ، وعلى هذا فإنّ كل الأمّة بدون استثناء ناجية.

وأمّا ما ورد في حديث محمّد بن كعب ، من أنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد الإحسان في التابعين ، أي أتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة ، لا في ذنوبهم ، فهو أعجب البحوث وأغربها ، لأنّ مفهوم ذلك إضافة الفرع إلى الأصل ، فعند ما يكون شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة ، فاشتراط هذا الشرط على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى.

وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى يبيّن في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة ، وكل التابعين لهم ، لا أنّه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ، الصالح منهم والطالح ، أمّا التابعون فإنّه يرضى عنهم بشرط.

ثانيا : إنّ هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه ، لأنّ العقل لا يعطي أي امتياز لأصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله ، وبين من آمنوا أوّلا ثمّ انحرفوا عن الدين؟

ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الأشخاص الذين جاؤوا بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنوات وقرون ، ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل ممّا عمله أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم عرفوه وآمنوا به؟

إنّ القرآن الذي يقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) كيف يرضى هذا التبعيض والتفرقة غير المنطقية؟

__________________

(١) تفسير المنار ، وتفسير الفخر الرازي في ذيل الآية أعلاه.

١٩٠

إنّ القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة ، ويعدهم ممّن استوجب العقاب والعذاب الإلهي ، كيف يوافق ويقرّ هذه الصيانة غير المنطقية للصحابة في مقابل الجزاء الإلهي؟!

هل إنّ مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للاستثناء ، وأن يخرج من دائرتها قوم معينون؟ لماذا ولأجل أي شي؟!

وإذا تجاوزنا عن كل ذلك ، ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إعطاء الضوء الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم؟

ثالثا : إنّ هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإسلامية ، لأنّ كثيرا ممّن كان في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق ، وتعرض لغضب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الملازم لغضب الله عزوجل. ألم نقرأ في الآيات السابقة قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ونقول بصورة أوضح : إذا كان مقصود هؤلاء أنّ أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكبوا أي معصية ، وكانوا معصومين ، فهذا من قبيل إنكار البديهيات.

وإن كان مقصودهم أنّ هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي ، وعملوا المخالفات ، إلّا أنّ الله تعالى راض عنهم رغم ذلك ، فإنّ معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية!

من يستطيع أن يبرئ ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك عائشة زوجة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دماء سبعة عشر ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل؟ هل أنّ الله عزوجل كان راضيا عن إراقة هذه الدماء؟!

هل إنّ مخالفة علي عليه‌السلام خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي إذا لم نقبل النّص على خلافته فرضا ، فعلى الأقل كان قد انتخب بإجماع الأمّة ـ وشهر السلاح بوجهه وبوجه أصحابه الأوفياء شيء يرضى الله عنه؟

في الحقيقة ، إنّ أنصار نظرية (تنزيه الصحابة) بإصرارهم على هذا المطلب

١٩١

والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإيمان والعمل الصالح هو المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى أي الأحوال.

وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنوانا كليا ، وهو الهجرة والنصرة والإيمان والعمل الصالح ، وكل الصحابة والتابعين تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين ، فإذا خرجوا منها خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى.

ممّا قلنا يتّضح بصورة جلية أنّ قول المفسّر العالم ـ لكنّه متعصب ـ أي صاحب المنار ، الذي يشن هنا هجوما عنيفا وتقريعا لاذعا على الشيعة لعدم اعتقادهم بنزاهة الصحابة جميعا ، لا قيمة له ، إذ الشيعة لا ذنب لهم إلّا أنّهم قبلوا حكم العقل وشهادة التاريخ ، وشواهد القرآن وأدلّته التي وردت في هذه المسألة ، ولم يعتبروا الامتيازات الواهية ، والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق.

* * *

١٩٢

الآية

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١))

التّفسير

مرّة أخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إلى أعمال المنافقين وفئاتهم ، فيقول : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم على المنافقين الموجودين داخل المدينة ، بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الإعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة ، وتحذروهم ، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة. وكلمة (أعراب) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية.

ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسما من أهلها قد وصلوا في النفاق إلى أقصى درجاته ، وثبتوا عليه ، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ).

(مردوا) مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق ، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرّد ، ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه :

١٩٣

(أمرد) ، وشجرة مرداء ، أي خالية من أي ورقة ، والمارد هو الشخص العاصي الذي خرج على القانون وعصاه كلية.

وقال بعض المفسّرين وأهل اللغة : إنّ هذه المادة تأتي بمعنى (التمرين) أيضا. (ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة). وربّما كان ذلك ، لأنّ التجرد المطلق من الشيء ، والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن تحققه بدون تمرين وممارسة.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة ، وتسلطوا على أعمال النفاق إلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين ، دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتهم ومراوغتهم.

إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جليا ، وربّما كان ذلك إشارة إلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطا على النفاق ، وبالتالي فهم أشد خطرا ، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة ، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضا. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإلهي.

وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ).

لا شك أنّ العذاب العظيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة ، إلّا أنّ بين المفسّرين نقاشا واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلّا أنّ الذي يرجحه النظر أن واحدا من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء ، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم ، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا ، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي ، والدليل على ذلك ما

١٩٤

قرأناه في الآيات السابقة ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عند ما كانت تبلغ حد الخطر ، كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم ، بل وربّما طردهم من المسجد.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إليه الآية (٥٠) من سورة الأنفال ، حيث تقول هناك: (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).

ويحتمل أيضا أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.

* * *

١٩٥

الآية

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

سبب النّزول

نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية ، ونواجه في أكثرها اسم (أبي لبابة الأنصاري) فهو ـ حسب رواية ـ قد امتنع مع اثنين ـ أو أكثر ـ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاشتراك في غزوة تبوك ، لكنّهم لما سمعوا الآيات التي نزلت في ذم المتخلفين ندموا أشدّ الندم ، فجاءوا إلى مسجد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربطوا أنفسهم بأعمدته ، فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبلغه أمرهم قالوا بأنّهم أقسموا أن لا يفكوا رباطهم حتى يفكّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يقسم أيضا أن لا يفعل ذلك حتى يأذن له الله ، فنزلت الآية ، وقبل الله توبتهم ، ففكّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رباطهم.

فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك ، فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إنّ هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد ، فاقبلها منّا ، وأنفقها في سبيل الله ، فأخبرهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لم ينزل عليه شيء في هذا. فلم تمض مدّة

١٩٦

حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية ، وأمرت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ قسما من أموال هؤلاء ، وحسب بعض الرّوايات فإنّه قبل ثلثها.

ونقرأ في بعض الرّوايات ، أن هذه الآية قد نزلت في قصّة بني قريظة مع أبي لبابة ، فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلّموا لحكم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوامره ، فأشار إليهم بأنّهم إن سلّموا له فسيقتلهم جميعا ، ثمّ ندم على ما صدر ، فتاب وشدّ نفسه بعمود المسجد، فنزلت الآية ، وقبل الله تعالى توبته (١).

التّفسير

التّوابون :

بعد أن أشارت الآية السابقة إلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها ، أشارت هذه الآية هنا إلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم ، ورجاء لمحوها : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ويشملهم برحمته الواسعة ف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إنّ التعبير ب (عسى) في الآية ، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه ، أو تحقق الأمل وعدمه ، ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء ، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.

ويحتمل أيضا أنّ التعبير ب (عسى) إشارة إلى وجوب الالتزام بشروط أخرى في المستقبل ، مضافا إلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الاكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا.

إلّا أنّنا إذا لا حظنا أن الآية تختم ببيان المغفرة والرحمة الإلهية ، فإن جانب

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية ، وتفاسير أخرى.

١٩٧

الأمل والرجاء هو الذي يرجح.

وهناك ملاحظة واضحة أيضا ، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة ، أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية ، بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة ، وندموا على أعمالهم السيئة.

ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم : إنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم ، لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين ، ودعت التّوابين إلى الله الغفور الرحيم.

* * *

١٩٨

الآيات

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

التّفسير

الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع :

في الآية الأولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمّة ، وهي مسألة الزكاة ، حيث تأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل عام أن (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً).

إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل ـ دائما ـ جزءا من الأموال ، لا أنّها تستوعب جميع الأموال ، أو الجزء الأكبر منها.

ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة ، حيث تقول:(تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية ، ومن حبّ الدنيا

١٩٩

وعبادتها ، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق ، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إلى وجود طبقة محرومة ، كل هذه الأمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإلهية وأدائها ، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به ، وكذلك سيفعّل التكافل الاجتماعي ، وينمو ويتطور الإقتصاد في ظل مثل هذه البرامج.

وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أخرى ، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضا ، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ ما يمكن قوله في الزكاة ، فهي تزيل الشوائب من جهة ، ووسيلة للتكامل من جانب آخر.

ويحتمل أيضا في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة ، وفاعل (تزكيهم) (النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو : إنّ الزكاة تطهرهم ، وإن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يربيهم ويزكيهم.

إلّا أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية ، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.

ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ). إنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم ، حتى إذا كان ما يؤدونه واجبا عليهم وحكما شرعيا يقومون به ، وترغيبهم بكل الطرق ، وخاصّة المعنوية والنفسية ، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عند ما كانوا يأتون بالزكاة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو لهم يقول : «اللهم صل عليهم».

ثمّ تقول الآية : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإلهية عليهم ، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.

٢٠٠