الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

الاستناد إلى الأكثرية ، فلا ننس أنّ هذا ـ كما قلنا ـ نوع من الاضطرار والوصول إلى طريق مسدود ، إذ لا يمكن العثور في مجتمع مادي على وسيلة صحيحة وسليمة لاتخاذ القرارات ولسن القوانين.

لذلك نجد الكثير من العلماء مضطرين إلى القبول بفكرة الأكثرية ، على الرغم من اعترافهم بأنّ هذه القاعدة كثيرا ما يصاحبها الخطأ ، وذلك لأنّ عيوب الوسائل الأخرى أكثر.

بيد أنّ مجتمعا مؤمنا برسالة الأنبياء لا يجد نفسه مضطرا لاتباع نظر الأكثرية في سن القوانين ، لأنّ مناهج الأنبياء الصادقة وقوانينهم الإلهية خالية من كل عيب ونقص ، ولا يمكن مقارنتها بما تستصوبه الأكثرية المعرضة للخطأ.

لو ألقينا نظرة على وضع العالم اليوم وعلى الحكومات القائمة على أساس رأي الأكثرية ، وعلى القوانين السقيمة التي تمليها الأهواء ثمّ تقرها الأكثرية ، لرأينا أنّ الأكثرية العددية لم تداو جرحا ، بل إنّ معظم الحروب وأكثر المفاسد أقرّتها الأكثرية.

الاستعمار ، والاستغلال ، والحروب ، وإراقة الدماء ، وحرية تعاطي المسكرات ، والقمار ، والإجهاض ، والبغاء ، وغير ذلك ممّا يندي له الجبين خجلا ، قد أقرّتها الأكثرية في المجالس النيابية في كثير من البلدان التي تصف نفسها بأنّها متقدمة باعتبارها تعكس رغبة أكثرية عامّة الناس ، وهذا دليل على حقيقة ما نقول.

ومن الناحية العلمية نتساءل هل أنّ أكثرية المجتمعات صادقة؟ هل الأكثرية أمينة؟ أتراها تمنع نفسها من الاعتداء على حقوق الآخرين ، إذا استطاعت؟ هل تنظر الأكثرية إلى منافعها ومنافع الآخرين بنظرة واحدة؟

الإجابات ناطقة بلسان الحال لا المقال ، لذلك لا بدّ من الاعتراف بأنّ استناد العالم المعاصر إلى الأكثرية نوع من الإكراه تفرضه الأوضاع القائمة ، وانّه شر

٤٤١

مفروض على المجتمعات.

نعم ، لو أنّ العقول المفكرة ، مصلحي المجتمعات البشرية المخلصين ، والعلماء الهادين ـ وهم أقلية دائما ـ شنوا حملة شاملة لتنوير أفكار عامّة الناس بحيث تنال المجتمعات قسطا من الوعي والرشد الفكري والاجتماعي ، لاقتربت وجهات نظر أكثرية كهذه إلى الحقيقة اقترابا كبيرا ، غير أنّ أكثرية غير راشدة وغير واعية ، بل فاسدة ومنحرفة وضالة ، لا تستطيع أن تقيل عثرة نفسها أو غيرها! لذلك فالأكثرية وحدها لا تكفي ، وإنّها الأكثرية المهتدية هي القادرة على حل مشاكل المجتمع إلى الحد الذي يستطيعه بشر.

وإذا كان القرآن في كثير من المواضع يذم الأكثرية ، فالمقصود هو الأكثرية غير الرشيدة دون شك.

* * *

٤٤٢

الآيات

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠))

التّفسير

لا بدّ من إزالة آثار الشرك :

هذه الآيات في الحقيقة واحدة من نتائج البحوث التي سبقت في التوحيد والشرك ، لذلك تبدأ الآية الأولى بفاء التفريع التي يؤتى بعدها بالنتيجة.

الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإثبات بطلان الشرك وعبادة الأصنام.

ومن نتائج ذلك أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي تذبح باسم الأصنام ، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم الله عليه ، حيث كان

٤٤٣

من عادة العرب أن يذبحوا القرابين لأصنامهم ، ويأكلوا من لحومها للتبرك بها ، وكان هذا جزءا من عبادتهم الأصنام ، لذلك يبدأ القرآن بالقول : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ).

أي أنّ الإيمان ليس مجرّد قول وادعاء وعقيدة ونظرية ، بل لا بدّ أن يظهر على صعيد العمل أيضا ، فالذي يؤمن بالله يأكل من هذه اللحوم فقط.

بديهي أنّ الفعل «كلوا» لا يعني الوجوب ، بل يعني إباحة أكلها وحرمة أكل ما عداها.

ومن هذا يتبيّن أنّ حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها ، ليست من وجهة النظر الصحيحة حتى يقال : ما الفائدة الصّحيحة من ذكر اسم الله على الذبيحة بل لها خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية الله الواحد الأحد.

الآية التّالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال ، فتقول : لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها ، في الوقت الذي بيّن الله لكم ما حرم عليكم؟ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

مرّة أخرى نشير إلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال ، بل الهدف هو أنّ هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها ، لا من غيرها ، وبعبارة أخرى : التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة ، من هنا استدل على ذلك بالقول : (قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

أمّا موضع هذا التفصيل فقد يتصوّر البعض أنّه في سورة المائدة ، أو في آيات من هذه السورة (الأنعام ، ١٤٥).

ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة ، وسورة المائدة نزلت بالمدينة ، والآيات التّالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإنّ أيّا من هذين

٤٤٤

الاحتمالين غير صحيح ، فالموضوع إمّا أن يكون الآية (١١٥) من سورة النحل التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها ، وخاصّة التي لم يذكر عليها اسم الله ، أو أن يكون المراد التعاليم التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينها بشأن اللحوم ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يتحدث إلّا بوحي.

ثمّ يستثني من ذلك حالة واحدة : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) سواء كان هذا الاضطرار ناشئا من وجود الإنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد ، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ كثيرا من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إتباع الهوى : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

وعلى الرغم من أنّ إتباع الهوى مصحوب دائما بالجهل ، ولكنّه يكرر ذلك للتوكيد فيقول : (... بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

يستفاد من هذا التعبير أيضا أنّ العلم الصحيح لا يقترن باتّباع الهوى والانسياق مع الخيال ، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.

يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إشارة إلى ما كان سائدا بين المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول : أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا ، ولحوم الحيوانات التي يقتلها الله حراما؟

بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة ، لأنّ الحيوان الميت ليس حيوانا ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة ، إذ إنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ، ولحمه فاسد ، ولهذا حرم الله أكله ، وأخيرا يقول : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق ، بل يسعون إلى إضلال الآخرين.

الآية الثّالثة تذكر قانونا عاما ، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإثم في

٤٤٥

الخفاء ، وتقول : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ).

يقال إنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به ، أما إذ ارتكب علنا فهو الإثم! واليوم ـ أيضا ـ نجد أناسا يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون ارتكاب الإثم علانية ، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاءون من الآثام دون رادع من ضمير.

إنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب ، بل تحمل مفاهيم واسعة ، فهي بالإضافة إلى ما قلناه آنفا تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإثم الظاهر والباطن ، من ذلك مثلا ـ قولهم : انّ الإثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء الجسم ، والإثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النيّة والعزم.

ثمّ من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك ، تقولالآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ).

عبارة (يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) تعبير رائع يشير إلى أن الإنسان في هذه الدنيا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقا كبيرة ، أنّ رؤوس أموالهم الذكاء والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله ، فالمسكين ذاك الذي «يكتسب» الإثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإنسانية والتقوى والقرب إلى الله.

و «سيجزون» أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب ... قد يشير إلى يوم القيامة ، وأنّه وإن بدا في نظر بعضهم بعيدا ، فهو في الحقيقة قريب جدا ، وإن هذا العالم سرعان ما تنطوي أيّامه ويحين المعاد.

وقد يكون إشارة إلى أنّ أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية واجتماعية.

* * *

٤٤٦

الآية

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإيجابي من مسألة اللحوم ، أي أكل اللحوم الحلال ، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ثمّ في جملة واحدة يدين هذا العمل : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وإثم وخروج عن طريق العبودية وإطاعة الله.

ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان ، تخاطبهم الآية : إنّ الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم في جدل ونقاش : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) ولكن كونوا على حذر ، ولا تطيعوهم : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

لعل هذا الجدل والوسوسة إشارة إلى ما كان سائدا بين المشركين بشأن أكل الميتة (وذهب البعض إلى أنّ العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم : إنّنا نأكل الميتة لأنّ الله أماتها ، وهي لذلك أفضل ممّا نقتله بأيدينا ، معتقدين أن عدم

٤٤٧

أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل الله! غافلين أنّ الحيوان الميت موتا طبيعا ، إضافة إلى مرضه غالبا ، يضم بين لحمه دما قذرا فاسدا يفسد معه اللحم ، بسبب عدم انقطاع أوداجه ، ولذلك أمر الله أن تؤكل ـ فقط ـ لحوم الحيوانات المذبوحة بطريقة خاصّة ، والمراق دمها خارج بدنها.

ويستفاد من هذه الآية ـ ضمنيا ـ حرمة الذبيحة غير الإسلامية ، لأنّها إضافة إلى الجهات الأخرى ـ لم يتقيد ذابحها بذكر اسم الله عليها.

* * *

٤٤٨

الآيتان

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))

سبب النّزول

قيل في نزول الآية الأولى إنّ أبا جهل الذي كان من ألد أعداء الإسلام والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آذى يوما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيذاء شديدا ، وكان «حمزة» عم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذاك الرجل الشجاع ـ لم يسلم بعد ، بل كان ما يزال يقلب الأمر في ذهنه ، وقد خرج في ذلك اليوم كعادته للصيد في الصحراء ، وعند عودته سمع بما جرى بين أبي جهل وابن أخيه ، غضب غضبا شديدا وذهب إلى أبي جهل وصفعه صفعة أسالت الدم من أنفه ، وعلى الرغم من مكانة أبي جهل ونفوذه في عشيرته ، فإنّ لم يرد عليه لما يعرفه عن شجاعة حمزة.

وعاد حمزة إلى الرّسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلن إسلامه ، ومنذ ذلك اليوم أصبح

٤٤٩

جنديا من جنود الإسلام ، ودافع عنه حتى استشهد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه الآية نزلت بشأن هذه الحادثة وبيّنت إسلام حمزة ، وإصرار أبي جهل على الكفر والفساد.

وتفيد بعض الرّوايات الأخرى أنّ الآية نزلت بشأن إسلام عمار بن ياسر وإصرار أبي جهل على الكفر.

ومهما يكن ، فإنّ هذه الآية ـ مثل الآيات الأخرى ـ لا تختص بواقعة نزولها ، بل هي ذات مفهوم واسع يصدق على كل مؤمن صادق وكل معاند لجوج.

التّفسير

الإيمان والرّؤية الواضحة :

ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة من حيث كون الآيات السابقة أشارت إلى طائفتين من الناس : المؤمنين المخلصين ، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون بضلالهم ، بل يسعون حثيثا إلى تضليل الآخرين ، هنا أيضا يتجسد وضع هاتين الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.

يشير المثال إلى طائفة من الناس كانوا من الضّالين ، ثمّ غيروا مسيرتهم باعتناق الإسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه الله بإرادته : (أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ).

كثيرا ما يستعمل القرآن «الموت» و «الحياة» بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل الكفر والإيمان ، وهذا يدل على أنّ الإيمان ليس مجرّد معتقدات جافة وأوراد وطقوس ، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة ، فتؤثر عليها في جميع شؤونها ، وتمنح العيون الرؤية ، والآذان قدرة السمع ، واللسان قوة البيان ، والأطراف العزم على أداء النشاطات البناءة ... الإيمان يغير الأفراد ، ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة ، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات.

٤٥٠

وتفيد جملة (فَأَحْيَيْناهُ) أنّ الإيمان ـ وإن استلزم سعي الإنسان لنيله ـ لا يتم إلّا بهداية من الله! ثمّ تقول الآية عن أمثال هؤلاء : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).

على الرغم من وجود الاختلاف في تفسير هذا «النّور» فالظاهر أنّ المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب ، بل أكثر من ذلك ، حيث يمنح الإيمان بالله الإنسان رؤية وإدراكا جديدين ... يمنحه رؤية واضحة ويوسع من آفاق نظرته لتتجاوز إطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيق إلى عالم أرحب وأوسع.

ولما كان الإيمان يدعو الإنسان إلى أن يبني نفسه ، فانه يزيح عن عينيه أغشية الأنانية والتعصب والمعاندة والأهواء ، ويريه حقائق ما كان قادرا على إدراكها من قبل.

إنّه في ضوء هذه النّور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس ، وأنّ يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع والأفكار المادية المحدودة ، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.

إنّ ما نقرأه في الأحاديث الإسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور الله» إشارة إلى هذه الحقيقة ، إنّ مجرّد الوصف غير قادر على تبيان خصائص هذه الرؤية الإيمانية التي يمنحها الله للإنسان ، بل ينبغي أن يذوق الإنسان طعمها لكي يدرك بنفسه مغزى هذا القول ويحس به.

ثمّ تقارن الآية بين هذا الإنسان الحي ، الفعال ، النير ، والمؤثر ، بالإنسان العديم الإيمان والمعاند ، فتقول : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها).

نلاحظ أنّ الآية لا تقول : «كمن في الظّلمات» بل تقول : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) يقول بعضهم : إنّ الهدف من هذا التعبير هو إثبات أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظّلمات والتعاسة إلى الحد الذي جعلهم مثلا يعرفه المدركون.

٤٥١

وقد يكون ذلك إشارة إلى معنى أدق هو : أنّه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح ، أو قالب ، أو مثال أو تمثال ، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

لا بدّ من القول ـ أيضا ـ إنّ «النّور» الذي يهدي المؤمنين جاء بصيغة المفرد ، بينما «الظّلمات» التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع ، وذلك لأنّ الإيمان ليس سوى حقيقة واحدة ، وهو يرمز إلى الوحدة والتوحيد ، بينما الكفر وعدم الإيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.

وفي الختام تشير الآية إلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

سبق أن قلنا : إنّ من خصائص تكرار العمل القبيح أنّ قبحه يتضاءل في عين الفاعل حتى يبدو له أخيرا وكأنّه عمل جميل ، ويتحول إلى مثل القيد يشد أطرافه ، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ ، إنّ مطالعة بسيطة لحال المجرمين تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء.

ولمّا كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو «أبو جهل» الذي كان من كبار مشركي قريش ومكّة ، فالآية الثّانية تشير إلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد ، فتقول : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها).

كررنا القول من قبل : أنّ سبب نسبة أمثال هذه الأفعال إلى الله ، لكونه تعالى هو علّة العلل ومسبب الأسباب ومصدر كل القدرات ، والإنسان يستخدم ما وهبه الله من إمكانات طالحا كان هذا الفعل أم صالحا.

جملة «ليمكروا» تشير إلى عاقبة أعمالهم ، ولا تعني الهدف من خلقهم (١) أي أنّه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدت بهم إلى أن يصبحوا سدا على طريق الحق ،

__________________

(١) «اللام» هنا هي لام «العاقبة» وليست اللام الغائية ، وقد وردت في القرآن كثيرا.

٤٥٢

وعاملا على جر الناس نحو الانحراف والابتعاد عن طريق الحق ، فالمكر في الأصل هو اللف والدوران ، ثمّ أطلق على كل عمل منحرف مقرون بالإخفاء.

وفي الختام تقول الآية : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).

وأي مكر وخديعة أعظم من أن يقوم هؤلاء باستخدام كل رؤوس أموال وجودهم ، بما في ذلك فكرهم وذكاؤهم وابتكاراتهم وأعمارهم ووقتهم وأموالهم ، في صفقة لا تعود عليهم بأي ربح ، بل تثقل ظهورهم بأحمال الذنوب والآثام الثقيلة ، ظانين أنّهم قد أحرزوا الربح والإنتصار!

كما يستفاد من هذه الآية أنّ النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إنّما تنشأ من كباره وقادته ، إذ إنّهم هم الذين يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم الطريق إلى الله ، ويخفون وجه الحق عن الناس.

* * *

٤٥٣

الآية

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

سبب النّزول

يقول العلّامة الطّبرسي في «مجمع البيان» : نزلت هذه الآية بشأن «الوليد بن المغيرة» (الذي كان من زعماء عبدة الأصنام دماغهم المفكر) كان هذا يقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كانت النّبوة حقّا ، فأنا أولى منك بها لكبر سني ولكثرة مالي.

وقيل : إنّها نزلت بشأن «أبي جهل» لأنّه كان يقول : مقام النّبوة يجب أن يكون موضع تنافس ، فنحن وبنو عبد مناف (قبيلة رسول الله) كنّا نتنافس على كل شيء ، ونجري كفرسي رهان كتفا لكتف ، حتى قالوا : إنّ نبيا قام فيهم ، وأنّه ينزل عليه الوحي فنحن لا نؤمن به إلّا إذا نزل علينا الوحي كما ينزل عليه.

التّفسير

الله أعلم حيث يجعل رسالته :

تشير هذه الآية بإيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) وإلى

٤٥٤

مزاعمهم المضحكة الباطلة ، فتقول : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) كأنّ الوصول إلى مقام النبوة وهداية الناس يعتمد على سن الشخص وماله ، أو هو ميدان للمنافسة الصبيانية بين القبائل! وكأنّ على الله أن يراعي هذه الأمور المضحكة الباطلة التي لا تدل إلّا على منتهى الانحطاط الفكري وعدم إدراك معنى النبوة وقيادة الخليقة!

إنّ القرآن يرد على هؤلاء بوضوح قائلا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

بديهي أنّ الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل ، لأنّ شرطها الأوّل هو الاستعداد الروحي ، وطهارة الضمير ، والسجايا الإنسانية الأصيلة ، والفكر السامي ، والرأي السديد ثمّ التقوى إلى درجة العصمة ... إنّ هذه الصفات ، وخصوصا الاستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير الله ، فما أبعد الفرق بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد أولئك.

كما إنّ من يخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بدّ أن تكون له جميع تلك الصفات عدا الوحي والتشريع ، أي أنّه حامي الشرع والشريعة ، والحارس على قوانين الإسلام ، والقائد المادي والمعنوي للناس ، لذلك لا بدّ له أن يكون معصوما عن الخطأ والإثم ، لكي يكون قادرا على أن يوصل الرسالة إلى أهدافها ، وأن يكون قائدا مطاعا وقدوة يعتمد عليها.

وبناء على ذلك ، يكون إختياره من الله أيضا ، فهو وحده الذي يعلم أن يضع هذا المقام ، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للانتخابات والشورى.

وفي النهاية تشير الآية إلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين والزّعماء الذين يدعون الباطل ، فتقول : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١).

__________________

(١) «الإجرام» من «جرم» وأصله القطع ، والمجرم هو الذي يقطع العهود وارتباطه بالله بعدم إطاعته ، ولذلك أطلقت كلمة

٤٥٥

كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكبهم ، ولكنّ الله سينزلهم إلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إنّهم سيتعذبون بذلك عذابا روحيا شديدا ، مضافا إلى أنّهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأنّ سعيهم على طريق الباطل كان شديدا أيضا.

* * *

__________________

«الجرم» على الإثم والذنب ، في هذا إشارة لطيفة إلى أنّ هناك في ذات الإنسان اتفاق مع الحق والطهارة والعدالة ، والإجرام هو قطع هذه الاتفاق الفطري الإلهي.

٤٥٦

الآيات

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

التّفسير

الإمدادات الإلهية :

تعقيبا على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل ، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني ، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء ، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإسلام ، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك ـ لسوء أعماله ـ يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إلى السماء. (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ).

٤٥٧

ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.

ملاحظات

هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التّالية :

١ ـ ما المقصود من «الهداية» و «الضلالة»؟

سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي «الهداية» و «الضلالة» الإلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إلى الهداية بالنسبة للذين لهم الاستعداد لذلك ، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك ، بالنظر إلى أعمالهم.

إنّ السالكين طريق الحق والباحثين عن الإيمان المتعطشين إليه ، يضع الله في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق ، وليصلوا إلى منبع إكسير الحياة ، أمّا الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه الإمدادات الإلهية ، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل ، ولا يوفّقون لهداية.

وبناء على ذلك ، فلا الفريق الأوّل مجبور على السير في هذا الطريق ، ولا الفريق الثاني في أعمالهم ، وفي الواقع أنّ الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم بأنفسهم واختاروه.

٢ ـ المقصود من «الصّدر» هنا هو الروح والفكر ، وهذه الكناية ترد كثيرا ، والمقصود من «الشرح» هو بسط الروح وارتفاع الفكر واتسّاع أفق العقل البشري ، لأنّ تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية ، ممّا لا يقدر عليه إلّا ذوو الأرواح العالية والأفكار السامية.

٣ ـ «الحرج» بمعنى الضيق الشديد ، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي الإيمان ، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة ، ولا يتنازلون في حياتهم عن شيء.

٤٥٨

٤ ـ معجزة قرآنية علمية :

إنّ تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إلى السماء ، جاء لأنّ الصعود إلى السماء صعب جدّا ، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.

إنّنا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه ، فإذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إلى الأمر الفلاني صعب نقول : أن تصل إلى السماء أقرب إليك من ذلك.

بالطّبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور ، ولكن على الرغم من تحقق ذلك اليوم ، فهو ما يزال صعبا ، وكثيرا ما يصادف رواد الفضاء المشاكل في طيرانهم.

ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق ، وهو أنّه ثبت اليوم علميا أنّ الهواء المجاور للأرض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإنسان ، ولكنّنا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه ، بحيث إنّنا إذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع الأوكسجين) ، وإذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا وأصبنا بالإغماء ، إن ذكر هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.

٥ ـ ما هو شرح الصدر؟

في هذه الآية يعتبر «شرح الصدر» من نعم الله الكبرى و «ضيق الصدر» من عقاب الله ، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص ، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر بحيث إنّهم قادرون على استيعاب كل حقيقة مهما كبرت ، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إليها أية حقيقة ، فأفق

__________________

(١) الإنشراح ، ١.

٤٥٩

رؤيتهم الفكرية محدود جدّا ومقتصر على الحياة اليومية ، فلو تهيأ لهم الأكل والنوم فكل شيء على ما يرام ، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل شيء.

عند ما نزلت الآية المذكورة أعلاه ، سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معنى شرح الصدر ، فقال : «نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح».

فسألوه : ألذلك علامة يعرف بها؟

قال : «نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» (١) بالإيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.

الآية التّالية تؤكّد البحث السابق فتقول : إنّ المدد الإلهي الذي يشمل السالكين سبيل الله ويسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل الله ، إنّما هو سنة إلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً).

كما يحتمل أن يكون «هذا» إشارة إلى الإسلام أو القرآن ، إذ إنّ الصراط المستقيم هو الطريق المستقيم المستوي.

وفي ختام الآية توكيد آخر : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي لمن يملكون قلوبا واعية وآذانا سامعة.

الآية الثّالثة تشير إلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون الحق ، إحداهما : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، والثّانية : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) ، أي ناصرهم وحافظهم ، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أمور الإنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه ، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام ، دار الأمن والأمان ، حيث لا حرب ولا سفك دماء ، ولا نزاع ولا خصام ، ولا عنف ولا تنافس قاتل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٣٦٣.

٤٦٠