الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-47-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٦

مُفْسِدِينَ) (١).

ثمّ إنّنا نلاحظ أيضا أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن ، والباطن القبيح الخبيث ، الذين عبر عنهم بالملإ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإلهيّ العظيم ، وحيث أنّ عددا كبيرا من أصحاب القلوب الطيبة والأفكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين ، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته ، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح : هل تعلمون يقينا أنّ صالحا مرسل من قبل الله (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ).

على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق ، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن ، وإضعاف معنوياتهم ، وظنا منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته ، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.

ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع ، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها ، حيث قالوا : إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحا رسول من قبل الله فحسب ، بل نحن مؤمنون أيضا بما جاء به (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم ، بل عادوا مرّة أخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة

__________________

(١) «تعثوا» مشتقة من مادة «عثى» معنى إيجاد الفساد ، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية ، في حين تطلق مادة «عبث» على المفاسد الحسية ، وبناء على هذا يكون كلمة «المفسدين» بعد جملة «لا تعثوا» لغرض التأكيد ، لأنّ كليهما يعطيان معنى واحدا.

١٠١

أخرى.

كانوا المقدّمين في المجتمع والأسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون به من قوة وثراء ، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضا ، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل ، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم ، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري ، وقوة إرادة.

والجدير بالانتباه أنّ الأغنياء والملأ وصفوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين ، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين ، وهذا يفيد الفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق ، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ «الطبقة المستغلّة» ، والفريق الآخر بالطبقة المستغلّة.

عند ما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالح عليه‌السلام ، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعا مع وجود «الناقة» التي كانت تعدّ معجزة صالح عليه‌السلام ، لهذا قرّروا قتل الناقة ، مخالفين بذلك أمر ربّهم (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) (١).

ولم يكتفوا بهذا أيضا ، بل أتوا إلى صالح نفسه وبصراحة (قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقا ، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها ... والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالح عليه‌السلام ، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.

وعند ما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة ، وأطفأوا في

__________________

(١) المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها ، فإذا قطع سقط الحيوان ، وفقد القدرة على الحركة ، والتنقل.

١٠٢

نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان ، حلّت بهم العقوبة الإلهية طبقا لقانون انتخاب الأصلح ، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

إنّها كانت زلزلة ورجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية ، واندثرت حياتهم الجميلة ، حتى أنّه لم يبق منهم إلّا أجساد ميتة ... هكذا أصبحوا.

و «جاثم» في الأصل مشتق من مادة «جثم» بمعنى القعود على الركب ، والتوقف في مكان واحد ، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة ، فجلسوا على أثرها فجأة ، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة ، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة ، إمّا خوفا ، وإمّا بسبب انهيار الجدران عليهم ، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!

بأيّ شيء أهلك قوم ثمود :

وهنا يطرح سؤال وهو : يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال ، ولكن يظهر من الآية (١٣) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة ، بينما نقرأ في الآية (١٥) من سورة الحاقة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) يعني أنّ قوم ثمود اهلكوا بشيء مدمّر ، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة ، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد ، أو أنّه يلازم بعضها بعضا ، فكثيرا ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة ، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا ، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.

وأمّا «الطاغية» فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه ، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة ، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.

١٠٣

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي بعد هذه القضية تولى صالح وهو يقول : لقد أديت رسالتي إليكم ، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه ، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم ، أي بعد إتمام الحجّة عليهم ... ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟

هناك احتمالان : والحقيقة أنّ الاحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب ، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الاحتمال الأوّل هو أيضا غير بعيد ، لأنّه كثيرا ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون ، تماما كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام علي عليه‌السلام فإنّه عليه‌السلام وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال : «ويل أمّك ، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النّار». (١)

كما نقرأ ـ أيضا ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام عليا عليه‌السلام عند ما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى ، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا ، ثمّ قال : «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

١٠٤

الآيات

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

التّفسير

مصير قوم لوط المؤلم :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر من قصص الأنبياء ، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله ، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإلهي العظيم «لوط».

ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم ، منها سورة «هود» و «الحجر» و «الشعراء» و «الأنبياء» و «النمل» و «العنكبوت».

وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن

١٠٥

الحوار الذي دار بين لوط ، وقومه.

ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم ، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).

الآية الأولى تقول في البدء : اذكروا وإذ قال لوط لقومه : أترتكبون فعلا قبيحا لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)؟!

فهذه المعصية مضافا إلى كونها عملا قبيحا جدّا ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفا ، لأنّه أصبح أساسا لسنّة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.

ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط ، وكانوا قوما أثرياء مترفين شهوانيين ، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ).

وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد ، وهو مقاربة الرجل للمرأة ، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية ، ويعمد إلى «الجنس الموافق» ، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساسا ـ الفطرة ، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين ، والغريزة السوية الصحيحة ، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

وبعبارة أخرى : يكون أثره الوحيد ، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة

١٠٦

الجنسية ، والقضاء على الهدف الأصلي ، وهو استمرار النسل البشري.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي تجاوزتم حدود الله ، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب ، بل تورطوا في مثل هذا الانحراف والإسراف في كل شي ، وفي كل عمل.

والجدير بالذكر أنّ الآية الأولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة ، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة ، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة ، فإذا فعل أحد عملا شيئا قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم ، لبيان أهمية الموضوع : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، فإذا قال له الشخص ، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أخرى : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.

إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجا على شناعة عمله القبيح وخطورته ، وهو أبلغ في التأثير.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط ، وقال : إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح ، إلّا أن قالوا : أخرجوا لوطا وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

وهذا ليس موضع تعجب واستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصا طاهرين لا لشيء إلّا لأنّهم أنقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم ، فكانت نقاط القوة لدى أولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.

١٠٧

ويحتمل أيضا في تفسير جملة (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر ، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيرا حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر ، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.

مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه ، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين ، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والاتهام ، ولا يعرفون إلّا لغة القوة والقهر ، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (١) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطا وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين ، إلّا زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.

قال البعض : إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة ، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضا ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءا من أهله وعائلته أيضا ، ولكن يستفاد من الآية (٣٦) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلّا عائلته وأقرباؤه ، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي ، أي أقرباؤه.

من الآية (١٠) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة ، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد ، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جدا ـ ولكن ذات مغزى ومعنى

__________________

(١) يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي وحده ، كما ذهبت عائلة لوط معه ، وبقيت زوجته وحدها معه ، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

١٠٨

عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم ، إذ قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أيّ مطر ... إنّه كان مطرا عجيبا حيث انهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!! إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم ، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطرا عاديا ، بل كان مطرا من الحجارة ، كما سيأتي في سورة هود الآية (٨٣).

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

إنّ هذا الخطاب وإن كان موجها إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو اعتبار جميع المؤمنين به.

هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة ، وكذا مضار اللواط المتعددة ، وحكمه في الشريعة الإسلامية ، عند تفسير آيات سورة «هود» و «الحجر».

* * *

١٠٩

الآيات

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

التّفسير

رسالة شعيب في مدين :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامسا من قصص الأقوام الماضين ، ومواجهة الأنبياء العظام معهم ، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

١١٠

بعث شعيب عليه‌السلام الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات ، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام ، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية ، وكذا الحيلة ، والتطفيف في المكيال والميزان ، والبخس في المعاملة.

وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم وبين أهل مدين ، في سور متعددة من القرآن الكريم ، وبخاصّة في سورة «هود» و «الشعراء» ، ونحن تبعا للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئا عن هذه القصّة باختصار طبقا للآيات المطروحة هنا.

في البداية يقول سبحانه : ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً).

روى جماعة من المفسّرين ، مثل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في تفسيره المعروف ، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل ، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

هذا وقد أوضحنا السرّ في استعمال لفظة «أخاهم» في الآية (٦٥) من هذه السورة.

ثمّ إنّه تعالى أضاف : إنّ شعيبا مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

وقال : إنّ هذا الحكم مضافا إلى كونه من وحي العقل ، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضا : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أمّا أنّ هذه «البيّنة» ما هي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة ، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيب عليه‌السلام.

١١١

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية السائدة فيهم ، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف ، والغش في المعاملة ، يقول : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) (١).

وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لاقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.

ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة ، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء ، وفي ضوء الإيمان فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد ، سواء كان فسادا أخلاقيا ، أو من قبيل فقدان الإيمان ، أو عدم وجود الأمن ، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وكأنّ إضافة عبارة : «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الاجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية ، لم يكن لها بقاء ودوام.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب ، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس ، وصدّهم عن سبيل الله ، وتضليل الناس بإلقاء

__________________

(١) البخس يعني نقص حقوق الأشخاص ، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

١١٢

الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم ، فقال : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ، وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً).

وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإيمان ، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات متعددة ، فالبعض احتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل ، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين ، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأخرى في الآية هو المعنى الأوّل.

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب ، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم ، فيقول : تذكّروا عند ما كنتم أفرادا قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ).

ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به ، فيقول : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع ، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد ، طبعا شريطة أن تضمن معيشتهم وفقا لبرامج منظمة ، من الناحية المادية والمعنوية.

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه ، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم : إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟

وكان معارضوهم ـ أيضا ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فورا يقولون : إذا كنت من جانب الله حقّا فلما ذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به

١١٣

من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب : إن كانت طائفة منكم آمنت بما بعثت به ، وأعرض أخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لغرور الكفار ، ويأس المؤمنين ، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق ، ومن يكون على باطل (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

* * *

١١٤

الآيتان

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

التّفسير

هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية ، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر ، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.

إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيبا معتمدين على قوتهم وقدرتهم ، كما يقول القرآن الكريم : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا).

قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيبا كان قبل

١١٥

ذلك في صفوف الوثنيين ، والحال ليس كذلك ، بل حيث أنّ شعيبا لم يكن مكلّفا بالتبليغ ، لذلك كان يسكت على أعمالهم ، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية في حين أنّ أحدا من النّبيين لم يكن وثنيا حتى قبل زمان النّبوة ، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف ، هذا مضافا إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجها إلى شعيب وحده ، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضا ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا ، بل كانت هناك تهديدات أخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية ، إذ قال لهم : وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك : (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (١)؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم : هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا ، وتكرهوننا على أن نعتنق دينا ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافا إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة ، ودين جبريّ؟! وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها).

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة ، ومفهوم هذه الجملة هو : نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس ، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء ، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأذن القلب ، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور ، ومن المسلّم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.

__________________

(١) إنّ في هذه الجملة حذفا وتقديرا ، فالكلام في الأصل على هذه الصورة : «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

١١٦

ثمّ يضيف شعيب قائلا : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله ، ولا نعصيه قيد شعرة ، فعودتنا غير ممكنة إلّا إذا أمر الله بذلك.

ثمّ من دون إبطاء يضيف : إنّ الله يأمر بمثل هذا ، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علما بجميع الأمور (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه ، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلّا من كان علمه محدودا ، واشتبه ثمّ ندم على أمره ، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأمور علما فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم ، وأنّه ثابت في موقفه ، قال : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا).

وأخيرا لأجل أن يثبت حسن نيّته ، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام ، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

أي : يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق ، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء ، وافتح علينا أبواب رحمتك ، فأنت خير الفاتحين.

وقد روي عن ابن عباس أنّه قال : ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها : أفاتحك عند القاضي ، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا ، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد ، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين) (١).

* * *

__________________

(١) تفسير منهج الصادقين.

١١٧

الآيات

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

التّفسير

تتحدث الآية الأولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب ، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية ، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر ، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية

١١٨

بالإضافة إلى الأضرار المادية ، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.

وعند ما وصل أمرهم إلى الإصرار على ضلالتهم ، وعلى إضلال غيرهم أيضا ، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم ، حلّت بهم العقوبة الإلهية بحكم قانون حسم مادة الفساد ، فأصابهم زلزال رهيب شديد بحيث تهاوى الجميع أجسادا ميّتة ، في داخل بيوتهم ومنازلهم (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

وقد مرّ في ذيل الآية (٧٨) من هذه السورة ـ تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.

فمثلا : جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو : «الزلزال» وفي الآية (٩٤) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (١٨٩) من سورة الشعراء : أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد ، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة ، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة ، واستهدفت مدينتهم ، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (١). أي أنّ الذين كذبوا شعيبا أبيدوا إبادة عجيبة ، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).

وكأنّ هاتين الجملتين جوابا لأقوال معارضي شعيب ، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين

__________________

(١) «يغنوا» مشقة من مادة «غني» بمعنى «الإقامة في المكان» يقول الطبرسي في مجمع البيان : لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة ، لأنّ من كان عنده منزل حاضر ، فهو مستغن عن منزل آخر.

١١٩

السابق ، فقال القرآن : إنّهم أبيدوا كاملة ، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل ، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم : إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران ، قال القرآن الكريم : إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال : لقد بلّغت رسالات ربّي ، ونصحتكم بالمقدار الكافي ، ولم آل جهدا في إرشادكم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ).

ثمّ قال (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي لست متأسّفا على مصير الكافرين ، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم ، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا ، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم ، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان ، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم ، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.

ولكن مع الالتفات إلى آخر عبارة ، والتي يقول فيها : إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبدا ، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب ، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (٧٩) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيرا (وقد أشرنا إلى شواهد ذلك).

* * *

١٢٠