الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

تفسير آخر يقول : إنّ «مستقر» إشارة إلى روح الإنسان الثابتة والمستقرة ، و «مستودع» إشارة إلى جسم الإنسان الفاني غير الثابت.

وقد جاء في بعض الرّوايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين ، وهو أنّ «مستقر» تعني الذين لهم إيمان ثابت «ومستودع» تعني من لم يستقر إيمانه (١).

وثمّة احتمال أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإنسان ، إنّ النطفة ـ كما نعلم ـ تتركب من جزئين : الأوّل هو «البويضة» من الأنثى ، والثاني هو «الحيمن» أو «المني» من الذكر ، أنّ البويضة في رحم الأنثى تكان تكون مستقر ، ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها ، وما أن يصل أوّل حيمن إلى البويضة حتى يمتزج بها و «يخصبها» ويصد (الحيامن) الأخرى ، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإنسان الأولى.

وفي ختام الآية يعود فيقول : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ).

عند الرجوع إلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه» ليس كل معرفة أو فهم ، بل هو التوصل إلى علم غائب بعلم حاضر (٢) ، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإنسان واختلاف أشكاله وألوانه ، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إلى معرفة الخالق.

الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته.

في البداية تشير الآية إلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة الأم وأصل النعم الأخرى ، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً).

وإنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شيء أعلاه ، فكل ما في الأرض من

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٥٠.

(٢) مفردات الراغب ، ص ٣٨٥.

٤٠١

مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء ، وقلّة الأمطار تؤثر في كمية المياه في تلك المصادر كلها ، وإذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع ، أيضا.

ثمّ تشير إلى أثر نزول الأمطار البارز : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).

يرى المفسّرون احتمالين في المقصود من (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).

الأوّل : إنّ المقصود من ذلك كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد ، وتنبت في أرض واحدة وتتعذى من تربة واحدة ، وهذه واحدة من عجائب الخلق ، كيف تخرج كل هذه الأصناف من النباتات بأشكالها وألوانها وأثمارها المختلفة والمتباينة أحيانا من أرض واحدة وماء واحد!

والاحتمال الثّاني : هو أنّ النباتات يحتاج إليها كل مخلوق آخر من حشرات وطيور وحيوانات في البحر والبر ، وانّه لمن العجيب أنّ الله تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء ، وهذا من روائع الأعمال المعجزة كأنّ يستطيع أحد أن يصنع من مادة معينة في المطبخ آلاف الأنواع من الأطعمة لآلاف الأذواق والأمزجة.

والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر ، بل إنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.

ولا أنسى ما قاله أحد سكّان المدن الساحلية وهو يشكو قلّة الصيد في البحر ، ويذكر سبب ذلك بأنّه الجفاف وقلّة نزول المطر ، فكان يعتقد أنّ قطرات المطر في البحار أشد تأثيرا منها في اليابسة.

ثمّ تشرح الآية ذلك وتضرب مثلا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء ، فتذكر أنّ الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض ، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين :

٤٠٢

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) (١).

ومن ذلك الساق الأخضر أخرجنا الحبّ متراصفا منظما : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً)(٢).

وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعا مغلقا ، ثمّ يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبات التمر ، فتتدلى من ثقلها : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ).

«الطلع» هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر ، وإذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة ، وهي القنوان ومفردها قنو.

و «دانية» أي قريبة ، وقد يكون ذلك إشارة إلى قرب أغصان العذق من بعضها ، أو إلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.

وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ).

ثمّ تشير الآية إلى واحدة أخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار ، فتقول : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ).

انظر تفسير الآية (١٤١) من هذه السورة في شرح المتشابه وغير المتشابه للزّيتون والرّمان (٣).

إنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابها كبيرا ، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان ، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر ، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية ، فهما متباينان تماما ، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة ،

__________________

(١) كلمة «أخضر» تشمل كل أخضر في النبات ، حتى براعم الأشجار ، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.

(٢) «المتراكب» من الركوب وما ركب بعضه بعضا ، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.

(٣) يقول الراغب في مفرداته : إنّ «مشتبها» و «متشابها» بمعنى يكاد يكون واحدا.

٤٠٣

وتشربان من ماء واحد ، فهما متشابهان وغير متشابهين في آن واحد.

ومن المحتمل أنّ تكون الإشارة إلى أنواع مختلفة من أشجار الفاكهة التي يتشابه بعضها في الشجر وفي الثمر ، ويختلف بعضها عن الآخر في ذلك ، (أي أنّ كل واحدة من هاتين الصفتين تختص بمجموعة من الأشجار والأثمار ، أمّا حسب التّفسير الأوّل ، فإنّ الصفتين لشيء واحد).

ثمّ تركز الآية من بين مجموع اجزاء شجرة على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إذا أثمرت ، وكذلك على نضج الثمرة إذا نضجت ، ففيها دلائل واضحة على قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصّة التي يوليها القرآن للأثمار ، إذ إنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان ، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصّة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الأنثوي في النبات ، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الأولى ، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها ، أنّ هذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ ، كل حبّة منها تعتبر جنينا وبذرة لشجرة أخرى ، ولها تركيب معقد عجيب.

إنّ شرح بنية الأثمار والمواد الغذائية والطبية خارج عن نطاق هذا البحث ، ولكن من الحسن أنّ نضرب مثلا بثمرة الرمان التي أشار إليها القرآن على وجه الخصوص في هذه الآية.

إذا شققنا رمانة وأخذنا إحدى حباتها نظرنا خلالها باتجاه الشمس أو مصدر ضوء آخر نجدها تتألف من أقسام أصغر ، وكأنّها قوارير صغيرة مملوءة بماء

٤٠٤

الرّمان قد رصفت الواحدة إلى جنب الأخرى. ففي حبّة الرمان الواحدة قد تكون المئات من هذه القوارير الصغيرة جدا ، يجمع أطرافها غشاء رقيق هو غشاء حبّة الرمان الشفاف ، ثمّ لكي يكون هذا التغليف أكمل وأمتن وأبعد عن الخطر ركّب عدد من الحبات على قاعدة في نظام معين ، ولفت في غلاف أبيض سميك بعض الشيء ، وبعد ذلك يأتي القشر الخارجي للرمانة ، يلف الجميع ليحول دون نفوذ الهواء والجراثيم ، ولمقاومة الضربات ولتقليل تبخر ماء الرمان في الحبات إلى أقل حدّ ممكن.

إنّ هذا الترتيب في التغليف لا يقتصر على الرمان ، فهناك فواكه أخرى ـ مثل البرتقال والليمون ـ لها تغليف مماثل ، أمّا في الأعناب والرمان فالتغليف أدق وألطف.

ولعل الإنسان حذا حذو هذا التغليف عند ما أراد نقل السوائل من مكان إلى مكان ، فهو يصف القناني الصغيرة في علبة ويضع بينها مادة لينة ، ثمّ يضع العلب الصغيرة في علب أكبر ويحمل مجموعها إلى حيث يريد.

وأعجب من ذلك استقرار حبات الرمان على قواعدها الداخلية وأخذ كل منها حصتها من الماء والغذاء وهذا كله ممّا نراه بالعين ، ولو وضعنا ذرات هذه الثمرة تحت المجهر لرأينا عالما صاخبا وتراكيب عجيبة مدهشة محسوبة بأدق حساب.

فكيف يمكن لعين باحثة عن الحقيقة أن تنظر إلى هذه الثمرة ثمّ تقول : إنّ صانعها لا يملك علما ولا معرفة!!

إنّ القرآن إذ يقول (انْظُرُوا) إنّما يريد هذه النظرة الدقيقة إلى هذا القسم من الثمرة للوصول إلى هذه الحقائق.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن المراحل المتعددة التي تمر بها الثمرة منذ تولّدها حتى نضجها تثير الانتباه ، لأنّ «المختبرات» الداخلية في الثمرة لا تنفك

٤٠٥

عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إلى أن تصل إلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي ، أنّ كل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.

ولكن لا بدّ من القول ـ بحسب تعبير القرآن ـ إنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الأمور هم الذين يرون هذه الحقائق ، وإلّا فعين العناد والمكابرة والإهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقة.

* * *

٤٠٦

الآيات

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

التّفسير

خالق كل شيء :

هذه الآيات تشير إلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة ، وترد عليهم بالمنطق.

فأوّلا : قالوا : إنّ لله شركاء من الجن (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ).

فيما يتعلق بالجن ، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن غير مرئي ومخفي عن حس الإنسان ، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مرارا في القرآن والتي سنشير إليها قريبا؟ للمفسرين في هذا احتمالان.

٤٠٧

على الاحتمال الأوّل قد تكون الآية إشارة إلى الذين كانوا يعبدون الملائكة أو مخلوقات غير مرئية.

وعلى الاحتمال الثّاني قد تكون الإشارة إلى الذين كانوا يعتبرون الجن شركاء لله أو زوجات له.

يقول الكلبي في كتاب «الأصنام» : إنّ إحدى الطوائف العربية ، وتدعي «بنو مليح» وهي إحدى أفخاذ قبيلة «خزاعة» كانت تعبد الجن (١) ، كما يقال إنّ عبادة الجن والاعتقاد بالوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند (٢).

ويستدل من الآية (١٥٨) من سورة الصافات : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) على أنّه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسبا وقرابة ، ويذكر بعض المفسّرين أنّ قريشا كانت تعتقد أنّ الله قد تزوج الجن ، فكان الملائكة ثمرة ذلك الزواج (٣).

فينكر الإسلام عليهم ذلك ، إذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن : (وَخَلَقَهُمْ) أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكا للخالق ، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي ، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبدا!

الخرافة الأخرى هي قولهم جهلا ـ إنّ لله بنين وبنات : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة ، هو أنّها تصدر عنهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي أنّهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.

من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة «خرقوا» من الخرق ، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب ، وهي في النقطة المقابلة تماما «للخلق» القائم على

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٣ ، ص ٣٢٦ ـ الهامش.

(٢) تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ٦٤٨.

(٣) تفسير معجم البيان وتفاسير أخرى.

٤٠٨

الحساب ، هاتان اللفظتان : «الخلق والخرق» قد تستعملان في حالات الكذب والاختلاق ، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والاختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و (الخرق والاختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.

أي أنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدوا له ما يلزم من الأمور.

أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين ، فإنّ القرآن يذكر في آيات أخرى اسم طائفتين من هؤلاء :

الأولى : هم المسيحيون الذين قالوا : إنّ عيسى ابن الله.

والأخرى : هم اليهود الذين قالوا : عزير ابن الله.

يستفاد من الآية (٣٠) من سورة التوبة ، وممّا توصل إليه المحققون عن دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية ، وعلى الأخص في موضوع التثليت ، أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا ابنا لله ، بل كان هذا موجودا في المعتقدات الخرافية القديمة.

أمّا بشأن نسبة بنات لله ، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أخرى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١).

وكما سبقت الإشارة إليه ، جاء في التفاسير والتواريخ إنّ قريشا كانت ترى الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.

والقرآن يرفض تماما في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها ، وبعبارة حاسمة قاطعة : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ).

والآية التّالية ترد على تلك العقائد الخرافية فتؤكّد أنّ الله هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

هل هناك غير الله من فعل ذلك أو يستطيع فعله كيما يكون شريكا له في

__________________

(١) الزخرف ، ١٩.

٤٠٩

عبادته؟ كلا ، الجميع مخلوقاته ويطيعون أمره ومحتاجون إليه.

ثمّ كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ).

وما حاجته إلى زوجة؟ ثمّ من التي تكون زوجته وهم جميعا مخلوقاته؟وفضلا عن ذلك كلّه أنّ ذاته القدسية منزهة عن كل الصفات الجسمانية ، بينما الحاجة إلى زوجة وأبناء من الصفات الجسمانية المادية.

ومرّة أخرى تؤكّد الآية مقامه باعتباره خالقا لكل شيء ، ومحيطا بكل شيء : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

الآية الثّالثة تؤكّد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق من ذكر خالقية الله لكل شيء ، وإبداعه السموات والأرض وإيجادها ، وكونه منزها عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إلى الزوجة والأبناء وإحاطته العلمية بكل شيء : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) فلا يستحق العبودية غيره.

ولكي ينقطع كل أمل بغير الله ، وتنقلع كل جذور الشرك والاعتماد على غير الله ، تختتم الآية بالقول : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

أي أنّ مفتاح حل مشاكلكم بيده وحده ، وما من أحد غيره قادر على حلها إذ ما من أحد ـ غيره ـ إلّا وهو محتاج إلى إحسانه وكرمه ، فلا موجب إذن لأن تطرح مشاكلك على غيره ، وتطلب حلّها من غيره.

لاحظ أنّ العبارة تقول : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ولم تقل : لكلّ شيء وكيل ، واختلاف المعنى واضح ، لأنّ «على» تفيد التسلط ونفوذ الأمر ، أمّا «اللام» فتفيد التبعية ، أي أن التعبير الأوّل يدل على الولاية والرعاية ، والثّاني يدل على التمثيل والوكالة.

الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث ، ومن أجل إثبات حاكمية الله

٤١٠

وإحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء ، وكذلك لإثبات أنّه يختلف عن كل شيء ، تقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي أنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم ، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.

في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لا بدّ أن يتصف بهذه الصفات.

كما أنّ الآية تقول : إنّه يختلف عن جميع الأشياء في العالم ، لأنّ أشياء العالم بعضها يرى ويرى ، كالإنسان ، وبعضها لا يرى ولا يرى كصفاتنا الباطنية ، وبعض آخر يرى ولا يرى ، كالجمادات ، فالوحيد الذي لا يرى ولكنّه يرى كلّ شيء هو الله الواحد الأحد.

* * *

بحوث

هنا نشير إلى بضع نقاط :

١ ـ لا تدركه الأبصار :

تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين ، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إلّا الأجسام ، أو على الأصح بعضا من كيفيات الأجسام ، فإذا لم يكن الشيء جسما ولا كيفية من كيفيات الجسم ، لا يمكن أن تراه العين ، وبتعبير آخر ، إذا أمكنت رؤية شيء بالعين ، فلأن لهذا الشيء حيزا واتجاها وكتلة ، في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات ، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء.

في كثير من الآيات ، وعلى الأخص في الآيات التي تشير إلى بني إسرائيل وطلبهم رؤية الله ، نجد القرآن ينفي بكل وضوح إمكان رؤية الله (سوف يأتي

٤١١

شرح ذلك في تفسير الآية ١٤٣ ـ من سورة الأعراف إن شاء الله).

ومن العجيب أنّ كثيرا من أهل السنة يعتقدون أنّ الله سيرى يوم القيامة ، ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله : هذا من مذاهب أهل السنة والعلم بالحديث (١).

والأعجب من ذلك أنّ بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلون ـ أيضا ـ إلى هذا الاتجاه ويصرون عليه!

أمّا الواقع فإنّ بطلان هذه الفكرة إلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب نقاشا ، لأنّ الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة (إذا قلنا بالمعاد الجسماني) ، إنّ الله فوق المادة ، ولا يتبدل يوم القيامة إلى وجود مادي ، ولا يخرج من لا محدوديته ليصبح محدودا ، ولا يتحول في ذلك اليوم إلى جسم أو إلى كيفية من كيفيات الجسم! وهل الأدلة العقلية على عدم إمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في الآخرة»؟ أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك؟!

ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأنّ من المحتمل أن يصبح للإنسان في الآخرة نوع آخر من الرؤية والإدراك ، لأنّ هذه الرؤية والإدراك إذا كانت في الآخرة فكرية وعقلانية ، فإنّنا في هذه الدنيا أيضا نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة العقل ، أمّا إذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام ، فإنّ رؤية الله بهذا المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء.

وبناء على ذلك فإنّ القول بأنّ الإنسان لا يرى الله في هذه الدنيا ، ولكن المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول.

إنّ ما حمل هؤلاء على الذهاب إلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإمكان رؤية الله يوم القيامة ، ولكن أليس من الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي ، ونحكم باختلاق أمثال هذه

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٧ ، ص ٦٥٣.

٤١٢

الرّوايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الرّوايات ، (اللهم إلّا إذا قلنا أنّ المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية) هل يصح أن نجانب حكم العقل والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث؟!

أمّا الآيات القرآنية التي يبدو منها لأوّل وهلة أنّها تدل على رؤية ، مثل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) فإنّها من باب الكناية والرمز ، إنّنا نعلم أنّ أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل ومنطق الحكمة.

والملفت للنظر أنّ الأحاديث والرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام تستنكر هذه العقيدة الخرافية أشد استنكار ، وتنتقد القائلين بها أشد انتقاد ، من ذلك أنّ أحد أصحاب الإمام الصّادق عليه‌السلام واسمه (هشام) يقول : كنت عند الإمام الصّادق عليه‌السلام فدخل عليه معاوية بن وهب (وهو من أصحاب الإمام أيضا) وسأله قائلا : يا بن رسول الله ، ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد رأى الله ، فكيف رآه؟ وكذلك في الحديث المروي عنه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ المؤمنين في الجنّة يرون الله. فبأي شكل يرونه؟ فتبسم الإمام الصّادق ابتسامه ألم ، وقال : «يا معاوية بن وهب! ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله ، ويتنعم بنعمه ، ثمّ لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير الله رأي العين أبدا ، إنّ المشاهدة نوعان : المشاهدة القلبية ، والمشاهدة البصرية ، فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق ، ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من شبه الله بالبشر فقد كفر» (٣).

وفي (أمالي الصدوق) بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل قال : سألت الإمام

__________________

(١) القيامة ، ٢٣ و ٢٤.

(٢) الفتح ، ١٠.

(٣) معاني الأخبار ، نقلا عن «الميزان» ، ج ٨ ، ص ٢٦٨.

٤١٣

الصّادق عليه‌السلام عن الله تبارك وتعالى ، وهل يرى في المعاد؟ فقال : «سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، يا ابن الفضل ، إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون وكيفية ، والله تعالى خالق الألوان والكيفية» (١).

من الجدير بالانتباه أنّ هذا الحديث يؤكّد كلمة «لون» ونحن اليوم نعلم أنّ الجسم بذاته لا يرى مطلقا ، وإنما الذي نراه هو لونه ، فإذا لم يكن للجسم أي لون فلن يرى.

(في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة).

٢ ـ الله خالق كل شيء

بعض المفسّرين من أهل السنة ، ممن يذهب إلى الجبر يتخذ من قوله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) دليلا على صحة مذهبهم في الجبر ، فيقول : إنّ أعمالنا وأفعالنا من «أشياء» هذا العالم أيضا ، لأنّ كلمة «شيء» تطلق على كل ذي وجود ، ماديا كان أم غير مادي ، وسواء كان من الذوات أم من الصفات ، وعليه عند ما نقول : إنّ الله خالق كل شيء ، لا بدّ لنا أن نقبل أيضا بأنّه خالق أفعالنا ، وهذا هو الجبر بعينه.

بيد أنّ القائلين بحرية الإرادة والإختيار يردون بجواب واضح على أمثال هذه الاستدلالات ، وهو أنّ خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الإختيار ، إذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إلينا وإلى الله ، فنسبتها إلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا ، فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإراده والإختيار ، فما دامت جميع المقدمات من خلقه ، فيمكن أن تنسب أفعالنا إليه باعتباره خالقها ، ولكن من حيث اتخاذ القرار النهائي فإننا بالاستفادة ممّا وهبه الله لنا من القدرة على الإرادة والإختيار نتخذ القرار بأداء

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٥٣.

٤١٤

الفعل أو تركه ، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إلينا ونكون مسئولين عنها.

وبتعبير الفلاسفة : لا يوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.

بل هما ممتدتان طولا ، لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له ، لكنّهما إذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك ، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا ، فيمكن أن ننسب هذه المستلزمات إليه أيضا ، إضافة إلى نسبتها إلى فاعلها.

هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم واختياراتهم ، ويهيء لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل ، فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إلى ربّ العمل ، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والإختيار ، بل يكونون مسئولين عن أعمالهم.

وسنبحث فكرة الجبر والإختيار ـ إن شاء الله ـ بالتفصيل عند تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع.

* * *

٣ ـ ما معنى «بديع»؟

سبق أن ذكرنا أن «بديع» تعني موجد الشيء بغير سابق وجود ، أي أنّ الله أوجد السموات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.

هنا يعترض بعضهم بقوله : كيف يمكن إيجاد شيء من عدم ونحن قد بحثنا هذا في تفسير الآية (١١٧) من سورة البقرة ، وذكرنا ما ملخصه : إنّنا عند ما نقول إنّ الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أنّ المادة الأولية لخلقها هي «العدم» مثلما نقول : إنّ النجار صنع الكرسي من الخشب ، فهذا بالطبع مستحيل ، لأنّ «العدم» لا يمكن أن يكون مادة «الوجود».

٤١٥

إنّما المقصود هو أنّ موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل ، ثمّ وجدت ، وليس في هذا ما يصعب فهمه ، وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية (١١٧) من سورة البقرة ، ونضيف هنا قائلين : إنّنا قادرون على أن نوجد في أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقا ، ولا شك أنّ لهذه الموجودات الذهنية نوعا من الوجود والكينونة ، رغم أنّه ليس وجودا خارجيا ، ولكنّها موجودة في أفق أذهاننا ، وإذا كان وجود الشيء بعد العدم مستحيلا ، فما الفرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟

وبناء على ذلك فإنّنا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم وجود من قبل ، كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي ، انّ قليلا من التأمل في هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة.

٤ ـ ما معنى «اللطيف»؟

«اللطيف» من مادة «لطف» وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة كاحدى الصفات الالهية ، واللطيف (١) إذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد للثقيل ، ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأمور الدقيقة التي قد لا تدركها الحواس ، ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا الوجه لمعرفته بدقائق الأمور ، ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية ، وتتسم أفعاله بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الإدراك.

يروي (الفتح بن يزيد الجرجاني) حديثا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول : قال الإمام عليه‌السلام : «.. إنّما قلنا اللطيف ، للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف ، أو لا ترى ـ وفقك الله وثبتك ـ إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩٣.

٤١٦

الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى ، والحدث المولود من القديم ، لما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا ، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنّ كل صانع شيء فمن شيء صنعه والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء».

إنّ هذا الحديث الذي يشير إلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد (پاستور) بقرون يفسر معنى اللطيف.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود من اللطيف هو أنّ ذاته المقدسة من اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس ، وعليه فإنّه «اللطيف» لأنّ أحدا لا علم له به ، وهو «الخبير» لأنّه عالم بكل شيء.

وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت عليهم‌السلام أيضا (١) وليس هناك ما يمنع من إرادة المعنيين من هذه الكلمة.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٥٤٨.

٤١٧

الآيات

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

التّفسير

ليس من واجبك الإكراه :

تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة ، ففي البداية تقول : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).

«بصائر» جمع «بصيرة» من «البصر» بمعنى الرؤية ، ولكنّها في الغالب رؤية ذهنية وعقلانية ، وقد تطلق على كل ما يؤدي إلى الفهم والإدراك ، وهذه الكلمة في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد ، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في الآيات السابقة ، بل إنّها تشمل حتى القرآن نفسه.

٤١٨

ثمّ لكي تبيّن أنّ هذه الأدلة والبراهين كافية لإظهار الحقيقة لأنّها منطقية ، تقول : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) ، أي أنّ إبصارهم يعود بالنفع عليهم وعماهم يسبب الإضرار بهم.

وفي نهاية الآية تقول ، على لسان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).

للمفسّرين احتمالان في تفسير هذا المقطع من الآية :

الأوّل : إنّي لست أنا المسؤول عن مراقبتكم والمحافظة عليكم وملاحظة أعمالكم ، فالله هو الذي يحافظ على الجميع ، وهو الذي يعاقب ويثيب الجميع ، أنّ واجبي لا يتعدى إبلاغ الرسالة وبذل الجهد لهداية الناس.

والآخر : أنا غير مأمور لأحملكم بالجبر والإكراه على قبول الإيمان ، إنّما واجبي هو أن أدعوكم إلى ذلك بتبيان الحقائق بالمنطق والحجّة وأنتم الذين تتخذون قراركم النهائي.

وليس ما يمنع من انطواء العبارة على كلا المعنيين.

الآية التّالية تؤكّد أنّ اتخاذ القرار النهائي في إختيار طريق الحقّ أو الباطل إنّما يرجع للناس أنفسهم ، وتقول : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) (١) أي كذلك نبيّن الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.

لكن جمعا عارضوا ، وقالوا ـ دونما دليل وبرهان ـ إنّك تلقيت هذا من الآخرين (أي اليهود والنصارى) : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) (٢).

إلّا أنّ جمعا آخر ممن لهم الاستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم وعلم ، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

إنّ اتهام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه اقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر

__________________

(١) «نصرف» من «التصرف» وهو بمعنى رد الشيء من حالة أو إبداله بغيره ، أي أنّ الآيات تنزل في صور وأشكال متنوعة ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والاجتماعية.

(٢) «اللام» في ليقولوا هي «لام العاقبة» لبيان العاقبة التي وصل إليها الأمر دون أن تكون هي الهدف المقصود ، لقد كانت هذه تهمة يوجهها المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤١٩

من جانب المشركين ، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك ، مع أنّ حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلم منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، كما أنّ رحلاته إلى خارج الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالا لمثل هذا الاحتمال ، ثمّ إنّ معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن ـ أصلا ـ مقارنتها بما في القرآن ولا بتعاليم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسنشرح هذا الموضوع ـ إن شاء الله ـ عند تفسير الآية (١٠٣) من سورة النحل.

ثمّ تبيّن الآية واجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبال معاندة المعارضين وحقدهم واتهاماتهم ، فتقول : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ومن واجبك أيضا الإعراض عما يوجهه إليك المشركون من افتراءات : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

هذا ـ في الواقع ـ ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.

يتبيّن ممّا قلناه بجلاء أنّ عبارة (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تتعارض مطلقا مع الأمر بدعوتهم إلى الإسلام ولا مع الجهاد ضدهم ، فالمقصود هو أن لا يلقى اهتماما إلى أقوالهم الباطلة واتهاماتهم الكاذبة ، بل يمضي في طريقه بثبات.

الآية الأخيرة يكرر القرآن فيما ـ مرّة أخرى ـ القول بأنّ الله لا يريد أن يكره المشركين ويجبرهم على الإسلام ، إذ لو أراد ذلك لما كان هناك أي مشرك : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) كما يؤكّد القول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك لست مسئولا عن أعمال هؤلاء ، لأنّك لم تبعث لإكراههم على الإيمان : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، ولا من واجبك حملهم على عمل الخير : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).

«الحفيظ» هو من يراقب أمرا أو شخصا ليحفظه من أن يصاب بضرر ، أمّا «الوكيل» فهو من يسعى لإحراز النفع لموكله.

٤٢٠