الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-47-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٦

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ).

وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرون والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

١ ـ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ).

٢ ـ (وَرِضْوانٍ).

٢٣ ـ (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ).

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

* * *

ملاحظتان

١ ـ تحريف التاريخ

كما قرأنا آنفا في شأن نزول الآيات محل البحث ، وطبقا لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة ، أنّها نزلت في علي عليه‌السلام وبيان فضائله ، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مرارا بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلّا أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإمام علي عليه‌السلام فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند علي عليه‌السلام من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله ، وسعوا جاهدين لأن

٥٦١

يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل علي عليه‌السلام على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتدا إلى عصرنا الحاضر ، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل السنة ، إذ أظهر كلاما عجيبا عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث ، فقال : في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا ، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلّا أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب ، قال : أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن ، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم ، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعا كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأولى».

فقلت له : ليس هذا هو الأسلوب في التحقيق ، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين ، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه ، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال : إنّه صحيح ، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة ، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن ، حتى لو كان الحديث معتبرا.

فما أحسن أن نختار أسلوبا آخر للتحقيق بدل ذلك ، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه ، بل نسوها وربّما طعنوا فيها ، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الالتفات إلى ما ذكرناه آنفا ، ننقل كلاما لصاحب تفسير «المنار» المعروف ، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفا ، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا ، وينبغي أن نعدّها حديثا مخالفا للقرآن ، فقال عنها : إنّها معتبرة!

٥٦٢

وهي ما نقل عن النعمان بن بشير إذ يقول : كنت جالسا في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره ، فقال بعضهم : لا أرى عملا بعد الإسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم ، وقال الآخر : إنّ عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل ، فقال الثالث ، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إلى رسول الله فسأله عن ذلك ، فنزلت الآيات محل البحث(١).

إلّا أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات ، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانبا ويعرض عنها ؛ لأنّه :

أوّلا : لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، والإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أخرى ، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقاية الحاج (لاحظ بدقة).

ثانيا : إنّ جملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تدل على أن أعمال الطائفة الأولى كانت معروفة بالظلم ، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك ، لإنّ القرآن يقول (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٢١٥.

(٢) سورة لقمان : الآية ١٣.

٥٦٣

ولو كان القياس بين الإيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإيمان والجهاد ، لكانت جملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لغوا ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثا : إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً) مفهومها أن أولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله ، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقا لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعا : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته ، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك ، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه هو التعبير ب (أَعْظَمُ دَرَجَةً) حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه ، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

إلّا أنّ الجواب على ذلك واضح ، لأنّ أفعل التفضيل غالبا تستعمل في الموازنة بين أمرين ، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد ، كأن يقال مثلا : الوصول متأخرا خير من عدم الوصول ، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن ، لكن الوصول بتأخير أحسن.

أو أننا نقرأ في القرآن (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي من الحرب [سورة النساء الآية ٢٨] فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.

أو نقرأ مثلا (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [سورة البقرة الآية ٢٢١] ترى

٥٦٤

هل المشرك حسن وفيه خير؟!

أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية ١٠٨) (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة ، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبدا ، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية ، بل في سائر اللغات كثير.

من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانبا ، وأن نأخذ بما ينسجم وظاهر الآي ، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات ، على أنّه سبب لنزولها ، وأنّه لفضيلة كبرى لإمام الإسلام العظيم عليعليه‌السلام.

نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين ، وأن يجنبنا التعصب ، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.

٢ ـ ما هو مقام الرضوان؟

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله ، هو شيء غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.

وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (٧٢) من هذه السورة ، في تفسير جملة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) إن شاء الله.

* * *

٥٦٥

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

التّفسير

كلّ شيء فداء للهدف :

إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقا لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فقد يسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله ، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركا ، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه ، والزوج

٥٦٦

وزوجه ، والفرد وعشيرته أو قبيلته ، وهكذا.

فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلا بدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم إلخ. هذا كلّه من جهة.

ثمّ ومن جهة أخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريبا ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكّة ازدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبيا ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الأولى منهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ).

ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضا؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعنف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفا ، فتقول (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

ولما كان ترجيح مثل هذه الأمور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعا من العصيان والفسق البيّن ، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٥٦٧

الْفاسِقِينَ).

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين ما يلي : «لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا ، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) إلخ ... والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإيمان الأصيل وتميزانها عن الإيمان المبطن بالشرك والنفاق.

كما أنّهما تضعان حدا فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإيمان ، وتقول إحداهما بصراحة : إن كانت هذه الأمور الثمانية «في الحياة المادية» التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ).

ويتعلق قسم منها بالمجتمع و «العشيرة».

والقسم السّادس يرتبط بالمال.

والسابع بالتجارة والاكتساب.

وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة «ومساكن ترضونها».

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية ـ المذكورة آنفا ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من الله ورسوله ، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره ، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد ، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعد!

فحقيقة الإيمان وروحه وجوهره ، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون تردد.

أضف إلى ذلك ، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور ، فقد ظلم

٥٦٨

نفسه ومجتمعه في الواقع ، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري ، وفي المآزق الحاسمة ، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك ، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا ، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

فنحن نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان ، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً).

٢ ـ إنّ أحد تفاسير جملة (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ما أشرنا إليه آنفا ، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله ، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا ، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره ، فيقول له : إذا لم تفعل ما

٥٦٩

أمرتك ، فسأقوم بما ينبغي أيضا.

وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول : إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية ، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء ، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، إذ نقرأ فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر :

٣ ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإسلام والتاريخ الماضي ، إلّا أنّ ذلك خطأ كبير ، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضا.

فإذا قدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم إلخ ... في سبيل الله ، ولا يكون لهم إيمان متين ، ويفضلون الأمور المادية على رضا الله ، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا ، فيكون مستقبلهم مظلما ، لا مستقبلهم فحسب ، بل حتى يومهم هذا ، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري ، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الأجانب ويفقدون معنى الحياة ، لأن الحياة هي حياة الإيمان والجهاد في ظل الإيمان.

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب أطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعارا لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

* * *

٥٧٠

الآيات

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

التّفسير

الكثرة وحدها لا تجدي نفعا :

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضيحة والجهاد على جميع الصعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.

أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمّة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف

٥٧١

الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئا ، لكن الله سبحانه أنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده ... لهذا فإن الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ).

والمواطن جمع الموطن ، ومعناه المحل الذين يختاره الإنسان للسكن الدائم ، أو المؤّقت ، إلّا أن من معانيه أيضا ساحة الحرب والمعركة ، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحيانا.

ثمّ تضيف الآية معقبة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفا ، وقال بعض المؤرخين : كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفا ، إذ تقول : إنّهم كانوا اثني عشر ألفا ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى اغترّ بعض المسلمين وقالوا : «لن نغلب اليوم».

إلّا أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).

٥٧٢

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النّبي إلّا القلة ، وكان النّبي مضطربا ومتألّما جدّا لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها).

وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها ، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كان لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم ، وإيجاد روح الثبات والاستقامة في نفوسهم وقلوبهم ، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة (١).

ويذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

وكان هذا العذاب والجزاء أن قتل بعض الكافرين ، وأسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الاستمرار ، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائما بوجه التائبين.

* * *

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات ٩ ـ ١٢ من هذا الجزء نفسه.

٥٧٣

ملاحظات

١ ـ غزوة حنين ذات العبرة

«حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ «يوم حنين» ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضا.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.

أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل ، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

فلما بلغ ذلك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن (١).

وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه ، وسلمّه عليّا عليه‌السلام وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع

__________________

(١) راجع الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٢٦١ ، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.

٥٧٤

النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك ، فأعطى صفوان النّبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النّبي بنفسه إلى حنين.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين.

فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ، واكمنوا لجيش الإسلام ، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم وأبيدوهم.

ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!!

فلما صلّى النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين

٥٧٥

تفرّون؟ هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم (١).

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النّبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر ـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره.

٢ ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة ، وما تبقى منهم كانوا عشرة فحسب ، وقيل أربعة عشر شخصا ، وأقصى ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٧ ـ ١٩.

٥٧٦

فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه : لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه ، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة ، وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا وتقهقروا إلى الخلف ، فاضطرب باقي الجيش طبعا ، وحسب العادة ـ لا خوفا ـ فقد فرّوا أيضا ، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه ، حتى يستحقوا غضبالله!!(١)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام ، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي :

فإذا عمر بن الخطاب في الناس ، وقلت : (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال : أمر الله ، ثمّ تراجع الناس إلى رسول الله (٢).

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة ، والتفتنا إلى القرآن الكريم ، وجدناه لا يذم جماعة بعينها ، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث ، وبين عبارة أخرى وردت في الآية (١٦) من سورة الأنفال إذ تقول (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)؟!

فبناء على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم ، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

__________________

(١) راجع تفسير المنار ، وإقرار التفصيل فيه ، ج ١ ، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٥٧٧

٣ ـ الإيمان والسكينة

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون ، وتعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والاستيحاش عن الإنسان ، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإيمان ، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان ، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها ، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات (١) ، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان (٢) كل ذلك ناظر إلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (٤) من سورة الفتح قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ).

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة ، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة ، وأن يحس في نفسه عالما من الدعة والاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول : ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم ، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم) ، بل تقول الآية (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وهي إشارة إلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة والاطمئنان ، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله (٣) ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٠١.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٢.

٥٧٨

فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة واطمئنان ، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفا ـ لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة ، وإلّا فهو كالجبل الشامخ الركين ، وكذلك ابن عمّه علي عليه‌السلام وقلة من أصحابه (المسلمين).

٤ ـ في الآيات محل البحث إشارة إلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه ، التي أسهم فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيّا ، وقاتل الأعداء ، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه ، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت عليهم‌السلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سمّ» ، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده ، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره ، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. وأخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجواد عليه‌السلام فقال : «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) ثمّ قال : عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(١).

٥ ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درسا

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

٥٧٩

بليغا ، هو أن ينظروا إلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين ، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد ، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا ، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان ، ذوي الإرادة والتصميم ، حتى لو كانوا قلة.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة ، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية ، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية ، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

٥٨٠