الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

على أممهم ، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شيء إلى الله.

ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد ، بل هو يحكي عن مرحلتين ، في المرحلة الاولى وهي التي تشير إليها الآية التي نحن بصددها ، يظهر الأنبياء الأدب بإزاء سؤال الله ، فينفون العلم عن أنفسهم ، ويوكلون كل شيء إلى علم الله ، ولكنّهم في المراحل التّالية يبيّنون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون ، وهذا يكاد يشبه المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أوّل الأمر ويقول : أن علمه لا شيء بالنسبة لعلم المعلم ، ثمّ بعد ذلك يدلي بما يعرف.

والسؤال الآخر : كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنّهم إضافة إلى العلوم العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.

رغم أنّ للمفسّرين كلاما كثيرا في جواب هذا السؤال ، نرى أنّ الموضوع واضح وهو أنّ الأنبياء يرون علمهم لا شيء بالنسبة لعلم الله ، والحقّ كذلك ، فوجودنا لا شيء بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بإزاء علم الله ، فمهما يكن «الممكن» فإنّه لا يكون شيئا بإزاء «الواجب» ، وبعبارة أخرى : إنّ علم الأنبياء ، وإن كان في حد ذاته غزيرا ، لكنه لا شيء بالقياس إلى علم الله.

في الحقيقة ، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضرا وناظرا في كل مكان وزمان ، وعارفا بتركيب كل ذرة من ذرات العالم ، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط في وحدة واحدة ، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء والأئمّة كما زعم بعضهم ، وذلك لأن «علم الغيب» بالذات يختص بمن يكون حاضرا في كل مكان وزمان ، وأمّا غيره تعالى فإنّه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه الله.

وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن ، منها الآية (٢٦) من سورة الجن :

١٨١

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) والآية (٤٩) من سورة هود : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ).

يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أنّ علم الغيب مختص بذات الله ، ولكنّه يعلّمه لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.

* * *

١٨٢

الآية

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

التّفسير

نعم الله على المسيح :

هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيحعليه‌السلام والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أمّته ، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ).

١٨٣

ومعنى «إذ قال» : واذكر إذ قال.

وحسب هذا التّفسير ، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا ، إلّا أن عددا من المفسّرين ـ كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي ـ يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة ، وعلى هذا يكون الفعل الماضي «قال» بمعنى «يقول» المضارع ، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية ، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الاعتراف بالجميل والشكر فيه ، وهذا لإمكان له يوم القيامة.

ثمّ تشرع الآية بذكر النعم : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

لقد بحثنا معنى «روح القدس» في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثا مستفيضا وأحد الاحتمالات المقصودة هو أنّه إشارة إلى ملك الوحي ، جبرائيل ، والاحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة ، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضا بدرجة أضعف.

من نعم الله الأخرى : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي أنّ كلامك في المهد ، مثل كلامك وأنت كهل ، كلام ناضج ومحسوب ، لا كلام طفل غر.

ثمّ أيضا : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إنّ ذكر التّوراة والإنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية ، إنّما هو من باب التفصيل بعد الإجمال.

ومن النعم الأخرى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي).

ومع ذلك فإنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي).

١٨٤

ثمّ (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي).

وأخيرا كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر ، فدفعت أذى أولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيح عليه‌السلام وادعاء الألوهية له ، أي أنّ ما كان يحققه المسيح عليه‌السلام بالرغم من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهية ، لم يكن ناشئا منه ، بل كان من الله وباذنه ، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله ، مطيع لأوامره ، وما كان له إلّا ما يستمده من قوة الله الخالدة.

وقد يسأل سائل : إنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسى عليه‌السلام فلما ذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أمّه أيضا؟

لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأم أيضا ، فكلاهما من اصل واحد ، ومن شجرة واحدة.

وكما ذكرنا في ذيل الآية (٤٩) من سورة آل عمران ، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية ، ففي تاريخ حياة المسيح عليه‌السلام ينسب إليه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولكن بأمر الله وإذنه.

يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحيانا ، إنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إلى دعاء الأنبياء واستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية ، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفا ، إذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (٤٩) لمزيد من التوضيح).

* * *

١٨٥

الآيات

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ(١١٥))

التّفسير

قصّة نزول المائدة على الحواريين :

تعقيبا على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيحعليه‌السلام وأمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين ، أي أصحاب المسيح عليه‌السلام.

ففي البداية تشير الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله

١٨٦

المسيح عليه‌السلام فاستجابوا (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

إن للوحي في القرآن معنى واسعا لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء ، بل أن الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضا ، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (٧) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها (١) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان ، كالنحل.

وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإيحاء الذي كان يلقيه المسيح عليه‌السلام بواسطة المعاجز في نفوسهم.

لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيح عليه‌السلام بالبحث في تفسير آية (٥٢) آل عمران هذا التّفسير.

ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).

«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق ، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والاهتزاز ، ولعل سبب إطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.

شعر المسيح عليه‌السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد ، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات ، فخاطبهم و (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح عليه‌السلام أن هدفهم برىء ، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج ، بل يريدون الأكل منها (مضافا إلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الإنسان) (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ

__________________

(١) (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ...)

١٨٧

عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ).

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام ، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.

ولمّا أدرك عيسى عليه‌السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك ، عرض الأمر على الله : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

من الواضح هنا أنّ الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب ، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.

فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإخلاص ، (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

فبعد نزول المائدة تزداد مسئوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم ، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضا في حالة الكفر والانحراف.

ملاحظات :

هنا لا بدّ من التحقيق في عدّة نقاط من هذه الآيات الكريمة :

١ ـ ما القصد من طلب المائدة؟

لا شك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد شيء في طلبهم هذا ، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة ، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الاطمئنان الأقوى وإبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم ، فكثيرا ما يحدث أنّ إنسانا يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة ، ولكن إذا كان الأمر مهما جدّا فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه ، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته ، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس ، ولهذا

١٨٨

نرى إبراهيم عليه‌السلام ، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي العين لكي يتبدل إيمانه العلمي إلى «عين اليقين» وإلى «شهود».

ولكن أسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسى عليه‌السلام أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج ، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.

٢ ـ ما المقصود بعبارة (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)؟

لا شك أنّ ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إنزال مائدة ، إلّا أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أخرى في تفسيرها ، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.

ورأي آخر يقول : إنّ سؤالهم يعني : هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص : لا أستطيع أن أعهد إلى فلان بكل ثروتي ، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك ، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.

ورأي ثالث يقول : أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الانقياد ، فإذا وردت من باب (الاستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه ، فيكون المعنى : هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إنزال مائدة من السماء؟

٣ ـ ما هي تلك المائدة السماوية؟

لم يذكر القرآن شيئا عن محتوياتها ، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث ، وخاصة الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبر ومقدارا من السمك ، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إسرائيل باعجاز من موسى عليه‌السلام فطلبوا هم أيضا من عيسى عليه‌السلام مثل ذلك.

٤ ـ هل نزلت عليهم مائدة؟

رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة ، فالله لا يخلف وعده ، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة ، ويقولون : أنّ

١٨٩

الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة ، تخلوا عن طلبهم ، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا.

٥ ـ ما العيد؟

«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع ، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيدا. كذلك هي الأعياد الإسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان ، أو بعد أداء فريضة الحج العظيم ، يعود إلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين ، ويزول التلوث عن الفطرة ، فيكون العيد ، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إلى الفوز والطهارة والإيمان بالله ، فقد سمّاه المسيح عليه‌السلام عيدا.

وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد ، ولعل هذا هو سبب الاحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.

إنّنانقرأ لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام قوله : «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(١).

وفي هذا إشارة إلى الموضوع نفسه ، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إلى الفطرة الاولى.

٦ ـ لماذا العقاب الشديد؟

هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه ، وذلك أنّه عند ما يبلغ الإيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عند ما ترى الحقيقة رأي العين ، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد ، فإنّ مسئولية المرء تزداد وتثقل ، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل ، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإيمان وتحمل المسؤولية ، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد ، ولهذا فإنّ مسئولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل ، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها ، إننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضا ، فمثلا يعلم كل شخص

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٢٨.

١٩٠

أنّ في بلده أو مدينته جياعا يتحمل مسئوليتهم ، ولكنه عند ما يرى بعينيه إنسانا بريئا يتضور جوعا ويتألم سغبا ، فلا شك أنّ درجة مسئوليته تكون عندئذ أعلى.

٧ ـ «العهد الجديد» والمائدة.

في الأناجيل الأربعة الموجودة حاليا لا نجد كلاما عن المائدة كما في القرآن ، عدا ما جاء في إنجيل يوحنا ، في الباب (٢١) ، حول استضافة المسيح الإعجازية جمعا من الناس بالخبز والسمك ، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أنّ ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين (١).

ثمّة كلام في كتاب «أعمال الرسل» وهو من كتب العهد الجديد ، يدور حول نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس ، ولكن هذا أيضا ليس هو الموضوع الذي نحن بصدده ، غير أنّنا نعلم أن كثيرا من الحقائق التي نزلت على عيسى عليه‌السلام لا أثر لها في الأناجيل السائدة ، كما أن كثيرا ممّا نراه في هذه الأناجيل لم ينزل على المسيح عليه‌السلام (٢).

* * *

__________________

(١) «الهدى إلى دين المصطفى» ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

(٢) نفس المصدر.

١٩١

الآيات

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

التّفسير

براءة المسيح من شرك أتباعه :

هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة ، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) دليل آخر على أنّ الحوار

١٩٢

قد جرى بعد عهد نبوة المسيح عليه‌السلام ، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه ، لأنّ القرآن مليء بذكر أمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي ، وهو إشارة إلى أنّ وقوعه حتمي ، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا ، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاولى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).

لا ريب أنّ المسيح عليه‌السلام لم يقل شيئا كهذا ، بل دعا إلى التوحيد وعبادة الله ، أنّ القصد من هذا الاستفهام هو استنطاقه أمام أمّته وبيان إدانتها.

فيجيب المسيح عليه‌السلام بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال :

١ ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة : (قالَ سُبْحانَكَ).

٢ ـ ثمّ يقول : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب ، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

٣ ـ ثمّ يستند إلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيدا لبراءته فيقول : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١).

٤ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، لا أكثر من ذلك.

٥ ـ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢).

__________________

(١) إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح ، فمن معاني النفس الذات.

(٢) في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيح عليه‌السلام أنظر ذيل الآية (٥٥) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.

١٩٣

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم ، فكنت الرقيب والشاهد عليهم ، ولكن بعد أن رفعتني إليك ، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

٦ ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك ، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك ، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك ، وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم ، فلا عفوك دليل ضعف ، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

* * *

هنا يتبادر إلى الذهن سؤالان :

١ ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة : (الإله الأب) و (الإله الابن) و (روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإله الأب) و (الإله الابن) وهو ليس (مريم).

للإجابة على هذا السؤال نقول : صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم ، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة ، كالوثنيين الذي لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة ، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق ، وال «إله» بمعنى المعبود ، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين : إنّ المسيحيين على اختلاف فرقهم ، وإن لم يطلقوا كلمة (إله) أو معبود على مريم ، واعتبروها أم الإله لا غير ، فهم في الواقع يقدمون لها

١٩٤

طقوس الدعاء والعبادة ، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه ، ثمّ يضيف قائلا : قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم ، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من الجملة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أصول عبادة مريم حتى في العهد القديم ، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم (١).

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

٢ ـ السؤال الثّاني : كيف يتحدث المسيح عليه‌السلام عن مشركي أمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول : لو كان قصد عيسى عليه‌السلام هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول :

فإنك أنت الغفور الرحيم لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة ، ولكنّنا نراه يقول (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم ، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله ، إن شاء عفا ، وإن شاء عاقب ، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة ، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

* * *

__________________

(١) تفسير «المنار» ، ج ٧ ، ص ٢٦٣.

١٩٥

الآيتان

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

التّفسير

الفوز العظيم :

بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيح عليه‌السلام يوم القيامة ـ كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة ـ تقول الآية (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).

طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة ، لأنّ الصدق في الآخرة ـ التي لا تكليف فيها ـ لا ينفع شيئا ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إلّا أن يقول الصدق ، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا ، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في

١٩٦

وعليه ، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسئولية ورسالة ولم يسيروا إلّا في طريق الصدق ، مثل المسيح عليه‌السلام وأتباعه الصادقين ، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.

يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل ، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.

وهؤلاء الصادقون : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

يلفت النظر أنّ الآية ، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة ، تذكر نعمة رضي الله عن عباده ، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم ، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل ، فقد يكون امرؤ غارقا في أرفع نعم الله ، ولكنّه إذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضيا عنه ، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقما في ذائقة روحه.

كما يمكن أن يتوفر لامرئ كل شيء ، ولكنه لا يكون راضيا ولا قانعا بما عنده ، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إسعاد تلك الروح ، بل تكون دائما معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.

ثمّ إذا كان الله راضيا عن امرئ فإنّه يعطيه كل ما يريد ، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضا ، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإنسان ويرضى الإنسان عن ربّه.

وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك الله كل شيء وسيطرته على السموات والأرض وما فيها ، وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شيء : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

١٩٧

وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

هذه الآية ، في الواقع ، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله ، وذلك لأنّ الذي يملك كل شيء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم ، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم ، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله ، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

* * *

١٩٨

سورة الأنعام

مكيّة

وفيها مائة وخمس وستون آية

١٩٩
٢٠٠