الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-42-4
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢١

الآيتان

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

سبب النّزول

جاء في تفسير «مجمع البيان» وتفسير القرطبي ، عن ابن عباس قال : جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : ألست تقرّ بأن التّوراة من عند الله؟

قال : «بلى».

قالوا : فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فانّ التّوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم ، ولكنّ القرآن كتاب مختص بكم).

فنزلت الآية الاولى.

١٠١

التّفسير

لاحظنا في ما سبق من تفسير آيات هذه السورة أنّ قسما كبيرا منها يدور حول العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب «اليهود والنصارى» في طريق المسلمين وما كانوا يوردونه من مجادلة وتساؤل ، هذه الآية ـ أيضا ـ تشير إلى جانب آخر من ذلك الموضوع ، ترد فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار التّوراة كتابا متفقا عليه بين المسلمين واليهود ، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف.

لذلك فالآية تخاطب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

وذلك لأنّ هذه الكتب ـ كما قلنا ـ صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة ، ولمّا كان آخر هذه الكتب السماوية أكملها وأجمعها فإنّه هو الأجدر بالعمل به ، كما أنّ الكتب السابقة تحمل بشائر وارشادات إلى آخر الكتب ، وهو القرآن ، فإذا كانوا ـ حسب زعمهم ـ يقبلون التّوراة والإنجيل ، وكانوا صادقين في زعمهم ، فلا مندوحة لهم عن القبول بتلك البشائر أيضا ، وإذ وجدوا تلك العلامات في القرآن ، فإن عليهم أن يحنوا رؤوسهم خضوعا لها.

هذه الآية تقول أنّ الادعاء لا يكفي ، بل لا بدّ من إتباع ما جاء في هذه الكتب السماوية عمليا ، ثمّ أن القضية ليست «كتابنا» و «كتابكم» ، بل هي الكتب السماوية وما أنزل من الله ، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب سماوي؟

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم ، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها ، بل أنّهم ـ لمّا فيهم من روح العناد ـ يزدادون في طغيانهم وكفرهم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً).

١٠٢

وهكذا يكون التأثير المعكوس للآيات الصادقة والقول المتزن في النفوس المملوءة عنادا والجاجا.

وفي ختام الآية يخفف الله من حزن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إزاء تصلب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم ، فيقول له (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١).

هذه الآية ليست مقصورة على اليهود ـ طبعا ـ فالمسلمون أيضا إذا اكتفوا بادعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء ، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي ، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند الله ، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية ، بل سيظلون دائما أذلاء ومغلوبين على أمرهم.

الآية التّالية تعود لتقرر مرّة أخرى هذه الحقيقة ، وتؤكّد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون استثناء ، مسلمين كانوا أم يهودا أم صابئين (٢) أم مسيحيين ، لا ينجون ولا يأمنون الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلّا إذا آمنوا بالله وبيوم الحساب وعملوا صالحا : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

هذه الآية ، في الحقيقة ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة ، ويفضلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض ، ويتقبلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي ، فتقول الآية إن طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.

وكما أشرنا في تفسير الآية (٦٢) من سورة البقرة ، التي تقترب في مضمونها من مضمون هذه الآية سعى بعضهم بجد ليثبت أنّ هذه الآية تعتبر دليلا على «السلام العام» وعلى أنّ أتباع جميع الأديان ناجون ، وأن يتجاهل فلسفة نزول الكتب السماوية بالتتابع الذي يدل على تقدم الإنسان في مسيرته التكاملية

__________________

(١) «فلا تأس» من الأسى ، بمعنى الغم والحزن.

(٢) الصابئون هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم ، وقد ذكرناهم بتفصيل أكثر في المجلد الأول.

١٠٣

التدريجية.

ولكن ـ كما قلنا ـ تضع الآية حدّا فاصلا بقولها (وَعَمِلَ صالِحاً) لكل قول ، وتشخص الحقيقة ، بخصوص تباين الأديان ، فتوجب العمل بآخر شريعة إلهية ، لأنّ العمل بقوانين منسوخة ليس من العمل الصالح ، بل العمل الصالح هو العمل بالشرائع الموجودة وبآخرها (لمزيد من الشرح والتوضيح بهذا الشأن انظر المجلد الأوّل ص ٢١٧.

ثمّ إنّ هناك احتمالا مقبولا في تفسير عبارة (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) وهو إنّها تختص باليهود والنصارى والصابئين ، لأنّ (الَّذِينَ آمَنُوا) في البداية لا تحتاج إلى مثل هذا القيد ، وعليه ، فإن معنى الآية يصبح هكذا : إنّ المؤمنين من المسلمين ـ وكذلك اليهود والنصارى والصابئين ، بشرط أن يؤمنوا وأن يتقبلوا الإسلام ويعملوا صالحا ـ سيكونون جميعا من الناجين وإن ماضيهم الديني لن يكون له أي أثر في هذا الجانب ، وإن الطريق مفتوح للجميع (تأمل بدقّة).

* * *

١٠٤

الآيتان

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

التّفسير

في آيات سابقة من سورة البقرة ، وفي أوائل هذه السورة أيضا إشارة إلى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً).

يبدو أنّ هذا الميثاق هو الذي جاءت الإشارة إليه في الآية (٩٣) من سورة البقرة ، أي العمل بما أنزل الله!

ثمّ يضاف إلى ذلك القول بأنّهم ، فضلا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق ، (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ).

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم ، فهم بدلا من إتباع قادتهم ، يصرون على أن يكون القادة هم التابعين ولا هوائهم ، وإلّا فليس لهؤلاء الهداة

١٠٥

والأنبياء حتى حق الحياة.

في هذه الآية جاء الفعل «كذبوا» بصيغة الماضي بينما جاء الفعل «يقتلون» بصيغة المضارع ، ولعل السبب ـ بالإضافة إلى المحافظة على التناسب اللفظي في أواخر الآيات السابقة والتّالية وكلها بصيغة المضارع ـ هو كون الفعل المضارع يدل على الاستمرار ، والقصد من ذلك الإشارة إلى استمرار هذه الروح فيهم ، وأن تكذيب الأنبياء وقتلهم لم يكن حدثا عارضا في حياتهم ، بل كان طريقا واتجاها لهم (١).

في الآية التّالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم ، واعتقدوا ـ كما صرحت الآيات الأخرى ـ أنّهم من جنس أرقى ، وأنّهم أبناء الله! وأخيرا استحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجابا غطى أعينهم وآذانهم : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنّهم عند ما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة ، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق ، وأنّهم ليسوا عنصرا متميزا فائقا.

وتقبل الله توبتهم : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

إلّا أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا ، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر وسحق الحقّ والعدالة ، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الانغماس في الإثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة أخرى (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) فلم يعودوا يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحقّ ، وعمت الحالة الكثير منهم.

ولعل تقديم «عموا» على «وصمّوا» يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله

__________________

(١) في الواقع وكما جاء في تفسير «مجمع البيان» وفي غيره إنّ عبارة ، «فريقا كذبوا وفريقا يقتلون» في الأصل «كذبوا وقتلوا» و «يكذبون ويقتلون».

١٠٦

ومعجزات رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يستمعوا إلى تعاليمه ويستوعبوها.

وورود عبارة (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بعد تكرار (عَمُوا وَصَمُّوا) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة ، بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين ، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي ، بل هو موجّه إلى أعمالهم فحسب.

هل أن تكرار عبارة (عَمُوا وَصَمُّوا) ذو طابع عام تأكيدي ، أم للإشارة إلى حادثتين مختلفتين؟

يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إسرائيل ، الاولى : الغزو البابلي لهم ، والثّانية : غزو الإيرانيين والروم ، والقرآن أشار إليها بشكل عابر في بداية سورة بني إسرائيل.

ولا يستبعد ـ أيضا ـ أنّ بني إسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة ، كانوا يتوبون ، ثمّ ينقضون توبتهم ، وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول : إنّ الله لا يغفل أبدا عن أعمالهم ، إذ أنّه يرى كل ما يعملون : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

* * *

١٠٧

الآيات

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤))

التّفسير

تعقيبا على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة ، تتحدث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين ، فتبدأ أولا بأهم تلك الانحرافات ، أي «تأليه المسيح» «تثليث المعبود» : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا الله اللامحدود من جميع الجهات متحدا مع مخلوق محدود من جميع الجهات ، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق. مع أنّ

١٠٨

المسيح عليه‌السلام نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك ، ويفرض الغلوّ في شخصه ، ويعتبر نفسه مخلوقا كسائر مخلوقات الله.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر ، وليزيل كل إبهام وخطأ ، يضيف قائلا : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ).

ويمضي في التوكيد وإثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح ، فيقول أيضا : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

سبق أن أشرنا إلى أنّ تاريخ المسيحية يؤكّد بأنّ التثليث لم يكن معروفا في القرون الاولى من المسيحية ، ولا حتى على عهد المسيح عليه‌السلام ، بل أن الأناجيل الموجودة ـ على الرغم من كل ما فيها من تحريفات وإضافات ـ ليس فيها أدنى إشارة إلى التثليث ، وهذا ما يعترف به المحققون المسيحيون أنفسهم ، وعليه فإن ما ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيحعليه‌السلام على مسألة التوحيد إنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة ، ويعتبر من دلائل عظمة القرآن (١).

وينبغي الالتفات إلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح بالله. أو بعبارة أخرى ، هو «التوحيد في التثليث» ، ولكن الآية التّالية تشير إلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين ، أي «التثليث في التوحيد» ، وتقول : إنّ الذين قالوا أن الله ثالث الأقانيم (٢) الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ).

اعتقد كثير من المفسّرين ، ومنهم الطبرسي في «مجمع البيان» ، والشيخ الطوسي في «التبيان» ، والفخر الرازي والقرطبي في تفسيريهما ، أنّ الآية السابقة تشير إلى فرقة من المسيحيين باسم «اليعاقبة» يعتقدون أن الله متحد بالمسيح عليه‌السلام ،

__________________

(١) للمزيد من توضيح التثليث والوحدة في التثليث أنظر المجلد الثالث من هذا التّفسير.

(٢) «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات ، جمعها «أقانيم».

١٠٩

وهذه الآية وردت بشأن فرقة أخرى هي «الملكانية» و «النسطورية» الذين يقولون بالأقانيم الثلاثة ، أو الآلهة الثلاثة.

غير أنّ هذه النظرة عن المسيحية كما سبق أن قلنا ـ لا تطابق مع الواقع ، لأن الإعتقاد بالتثليث عام بين المسيحيين كافة ، كما أن التوحيد بيننا نحن المسلمين عقيدة عامّة قطعية ، ولكنّهم في الوقت الذي يعتقدون حقا بتثليث الأرباب ، يؤمنون أيضا بالوحدة الحقيقية ، قائلين أن ثلاثة حقيقيين يؤلفون واحدا حقيقيا!

الظاهر أنّ الآيتين المذكورتين تشيران إلى جانبين مختلفين لهاتين القضيتين : في الاولى إشارة إلى وحدة الآلهة الثلاثة ، وفي الثّانية إشارة إلى تعددها ، وتوالي المسألتين هو في الحقيقة إشارة الى واحد من الأدلة الواضحة على بطلان عقيدتهم ، فكيف يمكن لله أن يكون واحدا مع المسيح وروح القدس مرّة ، ومرّة أخرى يكون ثلاثة أشياء؟ أمن المعقول أن يتساوى الثلاثة مع الواحد؟!

إنّ ما يؤيد هذه الحقيقة هو أنّنا لا نجد بين المسيحيين أية طائفة لا تؤمن بالآلهة الثلاثة! (١).

ويرد القرآن عليهم ردا قاطعا فيقول : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) وفي ذكر «من» قبل «إله» نفي أقوي لأي معبود آخر.

ثمّ ينذرهم بلهجة قاطعة : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

يقول بعضهم أن «من» في «منهم» بيانية ، ولكن الظاهر أنّها تبعيضية تشير إلى الذين بقوا على كفرهم حتى بعد أن دعا القرآن إلى التوحيد ، لا الذين تابوا ورجعوا.

يذكر صاحب «المنار» قصّة في المجال تكشف عن غموض تثليث النصارى

__________________

(١) ورد في بعض الرّوايات ، وكذلك بعض التواريخ أنّ بين المسيحيين أقلية لا تؤمن بالتثليث ، بل يعتقدون اتحاد عيسى بالله ، ولكننا لا نرى لهؤلاء في هذا العصر اسم ولا رسم.

١١٠

وتوحيدهم نقلا عن صاحب (إظهار الحقّ) قال : «نقل أنّه تنصر ثلاثة أشخاص ، وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية ، سيما عقيدة التثليث وكانوا في خدمته ، فجاء أحد المسيحيين إلى هذا القسيس ، وسأله عمن تنصّر. فقال : ثلاثة أشخاص تنصّروا فسأله : هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية؟ فقال : نعم ، واستدعى واحدا منهم ليريه ذلك فسأله القسيس عن عقيدة التثليث ، فقال : إنّك علمتني أن الآلهة ثلاثة ، أحدهم في السماء ، والثّاني تولد من بطن مريم العذراء ، والثّالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثّاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة ، فغضب القسيس وطرده وقال : هذا جاهل.

ثمّ طلب الآخر منهم سأله فقال : إنّك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان ، فغضب عليه القسيس ـ أيضا ـ وطرده.

ثمّ طلب الثّالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد ، فسأله ، فقال : يا مولاي ، حفظت ما علمتني حفظا جيدا ، وفهمت فهما كاملا بفضل السيد المسيح : أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكل لأجل الاتحاد ، ولا إله الآن ، وإلّا يلزم نفي الاتحاد!

في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم الله تعالى ، فيقول : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

* * *

١١١

الآيات

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(٧٧))

التّفسير

تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح عليه‌السلام واعتقادهم بألوهيته ، فتفند في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا ، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلهونه ، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء من قبله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

إذا كان بعثه من قبل الله سببا للتأليه والشرك ، فلما ذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

١١٢

ولكنّنا نعلم أنّ المسيحيين المنحرفين لا يقنعون باعتبار عيسى عليه‌السلام مجرّد مبعوث من الله ، فاعتقادهم العام في الوقت الحاضر هو اعتباره ابن الله ، وأنّه هو الله بمعنى من المعاني وأنّه جاء ليفتدي ذنوب البشر (ولم يأت لهدايتهم وقيادتهم) لذلك أطلقوا عليه اسم «الفادي» أي الذي افتدى بنفسه آثام البشر.

ولمزيد من التوكيد ، يقول : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي أنّ من تكون له أمّ حملته في رحمها ، ومن يكون محتاجا إلى كثير من الأمور ، كيف يمكن أن يكون إلها؟! ثمّ إذا كانت أمّه صديقة فذلك لأنّها هي ـ أيضا ـ على خط رسالة المسيح عليه‌السلام ، منسجمة معه ، وتدافع عن رسالته ، لهذا فقد كان عبدا من عباد الله المقربين ، فينبغي ألّا يتخذ معبودا كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إلى حدّ العبادة.

ومرّة أخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح عليه‌السلام ، فيقول : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ).

فهذا الذي يحتاج إلى الطعام ، ولو لم يتناول طعاما لعدّة أيّام يضعف عن الحركة ، كيف يمكن أن يكون ربّا أو يقرن بالربّ؟!

وفي ختام الآية إشارة وضوح هذه الدلائل من جهة ، وإلى عناد أولئك وجهلهم من جهة أخرى ، فيقول : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١).

تكرر كلمة «انظر» في الآية توجيه للنظر إلى جهتين : إلى الدلائل الواضحة الكافية لكل شخص ، وإلى رد الفعل السلبي المحير المثير للعجب الصادر من هؤلاء.

ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التّالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أن له احتياجات بشرية ، وإنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو

__________________

(١) الإفك : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، والمأفوك : المصروف عن الحقّ ، وإن كان عن تقصيره ، ومن هنا يسمّى إفكا ، لأنّه يصد الإنسان عن الحقّ.

١١٣

نفعها ، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)؟

فكثيرا ما تعرّض هو وأتباعه للأذى على أيدي أعدائهم ، ولو لا أنّ الله شمله بلطفه لما استطاع أن يخطو خطوة واحدة.

وفي النهاية يحذرهم من أن يظنوا أنّ الله لا يسمع ما يتقولونه أو لا يعلم ما يكنونه : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ممّا يلفت النظر أنّ مسألة كون المسيح عليه‌السلام بشرا ذا حاجات مادية جسمانية ـ وهي ما يستند إليها القرآن في هذه الآية وفي آيات أخرى ـ كانت من أكبر المعضلات بوجه المسيحيين الذين يدعون ألوهيته ، فسعوا إلى تبرير ذلك بشتى الأساليب ، حتى أنّهم اضطروا أحيانا إلى القول بثنائية المسيح : اللاهوت والناسوت ، فهو من حيث لاهوتيته ابن الله ، بل هو الله نفسه ومن حيث ناسوتيته فهو جسم ومخلوق من مخلوقات الله ، وأمثال ذلك من التبريرات التي هي خير دلالة على ضعف منطقهم وخطله.

لا بدّ من الالتفات ـ أيضا ـ أنّ الآية استعملت «ما» بمكان «من» والتي تشير عادة إلى غير العاقل ، ولعل ذلك يفيد الشمول بالنسبة للمعبودات والأصنام المصنوعة من الحجر أو الخشب ، فيكون المقصود هو أنّه إذا جاز أن يعبد الناس مخلوقا ، جازت كذلك عبادتهم الأصنام ، لأنّ هذه المعبودات تتساوى من حيث كونها جميعا مخلوقات ، وأنّ تأليه المسيح عليه‌السلام ضرب من عبادة الأصنام ، لا عبادة الإله.

الآية التّالية تأمر رسول الله عليه‌السلام ، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) (١).

__________________

(١) «لا تغلو» من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ ، إلّا أنّها تستعمل للإشارة تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من

١١٤

إنّ غلو النصارى معروف ، إلّا أنّ غلو اليهود ، الذي يشملهم تعبير (يا أَهْلَ الْكِتابِ) قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن العزير وقد اعتبروه ابن الله ، ولما كان الغلو ينشأ ـ أكثر ما ينشأ ـ عن إتباع الضالين أهواءهم ، لذلك يقول الله سبحانه (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

وفي هذا إشارة ـ أيضا ـ إلى ما انعكس في التّأريخ المسيحي ، إذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح عليه‌السلام لم يكن له وجود خلال القرون الاولى من المسيحية ، ولكن عند ما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئا من دينهم السابق ، كالتثليث والشرك.

إنّ الثالوث الهندي (الإيمان بالآلهة الثلاثة : برهما ، وفيشنو ، وسيغا) ، كان تاريخيا أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنّه انعكاس لذاك ، ففي الآية الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير والمسيح عليه‌السلام يقول سبحانه (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).

وقد وردت كلمة «ضلوا» في هذه الآية مرّتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس منهم أهل الكتاب الغلو ، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد ، إذ أنّهم كانوا قبل ذلك من الضّالين ، ثمّ لمّا أضلّوا لآخرين بدعواهم وقعوا في ضلال آخر ، ومن يسعى لتضليل الآخرين يكون أضلّ منهم في الواقع ، لأنّه يكون قد استهلك قواه لدفع نفسه ودفع الآخرين إلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين ـ أيضا ـ على كاهله ، وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إلى آثامه آثام غيره أيضا؟

* * *

__________________

الأشخاص ومنزلته ، وبالنسبة للأسعار وتستعمل كلمة «الغلاء» و «غلو» السهم على وزنه «دلو» ارتفاعه وتجاوزه مداه ، وفي الماء يقال «غليان» و «الغلواء» جموح في الحيوان ، وهي جميعا من أصل واحد ، ويرى بعضهم أن الغلو يعني الإفراط والتفريط معا ، ويحصر بعضهم معناه بالتفريط فقط ، ويقابله التقصير.

١١٥

الآيات

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠))

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون ، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتبعونهم اتباعا أعمى ، فيقول : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

أمّا لماذا ورد اسما هذين النّبيين دون غيرهما ، فللمفسّرين في ذلك أقوال ، فمن قائل : إنّ السبب هو أنّهما كانا أشهر الأنبياء بعد موسى عليه‌السلام ، وقيل : إنّ السبب هو أنّ كثيرا من أهل الكتاب كانوا يفخرون بأنّهم من نسل داود.

وتذكر الآية أوّلا أنّ داود كان يلعن السائرين على طريق الكفر والطغيان.

ويقول بعض : إنّ في الآية إشارة إلى حادثتين تأريخيتين أثارتا غضب هذين

١١٦

النّبيين ، فلعنا جمعا من بني إسرائيل ، فداود قد لعن سكان مدينة (أيلة) الساحلية المعروفين باسم (أصحاب السبت) ، وسيأتي تفصيل تأريخهم في سورة الأعراف ، وعيسىعليه‌السلام لعن جمعا من اتباعه ممن أصروا على اتباع طريق الإنكار والمعارضة حتى بعد نزول المائدة من السماء.

على كل حال ، فالآية تشير إلى أنّ مجرّد كون الإنسان من بني إسرائيل ، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما ، لا يكون مدعاة لنجاته ، بل أنّ هذين النّبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

الآية التّالية تؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبدا بأنّ عليهم يتحملوا أية مسئولية اجتماعية ، ولا هم كانوا يتناهون عن المنكر ، بل أنّ بعضا من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجعون العصاة عمليا (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

هنالك في تفسير هذه الآية روايات منقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أهل البيتعليهم‌السلام ذات دلالات تعليمية.

ففي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد السفيه ولتأطرنه على الحقّ اطرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم» (١).

وفي حديث آخر عن الامام الصّادق عليه‌السلام في تفسير (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أنّه قال : «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم» (٢).

__________________

(١) تفسير (مجمع البيان) لهذه الآية ، وفي تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٢٥٠ حديث مشابه منقول عن الترمذي.

(٢) تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٤٩٢ ، وتفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ٦٦١.

١١٧

الآية الثّالثة تشير إلى معصية أخرى من معاصيهم : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية ، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي ، وكانوا يشجعون الأعمال والأفكار الخاطئة ، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدموها ليوم المعاد ، تلك الأعمال التي استوجبت غضب الله وعذابه الدائم : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ).

أمّا من هم المقصودون بتعبير (الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنّ بعضا يقول : إنّهم كانوا مشركي مكّة الذين صادقوا اليهود.

ويرى بعض أنّهم الجبارون والظالمون الذين كان اليهود قديما يمدون إليهم يد الصداقة ، وهذا الرأي يؤكّده الحديث المنقول عن الإمام الباقر عليه‌السلام إذ قال : «يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم» (١).

وليس ثمّة ما يمنع أن تشمل الآية كلا المعنيين ، بل وتكون أعم منهما أيضا.

* * *

__________________

(١) (مجمع البيان) في تفسير الآية المذكورة.

١١٨

الآية

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

التّفسير

هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطئ ، وهو أنّهم لو كانوا حقا يؤمنون بالله وبرسوله وبما أنزل عليه ، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء الله ولا اعتمدوهم أبدا : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر الله قلّة ، ومعظمهم خارجون عن نطاق إطاعته وسائرون على طريق الفسق (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

من الواضح أنّ كلمة «النّبي» هنا تعني «رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وذلك لأنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن المجيد في آيات متعددة بهذا المعنى ، وهذا الموضوع يتكرر في عشرات الآيات.

ثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، هو أنّ الضمير في «كانوا» يعود على المشركين وعبدة الأصنام ، أي لو أنّ هؤلاء المشركين الذين يعتمدهم اليهود ويثقون بهم ، قد آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، لما اختارهم اليهود أصدقاء لهم ،

١١٩

وهذا دليل بيّن على على ضلال هؤلاء وفسقهم ، وذلك لأنّهم ـ على الرغم من زعمهم أنّهم يتبعون الكتب السماوية ـ يتخذون عبدة الأصنام أصدقاء لهم ما دام هؤلاء مشركين ، ولكنّهم يبتعدون عنهم إذا توجهوا إلى الله والكتب السماوية.

بيد أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى ظاهر الآيات ، حيث الضمائر كلّها تعود إلى مرجع واحد هو اليهود.

* * *

١٢٠