الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٨

الآيات

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

سبب النّزول

نقل في سبب نزول الآية الأولى أن أحد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخلصين قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، إني شيخ كبير أعمى وعاجز ، وليس لي حتى من يأخذ بيدي ليذهب بي إلى ميدان القتال ، فهل أعذر إذا لم أحضر وأشارك في الجهاد؟ فسكت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية وعذرت مثل هؤلاء الأفراد.

ويستفاد من سبب النزول هذا أن المسلمين ـ حتى الأعمى منهم ـ لم يكونوا

١٦١

ليسمحوا لأنفسهم أن يمتنعوا عن الحضور في ميدان الجهاد ، وربّما كان ذلك لأنّهم كانوا يحتملون أن وجودهم بهذه الحالة قد يرغّب المجاهدين في الانضمام إلى جيوش المسلمين ومشاركتهم في أمر الجهاد ، أو أنّهم يكثرون السواد على أقل التقادير.

وبالنسبة للآية الثّانية ورد في الرّوايات أنّ سبعة نفر من فقراء الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه وسيلة للمشاركة في الجهاد ، ولما لم يكن لدى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من ذلك خرجوا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعينهم تفيض من الدمع ، ثمّ عرفوا بعد ذلك بـ «البكّائين».

التّفسير

العشق للجهاد ودموع الحسرة :

هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد ، أو العجز عنه ، وأشارت إلى خمس مجموعات : أربع منها معذورة حقيقة وواقعا ، والخامسة هم المنافقون.

الآية الأولى تقول : إنّ الضعفاء ، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء ، والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد ، لا حرج عليهم إذا تخلفوا عن هذا الواجب الإسلامي المهم : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). هذه الأقسام الثلاث تعذر في كل قانون إذا لم تشارك ، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح ، ومن المسلم أنّ القوانين الإسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.

كلمة «الحرج» في الأصل تعني مركز اجتماع الشيء ، ولما كان اجتماع الناس وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الضيق والإزعاج والمسؤولية والتكليف ، ويكون معناها في هذه الآية هو

١٦٢

المعنى الأخير ، أي المسؤولية والتكليف.

ثمّ بيّنت الآية شرطا مهما في السماح لهؤلاء بالانصراف ، وهو إخلاصهم وحبّهم لله ورسوله ، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف ، لذا قالت : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إنّ هؤلاء إذا لم يكونوا قادرين على حمل السلاح والمشاركة في القتال ، فإنّهم قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك الإسلامي الأمثل ، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين ، ويثيرون الحماس في نفوس المقاتلين ، ويرفعون معنوياتهم بذكرهم الثمرات المترتبة على الجهاد وثوابه العظيم.

وكذلك يجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو ، وتهيئة أرضية الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع لأنّ كلمة (نصح) في الأصل بمعنى (الإخلاص) وهي كلمة جامعة شاملة لكل شكل من أشكال طلب الخير والإقدام المخلص في هذا السبيل ، ولما كان الكلام عن الجهاد ، فإنّها تنظر إلى كل جهد وسعي يبذل في هذا المجال.

ثمّ تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع ، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يألون جهدا في عمل الخير ، لا يمكن أن يعاتبوا أو يوبّخوا أو يعاقبوا ، إذ (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ).

بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات الله عزوجل ـ وكل صفاته عظيمة ـ كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن المجموعات الثلاث فقالت : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(غفور) مأخوذة من مادة الغفران ، أي الستر والإخفاء ، أي إن الله سبحانه وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم ، وكون الله «رحيما» يقتضي أن لا يكلف أحدا فوق طاقته ، بل يعفيه من ذلك ، وإذا أجبر هؤلاء على الحضور في ميدان القتال ، فإنّ ذلك لا يناسب غفران الله ورحمته ، وهذا يعني

١٦٣

أنّ الله الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتما ، ويعفو عنهم.

ويستفاد من جملة من الرّوايات التي نقلها المفسّرون في ذيل هذه الآية ، أنّ هذه المجموعات المعذورة لا يقتصر الأمر فيهم على السماح لهم في التخلف وعدم مؤاخذتهم فحسب ، بل إنّ أفرادها لهم من الجزاء والثواب كثواب المجاهدين الذين حضروا وقاتلوا ، كل على قدر اشتياقه وتحرقه للمشاركة ، فنحن نقف على حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقرأ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال : «لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم فيه قالوا : «وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : حبسهم العذر» (١).

ثمّ تشير الآية إلى الفئة الرّابعة من المعفو عنهم وهؤلاء هم الذين حضروا ـ بشوق ـ عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يحملهم على الدواب للمشاركة في الجهاد ، فاعتذر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لا يملك ما يحملهم عليه ، فخرجوا من عنده وعيونهم تفيض من الدمع حزنا وأسفا على ما فاتهم ، وعلى أنّهم لا يملكون ما ينفقونه في سبيل الله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ).

«تفيض» من مادة الفيضان ، أي الانسكاب والتساقط بعد الامتلاء ، فإنّ الإنسان إذا أهمه أمر أو دهمته مصيبة ، فإذا لم تكن شديدة اغرورقت عيناه بالدموع وامتلأت دون أن تجري ، أمّا إذا وصلت إلى مرحلة يضعف الإنسان عن تحملها سالت دموعه.

إنّ في هذه دلالة على أنّ هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا عشاقا ومولهين بالجهاد إلى درجة أنّهم لما رخص لهم في البقاء لم يكتفوا بالتأسف والهمّ لهذه الرخصة ، بل إنّهم جرت دموعهم كما لو فقد إنسان أعز أصدقائه وأحبائه ،

__________________

(١) الدر المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، ج ٩ ، ص ٣٨٦.

١٦٤

وبكوا بكاء مرّا لهذا الحرمان.

لا شك أن الفئة الرّابعة لا تفترق عن الفئة الثّالثة المذكورة في الآية ولكنّهم لهذه الحالة الخاصّة من العشق ، ولامتيازهم بها عن السابقين ، ولتكريمهم جسمت الآية وضعهم بصورة مستقلة ضمن نفس الآية ، وكانت خصائصهم هي :

أوّلا : إنّهم لم يقتنعوا بعدم ملكهم لمستلزمات الجهاد ، فحضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طمعا في الحصول عليها ، وأصروا عليه إصرارا شديدا في تهيئتها إنّ أمكنه ذلك.

ثانيا : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما اعتذر عن تلبية طلبهم لم يكتفوا بعدم الفرحة بذلك ، بل انقلبوا بهمّ وحزن فاضت دموعهم بسببه ، ولهاتين الخصلتين ذكرهم الله سبحانه وتعالى مستقلا في الآية.

أمّا آخر الآية فتبين وضع الفئة الخامسة ، وهم الذين لم يعذروا ، ولن يعذروا عند الله تعالى ، فإنّهم قد توفرت فيهم كل الشروط ، ويملكون كل مستلزمات الجهاد ، فوجب عليهم حتما ، لكنّهم رغم ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإلهي الخطير ، فجاءوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبون الإذن في الانصراف عن الحرب ، فبيّنت الآية أنّهم سيؤاخذون بتهربهم ويعاقبون عليه : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ).

وتضيف الآية بأنّ هؤلاء يكفيهم عارا وخزيا أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم ، ولم يهتموا بأنّهم سيحرمون من فخر الاشتراك في الجهاد : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ). وكفى به عقابا أن يسلبهم الله القدرة على التفكر والإدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه ، ولذلك أبغضهم الله (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

* * *

١٦٥

ملاحظات

١ ـ تتّضح من هذه الآيات ـ بصورة جلية وواضحة ـ المعنويات القوية العالية لجنود الإسلام ، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق ، وتتحرق عشقا للجهاد والشهادة ، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الأخرى التي كانوا يمتلكونها ، ومن هنا يتّضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإسلام وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم ، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.

كيف يمكننا أن نجعل من يبكي ألما وحسرة لحرمانه من الجهاد ، وإن كان لعذر ، ومن يحاول التذرع بألف عذر وعذر من أجل الفرار من صف المجاهدين ، في صف واحد ومرتبة واحدة؟

إذا رجعت إلينا روح الإيمان وحبّ الجهاد وعشقه ، والافتخار بالشهادة في سبيل الله، ودبت في واقعنا الميت ، فإنّنا سنحصل على نفس الامتيازات والانتصارات التي حققها وحصل عليها مسلمو الصدر الأوّل.

إنّ تعاستنا وتخلفنا يكمن في أننا التزمنا بالإسلام ظاهرا ، واتخذناه ردءا دون أن ينفذ إلى أعماقنا ووجودنا ، ورغم ذلك فإننا نتوقع أن نصل بهذا الواقع إلى مستوى المسلمين الأوائل!

٢ ـ ونستفيد من الآيات السابقة أيضا ، أنّه لا يستثنى أحد ـ بصورة عامّة ـ من المشاركة في أمر الجهاد ، من دعم المجاهدين ، وإسنادهم في جهادهم ، حتى المرضى والعاجزين عن حمل الأسلحة والمشاركة في ميدان الحرب ، فإنّهم إن عجزوا عن ذلك فهم قادرون أن يرغّبوا المجاهدين ويثيروا حماسهم بكلامهم وبيانهم وسلوكهم ، وأن يدعموا جهادهم بذلك ، وفي الحقيقة فإنّ للجهاد مراحل متعددة ، فإذا عذر الإنسان عن احدى مراحله فإنّ ذلك لا يعني سقوط بقية المراحل عن ذمته.

٣ ـ إنّ جملة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أصبحت منبعا قانونيا واسعا في

١٦٦

المباحث الفقهية حيث استفاد الفقهاء منها أحكاما كثيرة ، فمثلا : إذ تلفت الوديعة في يد الأمين بدون أي افراط أو تفريط منه ، فإنّه لا يكون ضامنا ، ومن جملة الأدلّة على هذه المسألة هي الآية المذكورة ، لأنّه محسن ، ولم يرتكب مخالفة ، فإذا اعتبرناه مسئولا وضامنا ، فإنّ هذا يعني أنّ المحسن مؤاخذ.

ليس هناك شك في أنّ الآية المذكورة قد وردت في المجاهدين ، إلّا أنا نعلم أن مورد الآية لا ينقص من عموميتها ، وبعبارة أخرى ، فإن مورد الآية لا يخصص الحكم مطلقا.

* * *

نهاية الجزء العاشر من القرآن المجيد.

١٦٧
١٦٨

بداية الجزء الحادي عشر

من

القرآن الكريم

١٦٩
١٧٠

الآيات

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين : إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلا ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك أمر أن لا يجالسهم أحد ولا يكلمهم ، فلمّا رأى هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعية الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم ، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم.

١٧١

التّفسير

لا تصغوا إلى أعذارهم وأيمانهم الكاذبة :

تستمر هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين ، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر ، وتحذر المسلمين من الانخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة.

الآية الأولى تبيّن للمسلمين أن هؤلاء إذا علموا بقدومكم فسيأتون (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ). إن التعبير ب (يعتذرون) بصيغة المضارع ، يظهر منه أن الله تعالى قد أطلع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل على كذب المنافقين ، وأنّهم سيأتونهم ليعتذروا إليهم ، ولذلك فإنّه تعالى علمهم كيفية جواب هؤلاء إذا قدموا إليهم ليعتذروا منهم.

ثمّ يتوجه الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ باعتباره قائد المسلمين ـ بأن يواجه المنافقين (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لأنّا على علم بأهدافكم الشيطانية وما تضمرون وما تعلنون ، إذ (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ). إلّا أنّه في الوقت نفسه سيبقى باب التوبة والرجوع إلى الصواب مفتوحا أمامكم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ).

واحتمل البعض في تفسير هذه الآية أنّ التوبة ليست هي المقصودة من هذه الجملة ، بل المقصود أن الله ورسوله سيطلعان على أعمالكم ويريانها في المستقبل كما رأياها الآن ، وسيحبطان كل مؤامراتكم ، وعلى هذا فلا يمكن أن تصنعوا شيئا ، لا اليوم ولا غدا ، ولنا بحث مفصّل حول هذه الجملة ، ومسألة عرض أعمال الأمة على نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيأتي في ذيل الآية (١٠٥) من هذه السورة.

ثمّ قالت الآية : إنّ كل أعمالكم ونياتكم ستثبت اليوم في كتبكم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وفي الآية التالية إشارة أخرى إلى أيمان المنافقين الكاذبين ، وتنبيه للمسلمين على أنّ هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم

١٧٢

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ).

في الحقيقة ، إنّ هؤلاء يطرقون كل باب ليردّوا منه ، فتارة يريدون إثبات براءتهم وعدم تقصيرهم بالاعتذار ، وتارة يعترقون بالتقصير ثمّ يطلبون العفو عن ذلك التقصير ، إذ ربّما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إلى قلوبكم ، لكن لا تتأثروا بأي أسلوب من هذه الأساليب ، بل إذا جاؤوكم ليعتذروا إليكم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ).

إنّ هؤلاء يطلبون منكم أن تعرضوا عن أفعالهم ، أي أن تصفحوا عنهم ، لكنكم يجب أن تعرضوا عنهم ، لكن لا بالصفح والعفو ، بل بالتكذيب والإنكار عليهم ، وهذان التعبيران المتشابهان لفظا لهما معنيان متضادان تماما ، ولهما هنا من جمال التعبير وجزالته وبيانه ما لا يخفى على أهل الذوق والبلاغة.

ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليلة عقّبت الآية بأن السبب في الاعراض هؤلاء (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) ، ولأنّهم كذلك فإنّ مصيرهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) لأنّ الجنّة أعدت للمتقين الذين يعملون الصالحات ، وليس فيها موضع للأرجاس الملوّثين بالمعاصي. إن كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنما يرونها (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

في الآية الأخيرة التي نبحثها هنا إشارة إلى يمين أخرى من أيمان هؤلاء ، الهدف منها جلب رضى المسلمين (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ).

الفرق بين اليمين في هذه الآية واليمين في الآية السابقة ، أنّ المنافقين في الآية السابقة أرادوا تهدئة خواطر المؤمنين في الواقع العملي أمّا اليمين التي في هذه فإنّها تشير إلى أنّ المنافقين أرادوا من المؤمنين مضافا إلى سكوتهم العملي إظهار الرضا القلبي عنهم.

الملفت للنظر هنا أن الله تعالى لم يقل : لا ترضوا عنهم ، بل عبّر سبحانه بتعبير تشم منه رائحة التهديد ، إذ تقول عزوجل : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ

١٧٣

الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

لا شك أن هؤلاء من الناحية الدينية والأخلاقية لا يعيرون اهتماما لرضى المسلمين ، بل إن الهدف من عملهم هذا هو رفع النظرة السلبية والغضب عليهم من أفكار وقلوب المسلمين ، ليكونوا في المستقبل في مأمن من ردود الفعل ضدهم إذا بدرت منهم أعمال منافية ، إلّا أن الله تعالى لما عبر بقوله : (لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) نبّه المسلمين على أن هؤلاء فاسقون ، ولا معنى لرضاكم عنهم ، فإنّ هؤلاء دأبهم يضحكوا على الأذقان ، فانتبهوا وعوا أمر هؤلاء ولا تقعوا في شراكهم.

كم هو مهم وجيدّ أن يراقب المسلمون في كل زمان خطط المنافقين الشيطانية ويعرفوهم ، حتى لا يستفيدوا من الخطط السابقة للوصول إلى أهدافهم المشؤومة عبر هذه الوسائل والخطط الخبيثة.

* * *

١٧٤

الآيات

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

التّفسير

الأعراب القساة والمؤمنون :

في هذه الآيات الثّلاث ـ استمرارا للبحث المتقدم حول منافقي المدينة ـ حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب ـ وهم سكان البوادي ـ وعلاماتهم وأفكارهم ، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.

وربّما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء ، هو أن لا يتصور المسلمون أن المنافقين هم ـ فقط ـ هؤلاء المتواجدون في المدينة ، بل إنّ المنافقين من

١٧٥

الأعراب أشدّ وأقسى ، وشواهد التأريخ الإسلامي تدل على المسلمين قد تعرضوا عدّة مرات لهجوم منافقي البادية ، ولعل الانتصارات المتلاحقة لجيش الإسلام هي التي جعلت المسلمين في غفلة عن خطر هؤلاء.

على كل حال ، فالآية الأولى تقول : إنّ الأعراب ، بحكم بعدهم عن التعليم والتربية، وعدم سماعهم الآيات الرّبانية وكلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشدّ كفرا ونفاقا من مشابهيهم في المدينة : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) ولهذا البعد والجهل فمن الطبيعي ، بل الأولى أن يجهلوا الحدود والأحكام الإلهية التي نزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ).

كلمة «الأعراب» من الكلمات التي تعطي معنى الجمع ، ولا مفرد لها في لغة العرب، وعلى ما قاله أئمّة اللغة ـ كمؤلف القاموس والصحاح وتاج العروس وآخرون ـ فإن هذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط ، ومختصة بهم ، وإذا أرادوا إطلاقهم على شخص واحد فإنّهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب ، فيقولون : أعرابي. وعلى هذا فإنّ أعراب ليست جمع عرب كما يظن البعض.

أمّا «أجدر» فهي مأخوذة من الجدار ، ومن ثمّ أطلقت على كل شيء مرتفع ومناسب ، ولهذا فإنّ (أجدر) تستعمل ـ عادة ـ بمعنى الأنسب والأليق.

وتقول الآية أخيرا : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إنّه تعالى عند ما يحكم على الأعراب بمثل هذا الحكم ، فلأنّه يناسب الوضع الخاص لهم ، لأنّ محيطهم يتصف بمثل هذه الصفات.

لكن ومن أجل لا يتوهم بأنّ كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه الصفات، فقد أشارت الآية التالية إلى مجموعتين من الاعراب.

ففي البداية تتحدث عن أن قسما من هؤلاء الأعراب ـ لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ـ عند ما ينفقون شيئا في سبيل الله ، فإنّهم يعتبرون ذلك ضررا وخسارة

١٧٦

لحقت بهم ، لا أنّه توفيق ونصر وتجارة رابحة : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً)(١).

ومن الصفات الأخرى لهؤلاء أنّهم دائما ينتظرون أن تحيط بكم المصائب والنوائب والمشاكل ، ويرميكم الدهر بسهمه : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ).

«الدوائر» جمع دائرة ، ومعناها معروف ، ولكن العرب يقولون للحادثة الصعبة والأليمة التي تحل بالإنسان : دائرة ، وجمعها (دوائر).

في الواقع أنّ هؤلاء أفراد ضيقو النظر ، وبخلاء وحسودون ، وبسبب بخلهم فإنّهم يرون كل إنفاق في سبيل الله خسارة ، وبسبب حسدهم فإنهم ينتظرون دائما ظهور المشاكل والمشاغل والمصائب عند الآخرين. ثمّ تقول الآية ـ بعد ذلك ـ إن هؤلاء ينبغي أن لا يتربصوا بكم ، وينتظروا حلول المصائب والدوائر بكم ، لأنّها في النهاية ستحل بهم فقط : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (٢).

ثمّ تختم الآية الحديث بقولها : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فهو تعالى يسمع كلامهم ، ويعلم بنياتهم ومكنون ضمائرهم.

أمّا الآية الأخيرة فقد أشارت إلى الفئة الثّانية من الأعراب ، وهم المؤمنون المخلصون ، إذ تقول : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ولهذا السبب فإنّهم لا يعتبرون الإنفاق في سبيل الله خسارة أبدا ، بل وسيلة للتقرب إلى الله ودعاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لإيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر

__________________

(١) مغرم ـ كما ورد في مجمع البيان ـ مأخوذة من مادة (غرم) على وزن (جرم) ، وهي في الأصل بمعنى ملازمة الشيء ، ولهذه المناسبة قيل للدائن والمدين اللذين لا يدع كل منهما صاحبه : غريم ، وأيضا قيل : غرامة ، لنفس هذه المناسبة لأنّها تلازم الإنسان ولا تنقطع عنه إلّا بأدائها. ويقال للعشق الشديد : غرام ، لأنّه ينفذ إلى روح الإنسان بصورة لا يمكن تصور الانفصال معها. ومغرم يساوي غرامة من حيث المعنى.

(٢) يستفاد من جملة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) الحصر ، أي إنّ حوادث السوء ستنال هؤلاء فقط. واستفادة الحصر هذه من أن (عليهم) خبر مقدم على المبتدأ.

١٧٧

المنفقين في سبيل الله : (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ).

هنا يؤيّد الله تعالى ويصدّق هذا النوع من التفكير ، ويؤكّد على أنّ هذا الإنفاق يقرب هؤلاء من الله قطعا : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) ولهذا (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات ، فإنّ الله سيغفرها لهم لإيمانهم وأعمالهم الحسنة ، ف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إنّ التأكيدات المتوالية والمكررة التي تلاحظ في هذه الآية تجلب الانتباه حقّا ، فإنّ (ألا) و (إن) يدل كلاهما على التأكيد ، ثمّ جملة (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) خصوصا مع ملاحظة (في) التي تعني الدخول والغوص في الرحمة الإلهية ، وبعد ذلك الجملة الأخيرة التي تبدأ ب (إنّ) وتذكر صفتين من صفات الرحمة وهما (غَفُورٌ رَحِيمٌ) كل هذه التأكيدات تبيّن منتهى اللطف والرحمة الإلهية بهذه الفئة.

وربّما كان هذا الاهتمام بهؤلاء لأنّهم رغم حرمانهم من التعليم والتربية ، وعدم الفهم الكافي لآيات الله وأحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهم قبلوا الإسلام وآمنوا به بكل وجودهم ، ورغم قلّة إمكانياتهم المالية ـ التي يحتمها وضع البادية ـ فإنّهم لم يمتنعوا عن البذل والإنفاق في سبيل الله ، ولذلك استحقوا كل تقدير واحترام ، وأكثر ممّا يستحقه سكان المدينة المتمكنون.

ويجب الالتفات إلى أنّ القرآن قد استعمل (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) في حق الأعراب المنافقين ، التي تدل على إحاطة التعاسة وسوء العاقبة بهم ، أمّا في حق المؤمنين فقد ذكرت عبارة (فِي رَحْمَتِهِ) لتبيّن إحاطة الرحمة الإلهية بهؤلاء ، فقسم تحيط به الرحمة الإلهية ، والآخر تحيط به الدوائر والمصائب.

* * *

١٧٨

بحوث

وهنا ملاحظات تسترعي الانتباه :

١ ـ التّجمعات الكبيرة

يبدو بوضوح ـ من الآيات المذكورة ـ مدى الأهمية التي يوليها الإسلام للمجتمعات الكبيرة ، والأماكن المزدحمة بالسكان ، والجميل في الأمر أنّ الإسلام قد نهض وبزغ نوره من محيط متخلف ، محيط لا تشم منه رائحة التمدن والتطور ، إلّا أنّه في الوقت نفسه يهتم اهتماما خاصّا بالعوامل البناءة التي تنهض بالمجتمع ، وتحلّق به في أجواء التطور والرقي ، فنراه يقرر أنّ هؤلاء الذين يعيشون في مناطق نائية عن المدينة أكثر تخلفا من أهل المدن ، لأنّهم لا يملكون الوسائل الكافية للتعليم والتربية فتخلفوا ، ولهذا نقرأ في نهج البلاغة قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «الزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد الله مع الجماعة» (١).

إلّا أنّ هذا الكلام لا يعني أن يتجه كل الناس إلى المدن ، ويتركوا القرى ـ التي هي أساس عمران المدن ـ تعبث بها يد الخراب ، بل يجب السّعي في إيصال علم وتقدم المدينة إلى القرية ، وتقوية أسس التربية والتعليم وأصول الدين والوعي ونشرها بين صفوف القرويين.

ولا شك أنّ سكان القرى إذا تركوا على حالتهم ولم تفتح عليهم نافذة من العلوم المدنية وآيات الكتب السماوية ، وتعليمات وتوجيهات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والهداة الكرام ، فسيحل بهم الكفر والنفاق سريعا ويأخذ منهم مأخذا عظيما. إنّ هؤلاء لهم استعداد أكبر لقبول التربية السليمة والتعليم الصحيح لصفاء قلوبهم ، وبساطة أفكارهم ، وقلّة انتشار المكر والمراوغة التي تعم المدن بينهم.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

١٧٩

٢ ـ الأعراب من سكان المدن

إنّ كلمة (الأعرابي) وإن كانت تعني ساكن البادية ، إلّا أنّها استعملت بمعنى أوسع في الأخبار والرّوايات الإسلامية ، وبتعبير آخر : فإنّ مفهومها الإسلامي لا يرتبط أو يتحدد بالمنطقة الجغرافية التي يشغلها الأعراب ، بل تعبر عن منهجية في التفكير ، فإنّ من كان في منأى عن الآداب والسنن والتربية الإسلامية فهو من الاعراب وإن كان سكان المدن ، أمّا سكّان البادية الملتزمون بالآداب والسنن الإسلامية فليسوا بأعراب.

الحديث المشهور المنقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي» (١) دليل قوي وشاهد واضح على الكلام أعلاه.

وفي خبر آخر نقرأ : «من الكفر التعرب بعد الهجرة».

ونقل أيضا عن علي عليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه خاطب جماعة من أصحابه العاصين لأمره فقال : «واعلموه أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا» (٢)

في الحديثين أعلاه جعل «التعرب» مقابل «الهجرة» ، وإذا لا حظنا أنّ للهجرة أيضا مفهوما واسعا لا يتحدد بالجانب المكاني ، بل إنّ أساسها انتقال الفكر من محور الكفر إلى محور الإيمان ، اتّضح معنى كون الفرد أعرابيا ، أي أنّه يعني الرجوع عن الآداب والسنن الإسلامية إلى الآداب والعادات الجاهلية.

٣ ـ نطالع في الآية المذكورة أعلاه الواردة في حق المؤمنين من الأعراب ، أنّ هؤلاء يعتبرون إنفاقهم أساس القرب من الله تعالى ، خاصّة وأنّ هذه الكلمة قد وردت بصيغة الجمع (قربات) ، وهي توحي أنّ هؤلاء لا يبتغون من إنفاقهم قربة واحدة ، بل قربات.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٥٤.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة ، ص ١٩٢.

١٨٠