الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

«تزوج الأخ بأخته».

ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له ، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئا في زمان ، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.

غير أنّه قد صرّح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم ، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.

ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأولى ، لأنّها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.

ثمّ أنّ هاهنا احتمالا آخر يقول : إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله ، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إنسان سكن الأرض.

وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم ، في حين لم يمر على تاريخ ظهور «آدم» في الأرض زمن طويل ، فلا بدّ إذن من القبول النظرية التي تقول : بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا ، فما المانع من أن يكون «أبناء آدم» قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر انقراضه؟

ولكن هذا الاحتمال هو أيضا لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).

الدّعوة إلى العناية بالرّحم :

بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإنساني من وشيجة القربى قال سبحانه : (وَاتَّقُوا

٨١

اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ) (١) (بِهِ وَالْأَرْحامَ).

إنّ أهمية التقوى ، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجددا في نهاية الآية الحاضرة ، وأن يدعو سبحانه الناس إلى التزام التقوى ، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة أخرى إذ قال : (اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم ، وتذكرون اسمه عند ما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثمّ أنّه يقول : «والأرحام» وهو عطف على «الله» ، ولهذا كانت القراءة المعروفة هي نصب «والأرحام» فيكون معناها : واتقوا الأرحام ، ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدل أوّلا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إلى درجة أنّه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، وهو إشارة ـ ثانيا ـ إلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية ، وهو أنكم جميعا من أب واحد وأمّ واحدة ، وهذا يعني ـ في الحقيقة ـ أنّ جميع أبناء آدم أقرباء وأرحام ، وهذا الارتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر ، وقبيلة وأخرى ، تماما كما يتحاب أفراد القبيلة الواحدة.

ثمّ يختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

والرقيب أصله من الترقب ، وهو الانتظار من مكان مرتفع ، ثمّ استعمل بمعنى الحافظ والحارس ، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.

وارتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب على مكان مرتفع ، ويمارس النظارة من ذلك الموقع ، وقد يكون من الناحية

__________________

(١) تساءلون : من مادة تسائل ، وتسائل بالله من قولهم أسألك بالله أن تفعل كذا. وهذا يدل على تعظيم الناس لله تعالى.

٨٢

المعنوية.

يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي أنّه يحصي عليكم نياتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعا ، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث (والتعبيرب«كان» المفيد للماضي ، إنّما هو للتأكيد).

* * *

٨٣

الآية

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

سبب النّزول

روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مالا كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه ، فخاصمه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ...) فلما سمع الغطفاني ذلك ارتدع وقال : أعوذ بالله من الحوب الكبير (١).

التّفسير

لا ... للخيانة في أموال اليتامى :

كثيرا ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغارءاباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث ، فتلك حالة كثيرا ما تقع ، فإن المجتمعات المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر ، ولذلك يكثر فيها عدد الأيتام ، وهو ما يجب أن تهتمّ به الحكومة الإسلامية،بل ويهتمّ به كل المسلمين ،

__________________

(١) الدّر المنثور ، ج ٢ ، ص ١١٧.

٨٤

فيتكفّلوا أمر اليتامى وشؤونهم.

وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى.

١ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم ، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والنّاظر والوكيل لا على نحو تصرّف المالك.

٢ ـ (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تأخذوا أموالهم الطّيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليم ـ في الحقيقة ـ يهدف إلى المنع ممّا قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والرديء مكانه ، بحجّة أن هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم ، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل ، أو لأن بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

٣ ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع ، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردى من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم ، ولفظة «إلى» في العبارة بمعنى (مع) في الحقيقة.

ما ذا يعني الحوب؟ :

ثمّ إنّه سبحانه ، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).

يقول الرّاغب في مفرداته : «الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم» وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأ ـ في الأغلب ـ من الحاجة، أو بحجّة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإشارة إلى هذه الحقيقة.

٨٥

إنّ ملاحظة الآيات القرآنية المختلفة ـ في هذا المجال ـ تكشف عن أن الإسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى ، ويهدد الخائنين في أموال اليتامى بالعقوبات الشديدة ، ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إلى مراقبة أموالهم والمحافظة عليها مراقبة شديدة، ومحافظة بالغة ، وسيأتي تفصيل كلّ هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة ، وفي ذيل الآيات (١٥٢) من سورة الأنعام ، و (٣٤) من سورة الإسراء.

إنّ اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام ، ولهذا كانوا يهيئون طعاما خاصّا لأنفسهم ولأولادهم ، وطعاما مستقلا لليتامى ولا يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإجحاف بهم ، وقد شقّ هذا على الجميع ـ اليتامى والأولياء ـ ولهذا أمرهم سبحانه في الآية (٢٢٠) من سورة البقرة قائلا (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي إن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس (١).

* * *

__________________

(١) وللتوسع والتفصيل الأكثر راجع ما ذكرناه في تفسير هذه الآية في سورة البقرة في الجزء الثاني من هذا التّفسير.

٨٦

الآية

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

سبب النّزول

لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص ، فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات ، ثمّ يتزوجون بهنّ ، ثمّ يمتلكون أموالهنّ ، وربما ينكحوهنّ بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهنّ ، بل وربّما يتركوهنّ لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة ، وبالتالي لم يكونوا يعطونهنّ ما يليق بهنّ ـ كزوجات ـ بل وحتى كبقية النساء العاديات ـ من الاحترام والمكانة ، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إذا أرادوا الزواج بهنّ أن يلاحظوا جانب العدل معهن ، وإلّا فليختاروا الأزواج من غيرهنّ (١).

يقول سبحانه في هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وقد جاء هذا الكلام بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥ و ٦.

٨٧

فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم ، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصّة.

التّفسير

بملاحظة ما ذكرناه في سبب النزول يتّضح تفسير هذه الآية والمراد منها ، كما يتّضح الجواب أيضا على السؤال المطروح هنا ، وهو : لما ذا تبتدئ الآية بذكر اليتامى ، وتنتهي بمسألة الزواج ، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية ، وهذه النهاية ، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج ، غاية ما في الباب أنّ الآية تقول : إذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهنّ على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهنّ ، وتتزوجوا بغيرهنّ من النساء تجنبا لظلم اليتيمات والإجحاف بحقوقهنّ ، والجور عليهنّ.

فالذي يستفاد من ذات الآية ـ وإن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكرناه في سبب النزول ، وهو أن الخطاب موجه إلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحثّ في الآية السابقة على حفظ أموالهنّ ضمن اليتامى.

فهذه الآية تعليم آخر ووصية أخرى بهم ، ولكنّها هذه المرّة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات ، وإن على أوليائهنّ أن يعاملوهنّ في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهنّ في مسألة المال ، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة ، وإلّا فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهنّ ، ويختاروا الأزواج من غيرهنّ من النساء.

هذا وممّا يؤيد ويوضح هذا التّفسير ما جاء في الآية (١٢٧) من نفس هذه السّورة (١) حيث حثّ سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات ، وسيأتي

__________________

(١) وهو قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ...).

٨٨

تفصيل ذلك في محله.

كما أن ثمّة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الاتجاه ، وتؤيد هذا التّفسير (١)

وما نقل عن الإمام علي عليه‌السلام من الأخبار بسقوط أو حذف شيء كثير من القرآن بين مطلع هذه الآية ، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا ، فهذه الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شيء من الآيات القرآنية وإسقاطها أو وقوع التحريف فيه إمّا أنّها من موضوعات أعداء الإسلام وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته ، وإمّا لأنّها ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الارتباط الطبيعي بينهما ، ولهذا توهّموا بأنّ هناك حذفا وإسقاطا وقد تطور هذا الوهم حتى اتّخذ صورة الحديث المروي والخبر المنقول ، في حين يتّضح الارتباط الوثيق بين هذه الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإمعان.

«مثنى» و «ثلاث» و «رباع» :

وتعني «مثنى» في اللّغة اثنتين اثنتين ، و «ثلاث» ثلاثا ثلاثا ، و «رباع» أربعا أربعا ، وحيث أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى المسلمين كافة ، كان المعنى : إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنبا من الجور عليهنّ ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهنّ ، وتظلموهنّ ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع ، غاية ما في الأمر حيث أنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامّة المسلمين ، وكافتهم عبر بالمثنى ، والثلاث ، والرّباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصّة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٣٨ وتفسير المنار في تفسير هذه الآية.

٨٩

ولا بدّ من التنبيه إلى أن «الواو» هنا أتت بمعنى «أو» ، فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات ، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول : وانكحوا تسعا لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة.

هذا مضافا إلى أنّ حرمة الزّواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي،وأحكامه القطعية المسلمة.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات. طبعا بشروطها التي سنذكرها قريبا.

ثمّ أنّه سبحانه عقب على ذلك بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهنّ ، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن ، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثمّ يقول : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي يجوز أن تقتصروا على الإماء اللاتي تملكونهنّ بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخف شروطا (وإن كن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهنّ من الحقوق أيضا).

ويقول : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي أن هذا العمل (وهو الاقتصار على زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرّة ثانية) أحرى بأن يمنع من الظلم والجور ، ويحفظكم من العدوان على الآخرين (وسيكون لنا حديث مفصل عن الرّق في الإسلام عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله).

ما هو المقصود من العدل بين الزوجات؟ :

قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإسلامية يجب أن يتّضح أوّلا المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد ، فما هو المقصود من العدل هنا يا ترى؟

٩٠

أهي العدالة في الجوانب المادية كالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق الرّفاه والمتطلبات المعيشية؟ أم أنّ المراد أيضا هو العدالة في نطاق القلب والعواطف والأحاسيس الإنسانية؟ وبعبارة صريحة : العدالة في الحبّ والرغبة ، مضافا إلى العدالة في الجوانب المادية؟

لا شكّ أنّ مراعاة العدالة في الميل القلبي ، والحبّ ، والرغبة شيء خارج عن نطاق القدرة البشرية.

فمن ذا يستطيع أن يضبط حبّه من جميع الجوانب ، ويعطيه الحجم الذي يريد ، والحال أنّ موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته ، وإطار إرادته؟

ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في الآية ١٢٩ من نفس هذه السّورة ـ النساء : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي لا يمكنكم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل القلبي ، والحبّ والمودّة.

إذن فلا ضير في الحبّ والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج في المواقف العملية ، وعلى هذا الأساس فإن ما يجب على الرجل مراعاته هو العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية أي في نوع التعامل العملي خاصّة إذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.

من هذا الكلام يتّضح بجلاء إن الذين أرادوا من ضمّ قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) إلى قوله تعالى في الآية (١٢٩) : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقا بحجّة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ كبير ، لأن العدالة المستحيلة مراعاتها ـ كما أسلفنا ـ هي العدالة في المجال العاطفي ، ـ وليس هذا من شرائط جواز التعدد في الأزواج ، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة في المجال العملي.

٩١

ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية (١٢٩) من نفس هذه السّورة حيث يقول سبحانه : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي أنّكم إذ لا تقدرون على مراعاة المساواة الكاملة في محبّة الزوجات وودّهنّ ، فلا أقل أن لا تميلوا في حبّ بعض الأزواج ميلا شديدا يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها ، فلا هي ذات زوج ولا أيم.

وخلاصة القول ونتيجته ، هي أن الذين أمسكوا بقسم من هذه الآية ، ونسوا القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش كل محقق ، ويستغرب منه كل باحث.

أضف إلى ذلك أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من الثبوت والوضوح في الفقه الإسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقى مجال للجدل ، ولا محل للنقاش ، بل هو من ضروريات الفقه الإسلامي ومسلماته ، وبديهياته. ولنعطف عنان البحث الآن إلى معرفة فلسفة هذا القانون الإسلامي.

تعدد الزّوجات ضرورة اجتماعية :

لقد أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود معينة) وقد أثارت هذه الإباحة جماعة ، فانطلقوا يوجهون إليها الاعتراضات والإشكالات ، وتعرض هذا القانون الإسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإسلامي متأثرين بالأحاسيس ، ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص ، والتأمل والتحقيق. وكان الغربيون أكثر هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوما عليه ، متسائلين كيف يجوز للإسلام أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريما ويتخذوا زوجات متعددة على نحو ما كان شائعا في الجاهلية؟

٩٢

كلّا ، إنّ الإسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريما بالمعنى الذي تصورتم ، ولا أنّه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط ، ودون حدّ أو قانون.

ولتوضيح هذه الحقائق نقول : إن دراسة البيئات المختلفة قبل الإسلام تكشف لنا أنّ تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمرا عاديا وشائعا ، لدرجة أنّ بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل ، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزّوجات ممّا أبدعه الإسلام ، نعم إنّ ما فعله الإسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإنسانية ، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة.

إنّ قوانين الإسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإنسانية ، وتقوم على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر ، لا الدعاية الظاهرة ولا المشاعر الموجهة توجيها غير صحيح ، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل أيضا ، فقد لوحظت هي الاخرى من هذه الزاوية ، لأنّه لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ الرجال أكثر تعرضا من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من الحوادث ، المختلفة.

فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب ، والمعارك.

كما أنّه لا يمكن إنكار أنّ أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من أعمار النساء في هذا المجال ، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على الإنجاب) في سن معين من العمر قريب ، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه الطاقة والقدرة مدّة أطول بكثير.

كما أنّ النساء ـ في فترة العادة الشهرية وشيء من فترة الحمل ـ يعانين من موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا النوع.

هذا كلّه مضافا إلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهنّ لبعض الأسباب ، فلا

٩٣

يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إلى أنفسهن كزوجة أولى ، فإذا لم يسمح بتعدد الزوجات ، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج ، كما نقرأ ذلك في الصحف المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إلغائها بالمرّة ، وحيث يعتبرن المنع من التعدد نوعا من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهنّ.

بالنظر إلى هذه الحقائق ، وعند ما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي :

١ ـ أن يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد ، ويبقى العدد الإضافي من النساء بلا أزواج إلى آخر أعمارهن ، ويكبتن حاجاتهنّ الفطرية ويقمعن غرائزهنّ الباطنية الملتهبة.

٢ ـ أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثمّ يترك حرّا لإقامة علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن أزواجهن لسبب وآخر على غرار اتّخاذ الأخدان والعشيقات.

٣ ـ أن يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة من الناحية «الجسمية» و «المالية» و «الخلقية» من جراء هذا الأمر ، كما ويمكنه أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن ، أن يسمح لهم بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعا) ، وهذه هي ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها.

وإذا أردنا اختيار الطريق الأوّل يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية ، ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر ، ونتجاهل مشاعر هذه الطّائفة من هذه النّسوة،هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار ، وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق ، فإن ما فيها من الجوانب اللاإنسانية أظهر من أن تخفى على أحد.

٩٤

وبعبارة أخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأولى ، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة الثانية أيضا.

إنّ الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إلى خصوص مشاكل الزوجة الأولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من زاوية واحدة ، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا ، فهي يجب أن تطالع من ناحية الرجل ، ومن ناحية الزوجة الأولى ، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضا ، ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة ، ويتمّ على أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.

وإذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية ، هذا مضافا إلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهنّ في متناول هؤلاء الرجال لإرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل ، ويعني ذلك سحق شخصيتهنّ سحقا كاملا ـ في الحقيقة ـ إذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسئولية ، ولا شك أن هذه الأمور ممّا لا يسمح به أي عاقل مطلقا.

وعلى هذا الأساس لا يبقى إلّا الطريق الثالث ، وهو الطريق الذي يلبي الحاجات الفطرية والغريزية للنساء ، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء ويحفظهنّ من عواقب الفحشاء والانزلاق إلى الفساد ، وبالتالي ينقذ المجتمع من مستنقع الآثام والذنوب.

على أن من الواجب أن نلتفت إلى أنّ السماح بتعدد الزوجات مع أنّه ضرورة اجتماعية في بعض الموارد ومع أنّه من أحكام الإسلام القطعية ، إلّا أن توفير شرائطه يختلف اختلافا كبيرا عن الأزمنة الماضية ، لأن الحياة كانت في العصور

٩٥

السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة ، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة بين الزوجات المتعددات أمرا ممكنا وميسرا لأكثر الناس ، في حين يجب على الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة العدالة من جميع الجوانب ، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على الوفاء بجميع شروطه.

وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.

هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات (كالغربيين) قد واجهوا طوال تأريخهم ظروفا ألجأتهم إلى هذا المبدأ بصورة واضحة.

ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا ، إلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من المفكرين في سياق البحث عن حلّ لهذه المشكلة إلى إعادة النظر في مسألة المنع عن تعدد الزوجات ، إلى درجة أنّهم طلبوا من الجامع «الأزهر» بالقاهرة البرنامج الإسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة ، ولكنهم اضطروا ـ وتحت ضغوط شديدة من جانب الكنائس ـ إلى التوقف عن المضي في دراسة هذا البرنامج ، وكانت النّتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.

هذا بغض النظر عن أنّه لا يمكن إنكار ما يحس به طائفة من الرجال من الميل إلى اتّخاذ زوجات متعددة ، فإن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى والهوس لم يكن جديرا بالنظر ، أمّا إذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إنجاب الأولاد من جانب ، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له ـ كما هو الحال في كثير من الموارد ـ من جانب آخر ، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران

٩٦

بالاهتمام والرعاية.

كما أنّه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي ، ولهذا يرى الرجل نفسه مضطرا إلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه الحاجة من طريق غير مشروع لإمكان إشباعه من طريق مشروع ، وفي هذه الصورة أيضا لا يمكن إنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل ، ولهذا تكون إقامة العلاقات مع النساء المتعددات أمرا رائجا عمليا حتى في البلاد التي تحظر تعدد الزوجات ، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.

إن المؤرخ الفرنسي المعروف «غوستاف لوبون» يعتبر قانون تعدد الزوجات الذي يقرّه الإسلام ضمن حدود وشروط خاصّة ـ من مزايا هذا الدين ، ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرّة غير المشروعة الرائجة في الغرب قائلا : «وفي الغربحيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد الزوجات ، وبرغم أنّ القوانين الغربية تمنع التعدد، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرّية الآثمة.

ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين ، بل أرى ما يجعله أسنى منه» (١)

طبعا لا يمكننا إنكار أنّ هناك بعض أدعياء الإسلام ممن يستخدمون هذا القانون الإسلامي من دون مراعاة الروح الإسلامية فيه فيتخذون حريما كلّه فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم ، بيد أنّ هذا ليس هو عيب في هذا القانون الإسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من الإسلام ، فهي ليست من أحكام الإسلام في شيء. ترى أي حكم أو قانون جيد

__________________

(١) حضارة العرب ، ص ٣٩٨.

٩٧

من الأحكام والقوانين لم يستغله النفعيون والمصلحيون استغلالا سيئا؟

سؤال

ثمّ إنّ هاهنا من يسأل أنّه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه بالنسبة إلى امرأة أو نساء ، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما نسمح للرجال ذلك؟

الجواب

إنّ الجواب على هذا السؤال ليس صعبا كما يمكن أن يتصور ، وذلك :

أوّلا : إنّ الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من الناس) أقوى وأشدّ بأضعاف من النساء ، وأن المرض النفسي الذي تصرّح به أكثر الكتب النفسية والطبية هو «البرود الجنسي» لدى المرأة في حين أن الأمر في الرجال هو العكس،ولا يقتصر هذا الأمر على البشر ، ففي عالم الحيوانات كذلك نجد ذكورها أسبق إلى إظهار الميول الجنسية من إناثها.

ثانيا : إنّ تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية وحقوقية ، في حين أنّ السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أنّنا سمحنا لامرأة أن تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب ، إذ لا يعرف في هذه الصورة إلى من ينتسب الولد ، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال ، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول الأب قلّما يحظى حتى بحبّ الأمّ واهتمامها به ، وبهذه الصورة يصاب الولد الناشئ من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية،كما أنّه يكون ـ بطبيعة الحال ـ مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضا.

ولعلّه لا يحتاج إلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون انعقاد النطفة، وحصول ولد لا يورث الاطمئنان مطلقا ، ولا يكون دليلا قاطعا

٩٨

على عدم حمل الزوجة بولد ، لأن ثمّة كثيرا من النساء يستخدمن هذه الوسائل، أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولادا ، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتمادا على هذه الوسائل.

لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمرا منطقيا ، في حين أنّه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقا ـ أمر منطقي ، وعملي أيضا.

* * *

٩٩

الآية

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً(٤))

التّفسير

«النّحلة» في اللغة تعني الدّين ، كما أنّها بمعنى العطية أيضا ، يقول الرّاغب الأصفهاني في مفرداته : «واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظرا منه إلى فعله فكان نحلته أعطيته النحل».

و «صدقاتهن» جمع الصداق وهي بمعنى المهر ... والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزّوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة ، وتؤكّد قائلة : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) أي أعطوا المهر للزوجة كمّلا واهتموا بذلك كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص (وفي هذه الصورة نكون قد أخذنا لفظة النّحلة بمعنى الدّين).

وأمّا إذا أخذنا لفظة النّحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة بالنحو التالي : «أعطوا النساء كامل مهرهنّ الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهنّ من ضعف

١٠٠