البلاغة الواضحة

علي الحازم ومصطفى أمين

البلاغة الواضحة

المؤلف:

علي الحازم ومصطفى أمين


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٠٦

(٢) قال المتنبى :

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصّبىّ ويهرم (١)

(٣) قال الشريف الرّضىّ يخاطب الشيب :

أيها الصّبح زل ذميما فما أظ

لم يومى من ذاك الظلام

(٤) وقال النابغة الذبيانى :

فبتّ كأنّى ساورتنى ضئيلة

من الرّقش فى أنيابها السّمّ ناقع (٢)

(٥) وكم علّمته نظم القوافى

فلمّا قال قافية هجانى

(٦) «وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً».

(٧) نشر الليل ذوائبه.

(٨) «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ».

(٩) فلا فضيلة إلّا أنت لابسها

ولا رعيّة إلّا أنت راعيها

(١٠) «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا».

(١١) «يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ».

(٤)

اشرح الأبيات الآتية وبيّن ما فيها من مجاز عقلىّ :

صحب النّاس قبلنا ذا الزّمانا

وعناهم من أمره ما عنانا (٣)

وتولّوا بغصّة كلّهم من

ه وإن سرّ بعضهم أحيانا

ربّما تحسن الصنيع ليالي

ه ولكن تكدّر الإحسانا

__________________

(١) يخترم : يهلك ، والناصية : شعر مقدم الرأس ، يقول : إن الهم إذ استولى على الجسم هزله حتى يهلك ، وقد يشيب به الصبى ويصير كالهرم من الضعف.

(٢) ساورتنى : واثبتنى ، والضئيلة : الحية الدقيقة النحيفة ، والرقش : جمع رقشاء وهى الحية فيها نقط سوداء وبيضاء ، والسم الناقع : المنقوع ، وإذا نقع السم كان شديد التأثير.

(٣) عناهم : أهمهم وشغلهم.

١٢١

وكأنّا لم يرض فينا بريب ال

دّهر حتى أعانه من أعانا (١)

كلما أنبت الرمان قناة

ركّب المرء فى القناة سنانا (٢)

بلاغة المجاز المرسل والمجاز العقلىّ

إذا تأملت أنواع المجاز المرسل والعقلىّ رأيت أنها فى الغالب تؤدى المعنى المقصود بإيجاز ، فإذا قلت : «هزم القائد الجيش» أو «قرّر المجلس كذا» كان ذلك أوجز من أن تقول : «هزم جنود القائد الجيش» ، أو «قرر أهل المجلس كذا» ، ولا شك أن الإيجاز ضرب من ضروب البلاغة.

وهناك مظهر آخر للبلاغة فى هذين المجازين هو المهارة فى تخير العلاقة بين المعنى الأصلى والمعنى المجازىّ ، بحيث يكون المجاز مصوّرا للمعنى المقصود خير تصوير كما فى إطلاق العين على الجاسوس ، والأذن على سريع التأثر بالوشاية ، والخف والحافر على الجمال والخيل فى المجاز المرسل ، وكما فى إسناد الشىء إلى سببه أو مكانه أو زمانه فى المجاز العقلىّ فإن البلاغة توجب أن يختار السبب القوىّ والمكان والزمان المختصان.

وإذا دققت النظر رأيت أن أغلب ضروب المجاز المرسل والعقلىّ لا تخلو من مبالغة بديعة ذات أثر فى جعل المجاز رائعا خلّابا ، فإطلاق الكل على الجزء مبالغة ومثله إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما إذا قلت : «فلان فم» تريد أنه شره يلتقم كلّ شىء. أو «فلان أنف» عند ما تريد أن تصفه بعظم الأنف فتبالغ فتجعله كلّه أنفا. ومما يؤثر عن بعض الأدباء فى وصف رجل أنافىّ (٣) قوله : «لست أدرى أهو فى أنفه أم أنفه فيه».

__________________

(١) من : فاعل يرض أو أعانه على التنازع ، يقول : كأن الذى يعين الدهر على نكاية أهله لم يرض بما تجر حوادث الدهر من البلاء ، فزاد عليها بلاء العداوة والشر.

(٢) القناة : عود الرمح ، والسنان : نصله.

(٣) الأنافى : عظيم الأنف.

١٢٢

الكناية

الأمثلة :

(١) تقول العرب : فلانة بعيدة مهوى القرط.

(٢) قالت الخنساء (١) فى أخيها صخر :

طويل النّجاد رفيع العماد

كثير الرّماد إذا ما شتا (٢)

* * *

(٣) وقال آخر فى فضل دار العلوم فى إحياء لغه العرب :

وجدت فيك بنت عدنان دارا

ذكّرتها بداوة الأعراب

 (٤) وقال آخر :

الضّاربين بكلّ أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (٣)

* * *

(٥) المجد بين ثوبيك. والكرم ملء برديك.

البحث :

مهوى القرط المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف. وإذا كانت هذه المسافة بعيدة لزم أن يكون العنق طويلا ، فكأن العربىّ بدل أن يقول : «إن هذه المرأة طويلة الجيد» نفحنا بتعبير جديد يفيد اتصافها بهذه الصّفة.

وفى المثال الثانى تصف الخنساء أخاها بأنه طويل النجاد ، رفيع العماد ، كثير الرماد. تريد أن تدل بهذه التراكيب على أنه شجاع ،

__________________

(١) هى تماضر بنت عمر لها منزلة رفيعة فى الشعر وقد اشتهرت برثاء أخيها صخر ، أسلمت مع قومها وماتت سنة ٥٤ ه‍.

(٢) شتا بالمكان ، أقام به شتاء.

(٣) الضاربين منصوب بأمدح محذوفا ، والأبيض : السيف ، والمخذم على وزن المبرد : السيف السريع القطع ، والأضغان ، جمع ضغن وهو الحقد.

١٢٣

عظيم فى قومه ، جواد ، فعدلت عن التصريح بهذه الصفات إلى الإشارة إليها والكناية عنها ، لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه ، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة ، ثم إنه يلزم من كونه رفيع العماد أن يكون عظيم المكانة فى قومه وعشيرته ، كما أنه يلزم من كثرة الرّماد كثرة حرق الحطب ، ثم كثرة الطبخ ، ثم كثرة الضيوف ، ثم الكرم ، ولما كان كل تركيب من التراكيب السابقة ، وهى بعيدة مهوى القرط ، وطويل النجاد ، ورفيع العماد ، وكثير الرماد ، كنى به عن صفة لازمة لمعناه ، كان كل تركيب من هذه وما يشبهه كناية عن صفة.

وفى المثال الثالث أراد الشاعر أن يقول : إن اللغة العربية وجدت فيك أيتها المدرسة مكانا يذكرها بعهد بدواتها. فعدل عن التصريح باسم اللغة العربية إلى تركيب يشير إليها ويعدّ كناية عنها وهو «بنت عدنان».

وفى المثال الرابع أراد الشاعر وصف ممدوحيه بأنهم يطعنون القلوب وقت الحرب فانصرف عن التعبير بالقلوب إلى ما هو أملح وأوقع فى النفس وهو «مجامع الأضغان» ؛ لأن القلوب تفهم منه إذ هى مجتمع الحقد والبغض والحسد وغيرها.

وإذا تأملت هذين التركيبين وهما : «بنت عدنان» و «مجامع الأضغان» رأيت أن كلّا منهما كنى به عن ذات لازمة لمعناه ، لذلك كان كل منهما كناية عن موصوف وكذلك كل تركيب يماثلهما.

أما فى المثال الأخير فإنك أردت أن تنسب المجد والكرم إلى من تخاطبه ، فعدلت عن نسبتهما إليه مباشرة ونسبتهما إلى ما له اتصال به ، وهو الثوبان والبردان ، ويسمى هذا المثال وما يشبهه كناية عن نسبة. وأظهر علامة لهذه الكناية أن يصرح فيها بالصفة كما رأيت ، أو بما يستلزم الصفة ، نحو : فى ثوبيه أسد ، فإن هذا المثال كناية عن نسبة الشجاعة.

وإذا رجعت إلى أمثلة الكناية السابقة رأيت أن منها ما يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقى الذى يفهم من صريح اللفظ ، ومنها ما لا يجوز فيه ذلك.

١٢٤

القواعد :

(٢٦) الكناية لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى.

(٢٧) تنقسم الكناية باعتبار المكنىّ عنه ثلاثة أقسام ، فإنّ المكنىّ عنه قد يكون صفة ، وقد يكون موصوفا ، وقد يكون نسبة (١).

نموذج

(١) قال المتنبى فى وقيعة سيف الدولة ببنى كلاب :

فمسّاهم وبسطهم حرير

وصبحهم وبسطهم تراب (٢)

ومن فى كفّه منهم قناة

كمن فى كفّه منهم خضاب

(٢) وقال فى مدح كافور :

إن فى ثوبك الذى المجد فيه

لضياء يزرى بكلّ ضياء (٣)

الإجابة

(١) كنّى بكون بسطهم حريرا عن سيادتهم وعزتهم. وبكون بسطهم ترابا عن حاجتهم وذلهم ، فالكناية فى التركيبين عن صفة.

(٢) وكنى بمن يحمل قناة عن الرجل ، وبمن فى كفه خضاب عن المرأة

__________________

(١) إذا كثرت الوسائط فى الكناية نحو : كثير الرماد ، سميت تلويحا ، وإن قلت وخفيت نحو : فلان من المستريحين ، كناية عن الجهل والبلاهة ، سميت رمزا ، وإن قلت الوسائط ، ووضحت أو لم تكن سميت إيماء وإشارة. نحو : الفضل يسير حيث سار فلان ، كناية عن نسبة الفضل إليه. ومن الكناية نوع يسمى التعريض ، وهو أن يطلق الكلام ويشار به إلى معنى آخر يفهم من السياق ، كأن تقول لشخص يضر الناس : «خير الناس أنفعهم للناس» وكقول المتنبى يعرض بسيف الدولة وهو بمدح كافورا :

إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى

فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا

(٢) القناة : عود الرمح.

(٣) أزوى به : استهان ، يقول : إن فى ثوبك لضيما من المجد يفوق كل صياء بقوة إشراقه.

١٢٥

وقال : إنهما سواء فى الضعف أمام سطوة سيف الدولة وبطشه ، فكلتا الكنايتين كناية عن موصوف.

(٣) أراد أن يثبت المجد لكافور فترك التصريح بهذا وأثبته لما له تعلق بكافور وهو الثوب ، فالكناية عن نسبة.

تمرينات

(١)

بيّن الصفة التى تلزم من كل كناية من الكنايات الآتية :

(١) نئوم الضّحا. (٢) ألقى فلان عصاه.

(٣) ناعمة الكفين. (٤) قرع فلان سنّه.

(٥) يشار إليه بالبنا. (٦) «فأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهى خاوية»

(٧) ركب جناحى نعاما (٨) لوت الليالى كفه على العصا.

(٩) قال المتنبى فى وصف فرسه :

وأصرع أى الوحش قفّيته به

وأنزل عنه مثله حين أركب (١)

(١٠) فلان لا يضع العصا عن عاتقه.

(٢)

بيّن الموصوف المقصود فى كل كناية من الكنايات الآتية :

 قوم ترى أرماحهم يوم الوغى

مشغوفة بمواطن الكتمان

(٢) وقال تعالى : (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (٢).

__________________

(١) أصرع : أقتل ، وقفيته : أتبعته ، ومثله حال من الضمير فى عنه يقول : إذا اتبعت بهذا الفرس وحشا أدركته وصرعته ، وأنزل عنه بعد الصيد وهو باق على نشاطه مثلما كان غند الركوب.

(٢) ينشأ فى الحلية : يربى فى الزينة ، والخصام : الجدال ، وغير مبين : غير قادر على الإبانة عما فى ضميره ، ومعنى الآية : أو جعلوا لله البنات وهن اللائى يتربين فى الزينة ، ولا يقدرن على الإبانة حين الخصام والجدال.

١٢٦

(٣) كان المنصور (١) فى بستان فى أيام محاربته إبراهيم بن عبد الله بن الحسن (٢) ونظر إلى شجرة خلاف (٣) ، فقال للربيع (٤). ما هذه الشجرة؟ فقال. طاعة يا أمير المؤمنين!

(٤) مرّ رجل فى صحن دار الرشيد ومعه حزمة خيزران. فقال الرشيد للفضل بن الربيع (٥) : ما ذاك؟ فقال عروق الرماح يا أمير المؤمنين ، وكره أن يقول. خيزران ؛ لموافقة ذلك لاسم أمّ الرشيد.

(٥) قال أبو نواس (٦) فى الخمر :

ولمّا شربناها ودبّ دبيبها

إلى موطن الأسرار قلت لها قفى

(٦) وقال المعرى فى السيف :

سليل النّار دق ورقّ حتّى

كأنّ أباه أورثه السّلالا (٧)

(٧) كبرت سنّ فلان وجاءه النذير.

(٨) سئل أعرابى عن سبب اشتعال شيبه ، فقال. هذا رغوة الشباب.

(٩) وسئل آخر ، فقال : هذا غبار وقائع الدهر.

__________________

(١) هو ثانى خلفاء بنى العباس وبانى مدينة بغداد ، كان عارفا بالفقه والأدب مقدما فى الفلسفة والفلك محبا للعلماء ، بعيدا عن اللهو والعبث كثير الحد والتفكير ، توفى بمكة حاجا سنة ١٥٨ ه‍.

(٢) إبراهيم بن عبد الله بن الحسن هو حفيد على بن أبى طالب ، وأحد الأمراء الأشراف الشجعان ، خرج على المنصور العباسى فاستولى على البصرة ، ثم كان بينه وبين جيوش المنصور وقائع هائلة ، وقتل سنة ١٤٥ ه‍.

(٣) شجر الخلاف : صنف من الصفصاف.

(٤) هو الربيع بن يونس ، وكان جليلا نبيلا فصيحا خبيرا بالحساب والأعمال حاذقا بأمور الملك بصيرا بما يأتى ويذر.

(٥) الفضل بن الربيع أديب حازم من كبار خصوم البرامكة ولى الوزارة بعد أن قضى الرشيد عليهم ، ثم توزر للأمين بن الرشيد ، ولما ظفر المأمون واستقام له الملك أبعده وأهمله حتى توفى سنة ٢٠٨ ه‍.

(٦) هو أبو على الحسن بن هانى الشاعر المشهور ، كان من أجود الناس بديهة وأرقهم حاشية ، قال فيه الجاحظ : لا أعرف بعد بشار مولدا أشعر من أبى نواس ، ولد سنة ١٤١ ه‍ وتوفى سنة ١٩٥ ه‍.

(٧) السليل : الولد ، والسلال : السل ، وهو داء معروف يضى الأجسام وينحفها ، يقول : إن السيف الذى هو وليد النار قد رق جسمه حتى إنه ليشبه ولدا مسلولا قد ورث السل عن أبيه.

١٢٧

(١٠) يروى أن الحجّاج قال للغضبان بن القبعثرى : لأحملنّك على الأدهم (١) ، فقال : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ؛ قال. إنه الحديد ؛ قال. لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا.

(٣)

بين النسبة التى تلزم كل كناية من الكنايات الآتية :

إن السماحة والمروءة والنّدى

فى قبة ضربت على ابن الحشرج (٢)

(٢) قال أعرابى : دخلت البصرة فإذا ثياب أحرار على أجساد عبيد.

(٣) وقال الشاعر :

اليمن يتبع ظلّه

والمجد يمشى فى ركابه (٣)

(٤)

بيّن أنواع الكنايات الآتية وعين لازم معنى كل منها :

(١) مدح أعرابى خطيبا فقال : كان بليل الرّيق قليل الحركات (٤).

(٢) وقال يزيد بن الحكم (٥) فى مدح المهلب (٦).

أصبح فى قيدك السماحة والمج

د وفضل الصلاح والحسب

(٣) وتقول العرب : فلان رحب (٧) الذراع ، نقىّ الثوب ، طاهر الإزار ؛ سليم دواعى الصدر (٨).

__________________

(١) يريد الحجاج بالأدهم القيد ، وبالحديد المعدن المعروف ، وقد حمل القبعثرى الأدهم على الفرس الأدهم وهو الأسود ، وحمل الحديد على الفرس الذى ليس بليدا.

(٢) ابن الحشرج : اسمه عبد الله ، وكان سيدا من سادات قيس وأميرا من أمرائها ، ولى كثيرا من أعمال خراسان ومن أعمال فارس وكرمان ، وكان جوادا كثير العطاء.

(٣) اليمن : البركة ، والركاب : الإبل التى يسار عليها.

(٤) يقول : إنه رطب اللسان ، تخرج كلماته من فيه بسهولة ، ولا يستعين فى إظهار مراده بإشارة أو حركة.

(٥) شاعر مشهور من شعراء العصر الأموى ، ولاه الحجاج كورة فارس ثم عزله قبل أن يصل إليها ، وكان أبى النفس شريفا ، وطبقته فى الشعر عالية ، توفى سنة ٩٠ ه‍.

(٦) هو المهلب بن أبى صفرة أمير فاتك جواد ، تولى خراسان من قبل عبد الملك بن مروان ، وقد توفى بها سنة ٨٣ ه‍.

(٧) الرحب : الواسع.

(٨) دواعى الصدر : همومه ، وسليم دواعى الصدر من سلم صدره من أسباب الشر.

١٢٨

(٤) وقال البحترى يصف قتله ذئبا :

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللّب والرّعب والحقد (١)

(٥) وقال آخر فى رثاء من مات بعلّة فى صدره :

ودبّت فى موطن الحلم علّة

لها كالصّلال الرّقش شرّ دبيب (٢)

(٦) ووصف أعرابى امرأة فقال : ترخى ذيلها على عرقوبى نعامة.

(٥)

بيّن نوع الكنايات الآتية ، وبيّن منها ما يصح فيه إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ وما لا يصحّ :

(١) وصف أعرابى رجلا بسوء العشرة فقال :

كان إذا رآنى قرّب من حاجب حاجبا.

(٢) وقال أبو نواس فى المديح :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

(٣) وتكنى العرب عمن يجاهر غيره بالعداوة بقولهم :

لبس له جلد النّمر ، وجلد الأرقم (٣) ، وقلب له ظهر المجنّ (٤).

(٤) فلان عريض الوساد (٥) ، أغمّ القفا (٦).

__________________

(١) ضمير أتبعتها يعود على الطعنة ، وأضللت : أخفيت ، والنصل : حديدة السيف ، واللب : العقل ، والرعب : الفزع والخوف.

(٢) الصلال جمع صل بالكسر : ضرب من الحيات صغير أسود لا نجاة من لدغته ، والرقش جمع رقشاء وهى التى فيها نقط سوداء فى بياض والحية الرقشاء من أشد الحيات إيذاء.

(٣) الأرقم : الحية فيها سواد وبياض.

(٤) المجن : الترس ؛ قلب له ظهر المجن مثل يضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد.

(٥) عريض الوساد : أى طويل العنق إلى درجة الإفراط ، وهذا مما يستدل به على البلاهة وقلة العقل.

(٦) الغمم : غزارة الشعر حتى تضيق منه الجبهة أو القفا ، وكان يزعم العرب أن ذلك دليل على الغباوة.

١٢٩

(٥) قال الشاعر :

تجول خلاخيل النّساء ولا أرى

لرملة خلخالا يجول ولا قلبا (١)

(٦) وتقول العرب فى المديح : الكرم فى أثناء حلّته ، ويقولون فلان نفخ شدقيه ، أى تكبر ، وورم أنفه إذا غضب.

(٧) قالت أعرابية لبعض الولاة : أشكو إليك قلّة الجرذان (٢).

(٨) وقال الشاعر :

بيض المطابخ لا تشكو إماؤهم

طبخ القدور ولا غسل المناديل

(٩) وقال آخر :

مطبخ داود فى نظافته

أشبه شىء بعرش بلقيس (٣)

ثياب طبّاخه إذ اتّسخت

أنقى بياضا من القراطيس

(١٠) وقال آخر :

فتى مختصر المأكو

ل والمشروب والعطر

نقىّ الكأس والقصع

ة والمنديل والقدر

(٦)

اشرح البيت الآتى وبيّن نوع الكناية التى به :

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا تقطر الدّما (٤)

__________________

(١) رملة : اسم امرأة ، والقلب بالضم : السوار.

(٢) الجرذان : جمع جرذ وهو ضرب من الفأر.

(٣) بلقيس بكسر الباء. ملكة سبأ ، وسبأ : عاصمة قديمة لبلاد اليمن.

(٤) الأعقاب : جمع عقب وهو مؤخر القدم ، والكلوم : الجراح ، يقول : نحن لا نولى فنجرح فى ظهورنا فتقطر دماء كلومنا على أعقابنا ، ولكنا نستقبل السيوف يوجوهنا فإن جرحنا قطرت الدماء على أقدامنا.

١٣٠

بلاغة الكناية

الكناية مظهر من مظاهر البلاغة ، وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه وصفت قريحته ، والسّرّ فى بلاغتها أنها فى صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها ، والقضية وفى طيّها برهانها ، كقول البحترى فى المديح :

يغضّون فضل اللّحظ من حيث ما بدا

لهم عن مهيب فى الصّدور محبّب

فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح وهيبتهم إيّاه بغضّ الأبصار الذى هو فى الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال ، وتظهر هذه الخاصة جلية فى الكنايات عن الصفة والنسبة.

ومن أسباب بلاغة الكناية أنها تضع لك المعانى فى صور المحسّات ، ولا شك أنّ هذه خاصة الفنون فإن المصوّر إذا رسم لك صورة للأمل أو اليأس بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحا ملموسا.

فمثل «كثير الرّماد» فى الكناية عن الكرم و «رسول الشرّ» فى الكناية عن المزاح وقول البحترى :

أوما رأيت المجد ألقى رحله

فى آل طلحة ثم لم يتحوّل

فى الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة ، كلّ أولئك يبرز لك المعانى فى صورة تشاهدها وترتاح نفسك إليها.

ومن خواص الكناية أنها تمكّنك من أن تشفى غلتك من خصمك من غير أن تجعل له سبيلا ؛ ودون أن تخدش وجه الأدب ، وهذا النوع يسمى بالتعريض ، ومثاله قول المتنبى فى قصيدة يمدح بها كافورا ويعرّض بسيف الدولة :

رحلت فكم باك بأجفان شادن

علىّ وكم باك بأجفان ضيغم (١)

__________________

(١) الشادن : ولد الغزال ، والضيغم : الأسد ، أراد بالباكى بأجفان الشادن المرأة الحسناء ، وبالباكى بأجفان الضيغم ، الرجل الشجاع ، يقول كم من نساء ورجال بكوا على فراقى وجزعوا لارتحالى.

١٣١

وما ربة القرط المليح مكانه

بأجزع من ربّ الحسام المصمّم (١)

فلو كان ما بى من حبيب مقنّع

عذرت ولكن من حبيب معمّم

رمى واتقى رميى ومن دون ما اتّقى

هوى كاسر كفّى وقوسى وأسهمى

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم

فإنه كنى عن سيف الدولة أولا بالحبيب المعمّم ، ثم وصفه بالغدر الذى يدّعى أنه من شيمة النساء ، ثم لامه على مبادهته بالعدوان ، ثم رماه بالجبن لأنه يرمى ويتقى الرمى بالاستتار خلف غيره ، على أن المتنبى لا يجازيه على الشرّ بمثله لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديما يكسر كفه وقوسه وأسهمه إذا حاول النضال ، ثم وصفه بأنه سيى الظن بأصدقائه لأنه سيئ الفعل كثير الأوهام والظنون حتى ليظن أن الناس جميعا مثله فى سوء الفعل وضعف الوفاء. فانظر كيف نال المتنبى من سيف الدولة هذا النيل كله من غير أن يذكر من اسمه حرفا.

هذا ، ومن أوضح ميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه. وأمثلة ذلك كثيرة جدّا فى القرآن الكريم وكلام العرب ، فقد كانوا لا يعبّرون عما لا يحسن ذكره إلّا بالكناية ، وكانوا لشدّة نخوتهم يكنون عن المرأة بالبيضة والشاة.

ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السّلام (٢)

فإنه كنّى بالنخلة عن المرأة التى يحبها.

ولعلّ هذا المقدار كاف فى بيان خصائص الكناية وإظهار ما تضمنته من بلاغة وجمال.

__________________

(١) القرط : ما يعلق فى شحمة الأذن ، والحسام : السيف القاطع ، والمصمم : الذى يصيب المفاصل ويقطعها ، يقول : لم تكن المرأة الحسناء بأجزع على فراقى من الرجل الشجاع.

(٢) ذات عرق : موضع بالبادية وهو مكان احرام أهل العراق.

١٣٢

أثر علم البيان فى تأدية المعانى

ظهر لك من دراسة علم البيان أنّ معنى واحدا يستطاع أداؤه بأساليب عدّة وطرائق مختلفة ، وأنّه قد يوضع فى صورة رائعة من صور التشبيه ، أو الاستعارة ، أو المجاز المرسل ، أو العقلى ، أو الكناية.

فقد يصف الشاعر إنسانا بالكرم فيقول :

يريد الملوك مدى جعفر

ولا يصنعون كما يصنع

وليس بأوسعهم فى الغنى

ولكنّ معروفه أوسع

وهذا كلام بليغ جدّا مع أنه لم يقصد فيه إلى شبيه أو مجاز ، وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم وأن الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته ، ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل ، مع أنه ليس بأغنى منهم ولا بأكثر مالا.

وقد يعمد الشاعر عند الوصف بالكرم إلى أسلوب آخر فيقول :

كالبحر يقذف للقريب جواهرا

جودا ويبعث للبعيد سحائبا

فيشبّه الممدوح بالبحر ، ويدفع بخيالك إلى أن يضاهى بين الممدوح والبحر الذى يقذف الدرر للقريب ويرسل السحائب للبعيد.

أو يقول :

هو البحر من أىّ النواحى أتيته

فلجّته المعروف والجود ساحله

فيدعى أنه البحر نفسه وينكر التشبيه نكرانا يدل على المبالغة وادعاء المماثلة الكاملة

أو يقول :

علا فما يستقرّ المال فى يده

وكيف تمسك ماء قنّة الجبل

فيرسل إليك التشبيه من طريق خفىّ ليرتفع الكلام إلى مرتبة أعلى فى البلاغة ، وليجعل لك من التشبيه الضمنىّ دليلا على دعواه ، فإنه ادعى

١٣٣

أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه ، وأقام على ذلك برهانا فقال : «وكيف تمسك ماء قنّة الجبل؟»

أو يقول :

جرى النهر حتى خلته منك أنعما

تساق بلا ضنّ وتعطى بلا منّ (١)

فيقلب التشبيه زيادة فى المبالغة وافتنانا فى أساليب الإجادة ، ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان المألوف أن تشبّه النعم بالنهر الفياض.

أو يقول :

كأنه حين يعطى المال مبتسما

صوب الغمامة تهمى وهى تأتلق (٢)

فيعمد إلى التشبيه المركب ، ويعطيك صورة رائعة تمثّل لك حالة الممدوح وهو يجود ، وابتسامة السرور تعلو شفتيه.

أو يقول :

جادت يد الفتح والأنواء باخلة

وذاب نائله والغيث قد جمدا

فيضاهى بين جود الممدوح والمطر. ويدّعى أن كرم ممدوحه لا ينقطع إذا انقطعت الأنواء أو جمد القطر.

أو يقول :

قد قلت للغيم الرّكام ولجّ فى

إبراقه وألحّ فى إرعاده (٣)

لا تعرضنّ لجعفر متشبّها

بندى يديه فلست من أنداده

فيصرح لك فى جلاء وفى غير خشية بتفضيل جود صاحبه على جود الغيم ، ولا يكتفى بهذا بل تراه ينهى السحاب فى صورة تهديد أن يحاول التشبّه بممدوحه لأنه ليس من أمثاله ونظرائه.

أو يقول :

وأقبل يمشى فى البساط فما درى

إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقى

__________________

(١) الضن : البخل ، والمن : الامتنان بتعداد الصنائع.

(٢) تهمى : تسيل ، وتألق : تلمع.

(٣) الغيم الركام : المتراكم ، ولج وألح : كلاهما بمعنى استمر.

١٣٤

يصف حال رسول الروم داخلا على سيف الدولة فينزع فى وصف الممدوح بالكرم إلى الاستعارة التصريحية ، والاستعارة كما علمت مبنية على تناسى التشبيه والمبالغة فيها أعظم وأثرها فى النفوس أبلغ.

أو يقول :

دعوت نداه دعوة فأجابنى

وعلّمنى إحسانه كيف آمله

فيشبّه ندى ممدوحه وإحسانه بإنسان ، ثم يحذف المشبه به ويرمز إليه بشىء من لوازمه ، وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التى تساق الاستعارة لأجلها.

أو يقول :

«ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا»

فيرسل العبارة كأنها مثل ، ويصوّر لك أن من قصد ممدوحه استغنى عمن هو دونه ، كما أن قاصد البحر لا يأبه للجداول فيعطيك استعارة تمثيلية لها روعة وفيها جمال ، وهى فوق ذلك تحمل برهانا على صدق دعواه وتؤيد الحال التى يدعيها.

أو يقول :

ما زلت تتبع ما تولى يدا بيد

حتّى ظننت حياتى من أياديكا

فيعدل عن التشبيه والاستعارة إلى المجاز المرسل ، ويطلق كلمة «يد» ويريد بها النعمة لأن اليد آلة النعم وسببها.

أو يقول :

أعاد يومك أيّامى لنضرتها

واقتص جودك من فقرى وإعسارى

فيسند الفعل إلى اليوم وإلى الجود على طريقة المجاز العقلى.

أو يقول :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

فيأتى بكناية عن نسبة الكرم إليه بادعاء أن الجود يسير معه دائما ،

١٣٥

لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم ادعى أن الكرم يسير معه أينما سار. ولهذه الكناية من البلاغة والتأثير فى النفس وحسن تصوير المعنى ، فوق ما يجده السامع فى غيرها من بعض ضروب الكلام.

فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوبا ، كلّ له جماله وحسنه وبراعته ، ولو نشاء لأتينا بأساليب كثيرة أخرى فى هذا المعنى ، فإن للشعراء ورجال الأدب افتنانا وتوليدا للأساليب والمعانى لا يكاد ينته إلى حد ، ولو أردنا لأوردنا لك ما يقال من الأساليب المختلفة المناحى فى صفات أخرى كالشجاعة والإباء والحزم وغيرها ، ولكنا لم نقصد إلى الإطالة ، ونعتقد أنك عند قراءتك الشعر العربىّ والآثار الأدبية ستجد بنفسك هذا ظاهرا ، وستدهش للمدى البعيد الذى وصل إليه العقل الإنسانى فى التصوير البلاغىّ والإبداع فى صوغ الأساليب.

هذه الأساليب المختلفة التى يؤدّى بها المعنى الواحد هى موضع بحث علم البيان ، ولا أظنك تفهم أن القدرة على صوغ هذه الأساليب البديعة موقوفة على علم البيان ؛ لأن الافتنان فى التعبير لا يتوقف على درس قواعد البلاغة ، وإنما يصبح المرء كاتبا مجيدا ، أو شاعرا مبدعا أو خطيبا موثرا ، بكثرة القراءة فى كتب الأدب وحفظ آثار العرب ، وبنقد الشعر وتفهمه ، ودراسة النثر الفنى وتذوق أسراره ؛ بهذا ترسخ فيه ملكة تدفعه دفعا إلى الإحسان والإجادة ، ولا بد أن يعاضد هذه الملكة طبع سليم وفطرة حساسة تكون معينة لهذه الملكة وظهيرة لها.

ولكنّا بعد كل هذا لا نستطيع أن نجحد فائدة علم البيان والإلمام بقوانينه ، فإنه بما يفصّل من الفروق بين الأساليب ميزان صحيح لتعرّف أنواعها ، ودراسة أدبية للفحص عن كل أسلوب وتبيّن سر البلاغة فيه.

١٣٦

علم المعانى

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء

الأمثلة :

(١) قال أبو إسحاق الغزّىّ (١) :

لو لا أبو الطّيّب الكندىّ ما امتلأت

مسامع النّاس من مدح ابن حمدان

(٢) وقال أبو الطّيّب :

لا أشرئبّ إلى ما لم يفت طمعا

ولا أبيت على ما فات حسرانا (٢)

(٣) وقال أبو العتاهية :

إنّ البخيل وإن أفاد غنى

لترى عليه مخايل الفقر (٣)

* * *

(٤) وقال بعض الحكماء لابنه :

يا بنىّ تعلّم حسن الاستماع

كما تتعلّم حسن الحديث.

__________________

(١) شاعر مجيد ، أتى فى قصائده الطوال بكل بديع ، ولد بغزة ، وهى بلدة بالشام وتوفى سنة ٥٢٤ ه‍.

(٢) اشرأب إلى الشىء : تطلع إليه.

(٣) أفاد غنى بمعنى استفاده ، والمخايل : العلامات ، يقول : إن البخيل تظهر عليه دائما أمارات الفقر وعلاماته ، وإن كان غنيا كثير المال.

١٣٧

(٥) وأوصى عبد الله بن عبّاس (١) رجلا فقال :

لا تتكلّم بما لا يعنيك ، ودع الكلام فى كثير ممّا يعنيك حتّى تجد له موضعا.

(٦) وقال أبو الطيب :

لا تلق دهرك إلّا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن (٢)

البحث :

يخبرنا أبو إسحاق الغزّىّ بأن أبا الطيب المتنبى هو الذى نشر فضائل سيف الدولة بن حمدان وأذاعها بين الناس. ويقول : لو لا أبو الطيب ما ذاعت شهرة هذا الأمير ، ولا عرف الناس من شمائله كل الذى عرفوه ، وهذا قول يحتمل أن يكون الغزىّ صادقا فيه كما يحتمل أن يكون كاذبا ؛ فهو صادق إن كان قوله مطابقا للواقع ، كاذب إن كان قوله غير مطابق للواقع.

والمتنبى فى المثال الثانى يخبر عن نفسه بأنه قانع راض بحاله التى هو فيها ، فليس من عادته أن يتطلع مستشرفا إلى ما هو آت ، وليس من دأبه أن يندم على ما فات ، ومن المحتمل أن يكون كاذبا غير صادق.

كذلك يجوز أن يكون أبو العتاهية فى المثال الثالث صادقا فيما قال وادعى ، ويجوز أن يكون غير صادق :

انظر بعد ذلك إلى المثال الرابع تجد قائله ينادى ولده ويأمره أن يتعلم حسن الحديث ، وذلك كلام لا يصحّ أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب ؛ لأنه لا يعلمنا بحصول شىء أو عدم حصوله ، وإنما هو ينادى ويأمر.

__________________

(١) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أحد أكابر الصحابة فى العلم سمى بالحبر لسعة علمه ، ومات بالطائف سنة ٦٨ ه‍.

(٢) يقول : لا تبال الزمان وصروفه ما دمت حيا ؛ فإن الشدة والرخاء يتعاقبان فيه على الحى ، فلا يأس مع الحياة.

١٣٨

كذلك لا يصح أن يتّصف عبد الله بن عباس فى المثال الخامس ، والمتنبى فى المثال السادس بالصدق أو الكذب ، لأن كلّا منهما لا يخبر عن حصول شىء أو عدم حصوله ، ولو أنك تتبعت جميع الكلام لوجدته لا يخرج عن هذين النوعين ، ويسمّى النوع الأول خبرا والنوع الثانى إنشاء.

انظر بعد ذلك إلى الجمل فى الأمثلة السابقة أو فى غيرها تجد كل جملة مكونة من ركنين أساسيّين هما المحكوم عليه والمحكوم به ، ويسمى الأول مسندا إليه والثانى مسندا أماما عداهما فهو «قيد» فى الجملة وليس ركنا أساسيا.

القواعد :

(٢٨) الكلام قسمان : خبر وإنشاء :

(ا) فالخبر ما يصحّ أن يقال لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب ، فإن كان الكلام مطابقا للواقع كان قائله صادقا ، وإن كان غير مطابق له كان قائله كاذبا (١).

(ب) والإنشاء ما لا يصحّ أن يقال لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب.

(٢٩) لكلّ جملة من جمل الخبر والإنشاء ركنان : محكوم عليه ،

__________________

(١) الخبر إما جملة اسمية وإما جملة فعلية ، فالجملة الاسمية تفيد بأصل وضعها ثبوت شىء لشىء ليس غير ، فإذا قلت : الهواء معتدل لم يفهم من ذلك سوى ثبوت الاعتدال للهواء من غير نظر إلى حدوث أو استمرار ، وقد يكتنفها من القرائن ما يخرجها عن أصل وضعها فتفيد الدوام والاستمرار كأن يكون الكلام فى معرض المدح أو الذم ، ومن ذلك قوله تعالى : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

أما الجملة الفعلية فموضوعة لإفادة الحدوث فى زمن معين مع الاختصار ، فإذا قلت : «أمطرت السماء» لم يستفد السامع من ذلك إلا حدوث الإمطار فى الزمن الماضى ، وقد تفيد الاستمرار التجددى بالقرائن كما فى قول المتنبى :

تدبر شرق الأرض والغرب كفه

وليس لها يوما عن المجد شاغل

فإن المدح قرينة دالة على أن التدبير أمر مستمر متجدد آنا فآنا.

والجملة الاسمية لا تفيد الثبوت بأصل وضعها ولا الاستمرار بالقرائن ، إلا إذا كان خبرها مفردا أو جملة اسمية ، أما إذا كان خبرها جملة فعلية فإنها تفيد التجدد.

١٣٩

ومحكوم به ، ويسمّى الأوّل مسندا إليه ، والثانى (١) مسندا (٢) ، وما زاد على ذلك غير المضاف إليه والصّلة فهو قيد (٣).

نموذج

لبيان أنواع الجمل وتعيين المسند إليه والمسند فى كل جملة رئيسية (٤) :

(١) قال عبد الحميد الكاتب (٥) يوصى أهل صناعته بمحاسن الآداب : تنافسوا (٦) يا معاشر الكتّاب فى صنوف الآداب ، وتفهّموا فى الدّين ، وابدءوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ ثمّ العربيّة ؛ فإنّها نفاق ألسنتكم (٧) ثم أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم ، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها ، فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم.

(٢) قال أبو نواس :

الرّزق والحرمان مجراهما

بما قضى الله وما قدّرا

فاصبر إذا الدّهر نبا نبوة

فجنّة الحازم أن يصبرا (٨)

__________________

(١) مواضع المسند إليه الفاعل ونائبه والمبتدأ الذى له خبر وما أصله المبتدأ كاسم كان وأخواتها.

(٢) مواضع المسند هى الفعل التام ، والمبتدأ المكتفى بمرفوعه ، وخبر المبتدأ ، وما أصله خبر المبتدأ كخبر كان وأخواتها ، واسم الفعل ، والمصدر النائب عن فعل الأمر.

(٣) القيود هى أدوات الشرط والنفى والمفاعيل والحال والتمييز والتوابع والنواسخ.

(٤) تنقسم الجملة عند علماء المعانى إلى جملة رئيسية وجملة غير رئيسية. والأولى هى المستقلة التى لم تكن قيدا فى غيرها. والثانية ما كانت قيدا فى غيرها وليست مستقلة بنفسها.

(٥) هو أبو غالب بن يحيى بن سعد ، كان كاتبا مبدعا ، وقد برع فى إنشاء الرسائل وضرب المثل ببلاغته فى الكتابة ، حتى قال الثعالبى : فتحت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد ، وقد كتب لمروان آخر ملوك بنى أمية وقتل معه سنة ١٣٥ ه‍.

(٦) تنافسوا : تباروا.

(٧) نفاق ألسنتكم : رواج كلامكم.

(٨) نبا نبوة : أساء إساءة من قولهم نبا السيف إذا لم يعمل فى الضريبة ، وجنة الحازم : وقايته.

١٤٠