الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

١ ـ إنّهم يحبّون الله ولا يفكرون بغير رضاه ، فالله يحبّهم وهم يحبّونه ، كما تقول الآية : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

٢ ـ و ٣ ـ يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين ، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين ـ حيث تقول الآية : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ...).

٤ ـ إنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

٥ ـ وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام ، هي أنّهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق ، حيث تقول الآية : (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ...)فهؤلاء بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة الجسمانية ، يمتلكون الجرأة والشّجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة ، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي اعتمدت على كثرتها في الاستهزاء بالمؤمنين.

وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة ، لكنّهم يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة ، ويتملكهم الخوف والجبن ، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين ، في حين أنّ القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة ، يقفون سدّا وحائلا دون حصول الإصلاحات المطلوبة.

وتؤكّد الآية في الختام ـ على أنّ اكتساب أو نيل مثل هذه الامتيازات السامية (بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل الله الذي يهبها لمن يشاء ، ولمن يراه كفؤا لها من عباده ، حيث تقول الآية في هذا المجال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ...).

٤١

وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل الله وكرمه واسع ، وهو يعرف الأفكاء والمؤهلين من عباده ، وكما تقول الآية : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

لقد نقلت الرّوايات الإسلامية التي أوردها المفسّرون أقوالا كثيرة حول هوية الأشخاص المعنيين بهذه الآية ، فمن هم أنصار الإسلام هؤلاء الذين مدحهم الله بهذه الصفات؟

في الكثير من الرّوايات الواردة عن طرق الشيعة والسنة نقرأ أن هذه الآية نزلت في حقّ (علي بن أبي طالب عليه‌السلام) وقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين (مثيري حرب الجمل ، وجيش معاوية ، والخوارج) ، وممّا يدل على ذلك قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رأى عجز قادة جيش الإسلام عن فتح حصن خيبر ، حيث وجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم الخطاب في إحدى الليالي وفي مقر جيش الإسلام قائلا : لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» (١).

ونقرأ في رواية أخرى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن هذه الآية فوضع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده الشريفة على كتف «سلمان» وقال ما مضمونه : «هذا وأنصاره وبني قومه ...» وبذلك تنبّأ النّبي عن إسلام الإيرانيين وجهودهم ومساعيهم المثمرة في خدمة هذا الدين في المجالات المختلفة ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان الدين (وفي رواية أخرى ـ لو كان العلم ـ) معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» (٢).

وذكرت روايات أخرى أن هذه الآية نزلت في شأن أنصار المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذين سيواجهون الارتداد والمرتدين بكل قوّة

__________________

(١) وقد ورد في تفسير (البرهان) و (نور الثقلين) العديد من الرّوايات ، منقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال ، كما نقل (الثعلبي) وهو أحد علماء السنة هذه الرّوايات (راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٢٠٠).

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٠٨ ـ نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤٢ ـ أبو نعيم الأصفهاني في الحلية ، ج ٦ ، ص ٦٤ نقلوا هذا الحديث على الوجه التالي : «لو كان العلم منوطا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»

أمّاابن عبد البر فقد نقل الحديث على الصورة التّالية : «لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان ...» وذلك في الإستيعاب ، ج ٢ ، ص ٥٧٧.

٤٢

وحزم ، ويملؤون العالم قسطا وعدلا وإيمانا.

وممّا لا شك فيه أنّه لا تناقض بين هذه الرّوايات الواردة في تفسير الآية الأخيرة ، لأنّ الآية ـ جريا على أسلوب القرآن الكريم ـ تبيّن مفهوما كليا عاما ، بحيث تعتبر «علي بن أبي طالب عليه‌السلام» أو «سلمان الفارسي» مصداقين مهمين ضمن هذا المفهوم الذي يشمل أفرادا آخرين يسيرون على نفس النهج ، حتى لو لم تتطرق الرّوايات إلى أسمائهم.

إنّ الأمر الذي يثير الأسف في هذا المجال ، هو تدخل العصبيات الطائفية والقومية في تفسير هذه الآية ، والتي أدخلت أفرادا لا يمتلكون أي كفاءة ولا يتمتعون بأي من الصفات المذكورة ضمن مصاديق هذه الآية واعتبرتهم ممّن نزلت الآية في شأنهم ، ومن هؤلاء الأفراد «أبو موسى الأشعري» الذي ارتكب تلك الحماقة التّأريخية المعروفة التي دفعت بالإسلام نحو هاوية السقوط ، ووضعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في أحرج موقف (١).

والغريب في هذا الأمر هو انتقال آثار التطرف الذي نلاحظه في الكتب العلمية ـ بشكل رهيب ـ إلى سواد الناس ، بل إلى متعلميهم ، وكأن هناك يدا خفية تسعى الى تشتيت صفوف المسلمين ، وتحول دون اتحاد كلمتهم ، وقد سرى هذا التطرف ليشمل تاريخ ما قبل الإسلام ، بحيث نرى هؤلاء المتطرفين وقد سمّوا شارعا فخما يقع بجوار بيت الله الحرام باسم «أبي سفيان» وهذا الشارع هو أكبر وأفخم بكثير من شارع «إبراهيم الخليل عليه‌السلام» مؤسس الكعبة الشريفة.

وأخذ أمثال هؤلاء المتطرفين يصمون كثيرا من المسلمين وبكل بساطة بالشرك ، لا لشيء إلّا لأنّ تحرك هؤلاء المسلمين لا يتفق مع أهوائهم وطريقتهم

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ١٨٤ ـ إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت فقط «قوم أبي موسى» للإشارة إلى أهل اليمن الذين هبوا لنصرة الإسلام في أحرج اللحظات ، واستثنى أبو موسى تلميحا إلى قومه ، بينما تصرح الرّوايات الأخرى بأن (سلمان الفارسي) وقومه هم المشمولون بهذه الآية.

٤٣

الخاصة ، وكأن الإسلام ينحصر في هذه الطريقة ، أو كأنّهم ـ وحدهم ـ سدنة القرآن وحفظته دون غيرهم ، أو كأنّهم هم المكلفون ـ دون غيرهم ـ ببيان من هو المسلم ومن هو الكافر ، فيشيرون بكلمة واحدة إلى هذا بأنّه مشرك وإلى ذاك بأنّه مسلم ، وفق ما تشتهيه أهواؤهم ورغباتهم.

في حين أنّنا نقرأ في الرّوايات الواردة في تفسير الآيات الأخيرة ، أنّ الإسلام حين يصبح غريبا بين أهله يبرز أشخاص كسلمان الفارسي لإعادة مجد الإسلام وعظمته ، وهذه بشارة وردت على لسان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوم سلمان.

والمثير للدهشة والحيرة أن كلمة التوحيد التي هي رمز لوحدة المسلمين ، أصبحت اليوم تستخدم من قبل جهات معلومة للتفريق بين المسلمين واتهامهم بالشرك والوثنية ، وقد خاطب أحد العلماء هؤلاء المتطرفين بقوله : إنّكم قد وصلت بكم الحالة إلى درجة أن إسرائيل إذا تسلطت على جماعة منكم فرحت جماعة أخرى بهذا التسلط ، وإذا ضربت إسرائيل الجماعة الأخرى فرحت الجماعة الاولى بهذا العمل ، أو ليس هذا هو ما يبتغيه ويهدف إليه أعداء الإسلام؟

ومن الإنصاف القول بأن اللقاءات المتكررة التي حصلت بيننا وبين عدد من علماء هؤلاء المتعصبين المتطرفين ، كشفت القناع عن أنّ الواعين منهم كثيرا ما لا يرضون بهذا الوضع ، وقد التقيت بأحد علماء اليمن في المسجد الحرام فقال أمام جمع من كبار مدرسي الحرم المكي : إنّ اتهام أهل القبلة بالشرك يعتبر ذنبا كبيرا ، استقبحه السلف الصالح كثيرا ، وقد صدر هذا القول منه حين كان الحديث يدور حول مسألة حدود الشرك ، وقد أعرب هذا العالم عن استيائه لما يقوم به بعض الجهلاء من اتهام الناس بالشرك مشيرا إلى أن هؤلاء يتحملون بعملهم هذا مسئولية عظيمة.

* * *

٤٤

الآية

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥))

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير وكتب أخرى ـ نقلا عن عبد الله بن عباس قوله : أنّه كان في أحد الأيّام جالسا إلى جوار بئر زمزم ، ويروي للناس أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقرب إليهم ـ فجأة ـ رجل كان يرتدي عمامة ، ويضع على وجهه نقابا ، وكان كلما تلا ابن عباس حديثا عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هو حديثا عن النّبي مستهلا قوله بعبارة : «قال رسول الله ...» فأقسم عليه ابن عباس أن يعرف نفسه ، فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ولم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلّا صمتا ، ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا ، يقول : «علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله».

وأضاف أبو ذر : أمّا إنّي صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده الى السماء وقال : اللهم أشهد بأنّي سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وكان علي عليه‌السلام

٤٥

راكعا فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فاقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهم موسى سألك فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ...) اللهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك اللهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا عليّا أشدد به ظهري».

قال أبو ذر رحمه‌الله : فما استتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه حتى نزل جبرائيل من عند اللهعزوجل فقال عليه‌السلام : يا محمّد اقرأ ، قال : وما اقرأ؟ قال : اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).

وطبيعي أنّ سبب النّزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة (كما سيأتي تفصيله) بحيث تختلف الرّوايات أحيانا بعضها عن البعض الآخر في جزئيات وخصوصيات الموضوع ، لكنها جميعا متفقة من حيث الأساس والمبدأ.

التّفسير

ابتدأت هذه الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر ، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم : الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذين آمنوا وأقاموا الصّلاة وأدوا الزّكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

ولا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة ولا يعني الخضوع ، لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٢١٠ ، في ذيل الآية البحوثة.

٤٦

وبالإضافة إلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية ، والتي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالب عليه‌السلام بخاتمه في الصّلاة ـ وسنتطرق إليها بالتفصيل ـ فإنّ جملة (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) تعتبر دليلا على هذا الأمر ، وليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع ، بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة وبدون منة.

كما لا شك في أنّ كلمة «الولي» الواردة في هذه الآية ، لا تعني الناصر والمحب ، لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم البعض ، حتى أولئك الذين لا زكاة عليهم ، أو لا يمتلكون ـ أساسا ـ شيئا ليؤدوا زكاته ، فكيف يدفعون الزّكاة وهم في حالة الركوع؟! هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض الآخر.

ومن هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية ، هو ولاية الأمر والإشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية ، خاصّة وقد جاءت مقترنة مع ولاية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاية الله حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة.

وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّا قرآنيا يدل على ولاية وإمامة علي بن أبي طالبعليه‌السلام للمسلمين.

شهادة الأحاديث والمفسّرين والمؤرخين :

لقد قلنا أنّ الكثير من الكتب الإسلامية ومصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإمام علي عليه‌السلام بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع ، كما لم تذكر روايات أخرى مسألة التصدق

٤٧

هذه ، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي عليه‌السلام.

وقد نقل هذه الرّوايات كل من ابن عباس ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن سلام ، وسلمة بن كهيل ، وأنس بن مالك ، وعتبة بن حكيم ، وعبد الله بن أبي ، وعبد الله بن غالب ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبي ذر الغفاري (١).

وبالإضافة إلى الرواة العشرة المذكورين ، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام نفسه (٢).

والطّريف أنّ كتاب (غاية المرام) ، قد نقل ٢٤ حديثا عن طرق أهل السنة و ١٩ حديثا عن طرق الشّيعة (٣).

وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتابا ، كلها من تأليف علماء أهل السنة ، منهم : محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص ٨٨ ، والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج ٢ ، ص ٥٠ ، ومن هذه المصادر المعتمدة أيضا : جامع الأصول ، ج ٩ ، ص ٤٧٨ ، وفي أسباب النّزول للواحدي ص ١٤٨ ، وفي لباب النقول للسيوطي ص ٩٠ ، وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص ١٨ ، وفي نور الأبصار للشبلنجي ص ١٠٥ ، وفي تفسير الطبري ص ١٦٥ ، وفي كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص ٥٦ ، وفي مفاتيح الغيب للرازي ج ٣ ، ص ٤٣١ ، وفي تفسير الدرّ المنثور ج ٢ ، ص ٣٩٣ ، وفي كتاب كنز العمال ج ٦ ، ص ٣٩١ ، وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ ، بالاضافة إلى صحيح النسائي ، وكتاب الجمع بين الصحاح الستة ، وكتب عديدة أخرى نقلت حديث الولاية (٤).

اذن كيف يمكن ـ والحالة هذه ـ انكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها ،

__________________

(١) راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٢ ، ص ٣٠٩ ـ ٤١٠.

(٢) راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين ، ص ١٥٥.

(٣) منهاج البراعة ، ج ٢ ، ص ٣٥٠.

(٤) راجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٢ ، وكتاب (الغدير) ج ٢ ، وكتاب المراجعات للاطلاع على تفاصيل أكثر بهذا الشأن.

٤٨

في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أخرى بحديث واحد أو حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية.

فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية ، وهي روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية ، لأنّنا قلما نجد أسبابا لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات ، كما ورد في هذه الآية الكريمة.

إنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر واصطحب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث يقول :

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا

زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشرائع

وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة ، منها كتاب تفسير (روح المعاني) للآلوسي ، وكتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي ، وكتب كثيرة أخرى.

الرّد على اعتراضات ثمانية :

لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنّة على تكرار الاعتراضات حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكذلك على تفسير (الولاية) الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإشراف والتصرف والإمامة ، وفيما يلي نعرض أهم هذه الاعتراضات للبحث والنقد ، وهي :

١ ـ قالوا : أنّ عبارة «الذين» المقترنة بكلمة «آمنوا» الواردة في الآية : لا يمكن أن تطبق على المفرد ، وذلك ضمن اعتراضهم على الرّوايات التي تقول

٤٩

بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقالوا : أنّ الآية أشارت بصيغة الجمع قائلة (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فكيف يمكن أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعلي عليه‌السلام؟

الجواب :

لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تمّ التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع ، وقد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل ، كما في آية المباهلة ، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أنّ الرّوايات التي ذكرت سبب نزول هذه الآية أكّدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراء عليها‌السلام وحدها ، وكذلك في كلمة (أنفسنا) في نفس الآية وهي صيغة جمع ، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير علي عليه‌السلام.

وكذلك نقرأ في الآية (١٧٢) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ...).

وقد بيّنا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية ، أن بعض المفسّرين ذكروا أنّها نزلت بشأن (نعيم بن مسعود) الذي لم يكن إلّا واحدا.

ونقرأ في الآية (٥٢) من هذه السّورة ـ أيضا ـ قوله تعالى : (... يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ...) في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص واحد ، كما جاء في سبب النّزول ، وهو (عبد الله بن أبي) وقد مضى تفسير ذلك.

وكذلك في الآية الاولى من سورة الممتحنة ، والآية الثامنة من سورة (المنافقون) والآيتين (٢١٥ و ٢٧٤) من سورة البقرة ، نقرأ فيها كلها عبارات جاءت بصيغة الجمع ، بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أنّ المراد في كل منها شخص واحد.

والتعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص ولتوضيح دوره الفعال ، أو لأجل عرض الحكم القرآني

٥٠

بصيغة كلية عامّة حتى إذا كان مصداقه منحصرا في شخص واحد ، وقد ورد في كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على الله الواحد الأحد ، وذلك تعظيما له جلّ شأنه.

وبديهي أنّ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر ، ولا يجوز بدون قرينة ولكن مع وجود الرّوايات الكثيرة الواردة في شأن نزول الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التّفسير وقد اكتفى في موارد أخرى بأقل من هذه القرينة؟!

٢ ـ وقال الفخر الرّازي ومتطرفون آخرون : أنّ عليّا عليه‌السلام بما عرف عنه من خشوع وخضوع إلى الله ، بالأخص في حالة الصّلاة (إلى درجة ، أنّهم استلوا أثناء صلاته سهما كان مغروزا في رجله ، دون أن يحس بالألم كما في (الرواية المعروفة) فكيف يمكن القول بأنّه سمع أثناء صلاته كلام السائل والتفت إليه؟!

الجواب :

إنّ الذين جاؤوا بهذا الاعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل والسعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الانصراف والتوجه إلى النفس ، بل هو عين التوجه إلى الله ، وعلي عليه‌السلام كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته وينصرف بكله إلى الله ، ومعروف أن التنصل عن خلق الله يعتبر تنصلا أيضا عن الله ، وبعبارة أوضح : أن أداء الزّكاة أثناء الصّلاة يعد عبادة ضمن عبادة أخرى ، وليس معناه القيام مباح ضمن العبادة ، بعبارة ثالثة : إنّ ما يلائم روح العبادة هو الانشغال والانصراف أثناءها إلى الأمور الخاصّة بالحياة والشخصية ، بينما التوجه إلى ما فيه رضى الله تعالى يتلائم بصورة تامّة مع روح العبادة ويؤكّدها.

ومن الضروري أن تؤكّد هنا أن الذوبان في التوجه إلى الله ، ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه ، ولا أن يكون بدون إرادة ، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله.

٥١

والطّريف في الأمر أنّ الفخر الرازي قد أوصله تطرّفه إلى الحدّ الذي اعتبر فيه ايماءة الإمام علي عليه‌السلام إلى السائل بأصبعه ـ لكي يأخذ الخاتم ـ مصداقا للفعل الكثير المنافي للصلاة ، في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصّلاة أكثر بكثير من تلك الإيماءة التي قام بها الإمام عليه‌السلام ، وفي نفس الوقت لا تضر ولا تمس الصّلاة بشيء ، ومن هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية والعقرب ، ورفع الطفل من محله ووضعه فيه ، وإرضاع الطفل الرضيع ، وكل هذه الأفعال لا تعتبر من الفعل الكثير في نظر الفقهاء ، فكيف يمكن القول بأن تلك الإيماءة تعتبر من الفعل الكثير؟!

وقد لا يكون هذا الخطأ غريبا عن عالم استولى عليه التطرف!

٣ ـ أمّا الاعتراض الآخر في هذا المجال ، فهو أنّ كلمة (ولي) الواردة في الآية تعني الصديق والناصر وأمثالهما ، وليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو ولي الأمر.

الجواب : لقد بيّنا في تفسير هذه الآية أن كلمة (ولي) ـ الواردة فيها ـ لا يمكن أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر ، لأنّ هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل المسلمين المؤمنين ، وليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية والذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة أثناء الركوع ، وبعبارة أخرى : إنّ الصداقة والنصرة حكمان عامان ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

٤ ـ وقالوا ـ أيضا ـ أنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يمتلك شيئا من حطام الدنيا حتى تجب عليه الزّكاة ، ولو قلنا بأنّ المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى زكاة؟!

الجواب :

أوّلا : إنّ التّأريخ ليشهد على امتلاك علي عليه‌السلام المال الوفير الذي حصل عليه

٥٢

من كدّ يمينه وعرق جبينه وتصدق به في سبيل الله ، وقد نقلوا في هذا المجال أنّ عليّا عليه‌السلام أعتق وحرر ألف رقبة من الرقيق ، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته ، أضف إلى ذلك فقد كان عليه‌السلام يحصل ـ أيضا ـ على حصته من غنائم الحرب ، وعلى هذا الأساس فقد كان علي عليه‌السلام يمتلك ذخيرة بسيطة من المال ، أو من نخلات التمر ممّا يتعين فيهما الزّكاة.

ونحن نعلم ـ أيضا ـ ان الفورية الواجبة في أداء الزّكاة هي «فورية عرفية» لا تتنافى مع أداء الصّلاة ، أي لا فرق في أداء الزّكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت الصّلاة أو أثناءها.

ثانيا : لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزّكاة على الصدقة المستحبة ، وبالأخص في السور المكية ، حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على الصدقة المستحبة ، لأنّ وجوب الزّكاة كان قد شرع بعد هجرة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، كما في (الآية ٣ من سورة النمل ، والآية ٣٩ من سورة الروم ، والآية ٤ من سورة لقمان ، والآية ٧ من سورة فصلت وغيرها).

٥ ـ ويقولون : إنّهم حتى لو أذعنوا بأن عليا عليه‌السلام هو الخليفة بعد النّبي مباشرة ، فهذا لا يعني أن يكون علي عليه‌السلام وليا في زمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ ولايته في زمن النّبي لم تكن ولاية فعلية ، بل كانت ولاية بالقوة ، وأن ظاهر الآية ـ موضوع البحث ـ يدل على الولاية الفعلية.

الجواب :

نلاحظ كثيرا في كلامنا اليومي ـ وكذلك في النصوص الأدبية ـ اطلاق اسم معين أو صفة خاصّة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية ، بل يمتلكون المزية أو المزايا بالقوة ، وهذا مثل أن يوصي انسان في حياته ويعين لنفسه وصيا وقيما على أطفاله فيكون الشخص الثّاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأوّل وصيا وقيما ، ويدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإنسان الموصي باقيا على قيد

٥٣

الحياة.

ونحن نقرأ في الرّوايات التي نقلت في أسانيد الشّيعة والسنّة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّ علي عليه‌السلام أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليا : وصيه وخليفته ، في حين أن هذين العنوانين لم يكونا ليتحققا في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والقرآن المجيد ـ أيضا ـ يشتمل على مثل هذه التعابير ، ومن ذلك ما ورد عن (زكريا) الذي توسل إلى الله بقوله : (.. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ...) (١) والمعروف أنّ المراد ـ هنا ـ من كلمة (ولي) المشرف الذي يتولى شؤون الإشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت ، ويسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة ، وليست بالفعل.

٦ ـ واحتجّوا ـ أيضا ـ بقولهم : لماذا لم يعتمد علي عليه‌السلام على هذا الدليل الواضح للدفاع عن حقّه؟

الجواب :

لقد لاحظنا ـ من خلال البحث الذي تناول الرّوايات في سبب نزول هذه الآية ـ أن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإمام علي عليه‌السلام نفسه ، ومن ذلك ما جاء في مسند «ابن مردويه» و «ابن الشّيخ» و «كنز العمال» وهذا بذاته دليل على استدلال الامام علي عليه‌السلام بهذه الآية الشريفة.

ونقل في كتاب (الغدير) القيم عن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) حديث مفصل مفاده أنّ عليّا عليه‌السلام حين كان منشغلا بحرب صفين ، تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه ، وكان من جملة ما استدل به الإمام عليه‌السلام هذه الآية الكريمة (٢).

__________________

(١) مريم ، ٥.

(٢) الغدير ، ج ١ ، ص ١٩٦.

٥٤

وجاء في كتاب (غاية المرام) نقلا عن أبي ذر رضى الله عنه أنّ عليّا عليه‌السلام استدل في يوم الشورى بهذه الآية (١).

٧ ـ وقد ادعوا ـ أيضا ـ أنّ هذا التّفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية ، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة.

الجواب :

لقد قلنا مرارا ـ أنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية ، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها ، أي أنّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية ـ لصلتها بحادثة خاصّة ـ عن مسير الآية التّالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أنّ آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ...)بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق الإمام علي عليه‌السلام أثناء الركوع ، أمّا الآيات السابقة واللاحقة لها ـ كما رأينا وسنرى ـ فقد نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد ـ هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات.

وهناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأنّ الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تحدثت عن الولاية بمعنى القيادة والتصرف ، وبديهي أنّ القائد والزعيم والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة.

__________________

(١) عن كتاب (منهاج البراعة) ، ج ٢ ، ص ٣٦٣.

٥٥

٨ ـ وأخيرا قالوا : من أين أتي علي عليه‌السلام بذلك الخاتم النفيس؟

وسألوا أيضا : ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعا من الإسراف؟

ألا تعتبر هذه الأمور دليلا على عدم صحة التّفسير المذكور.

الجواب :

إنّ المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به علي عليه‌السلام أثناء الركوع لا أساس لها مطلقا ، ولا يقوم عليها أي دليل مقبول ـ وما جاء في قيمة ذلك الخاتم من أنّه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة ، وقد جاء ذلك في رواية ضعيفة (١) ولعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية الأصلية وإظهارها بمظهر الأمر التافه ، وقد خلت الرّوايات الصحيحة ـ التي وردت حول سبب نزول هذه الآية ـ من أي أثر لمثل هذه الأسطورة.

وعلى هذا الإساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التّأريخية التي أشارت إليها الآية الكريمة ـ بمثل هذه الحكاية التافهة.

* * *

__________________

(١) جاءت هذه الرواية مرسلة في تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٨٥.

٥٦

الآية

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لمضمون الآية السابقة ، وهي تؤكّد وتتابع الهدف المقصود في تلك الآية ، وتعلن للمسلمين أنّ النصر سيكون حليف أولئك الذين يقبلون القيادة المتمثلة في الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين أشارت إليهم الآية السابقة.

وتصف الآية الذين قبلوا بهذه القيادة بأنّهم من حزب الله المنصورون دائما ، حيث تقول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

وتشتمل هذه الآية ـ أيضا ـ على قرينة أخرى تؤكّد المعنى المذكور في تفسير الآية السابقة لكلمة (الولاية) وهو الإشراف والتصرف والزعامة ، لأنّ عبارة (حزب الله) والتأكيد على أنّ الغلبة تكون لهذا الحزب ـ في الآية ـ لهما صلة بالحكومة الإسلامية ، ولا علاقة لهما بقضية الصداقة التي هي أمر بسيط وعادي ، وهذا يؤكّد بنفسه أنّ الولاية ـ الواردة في الآية ـ تعني الأشرف والحكم القيادة بالإسلام والمسلمين ، لأنّ معنى الحزب يتضمن التنظيم والتضامن

٥٧

والاجتماع لتحقيق أهداف مشتركة.

ويجب الانتباه إلى نقطة مهمّة وهي أنّ المراد بعبارة (الَّذِينَ آمَنُوا) الواردة في هذه الآية ليسوا جميع الأفراد المؤمنين ، بل ذلك الشخص الذي ذكر في الآية السابقة وأشير إليه بأوصاف معينة.

أمّا قضية الغلبة أو الإنتصار كفلته الآية لحزب الله فهل هو الإنتصار المعنوي وحده ، أم يشمل الإنتصار على كل الأصعدة وفي جميع المجالات المادية والمعنوية؟

لا شك أنّ الإطلاق في الآية الكريمة يدل على الإنتصار الشامل في جميع الجبهات ، وبديهي أنّ أي جماعة تنضوي تحت لواء حزب الله ، أي تتحلى بالإيمان القوي وتلتزم التقوى وتدأب على العمل الصالح وتسعى إلى الاتحاد والتكافل والتضامن وتتمتع بالوعي الكافي ، فهي لا شك ستنال النصر في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة ، والعجز الذي نشهده اليوم بين المسلمين عن نيل مثل هذا الإنتصار إنّما هو بسبب افتقارهم ـ في الغالب ـ إلى الصفات التي ذكرناها أعلاه ، والتي هي صفات الأفراد المنضوين تحت لواء حزب الله ، ولذلك فهم بدلا من أن يستخدموا قواهم وطاقاتهم في طرد الأعداء وحل مشاكلهم الاجتماعية يصرفون هذه القوى في إضعاف بعضهم البعض.

وقد ذكرت الآية (٢٢) من سورة المجادلة ـ أيضا ـ قسما من صفات حزب الله ، سنأتي على شرحها بإذن الله عند تفسير هذه السورة.

* * *

٥٨

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

سبب النّزول

جاء في تفاسير (مجمع البيان) و (أبو الفتوح الرازي) و (الفخر الرازي) أن اثنين من المشركين يدعيان (رفاعة) و (سويد) تظاهرا بإعلان الإسلام ثمّ انضما إلى المنافقين ، وكان لبعض المسلمين صحبة مع هذين الشخصين ويظهرون لهما التودد ، فنزلت الآيتان الأخيرتان ونهت هؤلاء المسلمين من عملهما ذلك (ويتّضح هنا أنّه حين تتحدث هاتان الآيتان عن الولاية فالمقصود هو الصّحبة والصداقة والمودّة لأنّ سبب نزولهما يختلف عن سبب نزول الآيتين السابقتين ، ولا يمكن اعتبار إحداهما قرينة للأخرى).

أمّا بخصوص سبب نزول الآية الثّانية من الآيتين الأخيرتين ، فنقل أنّ جماعة من اليهود وبعضا من النصارى حين كانوا يسمعون صوت الأذان ، أو

٥٩

حينما يرون المسلمين وهم يقيمون الصّلاة يبادرون إلى الاستهزاء بهم ، لذلك حذر القرآن المجيد المسلمين عن التودد إلى هؤلاء وأمثالهم.

التّفسير

يحذر القرآن في الآية المؤمنين من اتّخاذ أصدقاء لهم من بين المنافقين والأعداء ، إلّا أنّه لأجل استثارة عواطف المؤمنين واستقطاب انتباههم إلى فلسفة هذا الحكم خاطبهم بهذا الأسلوب ، كما تقول الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ...).

ولتأكيد التحذير تقول الآية في الختام : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بمعني أنّ التودد مع الأعداء والمنافقين لا يتناسب والتقوى والإيمان أبدا.

«الهزو» هو الكلام المصحوب بحركات تصور السخرية ، ويستخدم للاستخفاف والاستهانة بشيء أو شخص معين ، وفسّر «الراغب» في كتابه (المفردات) الهزو بأنّه يقال لفعل المزاح والاستخفاف الذي يصدر بشأن شخص في غيابه ، كما يطلق في حالات نادرة على المزاح أو الاستخفاف الذي يحصل بشخص معين في حضوره.

أمّا «اللعب» فهو الذي يصدر عبثا وبدون هدف صحيح ، أو خاليا من أي هدف وسمّيت بعض أفعال الصبيان لعبا لنفس السبب.

والآية الثّانية من الآيتين الأخيرتين تتابع البحث في النهي عن التودد إلى المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزئون بأحكام الإسلام ، وتشير إلى واحد من ممارساتهم الاستهزائية دليلا وشاهدا على هذا الأمر ، فتقول : (إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ...) (١).

__________________

(١) اختلف المفّسرون في الضمير الوارد في كلمة (اتّخذوها) هل يعود إلى الصّلاة أو إلى النداء وتفيد أسباب النّزول ـ التي

٦٠