الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي أعدّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكروا فيها ويدرسوها ولو قليلا ، بل ولا يكتفون برفضها إنما يعمدون إلى صدّ الآخرين عنها ، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها ، بيّن كلّ ذلك في قوله الموجز والبليغ : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ).

و «سوء العذاب» وإن كان بمعنى العذاب السيء ، ولكن حيث أن العذاب السيّء عقاب شديد وموجع للغاية في حدّ نفسه ، لذلك فسّره بعض المفسّرين بالعقاب الشديد.

ثمّ إنّ تكرار لفظة «يصدفون» عند بيان جزاء الصادفين عن آيات الله لأجل توضيح هذه الحقيقة ، وهي أنّ جميع البلايا والمحن التي تصيب هذا الفريق ناشئة من كونهم يعرضون عن الحقائق من دون أدنى تفكير ودراسة ، ولو أنّهم سمحوا لأنفسهم بالتفكير والدراسة ـ كباحث عن الحقيقة وشاك يطلب اليقين ـ لما أصيبوا بمثل هذه العواقب الأليمة والمصير المؤلم.

* * *

٥٢١

الآية

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

التّفسير

توقعات باطلة ومطاليب مستحيلة :

في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي : أنّنا أتممنا الحجّة على المشركين ، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعا ، لكي لا يبقى لديهم أي عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة.

وهذه الآية تقول : ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم وعنادهم حدّا لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامج الواضح البيّن ، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم ، أو ذهاب آخر فرصة ، أو ينتظرون أمورا مستحيلة.

فيقول أولا : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لتقبض أرواحهم.

(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) إليهم فيرونه ، حتى يؤمنوا به.

٥٢٢

ويراد من هذا الكلام في الحقيقة أنّهم ينتظرون أمورا مستحيلة ، لا أنّ مجيء الله سبحانه وتعالى أو رؤيته أمور ممكنة.

وهذا النوع من البيان والكلام أشبه ما يكون بمن يقول لشخص مجرم معاند ، بعد أن يريه ما لديه من وثائق كافية دامغة وهو مع كل هذا ينكر جنايته : إذا كنت لا تقبل بكل هذه الوثائق ، فلعلك تنتظر أن يعود المقتول إلى الحياة ، ويحضر في المحكمة ليشهد عليك بأنّك الذي قتلته؟

ثمّ يقول : أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإلهية والعلامات الخاصّة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كل أبواب التوبة : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)؟

وعلى هذا الأساس فإنّ عبارة (آياتِ رَبِّكَ) وإن جاءت بصورة كليّة وعلى نحو الإجمال ، ولكنّها يمكن أن تكون بقرينة العبارات اللاحقة التي سيأتي تفسيرها ، بمعنى علامات القيامة ، مثل الزلازل المخيفة ، وفقدان الشمس والقمر والكواكب لأنوارها وأضوائها ، وما أشبه ذلك.

أو يكون المراد من ذلك المطاليب غير المعقولة التي يطلبونها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن جملتها أنّهم لا يؤمنون به إلّا أن تمطر عليهم السماء حجارة ، أو تمتلئ صحاري الحجاز القفراء اليابسة بالينابيع والنخيل!!

ثمّ يضيف عقيب ذلك قائلا : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إلى تلك الساعة ، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إجبارية ، وفاقدة لمعطيات الإيمان الاختياري وقيمة التوبة النصوح.

هذا ، ويتضح ممّا قيل أن عبارة (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) تعني أنّ الإيمان وحده لا ينفع في ذلك اليوم ، بل حتى أولئك الذين آمنوا من قبل ، ولكنّهم لم

٥٢٣

يعملوا عملا صالحا ، لم ينفعهم في ذلك اليوم أن يعملوا عملا صالحا ، لأنّ أوضاعا كتلك تسلب من الإنسان القدرة على ارتكاب الذنب ، وتقوده نحو العمل الصالح بصورة جبرية لا مفرّ منها ، فلا يكون لمثل هذا العمل أية قيمة ذاتية.

ثمّ إنّه في المقطع الأخير من الآية يوجه تهديدا شديدا إلى هؤلاء الأشخاص المعاندين ، إذ يقول بنبرة شديدة : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ).

لا فائدة للإيمان بدون عمل :

إنّ من النقاط الهامّة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريق النجاة منحصرة في الإيمان ، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيرا ويعمل في ظلّه عملا صالحا.

ويمكن أن ينطرح هذا السؤال وهو : هل الإيمان وحده غير كاف ولو خلّي من جميع الأعمال الصالحة؟

ونجيب : صحيح أنّ المؤمن يمكن أن يزلّ أحيانا ويرتكب بعض الذنوب المعاصي ثمّ يندم على فعله ويعمد إلى إصلاح نفسه ، ولكن من لم يعمل أيّ عمل صالح طوال حياته ، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك ، بل على العكس من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية ، واقترف كل إثم ، فإنّه يبدو من المستبعد جدا أن يكون من أهل النجاة ، ومن الذين ينفعهم إيمانهم ، لأنّه لا يمكن أن نصدّق بأنّ شخصا ينتمي إلى دين من الأديان ، ولكنّه لا يعمل بأي شيء من تعاليم ذلك الدين ولا مرّة واحدة في حياته ، بل كان يرتكب خلافها دائما ، إذ أنّ حالته وموقفه هذا دليل قاطع وبيّن على عدم إيمانه ، وعدم اعتقاده.

وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإيمان ولو بالحدّ الأدنى من العمل الصالح ، ليدلّ ذلك على وجود الإيمان.

* * *

٥٢٤

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

التّفسير

رفض المفرّقين للصّفوف ونفيهم :

تعقيبا على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة ، والتي أمر في آخرها بإتباع الصراط الإلهي المستقيم ، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة ، جاءت هذه الآية تتضمن تأكيدا على هذه الحقيقة ، وتفسيرا وشرحا لها.

فيقول تعالى أوّلا : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(١) أي أنّ الذين اختلفوا في الدين وتفرقوا فرقا وطوائف لا يمتون إليك

__________________

(١) «الشيع» من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين ، وعلى هذا فإنّ مفرد كلمة يعني من يتبع مدرسة أو شخصا معينا ، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة.

٥٢٥

بصلة أبدا ، كما لا يرتبطون بالدين أبدا ، لأنّ دينك هو دين التوحيد ، ودين الصراط المستقيم ، والصراط المستقيم ما هو إلّا واحد لا أكثر.

ثمّ قال تعالى ـ مهدّدا موبّخا أولئك المفرّقين ـ (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي أنّ الله هو الذي سيؤاخذهم بأعمالهم وهو عليم بها ، لا يغيب شيء منها.

بحثان

وهاهنا نقطتان يجب الالتفات إليهما :

١ ـ من هم المقصودون في الآية؟

يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين اختلفوا وتفرّقوا إلى فرق وطوائف مذهبية مختلفة ، وتباغضوا وتشاحنوا وتنازعوا فيما بينهم.

ولكن يرى آخرون أنّ هذه الآية إشارة إلى الذين يفرّقون صفوف هذه الأمّة (الإسلامية) بدافع التعصب وحبّ الاستعلاء ، وحب المنصب والجاه.

ولكن محتوى هذه الآية يمثل حكما عاما يشمل كل من يفرّق الصفوف ، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدع ، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الأمم السابقة أو في هذه الأمة.

وما نلاحظه من الرّوايات المنقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام وهكذا روايات أهل السنّة التي تصرّح بأن هذه الآية إشارة إلى مفرّقي الصفوف وأهل البدع في هذه

__________________

ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الاصطلاح ، فهو يطلق على من يتبع أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ويشايعه ، ولا يصح أن نخلط بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي.

٥٢٦

الأمّة ، فهو من باب بيان المصداق (١) ، لأنّه لو لم يذكر هذا المصداق لظن البعض أنّ المقصود بالآية هم الآخرون خاصّة ، وأنّ الضمير عائد إلى غيرهم فيبرّءوا بذلك ساحتهم.

ففي رواية منقولة عن الإمام الباقر عليه‌السلام في ذيل هذه الآية ـ على ما في تفسير علي بن إبراهيم ـ قال في تفسيرها : «فارقوا أمير المؤمنين عليه‌السلام وصاروا أحزابا» (٢).

وهناك أحاديث أخر رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول افتراق هذه الأمّة وتشتتها وتشرذمها إلى فرق ذكرها على سبيل التنبؤ ، جميعها تؤيّد هذه الحقيقة أيضا.

٢ ـ بشاعة التفرقة وزرع الاختلاف

هذه الآية تكرّر مرّة أخرى ـ وبمزيد من التأكيد ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الإسلام دين الوحدة والاتحاد ، وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإلقاء الاختلاف في صفوف الأمة ، وتقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عملك وبرنامجك لا يشابه عمل المفرقين للصفوف ، ناشري الخلاف فيها مطلقا ، وانهم بالتالي لا يمتون إليك ولا تمت إليهم بصلة أبدا ، وإنّ الله المنتقم الجبار سوف ينتقم منهم ، ويريهم عاقبة أعمالهم الشريرة.

إنّ التوحيد الحقيقي ليس واحدا من أصول الإسلام وقواعده فحسب ، بل إنّ جميع أصول الإسلام وفروعه ، وجميع برامجه المتنوعة ، تدور حول محور التوحيد ، وتنطلق منه وتنتهي إليه التوحيد روح سارية في كيان التعاليم الإسلامية برمتها ، والتوحيد هو الأساس الحضاري الذي تقوم عليه مبادئ الإسلام عامته.

ولكن هذا الدين الذي يتألف من أقصاه إلى أقصاه من عنصر الوحدة

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الاوّل ، ص ٧٨٣.

(٢) نور الثقلين ، المجلد الاوّل ، ص ٧٨٣.

٥٢٧

والاتحاد قد وقع اليوم ـ مع شدة الأسف ـ فريسة بأيدي مفرّقي الصفوف ، ومثيري الاختلاف بحيث فقد وجهه الحقيقي.

فبيّن يوم وآخر ينعق ناعق ، ويثير نغمة جديدة خبيثة ، ويقوم معقّد أو معتوه أو غبيّ ويخالف حكما من أحكام الإسلام ، وبرنامجا من برامجه ، فيلتف حوله فريق من الجهلة والبسطاء ، فيفرز تمزقا جديدا.

على أنّ للجهل الذي يعاني منه فريق من العامّة دورا مؤثرا في هذه التفرقة والاختلافات ، لا يقل عن تأثير ذكاء الأعداء وفطنتهم ويقظتهم في إذكاء التمزّق الداخلي.

فربّما طرح البعض أمورا أكل عليه الدهر وشرب ، من جديد ، وأحدثوا حولها ضجّة غبيّة ليشغلوا بها بال الناس ، ولكن الإسلام ـ كما صرحت الآية غريب عن أعمالهم ، وأعمالهم غريبة عن الإسلام ، وستفشل في المآل كل محاولات المفرقين للصفوف ، تذهب أدراج الرياح ، ولن يحصدوا منها سوى الخيبة والخسران.

حملات كاتب «المنار» الظالمة على الشّيعة :

يعاني كاتب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدّة بالنسبة إلى الشيعة ، وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم.

ففي ذيل هذه الآية يعقد فصلا حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إلى الاتحاد ، ويصفهم بأنّهم يفرقون الصفوف ويخالفون الإسلام ، وأنهم ممن يعملون ضدّ الإسلام ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب والعقيدة الدّينية ، وكأنّ وجود كلمة «شيعا» في الآية الحاضرة والتي ليس لها أي ارتباط بقضية التشيع والشيعة ذكّره بهذه الأمور التافهة ، فاندفع يتّهم هذه الجماعة المؤمنة من دون تورّع.

٥٢٨

إنّ كتاباته أفضل جواب على أقواله ، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد الشيعة ، وتأريخهم ، وذلك لأنّه :

١ ـ يربط بين الشّيعة و «عبد الله بن سبأ» اليهودي المشكوك في أصل وجوده من وجهة نظر التّأريخ ، والذي ليس له ـ على فرض وجوده ـ أدنى دور في تاريخ التشيع والشيعة!

بينما نجده من جانب آخر يربط بين الشيعة و «الباطنية» بل حتى بين الشيعة والفرقة البهائية التي هي أعدى أعداء الشيعة. على حين تكشف أدنى معرفة بتاريخ الشيعة أنّ هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية وهمية ، بل محض افتراء واتهام واختلاق.

والأعجب من كل ذلك هو أنّ هذا الكاتب يربط بين جماعة «الغلاة» (وهم الذين يرفعون عليا عليه‌السلام إلى درجة الألوهية غلوّا) وبين الشيعة في حين أن الفقه الشيعي أفرز فصلا للغلاة تحت عنوان إحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها ، ويتهم الشيعة بأنّهم يعبدون أهل البيت ، وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة.

إن من المسلّم أن كاتب «المنار» لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرّعة والعصبيات العمياء وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواهم أنفسهم ، ويأخذها منهم ، ويستقرئها من كتبهم لا من كتب أعدائهم لعرف جيدا بأنّ ما نسبه إلى الشيعة ليس مجرّد افتراءات وأكاذيب ، بل هو مهازل مضحكة.

والأعجب من ذلك كلّه أنّه عزا نشأة التشيع إلى الإيرانيين ، على أنّ التشيع كان فاشيا في العراق والحجاز ومصر قبل أن يتشيع الإيرانيون بقرون مديدة ، والوثائق التّأريخية شواهد حيّة على هذه الحقيقة.

٢ ـ إنّ ذنب الشيعة هو أنّهم عملوا بما صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعا ، والذي ورد ـ كذلك ـ في أوثق المصادر السنيّة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين

٥٢٩

ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (١).

إنّ ذنب الشيعة هو أنّهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم بدين النّبي ورسالته ، فجعلوهم الملجأ والمرجع في المشاكل الدينية ، وأخذوا عنهم حقائق الإسلام.

أنّ ذنب الشيعة هو أنّهم فتحوا باب «الاجتهاد» أخذا بحكم المنطق والعقل ، والقرآن والسنة وبذلك منحوا الفقه الإسلامي فاعلية متحركة ، ولم يحصروه بـ «أربعة أشخاص» ويجبروا الناس على إتباعهم.

أليست خطابات القرآن والسنة وموجّهة إلى عموم المؤمنين في جميع الدهور والعصور؟

أم هل كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصا معينين ، فلما ذا نحصر الإسلام في حصار قديم من الجمود باسم «المذاهب الأربعة» الحنفي ، الحنبلي ، المالكي ، الشّافعي؟!

إن ذنب الشيعة هو أنّهم يقولون : إنّ صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل سائر المسلمين يجب أن يقيّموا بمقياس إيمانهم وفي ضوء أعمالهم ، فمن وافق عمله الكتاب والسنة كان صالحا ، ومن خالف عمله الكتاب والسنة ـ سواء أكان في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جاء بعده ـ رفض وطرد ، ولا تكفي مجرّد الصحبة ليتستر بها المجرمون والجناة ، فلا يجوز أن يقدّس ويحترم رجال كمعاوية الذي داس كل القيم وتجاهل جميع الضوابط الإسلامية ، وخرج على إمام زمانه الذي رضيت به الأمّة الإسلامية ، وعلى الأقل في ذلك العصر (ونعني عليا عليه‌السلام) ، وأراق تلك الدّماء الكثيرة! ... لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرّد صحبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بعض الصحابة المرتزقة ممن مالأه وسار في ركابه.

__________________

(١) راجع صحيح الترمذي مجلد ٣ الصفحة ١٠٠ ، وسنن البيهقي المجلد الأوّل الصفحة ١٣ والمجلد الثّاني الصفحة : ٤٣١ ، وكنز العمال المجلد الأوّل الصفحة ١٥٤ و ١٥٩ ، والطبقات الكبرى لابن سعد المجلد الثاني ، الصفحة ٢ وكتبا أخرى.

٥٣٠

نعم هذه هي ذنوب الشيعة وهم يعترفون بها ، ولكن هل وجدتم في عالمنا هذا من هو أشدّ مظلوميّة من الشيعة ، بحيث تعتبر أفضل نقاط القوّة في تاريخها وعقائدها نقاط ضعف ، ويكيلون لها سيلا من الاتهامات والأكاذيب ، بل ولا يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين وتعرضها عليهم بحرية ، كما يفعل غيرها من الطوائف ، بل يأخذون عقائدها من غيرها.

ترى إذا عملت جماعة بأمر نبيّهم في حين لا يعمل الآخرون به ، فهل يعتبر عمل تلكم الجماعة تفريقا للصفوف ، وشقا لعصى الأمّة؟ وهل يجب صرف هذه الجماعة عن مسارها ليتحقق الاتحاد ، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟

٣ ـ إنّ تاريخ العلوم الإسلاميّة يشهد أنّ الشيعة كانوا السبّاقين في أكثر هذه العلوم والمعارف إلى درجة أنه اعتبر الشيعة ، البناة المؤسسين لعلوم الإسلام. (١)

إنّ الكتب التي ألّفها علماء الشيعة في مجال التّفسير والتّأريخ ، والحديث والفقه ، والأصول ، والرجال والفلسفة الإسلامية ، ليست أمورا يمكن تجاهلها وإنكارها أو إخفاؤها ، فهي موجودة في جميع المكتبات (اللهم إلّا اكثر مكتبات أهل السنة الذين لا يسمحون عادة بدخول هذه المؤلّفات والكتب إلى مكتباتهم ، في حين أننا نسمح بدخول مؤلفاتهم في مكتباتنا منذ قرون مديدة) وهذه الكتب شواهد حيّة على ما ذكرناه.

فهل هؤلاء الذين صنّفوا وألّفوا كل هذه الكتب حول الإسلام وتعاليمه ، في سبيل نشرها وبثّها وتعميقها ، كانوا أعداء للإسلام؟

وهل عرفتم عدوّا يحبّ الإسلام بهذه الدرجة؟!

أم هل يستطيع أحد أن يخدم الإسلام الحنيف بمثل هذه الخدمة الكبيرة ، إذا كان محبّا مخلصا ، وعاشقا متيّما؟!

هذا ونقول في ختام حديثنا : إذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة

__________________

(١) للوقوف على أدلة هذا الموضوع راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ، وكتاب «أصل الشيعة وأصولها».

٥٣١

تعالوا نعمل شيئا آخر بدل التراشق بالاتهامات ، وذلك أن يتعرف بعضنا على بعض ويفهم بعضنا بعضا ، لأنّ مثل هذه النسب والافتراءات الباطلة ليس من شأنها أن تحقق الوحدة الإسلامية ، بل توجه ضربة قاضية إلى أسس الوحدة الإسلامية.

ثواب أكثر ، عقاب أقلّ :

في الآية اللاحقة إشارة إلى الرحمة الإلهية الواسعة ، وإلى الثواب الإلهي الواسع الّذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين ، وقد كمّلت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات ويقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

ثمّ قال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضا فيقول : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وإنما يعاقبون بمقدار أعمالهم.

وأمّا ما هو المراد من «الحسنة» و «السّيئة» في الآية الحاضرة وهل هما خصوص «التوحيد» و «الشرك» أو معنى أوسع؟ فبين المفسّرين خلاف مذكور في محلّه ، ولكن ظاهر الآية يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة ، إذ لا دليل على تحديد أو حصر الحسنة والسيئة.

بحوث

وهاهنا نكات يجب التوجّه إليها والتوقف عندها :

١ ـ إنّ المقصود من قوله : «جاء به» كما يستفاد من مفهوم الجملة هو أن يجيء بالعمل الصالح أو السيء معه ، يعني إذا مثل الإنسان أمام المحكمة الإلهية العادلة يوم القيامة فإنّه لا يحضر بيد فارغة خالية من العقيدة والعمل الصالحين ، أو عقيدة أو أعمال طالحة ، بل هي معه دائما ، ولا تنفصل عنه أبدا ، فهي قرينته في

٥٣٢

الحياة الأبديّة وتحشر معه.

لقد استعمل مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية الأخرى بهذا المعنى أيضا ... ففي الآية (٣٣) من سورة (ق) نقرأ قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) إنّ الجنّة لمن آمن بالله عن طريق الإيمان بالغيب ، وخافه وأتى إلى ساحة القيامة بقلب تائب مملوء بالإحساس بالمسؤولية.

٢ ـ أجر الحسنة ، عشرة أضعاف

نقرأ في الآية الحاضرة أن الحسنة يثاب عليها بعشرة أضعافها ، بينما يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنه اقتصر على عبارة (أَضْعافاً كَثِيرَةً) من دون ذكر عدد الأضعاف (كما في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة) وفي بعض الآيات بلغ ثواب بعض الأعمال مثل الإنفاق إلى سبعمائة ضعف (كما في الآية ٢٦١ من سورة البقرة) بل ربّما إلى أكثر من ذلك مثل قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١).

إنّ من الواضح أنه لا تناقض بين هذه الآيات أبدا ، إذ إنّ أقل ما يعطى للمحسنين هو عشرة أضعاف الحسنة ، وهكذا يتصاعد حجم الثواب مع تعاظم أهمية العمل والحسنة ، ومع تعاظم درجة الإخلاص ، ومع ازدياد مقدار السعي والجهد والمبذول في سبيل العمل الصالح ، حتى يصل الأمر إلى أن تتحطم الحدود والمقادير ، ولا يعلم حدّ الثواب ومقداره إلّا الله تعالى.

فمثلا الإنفاق الذي يحظى بأهمية بالغة في الإسلام يتجاوز مقدار ثوابه الحدّ المتعارف للعمل الصالح الذي هو عشرة أضعاف الحسنة ، ويصل إلى «الأضعاف الكثيرة» أو «سبعمائة ضعف» وربّما أكثر من ذلك.

والاستقامة التي هي أساس جميع النجاحات والسعادات ، ولا تبقى عقيدة

__________________

(١) الزمر ، ١٠.

٥٣٣

أو عمل صالح ولا يستمر بدونها قد ذكر القرآن لها ثوابا خارجا عن حدّ الإحصاء والحساب.

ومن هنا أيضا يتضح عدم المنافاة بين هذه الآية وبين الرّوايات التي تذكر لبعض الأعمال الحسنة مثوبة أكثر من عشرة أضعاف.

كما أنّ ما نقرؤه في الآية (٨٤) من سورة القصص في قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) لا ينافي الآية الحاضرة حتى نحتاج إلى القول بنسخ الآية ، لأنّ للخير معنى واسعا يتلاءم مع عشرة أضعاف أيضا.

٣ ـ لماذا كفارة يوم واحد ستين يوما؟

ربّما يتصور البعض : أنّ وجوب صوم «ستين يوما» من باب الكفارة في مقابل إفطار يوم من شهر رمضان ، والعقوبات الأخرى في الدنيا والآخرة من هذا القبيل ، لا تتلاءم مع الآية الحاضرة التي تقول : السيئة تجازى بمثلها فقط.

ولكن مع الالتفات إلى نقطة واحدة يتضح جواب هذا الاعتراض أيضا وهي أنّ المراد من المساواة بين «المعصية والعقوبة» ليس هو المساواة العددية ، بل لا بدّ من أخذ كيفية العمل أيضا بنظر الاعتبار.

إنّ إفطار يوم واحد من أيّام شهر رمضان المبارك مع ماله من الأهمية ، ليست عقوبته صوم يوم واحد بدله من باب الكفارة ، بل عليه أن يصوم أيّاما عديدة حتى تساوي مبلغ احترام ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك ، ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ عقوبة الذنوب في شهر رمضان أشد وأكبر من عقوبة الذنوب في الأيّام والأشهر الأخرى. كما أنّ ثواب الأعمال الصالحة في تلك الأيام أكثر وأزيد ، إلى درجة أنّ ثواب ختمة واحدة للقرآن في هذا الشهر يعادل ثواب سبعين ختمة للقرآن في الأشهر الأخرى.

٥٣٤

٤ ـ منتهى اللّطف الرّباني

إنّ النقطة الأجمل في المقام هي أنّ الآية الحاضرة جسّدت منتهى اللطف والرحمة الإلهية في حق الإنسان.

فهل عرفت أحدا بيده كل أزمة الإنسان وشؤونه ، كما أنّه محيط بجميع أعماله وشؤونه ، يبعث قادة ومرشدين معصومين لهدايته وإرشاده ، ليوفق إلى الإتيان بالعمل الصالح في هدي رسله ، مستفيدا من الطاقة الإلهية الممنوحة له ، مع ذلك يثيبه على حسناته بعشر أمثالها ، ولكنّه لا يجازيه على السيئة إلّا بمثلها ، ثمّ يجعل باب التوبة ونيل العفو مفتوحا في وجهه؟!

يقول أبو ذر : قال الصادق المصدّق [أي رسول الله] : «إنّ الله قال الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو أغفر ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الرابع ، ص ٣٩٠.

٥٣٥

الآيات

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

التّفسير

هذا هو طريقي المستقيم

هذه الآية والآيات الأخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام ، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية ، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد ومكافحة الشرك ، وختمت بنفس ذلك البحث أيضا.

ففي البداية أمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق التوحيد ، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

٥٣٦

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة : «قل» ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة ، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين منطق المشركين.

كما أنّه يسدّ كل أبواب العذر في وجوههم ، لأنّ تكرار كلمة «قل» علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو بأمر الله ، بل هو عين كلام الله ، لا أنّها آراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفكاره وقناعاته الشخصية.

ومن الواضح أن ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن ، إنّما هو لحفظ أصالة القرآن ، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أوحيت إلى رسول الله.

وبعبارة أخرى : الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أوحيت إليه ، وحتى كلمة «قل» التي هي خطاب إليه قد ذكرها عينا.

ثمّ إنّه تعالى يوضح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.

فهو يقول أوّلا : إنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة ، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأمور الدين والدنيا والجسد والروح : (دِيناً قِيَماً) (١).

وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيم عليه‌السلام محبّة خاصّة ، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إليه لا ما تزعمونه : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ).

إبراهيم عليه‌السلام الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته ، وأقبل على التوحيد (حَنِيفاً).

__________________

(١) «قيما» قد تأتي أيضا بمعنى الاستقامة ، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بأمور الدين والدنيا.

٥٣٧

و «الحنيف» يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إلى جهة ما ، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب ، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه ، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط ، بل كان إبراهيم ـ الذي نحترمه جميعا ـ كذلك أيضا.

ثمّ يضيف للتأكيد قائلا : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية ، وحامل الحرب ضد الشرك ، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته وكفاحه.

إنّ تكرار جملة (حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله : «مسلما» أو بدونها ، إنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة (١).

الآية اللاحقة تشير إلى أنّه على النّبي أن يقول : إنّي لست موحدا من حيث العقيدة فحسب ، بل إني أعمل كل عمل صالح : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فأنا أحيى لله ، وله أموت ، وأفدي بكل شيء لأجله ، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و «النسك» يعني في الأصل العبادة ، ولذا يقال : للعابد : ناسك ، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال : مناسك الحج.

وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من «النسك» هنا هو «الأضحيّة» ،

__________________

(١) البقرة ، ١٣٥ ، آل عمران ، ٤٧ و ٩٥.

٥٣٨

ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة ، وهو إشارة أوّلا إلى الصّلاة كأهم عبادة ، ثمّ إلى سائر العبادات بشكل كلّي ، يعني صلاتي وكل عباداتي ، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى.

ثمّ في الآية الثالثة يضيف للتأكيد ، وإبطالا لأي نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلا : (لا شَرِيكَ لَهُ).

ثمّ يقول في ختام الآية : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

كيف كان النّبيّ أوّل مسلم؟

في الآية الحاضرة وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه أوّل المسلمين.

وقد وقع بين المفسّرين كلام حول هذه المسألة ، لأنّنا نعلم أنّه إذا كان المقصود من «الإسلام» هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإنه يشمل جميع الأديان السماويّة ، ولهذا يطلق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضا ، فاننا نقرأ حول نوح عليه‌السلام : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١).

ونقرأ حول إبراهيم الخليل عليه‌السلام وابنه إسماعيل أيضا : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)(٢).

وجاء في شأن يوسف عليه‌السلام : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) (٣).

على أن «المسلم» يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله ، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإلهيين وأممهم المؤمنة ، ومع ذلك فإن كون رسول الإسلام أوّل المسلمين ، إمّا من جهة كيفية إسلامه وأهميته ، لأنّ درجة إسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع ، وإمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأمّة التي

__________________

(١) يونس ، ٧٢.

(٢) البقرة ، ١٢٨.

(٣) يوسف ، ١٠١.

٥٣٩

قبلت بالإسلام والقرآن.

وقد ورد في بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر ، فإسلامه متقدم على إسلام الخلائق أجمعين (١).

وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإسلام ، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي : الدعوة إلى الصراط المستقيم ، والدعوة إلى دين محطم الأصنام إبراهيم الخالص ، والدعوة إلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية ... هذا من جهة العقيدة والإيمان.

وأمّا من جهة العمل : الدّعوة إلى الإخلاص ، وإلى تصفية النيّة ، والإتيان بكل شيء لله تعالى ، الحياة لأجله ، والموت في سبيله ، وطلب كل شيء منه ، ومحبّته ، والانقطاع إليه ، وعن غيره ، والتولي له ، والتبرؤ من غيره.

فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإسلامية الواضحة ، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإسلام الذين لا يفهمون من الإسلام سوى التظاهر بالدين ، ولا يفكرون في جميع الموارد إلّا في الظاهر ، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة ، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم واجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير.

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ، ذيل هذه الآية.

٥٤٠