الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

نقول أوّلا : إنّ هؤلاء لم يكونوا جميعا ينكرون يوم القيامة ، فقد كان فريق منهم يؤمنون بنوع من البعث.

وثانيا : قد يكون المعنى بالساعة هي ساعة الموت ، أو الساعة الرهيبة التي تنزل فيها على الإنسان مصيبة تضعه على شفا الهلاك.

وثالثا : قد يكون هذا تعبيرا مجازيا عن الحوادث المخيفة ، فالقرآن يكرر القول بأنّ يوم القيامة يقترن بسلسلة من الحوادث المروعة ، كالزلازل والعواصف والصواعق وأمثالها.

٣ ـ إنّنا نعلم أنّ يوم القيامة وما يصحبه من وقائع وأمور حتمية الوقوع ، ولا يمكن تغييرها إطلاقا ، فكيف تقول الآية : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ)؟فهل القصد هو إظهار قدرة الله ، أم أنّ هناك قصد آخر؟

في جواب هذا السؤال نقول : لا يعني هذا أنّ الله سوف يلغي بالدعاء البعث وقيام الساعة أصلا ، بل الآية تقصد القول بأنّ المشركين ـ وحتى غير المشركين عند مشاهدتهم الحوادث الرهيبة عند قيام الساعة وبالأهوال والعذاب الذي ينتظرهم ، يستولي عليهم الفزع والجزع ، فيدعون الله ليخفف عنهم تلك الأهوال ، وينجيهم من تلك الأخطار ، فدعاؤهم يكون لنجاتهم من أهوال يوم القيامة الرهيبة ، لا للإلغاء ذلك اليوم من الأساس.

* * *

٢٨١

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

التّفسير

مصير الذين لا يعتبرون :

تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضّالين والمشركين ، ويتخذ القرآن فيها طريقا آخر لإيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إلى القرون السالفة والأزمان الماضية ، يشرح لهم حال الأمم الضالة والظالمة والمشركة ، ويبيّن لهم كيف أتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي ، غير أنّ جمعا منهم لم يلقوا بالا إلى أي من تلك العوامل ، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و (ضراء) (١) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ

__________________

(١) «البأساء» الشدة والمكروه ، وتطلق على الحرب أيضا ، وكذلك القحط والجفاف والفقر ، أما «الضراء» فأكثر ما تعني العذاب

٢٨٢

مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).

أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عند ما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟! (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) أنّهم لم يستيقظوا ، ولذلك سببان :

الأوّل : إنّهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ).

والثّاني : إنّ الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزيّن في نظرهم أعمالهم ، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا ، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صوابا : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثمّ تذكر الآية الثّانية أنّه لمّا لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة ، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم ، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم ، ويشخصوا الطريق السوي : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ).

إلّا أنّ هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج ، فهي مظهر من مظاهر المحبّة التي تستهدف إيقاظ النائمين ، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إذا استمرت الغفلة ، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية ، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ منه هذه النعم فجأة ، بينما لو أخذت منه بالتدريج ، فلا يكون وقع ذلك عليه شديدا ، ولهذا يقول إنّنا أعطيناهم الكثير من النعم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (١).

وهكذا استؤصلت جذور أولئك الظلمة وانقطع نسلهم : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ

__________________

الروحي ، كالهم والغم والاكتئاب والجهل ، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.

ولعل الاختلاف بين معنيي اللفظتين ناشئ عن أن «البأساء» تشير إلى المكروه الخارجي و «الضراء» تشير إلى المكروه الداخلي ، النفسي أو الروحي ، وعلى هذا تكون «البأساء» من عوامل إيجاد «الضراء» فتأمل بدقة!

(١) «الإبلاس» الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة ، ومنها اشتقت كلمة «إبليس» ، وهي هنا تدل على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.

٢٨٣

الَّذِينَ ظَلَمُوا).

و «الدابر» بمعنى المتأخر والتابع.

ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شيء منها ، لذلك فانّ الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

* * *

ملاحظات :

لا بدّ هنا من التنبه إلى بضع نقاط :

١ ـ قد يبدو لبعضهم أنّ هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة ، فقد بيّنت الآيات السابقة أنّ المشركين إذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إلى الله وينسون كل ما عداه ، ولكن هذه الآيات تقول : إنّ هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد تعرضهم للمنغصات الشديدة.

هذا التباين الظاهري يزول إذا انتبهنا إلى النقطة التّالية ، وهي أنّ اليقظة الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية ، لأنّهم سرعان ما يعودون إلى الغفلة السابقة.

في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري ، فكان التيقظ والتوجه العابر ونسيان كل شيء سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإثبات ذلك ، أمّا في هذه الآيات فالكلام يدور عن الاهتداء والرجوع عن الضلال إلى الطريق المستقيم ، لذلك فانّ اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئا.

قد يتصور أنّ الاختلاف بين الموضعين هو أنّ الآيات السابقة تشير إلى المشركين الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآيات التي بعدها تشير إلى الأقوام

٢٨٤

السابقين ، ولذلك لا تعارض بينهما (١).

ولكن من المستبعد جدّا أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا من الضالين السابقين ، وعليه فلا حلّ للإشكال إلّا بما قلناه.

٢ ـ نقرأ في هذه الآيات أنّه عند ما لم يكن لابتلائهم بالشدائد تأثير في توعيتهم ، فإنّ الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين ، فهل هذا ترغيب بعد المعاقبة ، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي : هل هذه النعم نعم استدراجية ، تغمر المتمرد تدريجيا بالرفاهية والتنعم والسرور ... تغمره بنوع من الغفلة ، ثمّ ينتزع منه كل شيء دفعة واحدة؟

ثمّة قرائن في الآية تؤيد الاحتمال الثّاني ، ولكن ليس هناك ما يمنع من قبول الاحتمالين ، أي أنّه ترغيب وتحريض على الاستيقاظ ، فإن لم يؤثر ، فمقدمة لسلب النعمة ومن ثمّ إنزال العذاب الأليم.

جاء في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنّما هو استدراج) ثمّ تلى الآية (فَلَمَّا نَسُوا ...) (٢).

وفي حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «يا ابن آدم ، إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره» (٣).

وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قال : «إنّ قنبر مولى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أدخل على الحجاج ، فقال : ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال : كنت أوضيه ، فقال له : ماذا يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال : كان يتلو هذه الآية : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) يشير الفخر الرازي في تفسيره إلى هذه الاختلاف في ج ١٢ ، ص ٢٢٤.

(٢) تفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ، ذيل الآية.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمة ٢٥.

٢٨٥

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فقال الحجاج : أظنّه كان يتأولها علينا؟! قال : نعم» (١).

٣ ـ يتّضح من هذه الآيات أنّ هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإيقاظ والتوعية ، وهذا جانب من فلسفة «المصائب والآفات» التي تحدثنا بشأنها في بحث التوحيد ، ولكن الملفت للنظر هو أنّه يبدأ الموضوع بكلمة «لعل» ، وذلك لأنّ نزول البلاء وحده لا يكفي للإيقاظ ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن قلنا أنّ «لعل» في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أخرى).

هنالك أيضا كلمة «تضرع» التي تعني أصلا نزول اللبن في الثدي واستسلامه للرضيع ، ثمّ انتقل المعنى إلى الاستسلام مع الخضوع والتواضع ، أي أنّ تلك الحوادث الشديدة تهدف إلى إنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية ، والاستسلام لله.

٤ ـ ممّا يلفت النظر اختتام الآية بقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا دليل على أنّ استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله.

في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصي الله ، إنّ الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك الظلمة فقال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧١٨.

٢٨٦

الآيات

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

التّفسير

اعرفوا واهب النعم!

الخطاب ما يزال موجها إلى المشركين.

في هذه الآيات حثّ استدلالي على إيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر ، فيبدأ بالقول : إنّه إذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم ، مثل السمع والبصر ، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء ، والحقّ الباطل ، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إليكم تلك النعم؟ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ

٢٨٧

سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ).

في الواقع ، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله ، وكانوا يعبدون الأصنام للاستشفاع بها عند الله.

والقرآن يحثّهم على الاتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات بدل الاتجاه إلى أصنام لا قيمة لها.

وإضافة إلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله ، فإنّ القرآن استجوب عقولهم هنا لإبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عينا ولا أذنا ولا عقلا ولا شعورا ، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟

ثمّ تقول الآية : انظر إلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل ، ولكنّهم مع ذلك يعرضون عنها : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).

وفيما يتعلق بمعنى «ختم» وسبب ورود «سمع» بصيغة المفرد ، و «أبصار» بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الاوّل من هذا التّفسير ، (٩٢).

«نصرف» من «التصريف» بمعنى «التغيير» ، والكلمة هنا تشير إلى مختلف الاستدلالات في صور متنوعة.

و «يصدفون» من «صدف» بمعنى «الجانب» و «الناحية» أي أنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إلى جانب أو ناحية أخرى.

وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإعراض أيضا ، ولكنه «الإعراض الشديد» كما يقول الراغب الأصفهاني.

تشير الآية الثّانية ، بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة ـ إلى إمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة ، فتقول : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ

٢٨٨

الظَّالِمُونَ) (١).

«بغتة» بمعنى «فجأة» و «جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية ، والمألوف استعمال «سرّا» في مقابل «جهرة» لا «بغتة» ، ولكن لما كانت مقدمات العمل المباغت خافية غالبا ، إذ لو لا خفاؤه لما كان مباغتا ، فإن في «بغتة» يكمن معنى الخفاء والسرية أيضا.

والقصد هو أنّ القادر على إنزال مختلف العقوبات ، وسلب مختلف النعم هو الله وحده ، وإنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبدا ، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إلى اللجوء إليها ، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إلّا الظالمين.

ومن هذا يستفاد أنّ للظلم معنى واسعا يشمل أنواع الشرك والذنوب ، بل إنّ القرآن يعتبر الشرك ظلما عظيما ، كما قال لقمان لابنه : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٢).

الآية الثالثة تشير إلى مركز الأنبياء ، فتقول : ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر ، فإن الأنبياء العظام والقادة الإلهيين أيضا لا عمل لهم سوى إبلاغ الرسالة والإنذار والتبشير ، فكل ما هنالك من نعم إنّما هي من الله وبأمره ، وأنّهم إن أرادوا شيئا طلبوه من الله : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

والاحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإنذار ، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء ، فهم مبشرون ومنذرون.

ثمّ تقول : إنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين ، فالذين يؤمنون ويصلحون

__________________

(١) شرحنا معنى «أرأيتكم» عند تفسير الآية ٤٠ من هذه السورة وقلنا : ليس هناك ما يدعو إلى اعتبار المعنى «أخبروني» بل المعنى هو «أعلمتم»؟

(٢) لقمان ، ١٣.

٢٨٩

أنفسهم و (يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فلا خوف عليهم من العقاب الإلهي ، ولا حزن على أعمالهم السابقة. (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

أمّا أولئك الذين لا يصدقون بآياتنا ، بل يكذبون بها فإنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من الله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

من الجدير بالانتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) ، فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد ما يكون من العذاب.

كذلك ينبغي القول أنّ لكلمة «فسق» معنى واسعا أيضا ، يشمل كل أنواع العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعض الأحيان ، وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية ، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر الرازي ومفسّرون آخرون بشأن معنى «الفسق» وشمولها الذنوب ، ومن ثمّ الدفاع عن ذلك.

* * *

٢٩٠

الآية

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

التّفسير

معرفة الغيب :

هذه الآية استمرار للردّ على اعتراضات الكفار والمشركين المختلفة ، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الاعتراضات في جمل قصيرة :

الأوّل : هو أنّهم كانوا يريدون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيام بمعجزات عجيبة وغريبة ، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته ، بل إنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون ، فمرّة كانوا يطلبون بيوتا من ذهب ، ومرّة يريدون هبوط الملائكة ، ومرّة يريدون أن تتحول أرض مكّة القاحلة المحرقة إلى بستان مليء بالمياه والفواكه وغير ذلك ممّا كانوا يطلبونه من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا سيأتي شرحه في تفسير الآية (٩٠) من سورة الإسراء.

ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية وامتلاك الأرض والسماء ، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من الله : (قُلْ لا أَقُولُ

٢٩١

لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ).

«الخزائن» جمع الخزينة ، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد حفظها وإخفاؤها عن الآخرين ، واستنادا إلى الآية : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١) يتّضح أنّ «خزائن الله» تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء ، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات.

ثمّ تردّ الآية على الّذين كانوا يريدون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل ، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع ، فتقول : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ).

سبق أن قلنا إنّه لا يكون أحد مطلعا على كل شيء إلّا إذا كان حاضرا وشاهدا في كل مكان وزمان ، وهو الله وحده ، أمّا الذي يكون وجوده محددا بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شيء ، ولكن ما من شيء يحول دون أن يمنح الله جزءا من عمله هذا إلى الأنبياء والقادة الإلهيين لإكمال مسيرة القيادة ، حسبما يراه من مصلحة ، وهذا بالطبع لا يكون علما بالغيب بالذات ، بل هو «علم بالغيب بالعرض» أي أنّه تعلم من عالم الغيب.

هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أنّ الله لا يظهر علمه هذا للأنبياء والقادة الإلهيين وحدهم ، بل قد يظهره لغيرهم أيضا ، ففي الآيتين (٢٦ و ٢٧) من سورة الجن نقرا : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

لا شك أنّ مقام القيادة ، وخاصة القيادة العالمية العامة ، يتطلب الاطلاع على كثير من المسائل الخافية على عامّة الناس ، فإذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه على علمه ، فإنّ مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقّة).

__________________

(١) الحجر ، ٢١.

٢٩٢

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّنا نلاحظ أنّ بعض الكائنات الحيّة لا بدّ لها أن تعلم الغيب للمحافظة على حياتها ، فيهبها الله ما تحتاجه من علم ، فنحن ـ مثلا ـ قد سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في الشتاء ، أي أنّ الله قد وهبها هذا العلم بالغيب ، لأنّ حياتها ستتعرض لخطر الفناء دون هذه المعرفة ، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إن شاء الله عند تفسير الآية (١٨٨) من سورة الأعراف.

في الجملة الثّالثة ردّ على الذين كانوا يتصورون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكا ، أو أن يصاحبه ملك ، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات ، وغير ذلك ، فقال : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

يتّضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم ، وكل ما فعله كان بوحي من السماء ، وإنّه لم يكن يفعل شيئا باجتهاده ولا بالعمل بالقياس ولا بأي شيء آخر كما يرى بعض ـ وإنّما كان يتبع الوحي في كل أمر من أمور الدين.

وفي الختام يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يقول لهم : هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إليهم على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيدا ويتفهمونها؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

إنّ ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأنّ رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبق أن قال : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) و (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) و (لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) بل (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ، ولكن هذا كلّه لا يعني إنّني مثلكم ، أيّها المشركون ، بل أنا إنسان بصير بالواقع بينما المشرك أشبه بالأعمى ، فهل يستويان؟

ثمّة احتمال آخر لربط هذه الجمل ، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد

٢٩٣

وعلى صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة جلية ، ولكنّها تتطلب عينا بصيرة لكي تراها ، فإذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة ، بل لكونكم تفتقرون إلى العين البصيرة ، فهل يستوي الأعمى والبصير؟

* * *

٢٩٤

الآية

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

التّفسير

في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير ، وفي هذه الآية يأمر نبيّه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أن هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون وجود حساب وجزاء ، وفي ضوء هذا الاحتمال والخوف من المسؤولية تتولّد فيهم القابلية على التلقّي والقبول.

سبق أن قلنا : إنّ وجود القائد المؤهل والبرنامج التربوي الشامل لا يكفيان وحدهما لهداية الناس ، بل ينبغي أن يكون لدى هؤلاء الناس الاستعداد لتقبل الدعوة ، تماما مثل أشعة الشمس التي لا تكفي وحدها لتشخيص معالم الطريق ، بل لا بدّ من وجود العين الباصرة أيضا ، ومثل البذرة السليمة التي لا يمكن أن تنمو بغير وجود الأرض الصالحة للزراعة.

يتّضح من هذا أنّ الضمير في «به» يعود على القرآن ، وهذا يتبيّن من القرائن ، على الرغم من أنّ القرآن لم يذكر في الآيات السابقة صراحة.

٢٩٥

كما أنّ المقصود من «يخافون» أي يحتملون وجود الضرر ، إذ يخطر ببال كل عاقل يستمع إلى دعوة الأنبياء الإلهيين ، بأنّ من المحتمل أن تكون دعوة هؤلاء صادقة ، وأنّ الإعراض عنها يوجب الخسران والضرر ، ويستنتج من ذلك أنّ من الخير له أن يدرس الدعوة ويطلع على الأدلة.

وهذا واحد من شروط الهداية ، وهو ما يطلق عليه علماء العقائد اسم «لزوم دفع الضرر المحتمل» ويعتبرونه دليل وجوب دراسة دعوى من يدعي النّبوة ، ولزوم المطالعة لمعرفة الله.

ثمّ يقول : إنّ أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي ليس فيه غير الله ملجأ ولا شفيع : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ).

نعم ، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إلى الله ، إذ أنّ الأمل في هدايتهم موجود : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

بديهي أنّ نفي «الشفاعة» و «الولاية» في هذه الآية عن غير الله لا يتناقض مع شفاعة أولياء الله وولايتهم ، إذ إنّنا سبق أن أشرنا إلى أنّ المقصود هو نفي الشفاعة والولاية بالذات ، أي أنّ هذين الأمرين مختصان ذاتا بالله ، فإذا كان لأحد غيره مقام الشفاعة والولاية فبإذن منه وبأمره ، كما يصرح القرآن بذلك : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

للمزيد من التوضيح بشأن الشفاعة عموما ، انظر المجلد الأوّل : ص ١٩٨. والمجلد الثّاني من هذا التّفسير.

* * *

__________________

(١) البقرة ، ٢٥٥.

٢٩٦

الآيتان

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

سبب النّزول

ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين ، ولكنّها متشابهة ، من ذلك ما جاء في تفسير «الدار المنثور» : مرّت جماعة من قريش بمجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان «صهيب» و «عمار» و «بلال» و «خباب» وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرين فيه ، فتعجبوا من ذلك (لأنّهم كانوا يحسبون أن شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام ، ولم يستطيعوا إدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الأشخاص ، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إيجاد المجتمع الإسلامي والإنساني الكبير) فقالوا : يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهم؟ ، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم اتّبعناك ،

٢٩٧

فأنزل الله الآية.

بعض مفسّري أهل السنة ، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثا أشبه بذاك ، ثمّ يقول : إنّ عمر بن الخطاب كان حاضرا واقترح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش ، ليتبيّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في رفض اقتراحه.

ينبغي ألّا يغرب عن البال أنّ ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد ، فقد سبق أن قلنا إنّ من الممكن أن تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة ، ثمّ تنزل السورة بشأن تلك الحوادث.

يلزم هنا أن نذكر أنّه جاء في رواية أنّ الملأ من قريش ـ حينما رفض رسول الله عرضهم ـ اقترحوا عليه شيئا آخر ، وقالوا له : لو نحيت هؤلاء حتى نخلو بك ... فإذا انصرفنا ، فإذا شئت أعدتهم إلى مجلسك ، فأجابهم النّبي إلى ذلك ، فقالوا له : اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا ، فدعا بصحيفة وأحضر عليا ليكتب ، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.

غير أنّ هذه الرواية ، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإسلام التي رفضت دوما المساومة في مثل هذه الحالات ، وأكّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإسلامي ، فإنّها لا تنسجم مع الآية السابقة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فكيف يمكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبول الاقتراح دون انتظار للوحي.

ثمّ إنّ عبارة (وَلا تَطْرُدِ) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أولئك ، لا التناوب معهم ، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب ، وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا.

* * *

٢٩٨

مكافحة التّفكير الطّبقي :

في هذه الآية إشارة إلى واحد من احتجاجات المشركين ، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرّ ببعض الامتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء ، إذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقصة لهم أي منقصة! مع أنّ الإسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الامتيازات الزائفة الجوفاء ، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أولئك عنه ، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستندا إلى أدلة حية ، فيقول : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إلى هؤلاء الأشخاص إشارة خاصّة ، بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء ، أي دائما ، وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء ، بل هو لذات الله وحده ، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه ، وليس ثمّة امتياز اسمى من هذا.

يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لقد تكرر اعتراضهم على النّبي بشأن اجتماع الفقراء حوله ، ومطالبتهم إياه بطردهم.

في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته ، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة ، ويرفضون كل دعوة تستهدف إلغاء هذه القيم والمعايير.

في سيرة النّبي نوح عليه‌السلام نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له : (وَما نَراكَ

__________________

(١) معنى «الوجه» في اللغة معروف ، ولكن الكلمة قد تعني «الذات» كما في هذه الآية ، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد الثاني من هذا التفسير.

٢٩٩

اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) (١) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته.

إنّ واحدا من دلائل عظمة الإسلام والقرآن ، وعظمة مدرسة الأنبياء عموما ، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات ، وراحت تحطم هذه الامتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة ، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصا في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال ، كما أنّ الثروة ليست امتيازا اجتماعيا ، أو معنويا لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.

ثمّ تقول الآية : إنّه ليس ثمّة ما يدعو إلى إبعاد هؤلاء المؤمنين عنك ، لأنّ حسابهم ليس عليك ، ولا حسابك عليهم : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، ولكنّك مع ذلك إذا فعلت تكون ظالما : (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).

يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من «الحساب» هنا.

منهم من يقول : إنّ المقصود هو حساب رزقهم ، أي أنّهم وإن كانوا فقراء فإنّهم لا يثقلون عليك بشيء ، لأنّ حساب رزقهم على الله ، كما أنّك أنت أيضا لا تحملهم ثقل معيشتك ، إذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء.

غير أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا ، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال ، كما يقول كثير من المفسّرين ، أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك ، مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول؟ فالجواب : إنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفقراء بالابتعاد عن الله بسبب فقرهم ، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفية والتوسعة عليهم في معيشتهم ، بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إلّا لضمان

__________________

(١) هود ، ٢٧.

٣٠٠