الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

الآية

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

التّفسير

إنّ التأكيدات المتتابعة المتوالية والاستدلال المتنوع في هذه السورة في صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبئ عن أهمية كبرى للموضوع.

وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر ، حيث قال سبحانه لنبيّه : قل لهم واسألهم : هل من الصحيح أن أطلب ربّا غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربّي ، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات ، وحكمه جار في جميع ذرّات الوجود بلا استثناء : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).

ثمّ إنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، قائلا : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فلا يعمل أحد إلّا لنفسه ، ولا يحمل أحد وزر أحد.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فمآلكم إليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.

٥٤١

بحثان

إنّ هاهنا نقطتين يجب أن نقف عندهما ونلتفت إليهما :

١ ـ ربّما حملنا وزر غيرنا

قد يتوهمّ أنّ الآية الحاضرة التي تبيّن أصلين من الأصول المنطقية المسلّمة لدى جميع الأديان والشرائع (أي مبدأ : لا يعمل أحد إلّا لنفسه ، ولا يعاقب أحد بذنب غيره) تتنافى مع الآيات القرآنية الأخرى ، كما لا توافق جملة من الرّوايات في هذه المجال ، لأنّ الله تعالى يقول في سورة النحل الآية ٢٥ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

فإذا لم يحمل أحد وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلّون وزر الضالّين أيضا.

كما أنّ الأحاديث المرتبطة بـ «السنّة الحسنة» و «السنّة السيئة» المروية بطرق الشيعة والسنّة. تتنافى مع مفهوم الآية الحاضرة كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة ، فإنّ الآية المبحوثة هنا تقول : إنّه لا يحمل أحد وزر أحد من دون سبب ، ولكنّ الآيات والرّوايات المشار إليها سلفا تقول : إذا كان الإنسان مؤسّسا لعمل صالح أو سيءّ يعمل وفقه الآخرون ، أي كان له «التسبيب» والدلالة في قيام الآخرين بعمل معيّن ، وكانت له بالتالي دخالة في وقوعه ، فإنّه ـ ولا شك ـ يشترك معهم في نتائجه وعواقبه ، لأنّه يعتبر ـ في الحقيقة عمله وفعله ، فلا مناص من أن يتحمل تبعاته إنّ خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، لأنّه هو الذي وضع بيده أساسه الذي قام عليه صرح العمل ، وارتفع بنيانه.

٥٤٢

٢ ـ هل أن أعمال الآخرين الصالحة تنفعنا؟

إنّ التوّهم الآخر الذي يمكن أن يخالج الأذهان حول هذه الآية هو : أنّ الآية تقول : إن عمل كل إنسان لا ينفع إلّا نفسه ، وعلى هذا فإن الأعمال الصالحة التي تهدى إلى الأموات ، بل وحتى الأحياء أحيانا ، لا يمكن أن تنفعهم ، في حين نقرأ في روايات كثيرة مروية عن طريق الشيعة والسنة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام أن مثل هذه الأعمال قد تنفع الآخرين ، وإن هذا ينطبق على الجميع ، فلا ينحصر بعمل الولد لوالديه ، بل يشمل كل من يعمل عملا ويهدي ثوابه للآخرين.

هنا مضافا إلى أنّنا نعلم أن الثواب يرتبط بتأثير العمل الصالح المأتي به على روح الإنسان ودوره في تكامل الإنسان ورقيّه ، ولكنّ الذي لم يعمل عملا صالحا قط ، بل ولم يكن له أية دخالة في مقدماته كذلك ، فكيف يمكن أن ينشأ منه أثر روحي ومعنوي؟؟

ولقد واصل البعض طرح هذا الإشكال بصورة مسهبة ، ولم يكن الأفراد العاديون وحدهم هم الذين طرحوه ، بل تأثر به بعض المفسّرين والكتاب ، مثل كاتب «المنار» إلى درجة أنّهم تناسوا كثيرا من الأحاديث والرّوايات المسلّمة ، ولكن مع الالتفات إلى نقطتين يتضح الجواب على هذا الإشكال.

١ ـ صحيح أن عمل كل إنسان سبب لتكامله بالخصوص ، وأنّ نتائج الأعمال الصالحة وآثارها الواقعية عائدة إلى القائم بالعمل الصالح ، تماما كما تكون «الرّياضة» ، و «التّعليم والتّربية» من كل أحد سببا لتقوية جسم فاعلها وروحه ونفسه ، وتكاملهما.

ولكن عند ما يعمل أحد عملا صالحا لشخص آخر ، فإنّه إنّما يفعله حتما لأجل أن ذلك الشخص يمتلك امتيازا على غيره وصفة حسنة ، أو لأنّه كان مربيّا صالحا ، أو تلميذا صالحا ، أو صديقا طيبا أو جارا وفيا له ، أو كان عالما خدوما

٥٤٣

للمجتمع ، أو مؤمنا مخلصا ، أو يمتلك أدنى حد من الصلاح في حياته ، يوجب جلب أنظار الآخرين ، ويسبب في أن يعملوا أعمالا صالحة ويهدونها إليه.

وعلى هذا فذلك العمل ـ في الحقيقة ـ إنّما يكون نتيجة لذلك الامتياز ، ونتيجة للصفة الحسنة المذكورة ، وللنقطة المضيئة في شخصيته وحياته ، ولهذا يكون قيام الآخرين بالأعمال الصالحة له إنما هو أشعة من ضوء علمه الطيب أو نيتّه الصالحة ، ونتيجة لتلك الخصلة الحسنة التي يتّصف بها.

٢ ـ المثوبات التي يعطيها الله تعالى للأشخاص على نوعين : مثوبات تتناسب مع وضع تكاملهم الروحي وصلاحيتهم ، يعني أن أرواحهم ونفوسهم قد تسمو بسبب قيامهم بالأعمال الصالحة سموا كبيرا ، وترتقي في سلّم الكمال رقيا عظيما إلى درجة يصلحون للعيش في عوالم أعلى وأفضل ، ويرتفعون بما صنعوه على أجنحة العقيدة والعمل الصالح.

ولكن حيث أنّ أيّ عمل صالح هو إطاعة لأمر الله سبحانه ، ويستحق المطيع لإطاعته أجرا ومثوبة ، فإنّه يمكنه أن يهدي ذلك الثواب والأجر إلى غيره بإرادته ورغبته ، تماما ، مثل أستاذ متخصّص في شعبة مهمّة من العلوم يدرّس في جامعة من الجامعات ، فإنّه لا ريب في أنّه يصل بتدريسه إلى نتيجتين : فهو من جهة يصل ـ في ضوء تدريسه ـ إلى درجات علمية أكمل وأقوى ، وهو في نفس الوقت يحصل على أموال لقاء خدمته ، ولا ريب في أنّه لا يستطيع أن يهدي النتيجة الأولى لأحد لأنّها خاصّة به ، ولكنّه يمكنه أن يقدم (أو يهدي) النتيجة الثانية إلى من يرغب ويحب.

إنّ إهداء (ثواب) الأعمال الصالحة من جانب العاملين بها إلى الأموات ، بل وإلى الأحياء أحيانا ، إنّما هو من هذا النمط ومن هذا القبيل.

وبهذا يرتفع وينتفي أي إبهام يحوم حول هذه الأحاديث.

ولكن يجب أن نعلم بأنّ المثوبات التي تصل إلى الآخرين عن هذا الطريق لا

٥٤٤

يمكن أن تضمن سعادتهم ، بل تصيبهم منها آثار قليلة والأصل والأساس في نجاتهم إنّما هو إيمانهم وعملهم أنفسهم.

* * *

٥٤٥

الآية

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

التّفسير

في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد ، ومكافحة الشرك ، يعني أن يعرف الإنسان قيمة نفسه ، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق ، ولا يسجد للخشب والحجر ، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأخرى ، ولا يقع في أسرها ، بل يكون أميرا وحاكما عليها بدل أن يكون أسيرا ومحكوما لها.

لهذا قال تعالى في مطلع كلامه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (١).

إن الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي سخرت له كل منابع هذا

__________________

(١) «الخلائف» كما في المفردات للراغب ـ جمع خليفة «وخلفاء» جمع «خليف» وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده ، والتاء المضافة إلى الكلمة تفيد المبالغة ، وقال جمع آخر من أهل اللغة : الخلائف جمع خليف وخليفة.

٥٤٦

العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى ، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات.

ثمّ أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر ، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت ، فيقول : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.

ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في إختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات ، إذ يقول : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فإنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار ، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم.

التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة :

لا شك أنّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة ، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين ، فهناك مثلا جماعة يمتلكون ثروات هائلة ، وجماعات أخرى تعاني من الفقر المدقع ، جماعة يعانون من الجهل والأمية بسبب عدم توفّر مستلزمات الدراسة ، وجماعة أخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفّر كلّ الوسائل اللازمة للتحصيل والدراسة.

جماعة يعانون من المرض والعلّة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحيّة ، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية ، بسبب توفر جميع الإمكانيات.

إنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات : الثروة والفقر ، والعلم والجهل ، والسلامة المرض ، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار ، وهي مظاهر مختلفة

٥٤٧

للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.

إنّ من المسلّم أنه لا يمكن أن تعتبر هذه الأمور من فعل المشيئة الإلهية ، وليس من الصحيح مطلقا الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرّرة أساسا.

ولكن في نفس الوقت لا يمكن إنكار أنّه حتى لو روعيت جميع أصول العدالة في المجتمع الإنساني ـ أيضا ـ فإنّه لا يتساوى الناس جميعا من حيث القابليات ومن حيث الفكر ، والذوق ، وفي الذكاء ، والسليقة وحتى من جهة التركيب البدنيّ.

ولكن هل وجود هذه الاختلافات والفوارق مخالف لمبدأ العدالة ، أو أنّه على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي ، يعني أنّ مبدأ وضع كل شيء في محلّه يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين.

إذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإسلامي متساوين ومتشابهين في المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد ، كان المجتمع الإنساني ـ حينئذ ـ مجتمعا ميتا ساكنا جامدا عاريا عن التحرك والتكامل.

انظروا إلى نبتة الورد ، فهناك جذور قوية متينة ، وسوق رقيقة ، ولكنّها متينة نوعا مّا ، وفروع ألطف ، ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض ، وهذه المجموعة المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها ، وتختلف فيها القابليات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها.

إن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري ، فأفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرة كبيرة واحدة يقوم كل فرد برسالة خاصّة في هذا الصرح العظيم ، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.

ولهذا يقول القرآن الكريم : إنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم

٥٤٨

وامتحانكم ، لأن الاختبار والامتحان الإلهي ـ كما قلنا سابقا ـ يعني «التربية».

وبهذا يجاب على كل اعتراض وإشكال يورد في المقام على أثر الفهم الخاطئ لمفهوم الآية.

خلافة الإنسان في الأرض :

إنّ النقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام ، هي أن القرآن الكريم وصف الإنسان مرارا بالخلافة ، وأنّه خليفة الله في أرضه ، أن هذا الوصف ، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإنسان يبين هذه الحقيقة أيضا ، وهي : أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات ، وجميع المواهب الإلهية الممنوحة للإنسان ، وما الإنسان ـ في الحقيقة ـ إلّا خليفة الله وكيل من جانبه ، ومأذون من قبله.

ومن البديهي أن الوكيل ـ مهما كان ـ فهو غير مستقل في تصرفاته ، بل يجب أن تخضع تصرفاته لإذن صاحبها الأصلي ، وتقع ضمن إجازته.

ومن هنا يتضح أن الإسلام ـ مثلا ـ يختلف عن النظام الشيوعي ، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية ، لأنّ الفريق الأوّل يخصّص الملكية بالجماعة ، والفريق الثاني يخصصها بالفرد ، بينما يقول الإسلام : الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع ، بل هي في الحقيقة لله تعالى ، والناس وكلاء الله ، وخلفاؤه.

وبهذا الدليل نفسه يراقب الإسلام طريقة تصرّف الأفراد في الأموال كسبا وصرفا ، ويضع لكل ذلك قيودا وشروطا تجعل الاقتصاد الإسلامي نظاما متميّزا في مقابل الأنظمة الأخرى.

«ختام سورة الانعام»

٥٤٩
٥٥٠

سورة الأعراف

مكيّة

وعدد آياتها مائتان وستّ آيات

٥٥١
٥٥٢

سورة الأعراف

هذه السورة من السور المكية إلّا قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ـ إلى ـ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ، الذي نزل في المدينة.

عدد آيات هذه السورة (٢٠٦) آية أو (٢٠٥) كما عليه البعض.

لمحة سريعة عن محتويات هذه السّورة :

إن أكثر السور القرآنية (٨٠ إلى ٩٠ سورة) ـ كما نعلم ـ نزلت في مكّة ، ونظرا إلى الأوضاع التي كانت سائدة في المحيط المكّي ، وحالة المسلمين خلال ١٣ عاما ، وكذا بالإمعان في صفحات التّأريخ الإسلامي بعد الهجرة ، يتضح بجلاء أن هناك فرقا بين لحن السور المكية والسور المدنية.

ففي السّور المكية يدور الحديث ـ غالبا ـ حول المبدأ والمعاد ، وحول إثبات التوحيد ، ويوم القيامة ، ومكافحة الشرك والوثنية ، وتقوية مكانة الإنسان ودعم موقعه في عالم الخلق ، لأنّ الفترة المكّية كانت تشكل فترة بناء المسلمين من حيث العقيدة ، وتقوية أسس الإيمان كأسس وقواعد لـ «نهضة متجذرة».

ففي الفترة المكية كان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطهّر العقول والأذهان من جميع الأفكار الوثنية الخرافية ، ويغرس محلّها روح التوحيد ، والعبودية لله تعالى ، والإحساس بالمسؤولية لأفراد الطبقة المسحوقة والمحقّرة في اطار العهد الوثني بشخصيتهم الحضارية وهويتهم وكرامتهم الإنسانية ، وحقيقة موقعهم في نظام الوجود ، وعالم الخلق ، ليصنع ـ بالتالي ـ من ذلك الشعب الوضيع المشحون

٥٥٣

بالخرافة ، أمة ذات شخصية قوية ، وذات إرادة صلبة ، وإيمان فاعل ، وقد كان هذا البناء العقائدي القوي الذي تم على يد رسول الإسلام في هدي القرآن في مكّة ، هو السبب في تقدم الإسلام المطّرد في المدينة.

إن آيات السور المكية كذلك تتناسب جميعها مع هذا الهدف الخاص.

أمّا الفترة المدينة ، فقد كانت فترة تشكيل وتأسيس الحكومة الإسلامية ، فترة الجهاد في مقابل الأعداء ، فترة تأسيس وبناء مجتمع سليم على أساس القيم الإنسانية ، والعدالة الاجتماعية.

ولهذا تهتم السور المدنية في كثير من آياتها بتفاصيل القضايا الحقوقية ، والأخلاقية والاقتصادية ، والجزائية ، وغير ذلك من الحاجات الفردية والاجتماعية.

وإذا أراد المسلمون اليوم أن يستعيدوا عظمتهم الغابرة ، ومجدهم القديم ، وجب عليهم أن ينفّذوا هذا البرنامج بالذات ، وأن يطووا هاتين الفترتين بصورة كاملة ، فإنّه ما لم تتوطد الأسس العقائدية ، وما لم يتم بناؤها بشكل محكم لم تحظ اللّبنات الفوقية والبناء الحضاري للمجتمع بالمتانة والقوة اللازمة.

وعلى كل حال فحيث أن سورة الأعراف من السور المكية ، لذلك تجلّت فيها جميع خصائص السورة المكية ولهذا نرى : كيف أنّها أشارت في البدء إلى مسألة «المبدأ والمعاد».

ثمّ بهدف إحياء شخصية الإنسان شرحت ـ باهتمام وعناية كبيرة ـ قصّة خلق آدم.

ثمّ عدّدت ـ بعد ذلك ـ المواثيق التي أخذها الله تعالى من أبناء آدم في مسير الهداية والصلاح ، واحدا واحدا.

ثمّ للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد والعدالة والتقوى. وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وانتصارهم ،

٥٥٤

ذكرت قصص كثير من الأقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل «نوح» و «لوط» و «شعيب» وختمت ذلك ببيان قصة بني إسرائيل ، وجهاد «موسى» ضدّ فرعون ، بصورة مفصّلة.

وفي آخر السورة عادت مرّة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، بهذا تتناغم البداية والخاتمة.

أهمية هذه السّورة :

جاء في تفسير العياشي عن الإمام الصادق أنّه قال : «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ... فإن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة (وكذا قال : ) أمّا أن يكون فيها محكما فلا تدعوا قراءتها والقيام بها فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها» (١).

إن ما يستفاد من الحديث الحاضر بوضوح هو أن هذه الرّوايات والأحاديث الواردة في فضل السور لا تعني أن مجرّد قراءتها تنطوي على كل تلك النتائج ، والثمرات الكبرى ، بل إنّ ما يعطي هذه القراءة القيمة النهائية هو الإيمان بمضامين السورة ، ثمّ العمل على طبقها.

ولهذا جاء في الرواية الحاضرة : قراءتها وتلاوتها والقيام بها. كما أنّنا نقرأ في هذه الرواية أنّه عليه‌السلام قال : «من قرأ هذه السورة كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

وفي الحقيقة فإنّ هذه إشارة لطيفة إلى الآية (٣٥) من هذه السورة ، التي يقول فيها سبحانه : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فهذه المنزلة ـ كما يلاحظ القارئ الكريم ـ مخصوصة بالذين اتقوا ، وسلكوا سبيل الصلاح ، هذا مضافا إلى أنّ القرآن الكريم كتاب «عقيدة» و «عمل»

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة ٢ ونور الثقلين ، المجلد الثاني ، الصفحة ٢.

٥٥٥

والقراءة والتلاوة تعتبران مقدمة لهذا الموضوع.

قال الراغب في كتاب «المفردات» في مادة : تلاوة : قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)(١) ، إتباع القرآن بالعلم والعمل.

وهذا يعني أنّ للتلاوة مفهوما أعلى من مفهوم القراءة ، فهي مقرونة بنوع من التدبر والتفكر والعمل.

* * *

__________________

(١) البقرة ، ١٢١.

٥٥٦

الآيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

التّفسير

في مطلع هذه السّورة نواجه مرّة أخرى «الحروف المقطّعة» وهي هنا عبارة عن : الألف واللام والميم ، والصاد.

وقد سبقت منّا أبحاث مفصّلة عند تفسير هذه الحروف في مطلع سورة «البقرة» وكذا : «آل عمران».

وهنا نلفت النظر إلى تفسير آخر من التفاسير المطروحة في هذا الصعيد استكمالا للبحث وهو : أنّه يمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب انتباه المستمعين ، ودعوتهم إلى السكوت والإصغاء ، لأنّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب ، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع ، وتدعوه إلى متابعة الكلام إلى نهايته.

ومن الاتفاق أنّ غالب السور المبدوءة بالحروف المقطّعة هي السور التي نزلت في مكّة ، ونحن نعلم أن المسلمين في مكّة كانوا أقليّة ، وكان أعداؤهم وخصومهم خصوما ألدّاء اشتد عنادهم إلى درجة أنّهم ما كانوا على استعداد

٥٥٧

حتى لاستماع كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ربّما أثاروا ضجيجا ، ورفعوا الأصوات في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قراءته للآيات القرآنية ليضيع في زحمتها وخضمّها نداؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ما أشارت إليه بعض الآيات (مثل الآية ٢٦ سورة فصلت السجدة).

كما أننا نقرأ في بعض الرّوايات والأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ هذه الحروف رموز وإشارة إلى أسماء الله ، فـ «المص» في السورة المبحوثة مثلا إشارة إلى جملة : أنا الله المقتدر الصادق.

وبهذا الطريق يكون كل واحد من الحروف الأربعة صورة مختصرة عن أحد أسماء الله تعالى.

ثمّ إنّ موضوع إحلال الصياغات المختصرة محلّ الصياغات المفصّلة للكلمات كان أمرا رائجا من قديم الزمان ، وإن حصل مثل هذا في عصرنا أيضا بشكل أوسع ، حيث اختصرت الكثير من العبارات الطويلة ، وكذا أسامي المؤسسات أو الهيئات في كلمة قصيرة أو أحرف معدودة.

على أن ثمّة نقطة تستحق التنويه بها هنا ، وهي أنّ التفاسير والتحاليل المختلفة عن «الحروف المقطعّة» لا تتنافي ولا تتناقض فيما بينها ، ويمكن أن تكون جميع التفاسير بطونا مختلفة من بطون القرآن.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

و «الحرج» في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة ، والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتفّ أوّلا ثمّ المنتشر ، وهو يطلق على كل نوع من أنواع الضيق.

إنّ العبارة الحاضرة تسلّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيّ ضيق وحرج ، لا من ناحية ثقل

٥٥٨

الرسالة الملقاة على عاتقه ، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته ، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.

هذا ويمكن إدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إدراكا كاملا إذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكّية ، ونحن وإن كنّا نعجز عن تصوّر جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبه في المحيط المكي ، وفي مطلع الدّعوة الإسلامية ، ولكن مع الالتفات إلى حقيقة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة المتخلفة جدا وفي مدّة قصيرة ، يمكن أن نتصور على نحو الإجمال أبعاد وأنواع الصعاب التي كانت تنتظره.

وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إلى تسلية النّبي وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج ، وأن يطمئنّ إلى نتيجة جهوده.

ثمّ يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة ، وتذكير المؤمنين الصادقين ، إذا يقول : (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

هذا ومجيء قضية «الإنذار» في صورة الأمر العام الموجّه للجميع ، واختصاص«التذكير» بالمؤمنين خاصّة ، إنّما هو لأجل أنّ الدعوة إلى الحق ، ومكافحة الانحرافات يجب أن تتمّ بصورة عامّة وشاملة ، ولكن من الواضح أنّ المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة ، أولئك الذين تتوفر لديهم أرضيات مستعدّة لقبول الحق ، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج وسلّموا أمام الحقائق.

__________________

(١) وعلى هذا الأساس فإن جملة «لتنذر» تتعلق بـ «أنزل» وليس بجملة «فلا يكن» ولعل جعل هذه الجملة (أي جملة لتنذر) بعد جملة «فلا يكن في صدرك حرج» لأجل أنّه يجب أوّلا إعداد النّبي في طريق الدعوة ، ثمّ اقتراح الهدف وهو الإنذار عليه (تأمل جيدا).

٥٥٩

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في مطلع سورة البقرة إذا يقول تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (وللمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية ٢ من سورة الحمد).

ثمّ إنّه سبحانه يوجه خطابه إلى عامّة الناس يقول : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْرَبِّكُمْ) وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومهمّته ورسالته ، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.

وللتأكيد يضيف سبحانه قائلا : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) فلا تتبعوا غير أوامر الله ، ولا تختاروا وليا غير الله.

وحيث إنّ الخاضعين للحق والمذكرين قليلون ، لذا قال في ختام الآية : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية الله وقيادته ، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين ، فإذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليّه ، وأمّا إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإن عليه ـ حينئذ ـ أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب ، وأن يختار ربّا جديدا.

وكلمة «الأولياء» التي هي جميع «ولي» إشارة إلى هذا المعنى.

* * *

٥٦٠