البلاغة الواضحة

علي الحازم ومصطفى أمين

البلاغة الواضحة

المؤلف:

علي الحازم ومصطفى أمين


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٠٦

إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا».

البحث :

تأمل أمثلة الطائفة الأولى تجد أن ألفاظها فى كل مثال على قلّتها جمعت معانى كثيرة متزاحمة. فالمثال الأول تضمّن كلمتين استوعبتا جميع الأشياء والشئون على وجه الاستقصاء. حتى لقد روى أن ابن عمر رضى الله عنه قرأها فقال : من بقى له شىء فليطلبه. والمثال الثانى آية فى البلاغة والحسن ، فقد جمع من آداب السفر والعطف على الضعيف ما لا يسهل على البليغ أن يعبّر عنه إلّا بالقول المسهب الطويل. وكذلك الحال فى المثال الثالث. وهذا الأسلوب من الكلام يسمى إيجازا. ولما كان مدار الإيجاز هنا على اتساع الألفاظ القليلة للمعانى المتكاثرة والأغراض المتزاحمة ، لا على حذف بعض كلمات أو جمل ، سمّى إيجاز قصر

تأمل أمثلة الطائفة الثانية تجد أنها موجزة أيضا ، وإذا أردت أن تعرف سرّ الإيجاز فيها فانظر إلى المثال الأول تجد أنه قد حذف منه كلمة ، إذ تقدير الكلام فيه وجاء أمر ربك ، وانظر إلى المثال الثانى تجد أنه حذف منه جملة هى جواب القسم ، إذ تقدير الكلام «ق والقرآن المجيد» لتبعثنّ. أمّا المثال الثالث فالمحذوف فيه جمل عدة ، ونظم الكلام من غير حذف أن يقال : فذهبتا إلى أبيهما ، وقصّتا عليه ما كان من أمر موسى ، فأرسل إليه ، «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ».

ولما كان سبب الإيجاز فى هذه الأمثلة هو الحذف سمى إيجاز حذف ويشترط فى هذا النوع من الإيجاز أن يقوم دليل على المحذوف ، وإلا كان الحذف ريئا والكلام غير مقبول.

٢٤١

القاعدة :

(٦٦) الإيجاز جمع المعانى المتكاثرة تحت اللّفظ القليل مع الإبانة والإفصاح ، وهو نوعان :

(ا) إيجاز قصر ، ويكون بتضمين العبارات القصيرة معانى قصيرة من غير حذف.

(ب) إيجاز حذف ، ويكون بحذف كلمة (١) أو جملة أو أكثر مع قرينة تعيّن المحذوف.

نموذج

لبيان نوع الإيجاز فى العبارات الآتية :

(١) قال تعالى : «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ».

(٢) وقال تعالى : «تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ».

(٣) وقال تعالى : «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها».

(٤) وقال تعالى : «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ».

(٥) وقال تعالى : «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً».

(٦) وقال أبو الطيب :

أتى الزّمان بنوه فى شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم (٢)

(٧) أكلت فاكهة وماء.

__________________

(١) الكلمة المحذوفة إما حرف ، وإما فعل ، وإما اسم ، والاسم المحذوف قد يكون مضافا ، أو موصوفا ، أو صفة.

(٢) يقول : إن بنى الزمان من الأمم السالفة جاءوا فى حداثة الدهر فسرهم ، ونحن أتيناه وقد هرم فلم يبق عنده ما يسرنا به.

٢٤٢

الإجابة

(١) فى الآية إيجاز قصر ؛ لأن كلمة «الأمن» يدخل تحتها كلّ أمر محبوب ، فقد انتفى بها أن يخافوا فقرا ، أو موتا ، أو جورا ، أو زوال نعمة ، أو غير ذلك من أصناف المكاره.

(٢) فى الآية إيجاز حذف ، لأن المعنى «تالله لا تفتأ تذكر يوسف» فحذف حرف النفى.

(٣) فى الآية إيجاز قصر ؛ فقد دل الله سبحانه بكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للناس من العشب والشجر والحطب واللّباس والنار والماء.

(٤) فى الآية إيجاز حذف ، فقد حذف جواب أمّا ، وأصل الكلام «فيقال لهم أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ».

(٥) فى الآية إيجاز بحذف جواب لو ، إذ تقدير الكلام لكان هذا القرآن.

(٦) فى البيت إيجاز بحذف جملة : والتقدير وأتيناه على الهرم فساءنا.

(٧) فى العبارة إيجاز بحذف جملة ، إذ التقدير وشربت ماء.

تمرينات

(١)

بين نوع الإيجاز فيما يأتى ووضح السبب :

(١) قال تعالى : «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ».

(٢) وقال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(١).

(٣) وقال عليه الصلاة والسّلام : «إن من البيان لسحرا»

(٤) وقال تعالى فى وصف الجنة : «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ».

__________________

(١) خذ العفو : أى خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقص عليهم.

٢٤٣

(٥) وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)(١).

(٦) وقال تعالى : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ».

(٧) وقال صلّى الله عليه وسلّم : «الطّمع فقر واليأس غنى».

(٨) وقال على كرم الله وجهه : «آلة الرياسة سعة الصدر».

(٩) وينسب للسّموءل :

وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل (٢)

(١٠) وقال تعالى فى وصف انتهاء حادثة الطوفان :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٣).

(٢)

بيّن جمال الإيجاز فيما يأتى واذكر من أى نوع هو :

(١) كتب طاهر بن الحسين إلى المأمون وكان واليه على عمّاله بعد هزمه عسكر على بن عيسى بن ماهان (٤) وقتله إياه :

كتابى إلى أمير المؤمنين ، ورأس على بن عيسى بن ماهان بين يدى ، وخاتمه فى يدى ، وعسكره مصرّف تحت أمرى والسّلام.

(٢) وخطب زياد (٥) فقال :

أيها الناس لا يمنعنّكم سوء ما تعلمون عنّا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منّا.

__________________

(١) الخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلّم. يقول له : لو ترى حال الكفار عند الموت لرأيتها مزعجة. ومعنى قوله فلا فوت : فلا مهرب لهم من العذاب.

(٢) يقول : إذا كان المرء لا يصبر النفس على مكارهها لم يكن هناك سبيل إلى اكتسابه الحمد.

(٣) أقلعى : كفى عن المطر ، وغيض الماء : نضب ، والجودى : جبل بأرض الجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السّلام عند انتهاء الطوفان.

(٤) على بن عيسى بن ماهان من كبار القادة فى عصر الرشيد والأمين ، وهو الذى حرض الأمين على خلع المأمون من ولاية العهد ، وسيره الأمين لقتال المأمون بجيش كبير فقتله طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون سنة ١٩٥ ه‍.

(٥) أمير خطيب مصقع ، وهو من القادة الفاتحين ، والولاة الدهاة ، أسلم فى عهد أبى بكر رضى الله عنه ، ثم ألحقه معاوية بنسبه فكان عضده الأقوى ، وولاه البصرة والكوفة وسائر العراق ، وتوفى سنة ٥٣ ه‍.

٢٤٤

(٣)

بين ما فى التوقيعات (١) الآتية من جمال الإيجاز :

(١) وقّع أبو جعفر المنصور فى شكوى قوم من عاملهم :

كما تكونوا يؤمّر عليكم (٢).

(٢) وكتب إليه صاحب مصر بنقصان النيل فوقّع :

طهّر عسكرك من الفساد يعطك النيل القياد (٣).

(٣) ووقع على كتاب لعامله على حمص وقد كثر فيه الخطأ :

استبدل بكاتبك ، وإلا استبدل بك (٤).

(٤) وكتب إليه صاحب الهند أنّ جندا شغبوا عليه (٥) وكسروا أقفال بيت المال ، فوقّع : لو عدلت لم يشغبوا ، ولو وفيت لم ينتهبوا (٦).

(٥) ووقّع هرون الرشيد إلى صاحب خراسان : داو جرحك لا يتسع.

(٦) ووقّع فى قصة البرامكة : أنبتتهم الطاعة ، وحصدتهم المعصية.

(٧) وكتب إبراهيم بن المهدى فى كلام للمأمون : إن عفوت فبفضلك ، وإن أخذت فبحقك. فوقّع المأمون : القدرة تذهب الحفيظة (٧).

(٨) ووقّع زياد بن أبيه فى قصة متظلم : كفيت.

(٩) ووقّع جعفر بن يحيى (٨) لعامل كثرت الشكوى منه :

كثر شاكوك ، وقلّ شاكروك ، فإمّا عدلت ، وإمّا اعتزلت.

(١٠) ووقع فى قصة محبوس : العدل أوقعه ، والتوبة تطلقه.

__________________

(١) التوقيع : رأى الحاكم يكتبه على ما يعرض عليه من شئون الدولة.

(٢) أمره عليهم : جعله أميرا.

(٣) القياد : حبل يقاد به.

(٤) أى اتخذ مكان كاتبك كاتبا آخر. وإلا أقيم مكانك عامل آخر.

(٥) الشغب : تهييج الشر.

(٦) الانتهاب : النهب والأخذ.

(٧) الحفيظة : الحمية والغضب.

(٨) هو أحد مشهورى البرامكة ومقدميهم ، ولد فى بغداد ونشأ بها ، ثم استوزره هرون الرشيد وألقى إليه مقاليد الدولة. فانقادت له الأمور ، وما زال كذلك حتى غضب الرشيد على البرامكة فقتله فى جملتهم سنة ١٧٨ ه‍ وهو أحد الموصوفين بفصاحة المنطق وبلاغة القول وكرم اليد والنفس.

٢٤٥

(٤)

اقرإ الحكاية الآتية وبين وجه الإيجاز ونوعه فيما يعرض فيها من أمثال :

كان لرجل من الأعراب اسمه ضبّة ابنان. يقال لأحدهما سعد وللآخر سعيد ، فنفرت إبل لضبة فتفرق ابناه فى طلبها ، فوجدها سعد فردها ، ومضى سعيد فى طلبها ، فلقيه الحارث بن كعب ، وكان على الغلام بردان ؛ فسأله الحارث إياهما فأبى عليه فقتله وأخذ برديه ؛ فكان ضبّة إذا أمسى ورأى تحت الليل سوادا قال : أسعد أم سعيد؟ فذهب قوله مثلا يضرب فى النجاح والخيبة ، ثم مكث ضبة بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقى بها الحارث بن كعب ، ورأى عليه بردى ابنه سعيد ، فعرفهما ، فقال له : هل أنت مخبرى ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال لقيت غلاما وهما عليه فسألته إياهما فأبى علىّ فقتلته وأخذتهما ، فقال ضبة : بسيفك هذا؟ قال : نعم ، قال : أرنيه فإنى أظنه صارما ؛ فأعطاه الحارث سيفه ، فلما أخذه هزّه وقال : الحديث ذو شجون (١) ثم ضربه به فقتله ، فقيل له يا ضبة : أفى الشهر الحرام؟ فقال : سبق السيف العذل (٢). فهو أوّل من سارت عنه هذه الأمثال الثلاثة

(٥)

(١) هات ثلاثة أمثلة لإيجاز القصر وبين وجه الإيجاز فى كل منها.

(٢) هات ثلاثة أمثلة لإيجاز الحذف. بحيث يكون المحذوف فى المثال الأول كلمة وفى الثانى جملة ، وفى الثالث أكثر من جملة ، وبين المحذوف فى كل مثال.

(٦)

بيّن ما فى قول أبى تمام فى المديح من بلاغة وإيجاز :

ولو صوّرت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

__________________

(١) أى ذو طرق ، الواحد شجن ، يضرب هذا المثل فى الحديث يتذكر به غيره.

(٢) العذل : الملامة.

٢٤٦

(٣) الإطناب

البحث :

(١) قال تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها)(١).

* * *

(٢) وقال تعالى : «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ».

(٣) وقال : «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ».

* * *

(٤) وقال عنترة بن شداد فى بعض روايات معلقته :

يدعون عنتر والرّماح كأنّها

أشطان بئر فى لبان الأدهم (٢)

يدعون عنتر والسّيوف كأنّها

لمع البوارق فى سحاب مظلم

* * *

(٥) وقال النابغة الجعدى (٣) :

ألا زعمت بنو سعد بأنّى

 ـ ألا كذبوا ـ كبير السّنّ فانى

__________________

(١) الروح : جبريل عليه السّلام.

(٢) أشطان البئر : حباله ، ولبان الأدهم : صدر الفرس.

(٣) هو حسان بن قيس الجعدى ، شاعر قديم معمر أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم وحسن إسلامه وأنشد النبى صلّى الله عليه وسلّم فأعجب به وقال له : لا يفضض الله فاك.

٢٤٧

(٦) وقال الحطيئة :

تزور فتى يعطى على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المحامد يحّمد

(٧) وقال ابن نباتة السّعدىّ :

لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله

تركتنى أصحب الدّنيا بلا أمل

* * *

(٨) وقال ابن المعتز يصف فرسا :

صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

البحث :

عرفت فيما سبق معنى الإيجاز ؛ ونريد هنا أن نشرح لك نوعا آخر من الأساليب يقابله ويضادّه فتزيد فيه الألفاظ على المعانى لغرض بلاغىّ.

تأمل المثال الأول تجد لفظ «الروح» فيه زائدا ، لأن معناه داخل فى عموم اللفظ المذكور قبله وهو الملائكة ، وانظر فى المثال الثانى تجد أن لفظ «لى ولوالدىّ» زائد أيضا ، لدخول معناه فى عموم المؤمنين والمؤمنات ، وكذلك يشتمل كل مثال من الأمثلة الباقية على زيادة لفظية ستعرفها فيما يأتى ، وسترى أيضا أنّ هذه الزيادة لم تجئ عبثا ، وإنما جاءت للطيفة من اللطائف البلاغيّة التى تزيد قيمة الكلام وترفع من معانيه ، وأداء الكلام على هذا الوجه يسمّى إطنابا.

ارجع إلى الأمثلة وابحث فيها واحدا واحدا تجد طرق الإطناب فيها

٢٤٨

مختلفة : فطريقه فى المثال الأول ذكر الخاص بعد العام ، فقد خصّ الله سبحانه وتعالى الروح بالذّكر وهو جبريل مع أنه داخل فى عموم الملائكة تكريما له وتعظيما لشأنه كأنه جنس آخر ، ففائدة الزيادة هنا التنويه بشأن الخاص.

وطريقه فى المثال الثانى ذكر العام بعد الخاص ، فقد ذكر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات وهما لفظان عامان يدخل فى عمومهما من ذكر قبل ذلك ، والغرض من هذه الزيادة إفادة الشمول مع العناية بالخاص لذكره مرتين ، مرة وحده ، ومرة مندرجا تحت العام.

وطريقه فى المثال الثالث الإيضاح بعد الإبهام فإن قوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) إيضاح للإبهام الذى تضمنه لفظ «الأمر» وذلك لزيادة تقرير المعنى فى ذهن السامع بذكره مرتين ، مرة على طريق الإجمال والإبهام ، ومرة على طريق الإيضاح والتفصيل.

وطريقه فى بيتى عنترة التكرار لتقرير المعنى فى نفس السامع وتثبيته ، ويظهر هذا الغرض فى الخطابة ، وفى موطن الفخر والمدح والإرشاد والإنذار ، وقد يكون التكرار لدواع أخرى ، منها التحسر كما فى قول الحسين بن مطير (١) يرثى معن بن رائدة :

فيا قبر معن أنت أوّل حفرة

من الأرض خطّت للسّماحة موضعا (٢)

ويا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البرّ والبحر مترعا

ومنها طول الفصل كما فى قول الشاعر :

لقد علم الحىّ اليمانون أننى

إذا قلت أمّا بعد أنّى خطيبها (٣)

__________________

(١) شاعر عاش فى الدولتين الأموية والعباسية ، وله مدائح فى رجالهما ، وكان من أحسن أهل البادية زيا وكلاما ، توفى سنة ١٦٩ ه‍ بعد معن زائدة وله رثاء فيه.

(٢) خطت للسماحة موضعا : أى اتخذت لتكون موضعا للكرم والجود.

(٣) اليمانون : المنسوبون إلى اليمن.

٢٤٩

وطريقه فى المثال الخامس الاعتراض ، وهو أن يوتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين فى المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لغرض يقصد إليه البليغ ، فجملة «ألا كذبوا» قد جاءت فى بيت النابغة بين اسم إن وخبرها للإسراع إلى التنبيه على كذب من رماه بالكبر ، وقد يكون من أغراض الاعتراض الإسراع إلى التنزيه ، نحو : إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لطيف بعباده ، وقد يكون للدعاء نحو إنى ـ وقاك الله ـ مريض.

وطريقه فى المثالين السادس والسابع التذييل ، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيدا لها ، فإن المعنى فى كلا البيتين قد تمّ فى الشطر الأول ، ثم ذيّل بالشطر الثانى للتوكيد. وإذا تأملت التذييل فى المثالين وجدت بينهما بعض الخلاف. وذلك أن التذييل فى المثال الأول مستقلّ بمعناه لا يتوقف فهمه على فهم ما قبله ، ويقال له إنه جار مجرى المثل ، أما فى المثال الثانى فهو غير مستقل بمعناه إذ لا يفهم الغرض منه إلا بمعونة ما قبله ، ويقال لهذا النوع إنه غير جار مجرى المثل.

تأمل المثل الأخير تجد أننا لو أسقطنا منه كلمة «ظالمين» لتوهّم السامع أن فرس ابن المعتز كانت بليدة تستحق الضرب ، وهذا خلاف المقصود ، وتسمّى هذه الزيادة فى البيت احتراسا ، وكذلك كل زيادة تجىء لدفع ما يوهمه الكلام مما ليس مقصودا.

القاعدة :

(٦٧) الإطناب زيادة اللّفظ على المعنى لفائدة (١) ويكون بأمور عدة منها :

__________________

(١) فإذا لم تكن فى الزيادة فائدة سميت «تطويلا» إن كانت الزيادة غير متعينة ، «وحشوا» إن كانت متعينة ، فالتطويل كما فى قول عنترة بن شداد :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأققر بعد أم الهيثم

والحشو كما فى قول زهير بن أبى سلمى :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكننى عن علم ما فى غد عمى

٢٥٠

(ا) ذكر الخاصّ بعد العامّ للتّنبيه على فضل الخاصّ.

(ب) ذكر العامّ بعد الخاصّ لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاصّ.

(ح) الإيضاح بعد الإبهام ، لتقرير المعنى فى ذهن السّامع.

(د) التّكرار لداع : كتمكين المعنى من النفس ، وكالتّحسّر ، وكطول الفصل.

(ه) الاعتراض ، وهو أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متّصلين فى المعنى بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب (١).

(و) التّذييل ، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيدا لها ، وهو قسمان :

(١) جار مجرى المثل إن استقلّ معناه واستغنى عمّا قبله.

(٢) غير جار مجرى المثل إن لم يستغن عمّا قبله.

(ز) الاحتراس ، ويكون حينما يأتى المتكلّم بمعنى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم ، فيفطن لذلك ويأتى بما يخلّصه منه.

نموذج

بين نوع الإطناب فيما يأتى :

(١) قال تعالى : «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ،

__________________

(١) ويجب أن يكون للبليغ فى الاعتراض غرض يرمى إليه غير دفع الإيهام ، فإن كان الغرض دفع الإيهام كان احتراسا.

٢٥١

أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ».

(٢) وقال تعالى : «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ».

(٣) وقال أبو الطيب :

إنّى أصاحب حلمى وهو بى كرم

ولا أصاحب حلمى وهو بى جبن

(٤) وقال النابغة الجعدىّ يهجو :

لو انّ الباخلين وأنت منهم

رأوك تعلّموا منك المطالا

(٥) وقالت أعرابية لرجل : كبت الله كل عدو لك إلّا نفسك.

(٦) وقال تعالى : «أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ».

الإجابة

(١) فى الآية إطناب بالتكرار فى معرض الإنذار لتقرير المعنى فى نفوس السامعين.

(٢) فى الآية إطناب بالتذييل فى موضعين : أولهما قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ، وهذا تذييل لم يجر مجرى المثل ، والثانى قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» وهو جار مجرى المثل.

(٣) فى البيت إطناب بالاحتراس فى موضعين : أولهما فى الشطر الأول بذكر وهو بى كرم ، وثانيهما فى الشطر الثانى بذكر وهو بى جبن.

(٤) فى البيت إطناب بالاعتراض. فقد جاءت جملة : «وأنت منهم» معترضة بين اسم إن وخبرها للإسراع إلى ذم المخاطب.

(٥) هنا إطناب بالاحتراس ، لأن نفس الإنسان تجرى مجرى العدوّ له ، فإنها تدعوه إلى ما يوبقه.

(٦) فى الآية إطناب بالإيضاح بعد الإبهام فإن ذكر الأنعام والبنين توضيح لما أبهم قبل ذلك فى قوله : «بِما تَعْلَمُونَ».

٢٥٢

تمرينات

(١)

وضح الغرض من التكرار فى كل مثل من الأمثلة الآتية :

(١) قال بعض شعراء الحماسة :

إلى معدن العزّ المؤثّل والنّدى

هناك هناك الفضل والخلق الجزل (١)

(٢) وقالت أعرابيّة ترثى ولديها :

يا من أحسّ بنيّىّ اللذين هما

كالدّرّتين تشظّى عنهما الصّدف (٢)

يا من أحسّ بنيّىّ اللذين هما

سمعى وطرفى فطرفى اليوم مختطف (٣)

(٣) وقال عمرو بن كلثوم (٤) فى معلقته :

بأىّ مشيئة عمرو بن هند (٥)

نكون لقيلكم فيها قطينا (٦)

بأىّ مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة وتزدرينا (٧)

(٤) قال تعالى : «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».

(٢)

بيّن مواطن الاعتراض وفائدته فى الأمثلة الآتية :

(١) قال العباس بن الأحنف :

إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا

تم فما لى فى العيش من أرب (٨)

__________________

(١) معدن العز : موطنه ومركزه ، والمؤثل : المؤصل والمعظم ، والخلق الجزل : الطبع القوى الكريم.

(٢) تشظى الصدف : تطاير شظايا ، والشظايا جمع شظية : وهى الفلقة من العصا ونحوها.

(٣) الطرف : البصر.

(٤) شاعر جاهلى وهو من فحول الشعراء فى الجاهلية ومن فرسانهم وأشرافهم ، وهو صاحب المعلقة التى أولها «ألا هبى بصحنك فاصبحينا».

(٥) هو ملك الحيرة وكان جبارا عنيدا لا يرى فى الناس من يدانيه فى الشرف والمنزلة ، وقد أراد أن يستذل عمرو بن كلثوم باتخاذ أمه وصيفة لأمه ، فثارث الحمية فى قلب عمرو بن كلثوم فجرد سيفا وضرب الملك فقتله.

(٦) القيل : الملك دون الملك الأعظم وجمعه أقيال ، والقطين : الخدم ، يقول : كيف تطمع أن نكون خدما لمن وليت علينا من الأمراء على ما تعلم من عزنا.

(٧) يقول : كيف تطيع الوشاة فينا وتحتقرنا على ما تعلم من قلة صبرنا على احتمال الضيم.

(٨) ظلوم : اسم امرأة.

٢٥٣

(٢) وقال أبو الفتح البستىّ (١) :

إذا حمد الكريم صباح يوم

وأنّى ذاك لم يحمد مساءه (٢)

(٣) وقال أبو خراش الهذلّى (٣) يذكر أخاه عروة :

تقول أراه بعد عروة لاهيا

وذلك رزء لو علمت جليل

فلا تحسبى أنّى تناسيت عهده

ولكنّ صبرى يا أميم جميل (٤)

(٤) واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتى كلّ ما قدرا (٥)

(٣)

بيّن مواطن التذييل ونوعه فى كل مثال من الأمثلة الآتية :

(١) قال أبو تمام يعزى الخليفة فى ابنه :

تعزّ أمير المؤمنين فإنّه

لما قد ترى يغذى الصبىّ ويولد (٦)

هل ابنك إلّا من سلالة آدم

لكلّ على حوض المنيّة مورد

(٢) وقال إبراهيم بن المهدى فى رثاء ابنه :

تبدّل دارا غير دارى وجيرة

سواى وأحداث الزّمان تنوب

(٣) فإن أك مقتولا فكن أنت قاتلى

فبعض منايا القوم أكرم من بعض

(٤) قال تعالى : «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ».

__________________

(١) شاعر عصره وكاتبه ، نسب إلى بوست (قرب سجستان) وقد ولى كتابة ديوانها ، ثم انتقل إلى بخارى فمات فيها سنة ٤٠٠ ه‍ ، وله ديوان شعر.

(٢) يقول : إن الدهر قلب لا يدوم على حال ، فإذا سر إنسانا فى صباح يومه أساء إليه فى مسائه ، ومن سره زمن ساءته أزمان.

(٣) هو خويلد بن مرة أحد بنى هذيل ، وهو من فرسان العرب وفتاكهم ، شاعر مخضرم ، أسلم وهو شيخ كبير يوم حنين ، وكان عداء ، وخراش ابنه ، وعروة أخوه.

(٤) الصبر الجميل : هو الذى لا شكوى فيه.

(٥) أن فى البيت مخففة من الثقيلة ، وضمير الشأن محذوف ، يقول : إن المقدور آت لا محالة وإن تأخر ، وفى هذا تسلية وتسهيل للأمر.

(٦) تعز : تصبر ، يقول : تصبر يا أمير المؤمنين ، فإن الموت سبيل كل حى ، والصبى لا يولد ولا يغذى إلا استعدادا للموت.

٢٥٤

(٤)

بين مواطن الاحتراس وسبب الإتيان به فى الأمثلة الاتية :

(١) قال أبو الحسين الجزار (١) فى المديح :

ويهتزّ للجدوى إذا ما مدحته

كما اهتزّ حاشا وصفه شارب الخمر

(٢) وقال آخر :

وما بى إلى ماء سوى النّيل غلة

ولو أنه أستغفر الله زمزم

(٣) وقال عنترة :

يخبرك من شهد الوقيعة أنّنى

أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم (٢)

(٤) وقال كعب بن سعيد الغنوى

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم فى عين الرّجال مهيب (٣)

(٥)

بيّن مواقع الإطناب والغرض منه فيما يأتى :

(١) قال تعالى : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ».

(٢) وقال أيضا : «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى».

(٣) وقال الشاعر :

والسّعى فى الرّزق والأرزاق قد قسمت

بغى ألا إنّ بغى المرء يصرعه

(٤) وقال تعالى : «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ».

__________________

(١) شاعر مصرى رقيق ، تظهر فى شعره خفة الروح المصرية ، ولد سنة ٦٠١ ه‍ ومات سنة ٦٧٢ ه‍.

(٢) الوقيعة : القتال ، والوغى فى الأصل : صوت المقاتلة فى الحرب ثم استعمل فى الحرب نفسها ، يقول : إنه يغشى الحرب شجاعة ، فإذا كانت الغنيمة كف عفة ؛ لأنه لا يقاتل لأجلها.

(٣) يقول : هو حليم فى المواطن التى يحمد فيها الحلم ، وهو مع حلمه مهيب فى أعين الرجال.

٢٥٥

(٥) وقال تعالى : «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ».

(٦) وقال تعالى : «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ».

(٧) وقال الحماسى :

أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة

ونأى حبيب؟ إنّ ذا لعظيم

وإنّ امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنّه لكريم

(٨) وقال تعالى :

«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ».

(٩) وقال إبراهيم بن المهدى فى رثاء ابنه :

وإنّى وإن قدّمت قبلى لعالم

بأنّى وإن أخّرت منك قريب

(١٠) قال تعالى : «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ».

(١١) وقال أوس بن حجر (١) :

ولست بحابئ أبدا طعاما

حذار غد لكلّ غد طعام

(١٢) وقال تعالى : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ».

(١٣) وقال تعالى : «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

(١٤) وقال تعالى : «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ».

(١٥) قال تعالى : «يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».

__________________

(١) من شعراء الجاهلية وفحولها يجيد فى شعره ما يريد ، وهو من الطبقة الثانية ، وعمر طويلا وكانت وفاته أول ظهور الإسلام.

٢٥٦

(٦)

بيّن ما تراه فى الأبيات الآتية من العيوب البلاغية :

(١) قال أبو نواس :

أقمنا بها يوما ويوما وثالثا

ويوما له يوم الترحّل خامس (١)

(٢) وقال النابغة فى وصف دار :

تبيّنت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع

(٣) وقال أبو العتاهية :

مات والله سعيد بن وهب

رحم الله سعيد بن وهب

يا أبا عثمان أبكيت عينى

يا أبا عثمان أوجعت قلبى

(٧)

تدبر الكلام الموجز الآتى ثم ضعه فى أسلوبين من إنشائك يكون فى أحدهما مساويا لمعناه ، وفى الآخر زائدا على معناه :

أمّا بعد فعظ الناس بفعلك ، واستحى من الله بقدر قربه منك ، وخفه بقدر قدرته عليك.

(٨)

لماذا كان كل مثال به فصل لكمال الاتصال ضربا من الإطناب؟ مثّل بأمثلة مختلفة ، وبيّن نوع الإطناب فى كل مثال.

(١) هات مثالين للإطناب بذكر الخاص بعد العام ، وآخرين للإطناب بذكر العام بعد الخاص ، وبيّن فائدة الزيادة التى تضمنها الكلام فى كل مثال.

(٣) هات مثالين للاعتراض ، وبيّن فائدته فى المثالين.

__________________

(١) يريد أنهم أقاموا ثمانية أيام ، عد منها ثلاثة فى الشطر الأول ، ثم أضاف إليها خمسة فى الشطر الثانى ، لأنه يقول إننا أقمنا بعد الثلاثة الأيام الأولى يوما له يوم الرحيل خامس ، أى خمسة أيام أخرى.

٢٥٧

(٣) هات أربعة أمثلة للتكرار الحسن ، وبيّن غرضك منه فى كل مثال ، واستوف أغراض التكرار التى عرفتها.

(٤) هات مثالين للتذييل الجارى مجرى المثل ، وآخرين للتذييل الذى لم يجر مجرى المثل.

(٥) هات مثالين للاحتراس.

(٩)

اشرح بيتى المتنبى فى وصف شعب بوّان (١) ، وبيّن نوع الإطناب فيهما :

ملاعب جنّة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان (٢)

طبت فرساننا والخيل حتى

خشيت وإن كرمن من الحران (٣)

أثر علم المعانى فى بلاغة الكلام

نستطيع هنا بعد الدراسة السابقة أن نلخص لك مباحث علم المعانى فى أمرين اثنين :

الأول أنه يبيّن لك وجوب مطابقة الكلام لحال السامعين والمواطن التى يقال فيها ، ويريك أن القول لا يكون بليغا كيفما كانت صورته حتى يلائم المقام الذى قيل فيه ، ويناسب حال السامع الذى ألقى عليه ، وقديما قال العرب : لكل مقام مقال.

فقد يؤكد الخبر أحيانا كما علمت ، وقد يلقى بغير توكيد ، على حسب حال السامع من جهل بمضمون الخبر أو تردد أو إنكار. ومناهضة هذا الأصل بلا داع نشوز عما رسم من قواعد البلاغة. انظر إلى قوله تعالى فى شأن رسل عيسى عليه السّلام حين بعثهم إلى أهل أنطاكية :

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ، إِذْ أَرْسَلْنا

__________________

(١) شعب بوان : موضع عند شيراز ، كثير الشجر والمياه ويعد من جنان الدنيا.

(٢) الجنة : الجن ، جعل الشعب لغرابة مناظره كأنه منزل للجن ، ويقول : إن لغة أهله بعيدة عن الأفهام حتى لو أتاهم سليمان مع علمه بلغات الجن لاحتاج إلى من يترجم له.

(٣) طباه : دعاه واستماله ، والحران فى الدابة : أن تقف مكانها فلا تبرح.

٢٥٨

إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ، قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ».

فإن الرسل حين أحسّوا إنكارهم فى المرة الأولى اكتفوا بتأكيد الخبر «بإنّ». فقالوا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) ، فلما تزايد إنكارهم وجحودهم قالوا : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ، فأكدوا بالقسم وإنّ واللام.

وقد تخفى هذه الدقائق على غير أهل اللغة ، روى أن الكندىّ (١) ركب إلى أبى العباس المبرّد (٢) وقال له : إنى لأجد فى كلام العرب حشوا!

فقال أبو العباس : أين وجدت ذلك؟ فقال. وجدتهم يقولون : «عبد الله قائم» ثم يقولون : «إن عبد الله قائم» ثم يقولون : «إن عبد الله لقائم» فالألفاظ مكررة والمعنى واحد ؛ فقال أبو العباس. بل المعانى مختلفة ، فالأول إخبار عن قيامه ، والثانى جواب عن سؤال ، والثالث ردّ على منكر.

كذلك يوجب علم المعانى أن يخاطب كل إنسان على قدر استعداده فى الفهم ونصيبه من اللغة والأدب فلا يجيز أن يخاطب العامىّ بما يخاطب به الأديب الملمّ بلغة العرب وأسرارها.

قال بعضهم لبشار بن برد : إنك لتجىء بالشىء الهجين المتفاوت ؛ قال : وما ذاك؟ قال : بينما تثير النقع وتخلع القلوب بقولك :

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدّما

إذا ما أعرنا سيّدا من قبيلة

ذرا منبر صلّى علينا وسلّما

__________________

(١) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق فيلسوف العرب كان معاصرا للمأمون والمعتصم والمتوكل ، وله عندهم منزلة سامية ، برع فى الطب والفلسفة والحساب والمنطق والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم ، نبغ وليس فى المسلمين فيلسوف غيره ، وحذا فى تأليفه حذو أرسطو.

(٢) هو شيخ أهل النحو والعربية ، وله التآليف النافعة فى الأدب ، وكان حسن المحاضرة مليح الأخبار كثير النوادر ، وتوفى سنة ٢٨٥ ه‍.

٢٥٩

نراك تقول :

ربابة ربّة البيت

تصبّ الخلّ فى الزّيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصّوت

فقال بشار : لكلّ وجه وموضع ؛ فالقول الأول جدّ ، والثانى قلته فى ربابة جاريتى ، وأنا لا آكل البيض من السوق ، وربابة لها عشر دجاجات وديك فهى تجمع لى البيض ، فهذا القول عندها أحسن من «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» عندك!

وكثيرا ما تجد الشّاعر يسهل أحيانا ويلين حتى يشبه شعره لغة الخطاب ، ويخشن آونة ويصلب حتى كأنه يقذفك بالجلمد. كل ذلك على حسب موضوعه الذى يقول فيه والطبقة التى ينشدها شعره. ومن خير الأمثلة لهذا النوع أبو نواس ، فإنه فى خمرياته غيره فى مدائحه ووصفه.

واعتبر هذا الأصل بما كان من النبى صلّى الله عليه وسلّم ، فإنه لما أراد أن يكتب إلى ملك فارس اختار أسهل الألفاظ وأوضحها فقال :

«من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وأدعوك بدعاية الله ، فإنى أنا رسول الله إلى الخلق كافّة لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإثم المجوس عليك».

وحين أراد أن يكتب إلى أكيدر صاحب دومة الجندل فخّم الألفاظ. وأتى بالجزل النادر فقال :

«من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام ، إن لنا الضّاحية (١) من البعل (٢) والبور (٣) والمعامى (٤) وأغفال الأرض (٥) والحلقة (٦) والسلاح ، ولكم الضّامنة من النّخل (٧) والمعين (٨) من

__________________

(١) الضاحية (من النخل) : النخلة الظاهرة البارزة الخارجة عن أسوار المدينة والعمران.

(٢) البعل : النخل الراسخة عروقه فى الأرض.

(٣) البور : الأرض الخراب التى لم تزرع.

(٤) المعامى : جمع معمى وهى الأراضى المجهولة.

(٥) أغفال الأرض : الأراضى التى لا أثر للعمارة فيها.

(٦) الحلقة بسكون اللام : السلاح عاما.

(٧) الضامنة من النخل : ما كان فيها داخلا فى العمارة وأطاف بها سور المدينة.

(٨) المعين : الماء الجارى على وجه الأرض وقيل الماء العذب الكثير.

٢٦٠