الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

الآيات

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

التّفسير

التملّص من المسؤولية بحجة «الجبر» :

عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة ، أشار في هذه الآيات إلى طائفة من استدلالاتهم الواهية ، مع ذكر الأجوبة عنها.

فيقول أوّلا : إنّ المشركين سيقولون في معرض الإجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإشراك بالله ، وتحريم الأطعمة الحلال : إنّ الله لو أراد أن لا نكون

٥٠١

مشركين ، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين ، وأن لا نحرّم ما حرّمنا لفعل : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ).

ويلاحظ نظير هذه العبارة في آيتين أخريين من الكتاب العزيز ، في سورة النحل الآية٣٥ : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ). وفي سورة الزخرف الآية (٢٠) : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ).

وهذه الآيات تفيد أن المشركين ـ مثل كثير من العصاة الذين يريدون التملص من مسئولية العصيان تحت ستار الجبر ـ كانوا يعتقدون بالجبر ، وكانوا يقولون : كلّ ما نفعله فإنّما هو بإرادة الله ومشيئته وإلّا لما صدرت منّا مثل هذه الأعمال.

وفي الحقيقة أرادوا تبرئة أنفسهم من جميع هذه المعاصي ، وإلّا فإنّ ضمير كل إنسان عاقل يشهد بأن الإنسان حرّ في أفعاله وغير مجبور ، ولهذا إذا ظلمه أحد انزعج منه ، وأخذه ووّبخه ، بل وعاقبه إذا قدر.

وكل ردود الفعل هذه تفيد أنّه يرى المجرم حرّا في عمله ومختار ، فهو ليس على استعداد لأنّ يغض الطرف عن ردود الفعل هذه بحجّة أنّ الظلم الواقع عليه من قبل ذلك الشخص مطابق لإرادة الله ومشيئته (تأمل بدقة).

نعم هناك احتمال في هذه الآية ، وهو أنّهم كانوا يدّعون أنّ سكوت الله على عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه ، لأنّه إذا لم يكن راضيا بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.

وكانوا يريدون ـ بذكر عبارة (وَلا آباؤُنا) ـ أن يسبغوا على عقائدهم الفارغة لون القدم والدوام ، ويقولون : إنّ هذه الأمور ليست بجديدة ندعيها نحن بل كان ذلك دائما.

ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع ، فهو يقول أوّلا : ليس

٥٠٢

هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (١) ولكنّهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا).

فهؤلاء ـ في الحقيقة ـ كانوا يكذبون في كلامهم هذا ، كما أنّهم يكذّبون الأنبياء ، لأنّ الأنبياء الإلهيين نهوا البشرية ـ بصراحة ـ عن الوثنية والشرك وتحريم ما أحلّه الله ، فلا آباؤهم سمعوا ذلك ولا هؤلاء ، مع ذلك كيف يمكن أن نعتبر الله راضيا بهذه الأعمال؟ ... ولو كان سبحانه راضيا بهذه الأمور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إلى التوحيد؟!

إنّ دعوة الأنبياء ـ في الأساس ـ أقوى دليل على حرية الإرادة الإنسانية ، وإختيار البشر.

ثمّ يقول سبحانه : قل لهم يا محمّد : هل لكم برهان قاطع ومسلّم على ما تدّعونه؟ هاتوه إن كان (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا).

ثمّ يضيف في النهاية : إنّكم ما تتبعونه ليس سوى أوهام وخيالات فجة : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).

وفي الآية اللاحقة يذكر دليلا آخر لإبطال ادعاء المشركين ، ويقول : قل : إنّ الله أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته ، وهكذا أقام أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل ، بحيث لم يبق أي عذر لمعتذر : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ).

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدعي أحد أبدا أنّ الله أمضى ـ بسكوته ـ عقائدهم وأعمالهم الباطلة ، وكذلك يسعهم قط أن يدّعوا أنّهم كانوا مجبورين ، لأنّهم لو كانوا مجبورين لكان إقامة الدليل والبرهان ، وإرسال الأنبياء وتبليغهم ودعوتهم لغوا ، إنّ إقامة الدليل دليل على حرية الإرادة.

على أنّه يجب الانتباه إلى أنّ «الحجة» الذي هو من «حجّ» يعني القصد ،

__________________

(١) «كذب» في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير ، وكذلك فعل الكذب.

٥٠٣

وتطلق «الحجة» على الطريق الذي يقصده الإنسان ، ويطلق على البرهان والدليل«الحجة» أيضا ، لأنّ القائل يقصد إثبات مدعاه للآخرين عن طريقه.

ومع ملاحظة لفظة «بالغة» يتّضح أنّ الأدلة التي أقامها الله للبشر عن طريق العقل والنقل وبواسطة العلم والفكر ، وكذا عن طريق إرسال الأنبياء واضحة لا لبس فيها من جميع الجهات ، بحيث لا يبقى أي مجال للترديد والشك لأحد ، ولهذا السبب نفسه عصم الله سبحانه أنبياءه من كل خطأ ليبعدهم عن أي نوع من أنواع التردد والشك في الدعوة والإبلاغ.

ثمّ يقول في ختام الآية : ولو شاء الله أن يهديكم جميعا بالجبر لفعل : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ في مقدور الله تعالى أن يجبر جميع أبناء آدم على الهداية ، بحيث لا يكون لأحد القدرة على مخالفته ، ولكن في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء هذا الإيمان الجبري القسري أية قيمة ، إنّما فضيلة الإنسان وتكامله في أن يسلك طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإرادته وإختياره.

وعلى هذا الأساس لا منافاة أصلا بين هذه الجملة والآية السابقة التي ورد فيها نفي الجبر.

إنّ هذه الجملة تقول : إنّ إجبار الناس الذي تدّعونه أمر ممكن ومقدور لله تعالى ، ولكنّه لن يفعله قط ، لأنّه يخالف الحكمة وينافي المصلحة الإنسانية.

وكان المشركون قد تذرّعوا بالقدرة والمشيئة الإلهيتين لاختيار مذهب الجبر ، على حين أن القدرة والمشيئة الآلهيتين حق لا شبهة فيهما ، بيد أنّ نتيجتهما ليست هي الجبر والقسر ، بل إنّ الله تعالى أراد أن نكون أحرارا ، وأن نسلك طريق الحق باختيارنا وبمحض إرادتنا.

جاء في كتاب الكافي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنّه قال :

٥٠٤

«إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (١).

وجاء في أمالي الصّدوق عن الإمام الصّادق عليه‌السلام لمّا سئل عن تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أنه قال : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما ، فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة» (٢).

إنّ من البديهي أنّ المقصود من الحديث المذكور ليس هو أنّ الحجّة البالغة منحصرة في حوار الله تعالى مع عباده يوم القيامة ، بل إنّ لله حججا بالغة عديدة من مصاديقها ما جاء في الحديث المذكور من الحوار بين الله وبين عباده ، لأن نطاق الحجج الإلهية البالغة واسع يشمل الدنيا والآخرة.

وفي الآية التّالية ـ ولكي يتضح بطلان أقوالهم ، ومراعاة لأسس القضاء والحكم الصحيح ـ دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم ، لكي يشهدوا لهم بأنّ الله هو الذي حرّم الحيوانات والزروع التي ادّعوا تحريمها ، لهذا يقول : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا).

ثمّ يضيف قائلا : إذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا يملكون حتما) بل يكتفون بشهادتهم وادّعائهم أنفسهم فقط ، فلا تشهد معهم ولا تؤيدهم في دعاويهم : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ).

اتضح ممّا قيل إنّه لا تناقض قطّ في الآية لو لوحظت مجموعة ، وأمّا مطالبتهم بالشاهد في البداية ثمّ أمره تعالى بعدم قبول شهاداتهم ، فلا يستتبع إشكالا ، لأنّ المقصود هو الإشعار بأنّهم عاجزون عن إقامة الشهود المعتبرين

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٧٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٧٦.

٥٠٥

على القطع واليقين ، لأنّهم لا يمتلكون أيّ دليل من الأنبياء الإلهيين والكتب السماوية يسند تحريم هذه الأمور ، ولهذا فإنّهم وحدهم الذين يدّعون هذه الأمور سيشهدون ، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة مرفوضة.

هذا مضافا إلى أنّ جميع القرائن تشهد بأنّ هذه الأحكام ما هي إلّا أحكام مصطنعة مختلفة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى ، ولا اعتبار لها مطلقا.

ولذلك قال في العبارة اللاحقة : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١).

يعني أنّ وثنيتهم ، وإنكارهم للقيامة والبعث ، والخرافات ، وإتباعهم للهوى ، شواهد حيّة على أنّ أحكامهم هذه مختلقة أيضا ، وأنّ ادّعاهم في مسألة تحريم هذه الموضوعات من جانب الله لا قيمة له ، ولا أساس له من الصحة.

* * *

__________________

(١) «يعدلون» مشتق من مادة «عدل» بمعنى الشريك والتشبيه ، وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم جملة «وهم بربّهم يعدلون» هم أنّهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه الله سبحانه.

٥٠٦

الآيات

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

التّفسير

الأوامر العشرة :

بعد نفي أحكام المشركين المختلفة التي مرّت في الآيات المتقدمة ، أشارت

٥٠٧

هذه الآيات الثلاثة إلى أصول المحرمات في الإسلام ، وذكرت الذنوب الرئيسية الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب ، عميق وفريد ، ودعت المشركين إلى أن يحضروا عند النّبي ويستمعوا إلى ما يتلى عليهم من المحرمات الإلهية الواقعية ، ويتركوا المحرمات المختلقة جانبا.

يقول أوّلا : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ).

١ ـ (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

٢ ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي بسبب الفقر والحرمان لأنّنا (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي لا تقربوها فضلا عن أن لا ترتكبوها.

٥ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) فلا تسفكوا الدّماء البريئة ، ولا تقتلوا النفوس التي حرم الله قتلها إلّا ضمن قوانين العقوبات الإلهية ، فيجوز أن تقتلوا من أذن الله لكم بقتله.

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فلا ترتكبوها.

٦ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فلا تقربوا مال اليتيم إلّا بقصد الإصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.

٧ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) فلا تطففوا ولا تبخسوا.

وحيث أن الإنسان ـ مهما دقق في الكيل والوزن ـ قد يزيد أو ينقص بما لا يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه ، لهذا عقب على ما قال بقوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

٨ ـ (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند

٥٠٨

الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب ، فاشهدوا بالحق ، واقضوا بالعدل.

٩ ـ (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ولا تنقضوه.

وأمّا ما هو المراد من العهد الالهي المذكور في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسّرون إلى احتمالات عديدة فيه ، ولكن مفهوم الآية يشمل جميع العهود الالهيّة «التكوينية» و «التشريعية» والتكاليف الالهية وكل عهد ونذر ويمين.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة ـ للتأكيد : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

١٠ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) إن طريقي هذا هو طريق التوحيد ، طريق الحق والعدل ، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه ، واتبعوه ، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة ، فتؤدي بكم إلى الانحراف عن الله وإلى الاختلاف ، والتشرذم ، والتفرق ، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.

ثمّ يختم جميع هذه الأقسام وللمرّة الثّالثة ـ لغرض التأكيد بقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

بحوث

إنّ هاهنا عدّة نقاط يجب أن نقف عندها ، وهي :

١ ـ الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف

إنّ الملاحظ في هذه الآيات أنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الاجتماعية والمحرمات الالهية ، وانتهت ـ أيضا ـ بالدّعوة إلى نبذ التفرق والاختلاف الذي

٥٠٩

يعدّ هو الآخر نوعا من الشرك العملي.

إنّ هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأصول والفروع الإسلامية ، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرّد أصل عقائدي بحت ، بل يمثّل روح التعاليم الإسلامية برمتها.

٢ ـ التأكيدات المتتابعة

لقد تكرّرت عبارة (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات الثلاث ، مع فوارق في الفواصل طبعا ، فقد ختمت العبارة في الآية الأولى بجملة : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وفي الآية الثّانية بجملة : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وفي الآية الثّالثة بجملة : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ويبدو أنّ هذه التعابير المختلفة إشارة إلى النقطة التّالية وهي : أنّ المرحلة الأولى عند تلقّي أيّ حكم من الأحكام هو مرحلة «التعقل» أي فهم ذلك الحكم وإدراكه.

والمرحلة الثّانية هي : مرحلة «التذكر» وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده واستيعاب محتواه.

والمرحلة الثّالثة هي : المرحلة النهائية ، وهي مرحلة العمل والتطبيق ، وقد أسماها القرآن بمرحلة «التقوى».

صحيح أنّ كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدّة تعاليم من التعاليم العشرة ، إلّا أنّه من الواضح أنّ هذه المراحل لا تختص بأحكام معيّنة ، لأنّ كل حكم من الأحكام ، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إلى «التعقل» و «التذكر» و «التقوى والعمل» ، إنّما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة ، التي اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة.

٥١٠

٣ ـ التعاليم والأوامر الخالدة

لعلّنا في غنىّ عن التذكير بأنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين الإسلامي ، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإن كانت قد حظيت في الإسلام بعناية أكبر وأوسع.

وفي الحقيقة أنّ هذه التعاليم ممّا يدركه العقل السويّ والضمير السليم بوضوح وجلاء وبعبارة أخرى : هي من «المستقلات العقلية» ولهذا فإنّها كما ذكرت في القرآن الكريم ، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين (١).

٤ ـ أهمية الإحسان إلى الوالدين

إنّ ذكر مسألة الإحسان للوالدين ـ بعد مكافحة الشرك مباشرة ، وقبل ذكر تعاليم مهمّة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل ـ يدلّ على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإسلامية.

ويتّضح هذا الأمر أكثر عند ما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات ، مسألة الإحسان إليهما ، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإيذاؤهما محرّما فقط ، بل يجب الإحسان إليهما.

والأجمل من هذا كلّه أنّ كلمة «الإحسان» عدّيت بحرف «الباء» فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ونحن نعلم أن الإحسان قد يعدّى بإلى وقد يعدّى بالباء ، فإذا عدّ بإلى كان معناه : الإحسان إلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة ، أو مع الواسطة. ولكنّه عند ما يعدّى بالباء يكون معناه : الإحسان بصورة مباشرة ومن دون واسطة.

وعلى هذه الأساس فإنّ هذه الآية تؤكّد أنّ موضوع الإحسان إلى الوالدين

__________________

(١) راجع الآية (١٣) من سورة الشورى.

٥١١

من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإنسان أن يباشر الإحسان بنفسه إلى الوالدين(١).

٥ ـ قتل الأولاد من الإملاق والجوع

يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب ، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يعدّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك ، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة ، أيضا. والله تعالى يلفت نظرهم إلى مائدة النعم الإلهيّة الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات ، ونهاهم سبحانه عن ذلك.

ولكن هذا العمل الجاهلي ـ وللأسف البالغ ـ يتكّرر الآن في عصرنا في صورة أخرى ، إذ نلاحظ كيف يعمد الناس إلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق «الكور تاج» والإجهاض بحجة النقصان الاحتمالي في المواد الغذائية.

إنّ إسقاط الجنين وإن كان يبرّر الآن بأدلة وحجج أخرى أيضا ، إلّا أنّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية ، هي من أدلتها الأصليّة.

هذه المسألة والمسائل المشابهة الأخرى تشير إلى أنّ العهد الجاهلي يتكّرر في شكل آخر ، وأنّ «جاهلية القرن العشرين» أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإسلام.

٦ ـ ما هو المقصود من الفواحش؟

«الفواحش» جمع «فاحشة» يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا الأساس فإنّ نقض العهد ، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإن كانت من الذنوب

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ١٨٥.

٥١٢

الكبار ، إلّا أنّ ذكرها في مقابل الفواحش إنّما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها.

٧ ـ لا تقربوا هذه الذّنوب

في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين ، وقد تكرر هذا الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأخر أيضا ، ويبدو أنّ هذا التعبير قد ورد في مجال الذنوب المثيرة كالزنا ، وأموال اليتامى وما شابهها ، لهذا يحذّر الناس من الاقتراب إليها لكي لا يقعوا تحت إثارتها.

٨ ـ الذّنوب الظاهرة والباطنة

لا شك في أنّ جملة (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) تشمل كل الذنوب القبيحة الظاهرة ، والخفية ، ولكن جاء في بعض الأحاديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام «ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المخالّة» (أي اتخاذ الخليلات والصديقات سرّا وخفيّة) ولكنّه واضح أنّ ذكر هذه الموارد إنّما هو بيان المصداق الواضح ، لا أنّه يعني انحصارها فيها.

٩ ـ الوصايا العشر عند اليهود

نلاحظ في التّوراة في الفصل ٢٠ ـ سفر الخروج أحكاما عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا ، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل.

ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر ، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح أنّ فرقا واسعا وبونا شاسعا بين هذين البرنامجين ، وعلى أنّه لا يمكن الاطمئنان إلى أنّ التّوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال ، كما تعرضت للتحريف في الأقسام الأخرى. ولكنّ ما هو مسلّم هو أنّ الوصايا العشر الموجودة في التّوراة

٥١٣

وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة ، إلّا أنّها أقل مستوى بكثير ـ من حيث السعة والأبعاد الأخلاقية ، والاجتماعية والعقيدية ـ من مفاد الآيات الحاضرة.

١٠ ـ كيف غيّرت هذه الآيات وجه المدينة المنورة؟

لقد وردت في بحار الأنوار ، وكذا في كتاب أعلام الورى قصّة جميلة تحكي عن تأثير هذه الآيات البالغ في نفوس المستمعين ، وها نحن ندرج هنا القصة المذكورة باختصار وفقا لما جاء في بحار الأنوار برواية علي بن إبراهيم.

قدم أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد قيس مكّة في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهرا طويلا ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة يسألون الحلف على الأوس وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة فنزل عليه ، وقصّ عليه ما جاء من أجله فقال عتبة بن ربيعة في جواب أسعد : بعدت دارنا من داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء ، قال أسعد : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفا ، وأعظمنا بيتا.

فلمّا سمع أسعد وذكوان ذلك ، أخذا يفكّران فيه ، ووقع في قلبهما ما كانا يسمعانه من اليهود ، أنّ هذا أوان نبي يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة.

فقال أسعد : أين هو؟

قال عتبة : جالس في الحجر (حجر إسماعيل) وأنّهم (أي المسلمون) لا يخرجون من شعبهم إلّا في المواسم ، فلا تسمع منه ، ولا تكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

٥١٤

فقال أسعد لعتبة : فكيف أصنع ، وأنا محرم للعمرة لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟

قال : ضع في أذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد ، وقد حشا أذنيه بالقطن فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه.

فلمّا كان في الشّوط الثّاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي. أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ فأخذ القطن من أذنيه ورمى به ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنعم صباحا. فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه ، وقال : قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنّة ، السلام عليكم.

فقال له أسعد : إلى م تدعو يا محمّد؟

قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى ...(ثمّ تلا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآيات الثلاثة المبحوثة هنا والتي تتضمن التعاليم العشرة).

فلمّا سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك.

والله يا رسول الله ، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك عندنا فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

ثمّ أسلم رفيق أسعد ـ ذكوان ـ أيضا ـ ثمّ طلبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث معهم رجلا يعلمهم القرآن ، ويدعو الناس إلى أمره ، ويطفئ الحروب ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهما إلى المدينة «مصعب بن عمير» ومنذئذ أسست قواعد الإسلام في المدينة وتغير وجه يثرب (١).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، ج ١٩ ، ص ٨ و ٩ و ١٠.

٥١٥

الآيات

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

التّفسير

رد حاسم على المتحججين والمتعلّلين :

في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإسلام الأساسية التي تشكّل ـ في الحقيقة ـ أساسا وقاعدة للكثير من الأحكام الإسلامية ،

٥١٦

ويستفاد من قوله تعالى : (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) ونظائره ، أنّ هذه الأحكام لم تكن مختصّة بدين معنين أو شريعة خاصّة ، خاصّة وأنّها من الأصول والمبادئ التي يحكم بها العقل ويؤيّدها من دون تلكؤ أو تأخير ، وبهذا يكون مضمون الآيات السابقة هو بيان الأحكام التي لم تكن مختصّة بالإسلام ، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان.

ثمّ قال عقيب ذلك في هذه الآيات : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتبعوه.

وممّا قيل يتّضح معنى كلمة «ثمّ» تستعمل في اللغة العربية عادة في «العطف مع التراخي» ويكون معنى الآية هو : أنّنا آتينا هذه التعاليم والوصايا العامّة للأنبياء السابقين أوّلا ، ثمّ آتينا موسى كتابا سماويا وبيّنا فيه هذه التعاليم والبرامج وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة.

وبهذا لا حاجة إلى ما ذهب إليه بعض المفسّرين من التوجيهات المختلفة ، والضعيفة أحيانا في هذا المجال.

كما تتّضح هذه النقطة أيضا ، وهي أنّ عبارة : (الَّذِي أَحْسَنَ) إشارة إلى جميع المحسنين ، والذين يستجيبون للحق ، ويقبلون بالأوامر الإلهية.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) فإن فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إليه المجتمع ، وممّا له أثر في تكامل الإنسان وتر شيده.

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافا إلى ما سبق : هدى ورحمة.

إنّ جميع هذه البرامج ، ما هي إلّا لكي يؤمنوا بيوم القيامة ، وبلقاء الله ، ولكي يطهّروا عن طريق الإيمان بالمعاد أفكارهم ، وأقوالهم ، وأعمالهم ويزكوها : (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

هذا ، ويمكن أن يقال : إذا كانت شريعة موسى شريعة كاملة (كما يستفاد من

٥١٧

كلمة «تماما») فما الحاجة إلى شريعة عيسى ، وإلى الشريعة الإسلامية؟

ولكن يجب أن يعلم أنّ كلّ شريعة من الشرائع إنّما تكون شريعة جامعة وكاملة بالنسبة لعصرها ، ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله تعالى.

بيد أنّ هذه الشريعة التي تكون كاملة بالنسبة إلى عصر معيّن يمكن أن تكون ناقصة غير كاملة بالنسبة إلى العصور اللاحقة ، كما أنّ البرنامج الكامل الجامع المعدّ لمرحلة الدراسة الابتدائية ، يكون برنامجا ناقصا بالنسبة إلى مرحلة الدراسة المتوّسطة ، وهذا هو السرّ في إرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماويّة المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمر إلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم.

نعم إذ تهيّأ البشر لتلقّي التعاليم النهائية ، وصدرت إليهم تلك التعاليم والأوامر ، لم يبق حاجة ـ بعد ذلك ـ إلى دين جديد ، وكان شأنهم حينئذ شأن المتخّرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات علمية عن طريق المطالعة والتأمل.

إن أتباع مثل هذه الشريعة ، ومثل هذا الدين (النهائي) لن يحتاجوا إلى دين جديد ، وإنّما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإلهي.

كما أنّه يستفاد من هذه الآية أيضا أنّ القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في التّوراة الأصلية بالقدر الكافي. وإذا لم نلاحظ اشارة إلى قضايا الحشر والمعاد في التّوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إلّا نادرا ، فالظاهر أنّ ذلك بسبب تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلّة التحدّث في القيامة وقلّة السماع عنها.

على أنّه قد وردت في التّوراة الفعلية مع ذلك إشارات عابرة ومختصرة إلى مسألة القيامة ، ولكنّها قليلة إلى درجة دفع بالبعض إلى القول : إنّ اليهود لا يعتقدون بالمعاد والقيامة أساسا ، ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع

٥١٨

والحقيقة.

كما أنّه يجب أيضا أن نلفت نظر القارئ إلى أنّ المراد من إلقاء الله الذي ورد في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية ، بل المراد هو نوع من الشهود الباطني ، واللقاء الروحاني ، الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل الإنساني الحاصل للأشخاص ، أو المقصود منه هو : مشاهدة الثواب والعقاب في العالم الآخر.

الآية اللاحقة تشير إلى نزول القرآن وتعليماته القيمة ، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة ، يقول تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة ، عظيم البركة ، وهو المنبع لكلّ أنواع الخير والبركة.

ولمّا كان الأمر كذلك وجب اتباعه بصورة كاملة ، ووجب التزود بالتقوى ، والتجنب عن مخالفته ، لتشملكم رحمة الله ولطفه (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التملّص والفرار في وجه المشركين ، فقال لهم أوّلا : لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا : لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين ، وليس تمرّدنا على أوامر الله لكونها موجودة عند غيرنا من الأمم ، ولم يبلغنا منها شيء : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١).

ثمّ إنّه سبحانه ينقل عنهم ـ في الآية اللاحقة ـ نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع ، ومقرونا هذه المرّة بنوع أشدّ من الغرور والصّلف وهو : أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر استعدادا من

__________________

(١) «أن تقولوا» معناه «لئلّا تقولوا» ونظير ذلك كثير في لغة العرب.

٥١٩

أية أمّة أخرى لقبول الأمر الإلهي : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ).

والآية المتقدّمة كانت تعكس ـ في الحقيقة ـ هذا التحجج وهو : أنّ عدم اهتدائنا إنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية ، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشئ عن أنّ هذه الكتب نزلت على الآخرين ، ولم تنزل علينا.

أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوق والادّعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربيّ على غيرهم.

وقد نقل نظير هذا المعنى في سورة فاطر في الآية (٤٢) عن مقالة المشركين في شكل مسألة قاطعة وليس من باب القضية الشرطية وذلك عند ما يقول : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً).

وعلى أية حال فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الادعاءات أن الله سبحانه سدّ عليكم كل سبل التملص والفرار ، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير ، لأنّ الله آتاكم كل الآيات ، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة الربانية لكم : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ).

والملفت للنظر أنّه استعمل لفظ «البينة» بدل الكتاب السماوي ، وهو إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي واضح المعالم ، بيّن الحقائق من جميع الجهات ، ومقرون بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة اللامعة.

ومع ذلك (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها).

و «صدف» من «الصدف» ويعني الإعراض الشديد ـ من دون تفكير ـ عن شيء ، وهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب ، بل كانوا يبتعدون عنها ـ أيضا ـ من دون أن يفكروا فيها أدنى تفكير. ربّما استعملت هذه اللفظة بمعنى آخر وهو منع الآخرين أيضا.

٥٢٠