الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

الدليل وهذه الفلسفة في موضوع آخر أن نجري الحكم فيه ونعدّيه إليه أيضا ، وهذا هو ما اصطلح عليه بالقياس «المنصوص العلّة» مثلا : إذا قال الطبيب للمريض : يجب أن تتجنب تناول الفاكهة الفلانية لأنّها حامضة ، علم المريض بأنّ الحموضة تضرّه ، وأنّه يجب أن يتجنب الحموضة وإن كان في فاكهة أخرى.

وهكذا إذا صرّح القرآن الكريم أو صرّحت السنّة الشريفة بأن : تجنّبوا الخمر لأنّه مسكر ، علمنا أنّ كل مسكر حرام (وإن لم يكن خمرا) ويجب اجتنابه.

إنّ هذا القياس ليس باطلا ولا ممنوعا ، لأنّه معلوم الدليل ومنصوص العلّة مقطوع بها والقياس الممنوع هو فيما إذا لم نعلم بدليل الحكم وفلسفته بصورة القطع ومن جميع الجهات.

على أن مبحث القياس مبحث واسع الأطراف ، وما مضى من البحث ما إلّا هو عصارة منه ، ولمزيد التوضيح والاطلاع راجعوا كتب أصول الفقه وكتب الأخبار ، باب القياس ، ونحن نختم البحث الحاضر بذكر حديث في هذا المجال.

جاء في كتاب «علل الشرائع» دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق عليه‌السلام فقال له : «يا أبا حنيفة ، بلغني أنّك تقيس؟ قال : نعم ، أنا أقيس. قال : لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال : خلقتني من نار وخلقته من طين فقاس ما بين النّار والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النّار عرف فضل من بين النّورين وصفاء أحدهما على الآخر» (١).

جواب على سؤال :

بقي هنا سؤال وهو : كيف كان يتحدث الشيطان مع الله ، فهل كان ينزل عليه الوحي؟

الجواب هو : أنّ كلام الله لا يكون بالوحي دائما ، فالوحي عبارة عن رسالة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٦ ، وعلل الشرائع ، ص ٨٦.

٥٨١

النبوّة ، فلا مانع من أن يكلّم الله أحدا لا بعنوان الوحي والرسالة ، بل عن طريق الباطني أو بواسطة بعض الملائكة ، سواء كان من يحادثه الله من الصالحين الأبرار مثل مريم وأمّ موسى ، أو من غير الصالحين مثل الشيطان!

ولنعد الآن إلى تفسير بقية الآيات : حيث أن امتناع الشيطان من السجود لآدم عليه‌السلام لم يكن امتناعا بسيطا وعاديا ولم يكن معصية عادّية ، بل كان تمرّدا مقرونا بالاعتراض والإنكار للمقام الربوبي ، لأنّه قال : أنا أفضل منه ، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أن أمرك بالسجود لآدم أمر مخالف للحكمة والعدالة وموجب لتقديم «المرجوح» على «الراجح» لهذا فإنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإنكار العلم والحكمة الإلهيين ، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته ، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله ، ولهذا أخرجه الله من ذلك المقام الكريم ، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة ، فقال له : (فَاهْبِطْ مِنْها).

وقد ذهب جمع من المفسّرين في ضمير «منها» إلى إرجاعه إلى «السماء» أو «الجنّة» وذهب آخرون إلى إرجاعها إلى «المنزلة الدرجة» ، وهما لا يختلفان كثيرا من حيث النتيجة.

ثمّ إنّه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزّل بالعبارة التّالية : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها).

وأضاف للتأكيد قائلا : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) يعني إنّك بعملك وموقفك هذا لم تصبح كبيرا ، بل على العكس من ذلك أصبته بالصغار والذلة.

إنّ هذه الجملة توضح بجلاء أن شقاء الشيطان كله كان وليد تكبره ، وإن أنانيته هذه التي جعلته يري نفسه أفضل ممّا هو ، هي التي تسببت في أن لا يكتفي بعدم السجود لأدم ، بل وينكر علم الله وحكمته ، ويعترض على أمر الله ، وينتقده ، فخسر على أثر ذلك منزلته ومكانته ، ولم يحصد من موقفه إلّا الذلة

٥٨٢

والصغار بدل العظمة وهذه يعني أنّه لم يصل إلى هدفه فحسب ، بل بات على العكس من ذلك.

ونحن نقرأ في نهج البلاغة «الخطبة القاصعة» في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام عند ذمّه للتكبر والعجب ما يلي : «فاعتبروا بما فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة ... عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلا ، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض الواحد» (١).

وقد جاء أيضا عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ للمعاصي شعبا فأوّل ما عصي الله به الكبر ، وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، والحرص وهي معصية آدم وحواء ... ثمّ الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله» (٢).

وكذا نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «أصول الكفر ثلاثة : الحرص والاستكبار والحسد ، فأمّا الحرص فإن آدم حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها ، وأمّا الاستكبار فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى ، وأمّا الحسد فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه» (٣).

ولكن قصّة الشيطان لم تنته إلى هذا الحدّ ، فهو عند ما عرف بأنه صار مطرودا من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته ، وبدل أن يتوب ويثوب إلى الله ويعترف بخطئه فإنّ الشيء الوحيد الذي طلبه من الله تعالى هو أن يمهله ويؤجّل موته إلى يوم القيامة : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

ولقد استجاب الله لهذا الطلب ، ف (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ).

__________________

(١) إطلاق «الملك» على الشيطان إنما هو لأجل أنّه كان له مكان في صفوف الملائكة ، وكان رديفا لهم لا أنّه كان منهم ومن جنسهم كما قلنا سابقا.

(٢) سفينة البحار ، مادة كبر.

(٣) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢١٩ ، باب أصول الكفر.

٥٨٣

إنّ هذه الآيات وان لم تصرّح بالمقدار الذي استجيب من طلب الشيطان من حيث الزمن ، إلّا أننا نقرأ في الآية (٣) من سورة الحجر أنه تعالى قال له : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهذا يعني أن مطلب الشيطان لم يستجب له بتمامه وكماله ، بل استجيب إلى الوقت الذي يعلمه الله تعالى (وسوف نبحث عند تفسير الآية (٣) من سورة الحجر حول معنى قوله (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) إن شاء الله).

غير أنّ الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإمهال الطويل) الحصول على فرصة لجبران ما فات منه أو ليعمّر طويلا ، إنّما كان هدفه من ذلك هو إغواء بني البشر و (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي لأغوينهم كما غويت ، ولأضلنّهم كما ضللت.

إبليس أوّل القائلين بالجبر :

يستفاد من الآية الحاضرة أن الشيطان لتبرئة نفسه نسب إلى الله الجبر إذ قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) لأغوينهم.

بعض المفسّرين أصرّ على تفسير جملة (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) بنحو لا يفهم منه الجبر ، إلّا أن الظاهر هو أنه لا موجب لمثل هذا الإصرار. وشاهد هذا القول هو ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كان أمير المؤمنين جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذا أقبل شيخ فجثا بين يديه ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أجل مه يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر».

فقال له الشّيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.

فقال له عليه‌السلام : «يا شيخ فو الله لقد عظم الله تعالى لكم الأجر في مسيرتكم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا

٥٨٤

في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين».

فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا. (فاستفاد السائل من هذه الإجابة الجبرية).

فقال له عليه‌السلام : «أو تظن أنّه كان قضاء حتما وقدرا لازما أنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمّة ومجوسها ...»(١).

ومن هذا يتّضح أنّ أوّل من وقع في ورطة الاعتقاد بالجبر هو الشيطان.

* * *

ثمّ إنّ الشيطان أضاف ـ تأكيدا لقوله ـ بأنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم ، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب ، ويسدّ عليهم الطريق من كل جانب (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ).

ويمكن أن يكون هذا التعبير كناية عن أنّ الشيطان يحاصر الإنسان من كل الجهات ويتوسل إلى إغوائه بكل وسيلة ممكنة ، ويسعى في إضلاله ، وهذا التعبير دارج في المحاورات اليومية أيضا ، فنقول : فلان حاصرته الديون أو الأمراض من الجهات الأربع.

وعدم ذكر الفوق والتحت إنّما هو لأجل أنّ الإنسان يتحرك عادة في الجهات الأربع المذكورة ، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالبا.

__________________

(١) حق اليقين في معرفة اصول الدين ، ج ١ ، ص ٧٢.

٥٨٥

ولقد نقل في حديث مروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام تفسير أعمق لهذه الجهات الأربع حيث قال : «ثمّ قال : لآتينّهم من بين أيديهم ، معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة ، ومن خلفهم ، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم. وعن أيمانهم ، أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة. وعن شمائلهم ، بتحبيب اللذّات إليهم وتغليب الشّهوات على قلوبهم» (١).

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة هنا يصدر مرّة أخرى الأمر بخروج الشيطان من حريم القرب الإلهي والمقام الرفيع ، بفارق واحد هو أن الأمر بطرده هنا اتّخذ صورة أكثر ازدراء وتحقيرا ، وأشدّ عنفا ووقعا ، ولعلّ هذا كان لأجل العناد واللجاج الذي أبداه الشيطان بالإلحاح على الوسوسة للإنسان وإغوائه وإغرائه ، يعني أن موقفه الأثيم في البداية كان منحصرا في التمرد على أمر الله وعدم امتثاله ، ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط ، ولكن عند ما أضاف معصية أكبر إلى معصيته بالعزم على إضلال الآخرين جاء الأمر المشدّد : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً).

ثمّ حلف على أن يملأ جهنم منه ومن اتباعه (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ).

فلسفة خلق الشيطان وحكمة إمهاله :

في مثل هذه الأبحاث تتبادر إلى الأذهان ـ عادة أسئلة متنوعة ومختلفة أهمها سؤالان :

١ ـ لماذا خلق الله الشيطان ، مع أنّه علم بأنّه سيكون منشأ للكثير من الوساوس والضلالات؟

٢ ـ بعد أن ارتكب الشيطان مثل تلك المعصية الكبيرة ، لماذا قبل الله طلبه في

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٤.

٥٨٦

الإمهال ، وتأخير الأجل؟

وقد أجبنا على السؤال الأوّل في المجلد الأوّل من تفسيرنا هذا (الأمثل) وقلنا :

أوّلا : إنّ خلق الشيطان كان في بداية الأمر خلقا جيدا ، لا عيب فيه ، ولهذا احتل موقعا في صفوف المقرّبين إلى الله ، وبين ملائكته العظام ، وإن لم يكن من جنسهم ثمّ إنّه بسوء تصرّفه في حريته بنى على الطغيان والتمرد ، فطرد من ساحة القرب الإلهي ، واختصّ باسم الشيطان.

ثانيا : إنّ وجود الشيطان ليس غير مضرّ بالنسبة سالكي طريق الحقّ فحسب ، بل يعدّ رمزا لتكاملهم أيضا ، لأنّ وجود مثل هذا العدوّ القويّ في مقابل الإنسان يوجب تربية الإنسان وتكامله وحنكته ، وأساسا ينبثق كل تكامل من بين ثنايا التناقضات والتدافعات ، ولا يسلك أي كائن طريق كماله ورشده إلّا إذا واجه ضدا قويا ، ونقيضا معاندا.

فتكون النتيجة أنّ الشيطان وإن كان بحكم إرادته الحرّة مسئولا تجاه أعماله المخالفة ، ولكن وساوسه لن تضرّ عباد الله الذين يريدون سلوك طريق الحقّ ، بل يكون مفيدا لهم بصورة غير مباشرة.

والجواب على السؤال الثاني يتضح ممّا قلناه في الجواب على الاعتراض الأوّل ، لأنّ مواصلة الشيطان لحياته كقضية سلبية يكون وجودها ضروريا لتقوية نقاط إيجابية ، لا يكون غير مضرّ فحسب ، بل هو مؤثّر ومفيد أيضا ، فإنّه مع غضّ النظر عن الشيطان ، هناك مجموعة من الغرائز المختلفة في داخلنا ، وهي بوقوفها في الطرف الآخر من قوانا العقلية والروحية تشكّلان ساحة صراح وتناقض قويّين ، وفي مثل هذه الساحة يتحقق تقدم الإنسان وتكامله ، وتربيته ورشده.

واستمرار حياة الشيطان ـ هو الآخر ـ لتقوية عوامل هذا التناقض المثمر المفيد.

وبعبارة أخرى : إنّ الطريق المستقيم يتميّز دائما بالالتفات إلى الطرق

٥٨٧

المنحرفة حوله ولو لا هذه المقايسة والمقارنة لما أمكن تمييز الطريق المستقيم عن الطريق المنحرف.

كلّ هذا بغض النظر عن أنّنا نقرأ في بعض الأحاديث أنّ الشيطان بعد قيامه بذلك الذنب ، عرّض سعادته ونجاته في العالم الآخر للخطر بصورة كلّية ، ولهذا فإنّه طلب من الله تعالى أن يعطيه عمرا طويلا في هذه الدنيا في مقابل عباداته التي كان قد أتى بها قبل ذلك ، وكانت العدالة الإلهية تقتضي قبول مثل هذا الطلب.

إنّ النقطة المهمّة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ـ أيضا ـ هي أنّ الله تعالى وإن كان ترك الشيطان حرّا في القيام بوساوسه ، ولكنّه من جانب آخر لم يدع الإنسان مجرّدا من الدفاع عن نفسه.

لأنّه أوّلا : وهبه قوّة العقل التي يمكن أن توجد سدّا قويا منيعا في وجه الوساوس الشيطانية خاصّة إذا لقيت تربية صالحة.

وثانيا : جعل الفطرة النقيّة وحبّ التكامل في باطن الإنسان كعامل فعال من عوامل السعادة.

وثالثا : يبعث الملائكة التي تلهم الخيرات إلى الذين يريدون أن يعيشوا بمنأى عن الوساوس الشيطانية ، كما يصرّح القرآن الكريم بذلك إذ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١) إنّها تنزل عليهم لتقوية معنوياتهم بإلهامهم ألوان البشارات والتطمينات لهم.

ونقرأ في موضوع آخر : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)(٢) وسدّدوا خطاهم في طريق الحق.

__________________

(١) فصّلت ، ٣٠.

(٢) الأنفال ، ١٢.

٥٨٨

فرضية تطور الأنواع وخلقة آدم :

هل هناك تلاؤم بين ما يقوله القرآن الكريم في خلقة آدم ، مع ما هو مطروح في فرضية الأنواع في أبحاث العلوم الطبيعية ، أو لا؟

وأساسا هل بلغت فرضية التطور والتكامل مرحلة القطعية واليقين من وجهة نظر العلماء ، أو لا؟ ...

كل هذه الأمور بحاجة إلى أبحاث مفصلة سوف نخوضها بمشيئة الله في ذيل آيات أكثر تناسبا ، مثل الآيات (٢٦) إلى (٣٣) من سورة الحجر.

* * *

٥٨٩

الآيات

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

التّفسير

وساوس شيطانيّة في حلل خلّابة :

تبيّن هذه الآيات وتستعرض فصلا آخر من قصّة آدم ، فتقول أوّلا : إنّ الله سبحانه أمر آدم وزوجته حواء بأن يسكنا الجنّة : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

ويستفاد من هذه العبارة أنّ آدم وحواء لم يكونا في بدء الخلقة في الجنّة ،

٥٩٠

إنّما خلقا أوّلا ثمّ هديا إلى السكنى في الجنّة وأنّ القرائن تفيد ـ كما أسلفنا في ذيل الآيات المتعلقة بقصة خلق آدم في سورة البقرة ـ أن تلك الجنّة لم تكن جنّة القيامة ، بل هي ـ كما ورد في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام أيضا جنّة الدنيا ، أي أنّها كانت بستانا جميلا أخضر من بساتين هذا العالم ، وفّر الله سبحانه فيها جميع أنواع النعم والخيرات.

وفي هذه الأثناء صدر أوّل تكليف وأمر ونهي إلى آدم وحواء من جانب الله تعالى ، بهذه الصورة : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي أنّ الأكل من جميع أشجار هذه الجنّة مباح لكما ، إلّا شجرة خاصّة لا تقرباها ، وإلّا كنتما من الظالمين.

ثمّ إنّ الشيطان الذي طرد من رحمة الله تعالى بسبب إحجامه عن السجود لآدم ، وكان قد صمّم على أن ينتقم لنفسه من آدم وبنيه ما أمكن ، ويسعى في إضلالهم ما استطاع ، وكان يعلم جيدا أنّ الأكل من الشجرة الممنوعة تعرّض آدم للإخراج من الجنّة ، عمد إلى الوسوسة لآدم وزوجته ، وبغية الوصول إلى هذا الهدف نشر شباكا متنوعة على طريقهما.

ففي البداية ـ وكان يقول القرآن الكريم ـ بدأ بنزع لباس الطاعة والعبودية لله ، عنهما ، فأبدى عورتهما التي كانت مخبأة مستورة : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما).

وللوصول إلى هذا الهدف رأى أنّ أفضل طريق هو أن يستغلّ حبّ الإنسان ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة ، وليوفّر لهما عذرا يعتذران ويتوسلان به لتبرير مخالفتهما لأمر الله ونهيه ، ولهذا قال لآدم وزوجته : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ).

وبهذه الطريقة صوّر الأمر الإلهي في نظرهما بشكل آخر ، وصوّر المسألة وكأنّ الأكل من «الشجرة الممنوعة» ليس غير مضرّ فحسب ، بل يورث عمرا

٥٩١

خالدا أو نيل درجة الملائكة.

والشاهد على هذا الكلام هو العبارة التي قالها إبليس في سورة طه الآية ١٢٠ : (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى).

فقد جاء في رواية رويت في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، وفي «عيون أخبار الرضا» عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : فجاء إبليس فقال : «إنّكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين ، وبقيتما في الجنّة أبدا ، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنّة» (١).

ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير ، ولكنّ الشيطان ـ من أجل أن يحكم قبضته ويعمّق وسوسته في روح آدم وحواء ـ توسّل بالأيمان المغلّظة للتدليل على أنه يريد لهما الخير! (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

لم يكن آدم يمتلك تجربة كافية عن الحياة ، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان وخدعه بعد ، ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا ، كما أنّه لم يكن في مقدوره أن يصدّق بأن يأتي بمثل هذه الايمان المغلّظة كذبا ، وينشر مثل هذا الحبائل والشباك على طريقه.

ولهذا وقع في حبال الشيطان ، وانخدع بوسوسته في المآل ، ونزل بحبل خداعه المهترئ في بئر الوساوس الشيطانية للحصول على ماء الحياة الخالدة والملك الذي لا يبلى ، ولكنّه ليس فقط لم يظفر بماء الحياة كما ظنّ ، بل سقط في ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإلهية ، كما يعبّر القرآن عن ذلك ويلخصه في عبارة موجزة إذ يقول : (فَدَلَّاهُما بِغُرُور)(٢).

ومع أن آدم ـ نظرا لسابقة عداء الشيطان له ، ومع علمه بحكمة الله ورحمته

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثاني ، ص ١٣.

(٢) دلّى من مادة التدلية وتعني إرسال الدلو في البئر بحبل تدريجا ، وهذه ـ في حقيقتها ـ كناية لطيفة عن أنّ الشيطان أنزل بحبل مكره وخداعه آدم وزوجته من مقامهما الرفيع ، وأرسلهما إلى قعر بئر المشكلات والابتعاد عن الرحمة الإلهية.

٥٩٢

الواسعة ، ومحبته ولطفه ـ كان من اللازم أن يبدّد كل الوساوس ويقاومها ، ولا يسلّم للشيطان ، إلّا أنه قد وقع ما وقع على كل حال.

وبمجرّد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما).

ويستفاد من العبارة أعلاه أنّهما بمجرّد أن ذاقا من ثمرة الشجرة الممنوعة أصيبا بهذه العاقبة المشؤومة ، وفي الحقيقة جرّدا من لباس الجنّة الذي هو لباس الكرامة الإلهية لهما.

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّهما قبل ارتكابهما لهذه المخالفة لم يكونا عاريين ، بل كانا مستورين بلباس لم يرد في القرآن ذكر عن حقيقة ذلك اللباس وكيفيته ، ولكنّه على ايّ حال كان يعدّ علامة لشخصية آدم وحواء ومكانتهما واحترامهما ، وقد تساقط عنهما بمخالفتهما لأمر الله ، وتجاهلهما لنهيه.

على حين تقول التّوراة المحرفة : إنّ آدم وحواء كانا في ذلك الوقت عاريين بالكامل ، ولكنّهما لم يكونا يدركان قبح العري ، وعند ما ذاقا وأكلا من الشجرة الممنوعة التي كانت شجرة العلم والمعرفة ، انفتحت أبصار عقولهما ، فرأيا عريهما ، وعرفا بقبح هذه الحالة.

إنّ آدم الذي تصفه التّوراة لم يكن في الواقع إنسانا ، بل كان بعيدا من العلم والمعرفة جدا ، إلى درجة أنّه لم يكن يعرف حتى عريه.

ولكن آدم الذي يصفه القرآن الكريم ، لم يكن عارفا بوضعه فحسب ، بل كان واقفا على أسرار الخلقة أيضا (علم الأسماء) ، وكان يعدّ معلّم الملائكة ، وإذا ما استطاع الشيطان أن ينفذ فيه فإنّ ذلك لم يكن بسبب جهله ، بل استغلّ الشيطان صفاء نيّته ، وطيب نفسه.

ويشهد بهذا القول الآية (٢٧) من نفس هذه السورة ، والتي تقول : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما).

٥٩٣

وما كتبه بعض الكتّاب المسلمين من أن آدم كان عاريا منذ البداية ، فهو خطأ بيّن نشأ ممّا ورد في التّوراة المحرفة.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول : إن آدم وحواء لمّا وجدا نفسيهما عاريين عمدا فورا إلى ستر نفسيهما بأوراق الجنّة : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (١).

وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من الله يقول : ألم أحذّركما من الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما : إنّ الشيطان عدوّ لكما؟ فلما ذا تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ).

من المقايسة بين تعبير هذه الآية والآية الاولى التي أجاز الله فيها لآدم وحواء أن يسكنا الجنّة ، يستفاد بوضوح أنّهما بعد هذه المعصية ابتعدا عن مقام القرب الإلهي إلى درجة أنّ أشجار الجنّة أيضا اضحت بعيدة عنهما. لأنّه في الآية السابقة تمت الإشارة إلى الشجرة بأداة الإشارة القريبة (هذه الشجرة) وأمّا في هذه الآية فقد استعملت مضافا إلى كلمة (نادى) التي هي للخطاب من بعيد ، استعملت (تلكما) التي هي للإشارة إلى البعيد.

بحوث

إنّ في هذه الآية نقاطا لا بدّ من التوقف عندها :

١ ـ كيفية وسوسة الشيطان

يستفاد من عبارة (وسوس له) نظرا إلى حرف اللام (التي تأتي في العادة

__________________

(١) «يخصفان» من مادة «الخصف» وتعني في الأصل ضم شيء إلى شيء آخر ، والجمع ، ثمّ أطلق على ترفيع النعل أو الثواب المتمزق وخياطته فقيل : خصف النعل أو الثوب ، أي جمع الأجزاء المتفرقة وضم بعضها إلى الآخر.

٥٩٤

للفائدة والنفع) أنّ الشيطان كان يتخذ صفة الناصح ، والمحبّ لآدم ، في حين أن (وسوس إليه) لا ينطوي على هذا المعنى ، بل يعني فقط مجرّد النفوذ والتسلّل الخفيّ إلى قلب أحد.

وعلى كل حال يجب أن لا يتصور أن الوساوس الشيطانية مهما بغلت من القوة تسلب الإرادة والإختيار من الإنسان ، بل يمكن للإنسان ـ رغم ذلك ـ وبقوّة العقل والإيمان أن يقف في وجه تلك الوساوس ويقاومها.

وبعبارة أخرى : إن الوساوس الشيطانية لا تجبر الإنسان على المعصية ، بل قوّة الإرادة وحالة الإختيار باقية حتى مع الوساوس ، وإنّ مقاومتها تحتاج إلى الاستقامة والصمود الأكثر وربّما إلى تحمّل الألم والعذاب وكذلك فإنّ الوساوس الشيطانية لا تسلب المسؤولية عن أحد ولا تجرّده عنها ، كما نلاحظ ذلك في آدم.

ولهذا نرى أنه رغم جميع العوامل التي حفت بآدم ، ودعته إلى مخالفة أمر الله ونهيه ، وشجعته عليها ، والتي أقامها الشيطان في طريقه ، فإنّ الله سبحانه اعتبره مسئولا عن عمله ، ولهذا عاقبه على النحو الذي سيأتي بيانه.

٢ ـ ماذا كانت الشّجرة الممنوعة؟

جاءت الإشارة إلى الشجرة الممنوعة في ست مواضع من القرآن الكريم ، من دون أن يجري حديث عن طبيعة أو كيفية أو اسم هذه الشجرة ، وأنها ماذا كانت؟ وماذا كان ثمرها؟ بيد أنّه ورد في المصادر الإسلامية تفسيران لها ، أحدهما «ماديّ» وهو أنّها كانت «الحنطة» (١) كما هو المعروف في الرّوايات.

ويجب الانتباه إلى نقطة ، وهي أن العرب تطلق لفظة «الشجرة» حتى على النبتة ، ولهذا أطلقت ـ في القرآن الكريم ـ لفظة الشجرة على نبتة اليقطين ، إذ قال

__________________

(١) وللاطلاع على هذه الرّوايات يراجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الأوّل ، الصفحة ٥٩ و ٦٠ والمجلد الثاني ، الصفحة ١١ ، في تفسير آيات سورة البقرة وسورة الأعراف.

٥٩٥

سبحانه : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١).

والتّفسير الآخر «معنوي» وهو أنّ المقصود من تلك الشجرة ـ كما في الرّوايات ـ هو ما عبّر عنها بـ «شجرة الحسد» لأنّ آدم طبقا لهذه الرّوايات ـ بعد ملاحظة مكانته ومقامه ـ تصوّر أنّه لا يوجد فوق مقامه مقام ، ولا فوق مكانته مكانة ، ولكن الله تعال أطلعه على مقام ثلة من الأولياء من ذريته وأبنائه (رسول الإسلام وأهل بيته) ، فحصل عند ما يشبه الحسد ، وكانت هذه هي الشجرة الممنوعة التي أمر آدم بأن لا يقربها.

وفي الحقيقة تناول آدم ـ طبقا لهذه الرّوايات ـ من شجرتين ، كانت إحداهما أقلّ منه مرتبة وأدنى منه منزلة ، وقد قادته إلى العالم المادي ، وكانت هي «الحنطة». والأخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تمثل مقام ثلة من أولياء الله ، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته ، وحيث أنّه تعدّى حدّه في كلا الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم.

ولكن يجب أن نعلم أن هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام منه ، بل كان مجرّد إحساس نفساني من دون أن تتبعه أية خطوة عملية على طبقه.

وحيث إنّ للآيات القرآنية ـ كما أسلفنا مرارا ـ معان متعدّدة ، فلا مانع من أن يكون كلا المعنيين مرادين من الآية.

ومن حسن الاتفاق أنّ كلمة «الشجرة» قد استعملت في القرآن الكريم في كلا المعنيين ، فحينا استعملت في المعنى المادي التعارف للشجرة مثل : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٢) التي هي إشارة إلى شجرة الزيتون ، وتارة استعملت في الشجرة المعنوية مثل (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) التي يكون المراد منها إمّا طائفة من المشركين ، أو اليهود ، أو الأقوام الطاغية الأخرى مثل

__________________

(١) الصافات ، ١٤٦.

(٢) المؤمنون ، ٢٠.

٥٩٦

بني أمية.

على أنّ المفسّرين أبدوا احتمالات متعددة أخرى حول الشجرة الممنوعة ، ولكن ما قلناه هو الأبين والأظهر من الجميع.

ولكن النقطة التي يجب أن نذكّر بها هنا ، هي أنه وصفت الشجرة الممنوعة في التّوراة المختلفة ـ المعترف بها اليوم من قبل جميع مسيحيي العالم ويهودييه ـ بشجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة (١) تقول التّوراة : إن آدم لم يكن عالما ولا عارفا قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة ، حتى أنّه لا يعرف ولم يميّز عريه ، وعند ما أكل من تلك الشجرة ، وصار إنسانا بمعنى الكلمة طرد من الجنّة خشية أن يأكل من شجرة الحياة أيضا فيخلد كما الآلهة.

وهذا من أوضح القرائن الشاهدة على أنّ التّوراة الرائجة ليست كتابا سماويا ، بل هي من نسيج العقل البشري القاصر المحدود ، الذي يعتبر العلم والمعرفة عيبا وشينا للإنسان ، ويعتبر آدم بسبب ارتكابه معصية تحصيل العلم والمعرفة مستحقا للطرد من جنة الله ، وكأنّ الجنّة لم تكن مكان العقلاء الفاهمين ومنزل العلماء العارفين!!

ولملفت للنظر أنّ الدّكتور «ويليم ميلر» الذي يعدّ من مفسري الإنجيل القديرين والبارزين بل من مفسّري العهدين (التّوراة والإنجيل معا) يقول في كتابه المسمى «ما هي المسيحية» : «إنّ الشيطان تسلّل إلى الجنّة في صورة حيّة ، وأقنع حواء بأن تأكل من ثمرة تلك الشجرة ، ثمّ أعطت حواء من تلك الثمرة إلى آدم ، فأكل منها آدم أيضا ، ولم يكن فعل أبوينا الأوليين مجرّد خطأ عادي ، أو غلطة ناشئة من عدم التفكير ، بل كان معصية متعمّدة ضدّ الخالق ، وبعبارة أخرى : إنّ آدم وحواء كانا يريدان بهذا الصنيع أن يصيرا آلهة ، إنّهما لم يرغبا في أن يطيعا الله ، بل كانا يريدان أن يعملا وفق رغباتهما وميولهما الشخصية ، فما ذا كانت

__________________

(١) التّوراة ، سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة رقم ١٧.

٥٩٧

النتيجة؟ لقد وبّخهما الله تعالى بشدّة ، وأخرجهما من الجنّة ، ليعيشا في عالم مليء بالعذاب والألم والمحنة».

لقد أراد مفسّر التّوراة والإنجيل هذا أن يبرر شجرة التّوراة الممنوعة ، ولكنّه نسب أعظم الذنوب وهو مضادة الله ومحاربته ـ إلى آدم ... أمّا كان من الأفضل أن يعترف ـ بدل إعطاء مثل هذه التّفسيرات ـ بتطرّق التحريف والتلاعب إلى هذه الكتب المسماة بالكتب المقدّسة؟!

٣ ـ هل ارتكب آدم معصية؟

يستفاد ممّا نقلناه من الكتب المقدّسة ـ لدى اليهود والنصارى ـ أنّهم يعتقدون بأن آدم ارتكب معصية ، بل ترى كتبهم أن معصيته لم تكن معصية عادية ، وإنما كانت معصية كبيرة وإثما عظيما ، بل إن الذي صدر عن آدم هو مضادة الله والطموح في الألوهية والربوبيّة ، ولكن المصادر الإسلامية ـ عقلا ونقلا ـ تقول لنا : إنّ الأنبياء لا يرتكبون إثما ، وإنّ منصب إمامة الناس وهدايتهم لا يعطى لمن يرتكب ذنبا ويقترف معصية. ونحن نعلم أن آدم كان من الأنبياء الإلهيين ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ما ورد في هذه الآيات مثل غيرها من التعابير التي جاءت في القرآن حول سائر الأنبياء الذين نسب إليهم العصيان ، جميعها تعني «العصيان النسبي» و «ترك الأولى» لا العصيان المطلق.

وتوضيح ذلك : أن المعصية على نوعين : «المعصية المطلقة» و «المعصية النسبية» ، والمعصية المطلقة هي مخالفة النهي التحريمي ، وتجاهل الأمر الإلهيّ القطعيّ ، وهي تشمل كلّ نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام.

ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه ، وربّما يكون إتيان عمل مباح ـ بل ومستحب ـ لا يليق بشأن الشخصيات الكبيرة ، وفي هذه الصورة يعدّ إتيان ذلك العمل «معصية

٥٩٨

نسبية» ، كما لو ساعد مؤمن واسع الثراء فقيرا لإنقاذه من مخالب الفقر بمبلغ تافه ، فإنّه ليس من شك في أنّ هذه المعونة المالية مهما كانت صغيرة وحقيرة لا تكون فعلا حراما ، بل هي أمر مستحب ، ولكن كل من يسمع بها يذم ذلك الغني حتى كأنّه ارتكب معصية واقترف ذنبا ، وذلك لأنّه يتوقّع من مثل هذا الغني المؤمن أن يقوم بمساعدة أكبر.

وانطلاقا من هذه القاعدة وعلى هذا الأساس تقاس الأعمال التي تصدر من الشخصيات الكبيرة بمكانتهم وشأنهم الممتاز ، وربّما يطلق على ذلك العمل ـ مع مقايسته بذلك ـ لفظ «العصيان» و «الذنب».

فالصّلاة التي يقوم بها فرد عادي قد تعتبر صلاة ممتازة ، ولكنّها تعدّ معصية إذا صدر مثلها من أولياء الله ، لأن لحظة واحدة من الغفلة في حال العبادة لا تناسب مقامهم ولا تليق بشأنهم. بل نظرا لعلمهم وتقواهم ومنزلتهم القريبة يجب أن يكونوا حال عبادة الله تعالى مستغرقين في صفات الله الجمالية والجلالية ، وغارقين في التوجه إلى عظمته وحضرته.

وهكذا الحال في سائر أعمالهم ، فإنّها على غرار عباداتهم ، يجب أن تقاس بمنازلهم وشؤونهم ، ولهذا إذا صدر منهم «ترك الأولى» عوتبوا من جانب الله ، والمراد من ترك الأولى ، هو أن يترك الإنسان فعل ما هو الأفضل ، ويعمد إلى عمل جيد أو مستحبّ أدنى منه في الفضل.

فإنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية أن ما أصيب به يعقوب من محنة فراق ولده يوسف ، كان لأجل غفلته عن إطعام فقير صائم وقف على باب بيته عند غروب الشمس يطلب طعاما ، فغفل يعقوب عن إطعامه ، فعاد ذلك الفقير جائعا منكسرا خائبا.

فلو أنّ هذا الصنيع صدر من إنسان عادي من عامّة الناس لما حظي بمثل هذه الأهمية والخطورة ، ولكن يعدّ صدوره من نبيّ إلهيّ كبير ، ومن قائد أمّة أمرا

٥٩٩

مهمّا وخطيرا استتبع عقوبة شديدة من جانب الله تعالى (١).

إنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة لم يكن نهيا تحريميا ، بل كان ترك أولى ، ولكن نظرا إلى مكانة آدم ومقامه ومرتبته عدّ صدوره أمرا مهما وخطيرا ، واستوجب مخالفة هذا النهي (وإن كان نهيا كراهيا وتنزيهيا) تلك العقوبة والمؤاخذة من جانب الله تعالى.

هذا وقد احتمل بعض المفسّرين ـ أيضا ـ أنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة كان «نهيا إرشاديا» لا نهيا مولويا ، وتوضيح ذلك : أنه قد ينهى الله تعالى عن شيء من منطلق كونه مالك الإنسان وصاحب أمره ومولاه ، وطاعة هذا النوع من النهي واجبة على كل أحد من الناس ، وهذا النوع من النهي يسمى نهيا مولويا.

ولكنّه قد ينهي عن شيء لمجرّد أن ينبه الإنسان على أن ارتكاب هذا النهي ينطوي على أثر غير محمود تماما ، مثل نهي الطبيب عن الأطعمة المضّرة ، ولا شك في أنّ المريض لو خالف الطبيب لا يكون قد أهان الطبيب ، ولا أنّه خالف شخصه ، بل يكون بتجاهله نهي الطبيب قد تجاهل إرشاده ، وجرّ إلى نفسه التعب والنصب.

وفي قصة آدم أيضا قال الله تعالى له : إنّ نتيجة الأكل من الشجرة الممنوعة هي الخروج من الجنّة ، والوقوع في التعب والنصب ، وكان هذا مجرّد إرشاد وليس أمرا ، وبهذا فإنّ آدم خالف نهيا إرشاديا فقط ، لا أنّه أتى عصيانا وذنبا واقعيا.

ولكن التّفسير الأوّل أصحّ ، لأنّ النهي الإرشاديّ لا يحتاج إلى مغفرة ، في حين أنّ آدم ـ ما سنقرأ في الآية اللاحقة ـ يطلب من الله تعالى الغفران ، هذا مضافا إلى أنّ فترة الجنّة كانت تعدّ فترة تدريبية وتعليمية بالنسبة لآدم ... ، فترة الوقوف على التكاليف والأوامر والنواهي الإلهية ... فترة معرفة الصّديق والعدو ... فترة

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثاني ص ٤١١ ، نقلا عن كتاب علل الشرائع.

٦٠٠