الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-47-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٦

وحشية وإجراما ، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها ، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد ، ثورة تصنع تحوّلا في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم ، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه ، لتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح ، فيطهروا بذلك أنفسهم ، ويدرءوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء وهذه أمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال ، بل في ظلال الإيمان والتوحيد الخالص فحسب.

وتضيف الآية معقبة في الختام (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فعزته تقتضي عجز الآخرين من الوقوف في مواجهته ، وحكمته تقتضي أن تكون كل أموره جارية وفق حساب دقيق ونظام صحيح ، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.

* * *

ملاحظتان

١ ـ قال بعض المفسّرين : إنّ الآية محل البحث تشير إلى الخلافات بين الأوس والخزرج ، الذين هم من الأنصار فحسب ، ولكن نظرا إلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعا لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.

ولعل أولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم ، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والاجتماعية بين الفقراء والأغنياء ، والكبار والصغار ، بين هذه القبيلة وتلك ، تلك الخلافات و «الانشقاقات» أذهبها الإسلام ومحا آثارها ، كما يقول القرآن الكريم في مكان

٤٨١

آخر : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (١).

٢ ـ إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب ، فاليوم حيث يبسط الإسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم ، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإيمان والتوحيد ، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئا مهما في هذا المجال ، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل ، لأنّ النصر لا يتحقق إلّا عن هذا الطريق ، وهو طريق الأخوة الإسلامية بين جميع الناس.

وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عند ما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن نسلم ونتبعك ، يعني إنّنا مستعدون لاتباعك ونصرتك ، فنزلت هذه الآية محذرة النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء ، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون (٢).

وقد أورد الحافظ أبو نعيم ـ وهو من أكابر علماء السنة ـ في كتابه فضائل الصحابة ، بسنده ، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أمير المؤمنين ، فالمقصود بالمؤمنين هو علي عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) آل عمران ، ١٠٣.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٥ ، ص ١٥٢.

(٣) موسوعة الغدير ، ج ٢ ، ص ٥١.

٤٨٢

وقد قلنا مرارا : إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات محدودة ومنحصرة ، بل المقصود فيها هو أنّ شخصا كعلي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين ، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعوانه.

* * *

٤٨٣

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

التّفسير

لا ترتقبوا تساوي القوى :

في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضا.

فالآية الأولى منهما تخاطب الرّسول فتقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ).

إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم ، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم ، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند

٤٨٤

ساحة القتال ، فيلقون خطبا تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن.

غاية ما في الأمر أنّ مثل مسألة الترغيب والتشويق إلى القتال محدودة في المدارس الماديّة ، ولكنّها واسعة في الأديان السماوية ، نظرا للتعاليم الربانية ، وتأثير الإيمان بالله ، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده ، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى ، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم ، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود ، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإسلاميّة تشحذ الجندي عزما وقوّة وإقداما لا حدود له ، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية توضح أهمية الإعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليما إسلاميا مهما.

وتعقب الآية بالتعليم الثّاني فتقول : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وبالرغم من أنّ الآية في صورة إخبار عن غلبة الرجل على عشرة ، لكن بقرينة الآية بعدها (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) يتّضح أنّ المراد من ذلك هو تعيين الحكم أو الوظيفة والخطة والمنهج ، لا أنّه مجرّد خبر وهكذا فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقدارا يكافئ قوة العدو وأفراده ، ليتحركوا إلى ساحة القتال والجهاد ، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.

ثمّ تشير الآية إلى علّة هذا الحكم فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) وهذا التعليل يبدو عجيبا لأوّل وهلة ، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة ، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم ،

٤٨٥

ويؤمنون بنتائجه الإيجابية في هذا العالم ، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في العالم الآخر ، فهم يعلمون ، لم يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟

فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والاستقامة.

أمّا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كعبدة الأصنام ، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قتلوا فمن يؤدّي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا رواء هذه الأفكار ، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على انهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم ، وتجعل منهم كائنات ضعيفة.

وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف الله عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً).

ثمّ يقول : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ).

ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد الله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الالتفات الى عدّة أمور :

١ ـ هل نسخت الآية الأولى

كما لا حظنا فإنّ الآية الأولى تأمر المسلمين أن لا يتقاعسوا عن مواجهة الأعداء حتى إذا كانوا عشرة أضعافهم ، غير أنّ الآية الثّانية تخفض هذا العدد إلى

٤٨٦

ضعفين فحسب.

وهذا الاختلاف الظاهر بين الآيتين جعل بعضهم يقول : إن الآية الأولى ـ من الآيتين محل البحث ـ نسختها الآية الثّانية ، أو أنّه حمل الآية الأولى على الاستحباب والثّانية على الوجوب ، أي إذا كان عدد الأعداء ضعف عدد المسلمين فيجب عليهم عدم التراجع عن ساحة الجهاد والقتال ، أمّا إذا زاد عددهم عن الضعف حتى بلغ عشرة أضعافهم فلهم عندئذ أن لا يقاتلوهم ، وإن كان الأفضل لهم أن لا ينسحبوا عن جهادهم العدوّ.

إلّا أنّ بعض المفسّرين يرون أن الاختلاف الظاهري الموجود بين الآيتين لا يدل على النسخ ، ولا يدل على الاستحباب ، بل إن لكل واحدة من الآيتين حكما معينا ، فعند ما يبتلى المسلمون بالضعف والخور ويكثر فيهم المقاتلون غير المحنّكين أو غير المدرّبين ولا المتهيئين للقتال ، فعندئذ يكون معيار العدد هو نسبة الضعف. أمّا إذا كان المقاتلون على استعداد تام ، أشداء في إيمانهم وعزائمهم كالكثير من أبطال بدر ، فالنسبة عندئذ ترتقي إلى عشرة أضعاف.

فبناء على ذلك فإنّ الحكمين في الآيتين محل البحث يرتبطان بالطائفتين المختلفتين وفي ظرفين متفاوتين.

وبهذا لا يوجد نسخ في الآي هنا ، وإذا وجد في الرّوايات التعبير بالنسخ فينبغي الالتفات إلى أن النسخ ذو معنى واسع ويشمل التخصيص في بعض الموارد.

٢ ـ أسطورة توازن القوى

إنّ الآيتين ـ محل البحث ـ تتضمنان هذا الحكم المسلّم به ، وهو أنّ على المسلمين ألّا ينتظروا موازنة القوى الظاهرية بينهم وبين العدو ، بل عليهم أن ينهضوا لمواجهته وإن كان ضعف عددهم ، بل حتى لو كان عشرة أضعاف عددهم

٤٨٧

أحيانا ، وأن لا يفروا من العدوّ بسبب قلّة العدد أبدا.

وممّا يستجلب النظر أنّ أغلب المعارك التي كانت تجري بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو ، وكان المسلمون قلّة غالبا ، ولم يكن هذا الأمر قد وقع في حروب الإسلام في عصر النّبي فحسب ـ كبدر وأحد والأحزاب أو كمعركة مؤتة التي رووا أن جيش المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل ، أمّا جيش العدو فأقل ما ذكروا عنه أنّه كان حوالي مائة وخمسين ألفا ، بل حتى الحروب بعد عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد ذكروا أن فرقا مذهلا كان بين جيش الإسلام الذي حرر فارس وجيش الساسانيين ، فقد قيل مثلا : إنّ الجيش الإسلامي كان لا يتجاوز خمسين ألف مقاتل ، بينما كان جيش خسرو پرويز خمسمائة ألف مقاتل!

وأمّا في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم ، فقد ذكر المؤرخون أن الجيش الذي جمعه هرقل كان حوالي مائتي ألف مقاتل ، بينما كان جيش الإسلام لا يتجاوز أربعة وعشرين ألفا! والأعجب من ذلك أن المؤرخين يذكرون أنّ قتلى جيش الروم في معركة اليرموك كانوا يزيدون على سبعين ألفا!!

وما من شك أن الموازنة بين القوى أو التفوق العسكري أحد أسباب النصر بحسب الظاهر ، ولكن ما هو السبب الذي كان وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك؟

والإجابة على هذا السؤال المهم ذكرها القرآن في الآيتين محل البحث في ثلاثة تعابير :

التّعبير الأوّل : يقول فيه : (عِشْرُونَ صابِرُونَ) ثمّ قوله في الآية بعدها : (مِائَةٌ صابِرَةٌ) أي ذوو استقامة وثبات.

والمراد هنا أنّ روح الاستقامة والثبات ، التي هي ثمرة شجرة الإيمان ، كانت

٤٨٨

سببا في أن يغلب الرجل المسلم عشرة أمثاله من الكفار.

التّعبير الثّاني : وفي مكان آخر يقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنّ عدم معرفة العدو هدفه ، ومعرفتكم هدفكم المقدس ، يستعاض عن موضوع قلتكم إزاء كثرة العدو.

التّعبير الثّالث : هو قوله سبحانه في الآي محل البحث : (بِإِذْنِ اللهِ) أي أن الإمدادات الغيبية ولطف الله ورحمته تشمل مثل هؤلاء المجاهدين الصابرين فتنصرهم على عدوّهم.

وفي عصرنا يواجه المسلمون أعداء ألدّاء أقوياء أيضا ، لكن العجيب أن جيش المسلمين في كثير من المعارك أكثر من جيش العدوّ ، ولكن مع ذلك لا أثر لانتصار المسلمين ، وكأنّهم يسيرون باتجاه مخالف عمّا كان يسير عليه المسلمون الأوائل.

والسّبب هو أنّ المسلمين اليوم لا يتمتعون بمعرفة كافية ويا للأسف ، وقد فقدوا روح الصبر والاستقامة بسبب ركونهم إلى عوامل الفساد وزخرف الحياة المادية وزبرجها ، كما أنّ الإمداد الغيبي ورعاية الله قد سلبا منهم بسبب تلوّثهم بالذنوب ، فابتلوا بمثل هذه العاقبة!

إلّا أنّ طريق العدوة ما يزال مفتوحا ، وتأمل أن يأتي اليوم الذي يعي المسلمون مرّة أخرى مفهوم هاتين الآيتين وأمثالهما ليخلعوا عن أنفسهم حالة الذل والتقهقر.

٣ ـ ما هو المراد من الآيتين؟

ممّا يستجلب النظر أنّ الكلام في الآية الأولى ـ من الآيتين محل البحث ـ كان على نسبة الواحد إلى العشرة ، فمثلت الآية ب (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).

٤٨٩

إلّا أن الكلام في الآية الثّانية كان عن نسبة الضعف مثل المائة في قبال المائتين ، والألف في قبال الألفين : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ...) إلخ.

وكأن هذا المثال البليغ يريد أن يبيّن هذا الحقيقة ، وهي أنّ الرجال الأشداء من ذوي العزيمة والإيمان يمكنهم أن يشكّلوا جيشا مقتدرا حتى لو كانوا عشرين رجلا ، إلّا أنّهم لو كانوا ضعفاء ، فليس بإمكانهم أن يصنعوا جيشا من عشرين ، بل لا بدّ أن يكونوا أضعاف هذا العدد لتشكيل جيش ، «فلاحظوا بدقة».

* * *

٤٩٠

الآيات

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

التّفسير

أسرى الحرب :

بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء ، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب ، لأنّ أغلب الحروب تقترن بتأسير جماعة من المتقاتلين من قبل الطرف الآخر ، وقد

٤٩١

أولى الإسلام أهمية قصوى لمسألة أسرى الحرب ، من حيث أسلوب التعامل معهم ، ومن حيث بعض النواحي الإنسانية وأهداف الجهاد أيضا.

وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن ، هو ما قالته الآية الكريمة من أن كل نبي ليس له الحق في أسرار افراد العدو الّا بعد أن يثبت اقدامه في الأرض ويكيل الضربات القاضية للأعداء : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

والفعل «يثخن» مأخوذ من «الثخن» على زنة «المحن» ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل ، ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقدرة ، للسبب المذكور آنفا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ معنى (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء ، وقالوا : إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض» والالتفات إلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة ، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه ، بل القصد هو التفوق على العدو تماما وإظهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.

إلّا أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحيانا ، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء ، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.

على أية حال ، فإنّ الآية تنبه المسلمين إلى نقطة مهمّة في الحرب ، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والانشغال بأخذ الأسرى قبل اندحار العدوّ بالكامل ، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين ـ كما يستفاد من بعض الرّوايات ـ كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم ، لأنّ العادة كانت أن يدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإفراج عنه بعد نهاية

٤٩٢

الحرب.

ويعدّ هذا الأمر عملا حسنا في بعض المواقع ، إلّا أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا ، لأنّ الانشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إلى مكان آمن ، كل ذلك يبعد المقاتلين غالبا عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب ، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه ، كما حدث في غزوة أحد ، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم ، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.

وبناء على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه ، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الاطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإنسانية توجب إيقاف القتل والاكتفاء بأسرهم.

وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين : العسكرية ، والإنسانية ، في عبارة موجزة : ثمّ ألقت باللوم على أولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).

«والعرض» يعني الأمور غير الثابتة ، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عبّر عنها بالعرض.

وكما قلنا آنفا فإن الاهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي ، أي الإنتصار على العدو ، لا أنّه يحبط الثواب الأخروي فحسب ، بل يسيء إلى الإنسان في حياته الدنيا وإلى عزّته ورفعته واستقراره ، ففي الحقيقة ، هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أمور الدنيا الثابتة ، فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة!

٤٩٣

وتختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر ـ في الواقع ـ مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير ، لأنّه صادر من قبل الله تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

الآية التالية توجّه اللوم والتعنيف ثانية لأولئك الذين يعرضون المنفعة العامّة والمصلحة الاجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة ، فتقول الآية : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وقد أورد المفسّرون في شأن قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) احتمالات مختلفة كثيرة ، إلّا أنّ أقربها وأكثرها ملاءمة ومناسبة هو «إذا لم يكن الله قد قرر من قبل أن لا يعذب عباده ما لم يبيّن نبيّه حكمه لهم ، لأخذكم أخذا شديدا بسبب تأسيركم عدوكم رغبة في المنافع المادية وإيقاعكم جيش الإسلام وانتصاره النهائي في الخطر ، إلّا أنّه ـ كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن ـ فإنّ سنة الله اقتضت أن تبين أحكامه ثمّ يجازي الذي يخالفون عن أمره» ، إذ قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ ظاهر الآيات ـ كما قلنا آنفا ـ يعالج موضوع أخذ الأسري في الحرب لا أخذ «الفدية» بعدها ، وبذلك ينحل كثير من الإشكالات التي أثارها جماعة من المفسّرون بشأن مفهوم الآية.

كما أنّ اللوم والتعنيف يختص بجماعة انشغلت ـ قبل أن يتمّ النصر النهائي ـ بأسر العدو لأهداف دنيوية ، ولا علاقة لها بشخص النّبي وأصحابه المؤمنين الذين كان هدفهم الجهاد في سبيل الله.

__________________

(١) الإسراء ، ١٥.

٤٩٤

وبذلك تنتفي جميع البحوث التي أوردوها ، كالقول بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ارتكب ذنبا! وكيف ينسجم هذا العمل وعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فهذا الأمر غير صحيح.

كما يثبت بطلان الأحاديث المختلفة التي نقلتها بعض مصادر أهل السنة وكذبها في تفسير هذه الآية ، والتي تزعم أن الآية (١) نزلت في شأن أخذ النّبي وبعض المسلمين الفدية مقابل أسرى الحرب بعد معركة بدر ، وقبل أن يأذن الله بذلك. وأنّ الذي خالف هذا الأمر وطالب بقتل الأسرى هو عمر فحسب ـ أو سعد بن معاذ ـ وأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حق عمر : لو نزل العذاب علينا لما نجا منه إلّا عمر ـ أو سعد بن معاذ ـ فإنّ جميع ذلك عار من الصحة ولا أساس له ، وإنّ تلك الرّوايات بعيدة كل البعد عن تفسير الآية ، وخاصّة أن أمارات الوضع ظاهرة على هذه الأحاديث تماما.

٢ ـ إنّ الآيات محل البحث لا تخالف أخذ الفداء وإطلاق سراح الأسرى إذا اقتضت مصلحة المجتمع الإسلامي ذلك ، بل تقول هذه الآيات : إنّه لا ينبغي على المجاهدين أن يكون همهم الأسر من أجل الفداء ، فبناء على ذلك فهي تنسجم وتتفق والآية (٤) من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع الوجوه ، إذ تقول تلك الآية (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

إلّا أنّه يجب الالتفات إلى مسألة مهمّة هنا ، وهي : إذا كان بين الأسرى من يثير إطلاق سراحهم فتنة نشوب نار الحرب ، ويعرض انتصار المسلمين للخطر ، فيحق للمسلمين أن يقتلوا مثل هؤلاء الأشخاص ، ودليل هذا الموضوع كامن في الآية محل البحث ذاتها ، بقرينة «يثخن» والتعبير في الآية (٤) من سورة

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٩٠ ـ تفسير روح المعاني ، ج ١٠ ، ص ٣٢ ـ وتفسير الفخر الرازي ، ج ١٥ ، ص ١٩٨.

٤٩٥

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بـ «أثخنتموهم».

ولهذا فقد جاء في بعض الرّوايات الإسلاميّة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل اثنين من أسرى معركة بدر ، وهما «عقبة بن أبي معيط» و «النضر بن الحارث» ولم يرض بأن يفتديا أنفسهما أبدا (١).

٣ ـ وفي الآيات محل البحث تأكيد على موضوع حرية إرادة الإنسان مرّة أخرى ، ونفي مذهب الجبر ، لأنّها تقول : إنّ الله يريد لكم الآخرة ، ولكن بعضكم أغرته المنافع الماديّة العابرة وركن إليها.

وفي الآية التالية إشارة إلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب ، وهو حكم أخذ الفداء.

وقد جاء في بعض الرّوايات (٢) الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد انتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى ، وبعد ما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين «عقبة بن أبي معيط» و «النضر بن الحارث» خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فيحرموا من أخذ الفداء ، فقالوا : يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين ، وكلّهم من قبيلتك فهدب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم. وكان النّبي يترقب نزول الوحي ، فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى.

وروي أنّ أكثر ما عين فداء على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم ، وأقلّة ألف درهم ، فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها.

والعجيب أن صهر النّبي على ابنته زينب «أبا العاص» كان من بين أسرى معركة بدر ، فأرسلت زوجته زينب قلادتها التي أهدتها أمّها خديجة عليهما‌السلام إليها في

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٥.

(٢) راجع تفسير علي بن إبراهيم وفقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٣٦.

٤٩٦

زفافها ، لتفتدي بها زوجها ، فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها ، وتجسّدت مواقفها أمام عينيه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله خديجة ، فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب.

ووفقا لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراما لخديجة وإكراما ، واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة ، فأذنوا له أن يرجع القلادة إلى زينب ، ثمّ أطلق (١) النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سراح أبي العاص ، شريطة أن يرسل ابنته زينب ـ التي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإسلام ـ إلى المدينة ، فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ (٢).

وعلى أية حال ، فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة ، والمبلغ الذي يأخذونه فداء من الأسير ، فقالت : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً).

ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الأخرى غير الفداء.

ثمّ تأمرهم الآية بالتقوى فتقول : (وَاتَّقُوا اللهَ). وهذا إشارة إلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جميع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه. وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها ، ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) ورد في الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٣٤ أنّه «فلمّا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال : «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها؟ وتردوا عليها الذي لها فافعلوا» ، فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ١٤١.

٤٩٧

هل أن أخذ «الفداء» أمر منطقيّ عادل؟!

قد ينقدح هنا سؤال مهم وهو : كيف ينسجم الفداء قبال إطلاق سراح الأسير وأصول العدالة؟ أن ليس هذا نوعا من بيع الإنسان؟

والجواب على هذا السؤال يتجلى واضحا حين نعرف أنّ الفداء هو نوع من الضرائب العسكرية ، أو الغرامة الحربية ، إذ أن كل حرب سبب في إهدار كثير من الطاقات الاقتصادية والقوى الإنسانية ، فالجماعة التي تقاتل من أجل الحق يحق لها أنّ تعوض عن خسائرها بعد الحرب ، وأحد طرق التعويض هو «الفداء». ومع ملاحظة أن الفداء كان يومئذ يتراوح بين أربعة آلاف درهم عن الأسير الغني ، وألف درهم عن الأسير الفقير ، يتّضح أنّ الأموال التي أخذت من قريش في هذا الصدد لم تكن كثيرة ، بل لم تكن كافية لسد خسائر المسلمين المالية والإنسانية في تلك المعركة!

ثمّ بعد هذا كلّه ، فقد ترك المسلمون أموالا كثيرة ـ في مكّة ـ عند هجرتهم اضطرارا إلى المدينة ، فكانت هذه الأموال عند أعدائهم من قريش ، وكان للمسلمين الحق أن يعوضوا عن خسائرهم وأموالهم في يوم بدر بالفداء.

كما ينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة التي أشارت إليها الآية ٤ من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي أنّ مسألة الفداء ليست إلزامية ، فللحكومة الإسلامية أن تبادل الأسرى متى ما رأت في ذلك مصلحة ، أو أن تمن عليهم فتطلق سراحهم دون تعويض.

والمسألة المهمّة الأخرى في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم ، ولعل هذا الأمر غير موجود في المذاهب الماديّة ، لكنّه مثار عناية واهتمام أكيد في الجهاد من أجل تحرير الإنسان وإصلاحه وتعميم الحق والعدل.

٤٩٨

ولهذا فإنّ الآية الرّابعة من الآيات محل البحث تخاطب النّبي أن يدعو الأسرى إلى الإيمان بالله وإصلاح أنفسهم ، ويرغبهم في كل ذلك ، فتقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ).

والمراد من كلمة «خيرا» في الجملة آنفة الذكر (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) هو الإيمان وقبول الإسلام أمّا المراد من كلمة «خير» في الجملة الأخرى «يؤتكم خيرا» فهو الثواب أو الأجر المادي والمعنوي الذي ينالونه ببركة الإسلام ، وهو أعظم عند الله من الفداء بمراتب كثيرة!

ثمّ إضافة إلى ذلك فسيشملكم لطف الله ويعفو عن سيئاتكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإسلام ليسيء إلى الإسلام ويخون النّبي وينتقم من المسلمين ، فإنّ الآية التالية تنذر النّبي والمسلمين وتنذر أولئك من الخيانة فتقول : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ).

وأي خيانة أعظم من عدم الاستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل ، والشرك بالله وعبادة الأصنام بدلا من الإيمان بالله وتوحيده؟ ثمّ إنّ عليهم أن لا ينسوا نصرة الله لك (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ).

وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يفلحوا وسوف ينالون الخزي والخسران والهزيمة مرّة أخرى. لأنّ الله مطلع على نيّاتهم ، وجميع تعاليم الإسلام في شأن الأسرى وفق حكمته (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وقد جاء في كتب الفريقين ـ الشيعة وأهل السنة ـ في ذيل الآيتين محل البحث أن العباس عم النّبي كان بين أسرى بدر ، فطلبت جماعة من الأنصار أن لا

٤٩٩

يؤخذ عنه فداء إكراما لرسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله لا تذرون منه درهما» ،

(أي إذا كان الفداء قانونا إسلاميا عامّا ، فلا ينبغي أن يفرق بين عمي وبين أي أسير آخر).

وقال لعمّه العباس : «ادفع عنك وعن ابن أخيك ـ عقيل ـ الفداء».

فقال له العباس «وكان شغوفا بالمال». يا محمّد أتريد أن تجعلني فقيرا حتى أمد يدي إلى قريش؟!

فقال له النّبي : أعط فداءك من المال الذي أودعته عند أم الفضل ـ زوجتك ـ وقلت لها : إذا قتلت في ساحة المعركة فأنفقيه على نفسك وعلى أبنائك.

فتعجب العباس من هذا الإمر وقال : من أخبرك بهذا؟ «ولم يطلع عليه أحد أبدا» فقال رسول الله : أخبرني بذلك جبرائيل.

فقال العباس : أحلف بمن يحلف به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلم بذلك إلّا أنا وزوجتي ، ثمّ قال : أشهد أنك رسول الله ، وأعلن إسلامه.

وعاد جميع أسرى بدر إلى مكّة إلّا العباس وعقيلا ونوفلا ، إذ أسلموا وبقوا في المدينة ، والآيات محل البحث تشير إلى حال أولئك (١).

وجاء في شأن إسلام العباس في بعض التواريخ أنّه عاد إلى مكّة بعد إسلامه ، وكان يكتب إلى النّبي عن مؤامرات المشركين ثمّ هاجر إلى المدينة قبل السنة الثّامنة من الهجرة «عام فتح مكّة».

وفي كتاب قرب الإسناد عن الإمام الباقر عن أبيه الإمام زين العابدين ، أنّه جيء إلى رسول الله ذات يوم بأموال كثيرة ، فالتفت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العباس وقال له : ابسط عباءتك أو «رداءك» وخذ من هذا المال ، ففعل العباس وأخذ من ذلك المال ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ما قاله الله سبحانه وتلا قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي

__________________

(١) يراجع تفسير نور الثقلين ، وروضة الكافي ، وتفسير القرطبي ، وتفسير المنار ، ذيل الآية محل البحث.

٥٠٠