الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

الثّانية : إن النّجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنّما هي لكونهم لا يتقيدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط ، فهم يجمعون المال من كل سبيل ، سواء كان مشروعا أم غير مشروع ، حراما كان أم حلالا ، بل إنّهم يجوزون لأنفسهم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم ، في حين يتقيد المؤمنون بمبادئ الحق والعدالة في هذا المجال ، فلا يسوغون لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان ، وأي سبيل اتفق ، ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء.

هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثّقيلة ، وأولئك لا يشعرون بأية مسئولية ، ولا يعترفون بأي ضابطة ، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإرادة البشرية الحرّة ، وعالم الإختيار الحر ، كان طبيعيا أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحرارا ليتصرفوا كيف شاؤوا ، ولينتهوا في المآل إلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها بأيديهم ، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه ، بقوله في ختام هذه الآية : (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

معرفة نقاط الضّعف والقوّة معا :

ثمّ أن هناك سببا آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين ، وتأخر بعض المؤمنين هو أن الطائفة الأولى رغم خلوهم من عنصر الإيمان يتحلون ـ أحيانا ـ ببعض نقاط القوّة التي يحققون في ظلّها ما يحققون من المكاسب ، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات ، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخرهم وانحطاطهم.

فنحن نعرف أشخاصا ـ رغم انقطاعهم عن الله ـ يتسمون بالجدّية الكبيرة في أعمالهم ، ويتحلّون بالاستقامة والعزم ، والتنسيق والتعاون فيما بينهم ، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلباته ، ومقتضياته ومستجداته ، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء

٦١

مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية ، وما هم في هذا الأمر ـ في الحقيقة ـ إلّا مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إسنادها إلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.

وفي المقابل ، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية ، لكنهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإحجام ، ويفتقرون إلى الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتحاد والتعاون ، وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة ، ولكن هذه الهزائم والإخفاقات ليست أبدا بسبب إيمانهم بالله ، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف ، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة ، وموجبات السقوط والإخفاق.

إنّهم يتصورون (وبالأحرى يظنون) بأنهم سيتنصرون بمجرد الصلاة والصوم في جميع المجالات ، وينجحون في جميع المواقف ، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة ، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة.

إنّ لكلّ شيء سببا ، ولكل نجاح مفتاحه الخاص ، ووسيلته الخاصّة ، وقد أتى الدّين بكل ذلك ، وبيّنه في تعاليمه وتوصياته ، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغيره هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.

وخلاصة القول : إنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف ، ونقاط قوّة،ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية ، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة.

مثلا : هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق في هذا المجال النجاح تلو النجاح ، ولكنّه إذ يفتقد عنصر الإيمان بالله فإنّه يفتقر إلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة ، والأهداف الإنسانية العالية.

٦٢

يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم ، وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد ، بل لكل واحد منها مورده ومجاله الخاص.

ثمّ إنّ الله سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة ، بيّن هنا ـ في الآية التي تلت تلك الآية ـ مصير المؤمنين ، إذ قال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية ، أو أنّهم بسبب إيمانهم تعرضوا للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى ، فإنّه تعالى سيعوضهم عن كل ذلك بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

و «النّزل» في اللغة هو ما يعدّ للضيف من الكرامة والبر ، وقال البعض : أنّه أول ما يقدم إلى الضّيف النازل من شراب أو فاكهة.

وعلى هذا يكون معنى الآية أن الجنات المذكورة مع كل ما فيها من المواهب المادية هي أوّل ما يقدّم يوم القيامة إلى المؤمنين المتقين ، وأمّا الضيافة المهمّة والعليا فهي النعم والمواهب المعنوية التي عبر عنها سبحانه بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

* * *

٦٣

الآية

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

سبب النّزول

هذه الآية ـ حسب ما يذهب إليه أكثر المفسّرين ـ نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء ، والتحقوا بصفوف المسلمين ، وكانوا يشكلون عددا معتدّا به من النصارى واليهود.

ولكنّها حسب اعتقاد بعض المفسّرين أنّها نزلت في النّجاشي ملك الحبشة العادل،وإن كان مفهومها أوسع من ذلك المورد.

ففي السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب بالذات توفي النجاشي ، فبلغ خبر وفاته إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلهام إلهي في اليوم الذي مات فيه وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» ، قالوا : ومن؟ قال : النجاشي ، فخرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي ، وصلى عليه ، فقال بعض المنافقين : انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه ، فأنزل الله هذه الآية ردّا على

٦٤

مقالتهم (١).

هذا ويستفاد من هذه الرواية أن النجاشي اعتنق الإسلام بالكامل وإن لم يظهر ذلك.

التّفسير

أهل الكتاب ليسوا سواء :

قلنا ـ في ما سبق ـ ان القرآن الكريم إذا تطرق إلى أمور حول إتباع الشرائع الاخرى لم ينظر إلى الجميع نظرة سواء ، ولم يحسب لهم حسابا واحدا ، ولم تتسم أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية ، بل ينطلق في أحكامه من أسس اعتقادية ومبدئية ، ولهذا ينتقد أعمالهم ، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم ، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلّة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها ، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.

والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخضعت للحق.

فالآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيرا من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله،وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلّة المؤمنة ، وبينت خمسا من صفاتها الممتازة هي :

١ ـ (يُؤْمِنُ بِاللهِ) (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق).

٢ ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (أي يؤمنون بالقرآن).

٣ ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) أي إيمانهم بنبيّ الإسلام نابع في الحقيقة من إيمانهم بكتبهم السّماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النّبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر ، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.

__________________

(١) أسباب النزول للواقدي.

٦٥

٤ ـ (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي أنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإرادته ، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم ، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء ، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحقّ.

٥ ـ (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي أنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظا على مراكزهم وإبقاء على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم،وصولا إلى بعض المكاسب المادية.

والإشارة إلى «الثّمن القليل» في الآية للتلويح بما كان عليه أولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمّة ، وضعف الطموح ، وقصر النظر ، وحقارة النفس.

هذا مضافا إلى أن كل أجر دون الأجر الإلهي حقير ، وكل مكسب يحصل عليه الإنسان عوضا عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.

وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية هذا الموقف الواضح الحي ، أجرهم عند ربّهم (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

والتعبير هنا بلفظة «ربّهم» إشارة إلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم ، كما أنه إشارة أيضا إلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة ، وهو يتكفل بمساعدتهم ، ويعينهم في هذا الطريق.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يتأخر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم ، كما لا يبطئ عن مجازاة المنحرفين والظالمين.

وهذه العبارة بشارة إلى الصالحين المؤمنين ، كما هي أيضا تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين (١).

* * *

__________________

(١) للوقوف على تفصيل أكثر حول معنى هذه العبارة راجع ، الآية ٢٠٢ من سورة البقرة.

٦٦

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

التّفسير

هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران ، وتحتوي على برنامج يتكون من أربع نقاط لعامّة المسلمين ، وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين إذ تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

١ ـ «اصبروا» : إن أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وانتصارهم هو الاستقامة والثبات ، والصبر في وجه الحوادث الذي هو ـ في الحقيقة ـ أصل كلّ نجاح مادي ، وعلّة كل انتصار معنوي ، وهو الأمر الذي يستحق حديثا مفصلا لما له من أثر جدّ مهم في الانتصارات والنجاحات الفردية والاجتماعية ، وهو الذي قال عنه الأمام علي عليه‌السلام في حكمه وكلماته القصار : «إن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد».

٢ ـ «وصابروا» وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.

وعلى هذا فإن القرآن يوصي المؤمنين أوّلا بالصبر والاستقامة (التي تشمل

٦٧

كل ألوان الجهاد ، كجهاد النفس ، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة) ، ثمّ يوصي ثانيا بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء ، وهذا بنفسه يفيد أن الأمّة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس ، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل انتصارها على الأعداء ، وهذا يعني أن أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.

كما وأنّه يستفاد من هذا التعليم «صابروا» أن على المسلمين أن يضاعفوا من صبرهم ومن ثباتهم كلما ضاعف العدو من صبره وثباته ومقاومته وعناده.

٣ ـ «ورابطوا» وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شيء في مكان (كربط الخيل في مكان) ، ولهذا يقال لمنزل المسافرين «الرباط» ، ويقال أيضا ربط على قلبه بمعنى أنّه أعطاه السكينة ، وملأه بالطمأنينة وكأن قلبه انشد إلى مكان ، وارتكز على ركن وثيق ، و «المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأن فيها يربط الجنود أفراسهم.

وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء،وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجئوا بهجمات العدوّ المباغتة ، كما أنّه حثّ على التأهب الكامل لمواجهة الشيطان ، والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرّة وغفلة ، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإمام علي عليه‌السلام تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة ، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة ، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على الدّوام.

وخلاصة القول : إن للمرابطة معنى وسيعا يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع.

٦٨

ثمّ إنّ هناك في الفقه الإسلامي بابا خاصّا ـ في كتاب الجهاد ـ تحت عنوان «المرابطة» بمعنى الاستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها وحفظها أمام حملات الأعداء الاحتمالية ، وقد ذكرت لها أحكام خاصّة يقف عليها كل من راجع الكتب الفقهية.

هذا وقد أطلق على العلماء ـ كما في بعض الأحاديث ـ صفة المرابط ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام: «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس ...» (١).

وتعتبر نهاية هذا الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود والقادة الذين يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإسلام. وما ذلك إلّا أن العلماء حماة الدين وحرّاسه والأمناء المدافعون عن القيم الإسلامية ، والجنود حماة الثغور الجغرافية ، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأمّة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء ، ولم تستطع الذّب عنها بنجاح ، فإنّها سرعان ما تصيبها الهزائم العسكرية والسياسية أيضا.

٤ ـ (وَاتَّقُوا اللهَ) وهذا بالتالي آخر التعاليم والأوامر في هذا البرنامج ، وهو بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى ، ولا بدّ للاستقامة والمصابرة والمرابطة من أن تمتزج بعنصر التقوى ، ولا يشوبها شيء من أنانية أو رياء أو أغراض شخصية.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهكذا تختم الآية هذا البرنامج بذكر النّتيجة التي تنتظر كلّ من يطبق هذا البرنامج ، إنه الفلاح والنجاح الذي يمكنكم الوصول إليه عبر الأخذ بهذه التعاليم والأوامر ، وإلّا فلن تحصلوا على شيء من النجاح والإنتصار.

__________________

(١) الإحتجاج للطبرسي ، الفصل الأول.

٦٩

سؤال :

هناك سؤال يطرح نفسه وهو : لما ذا تبدأ بعض العبارات والجمل القرآنية بلفظة «لعل» مثل قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، و (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، و (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) وهي كما نعلم تفيد التّرديد الذي لا يليق بالله سبحانه العالم بكل شيء.

وقد صارت هذه المسألة ذريعة بأيدي بعض أعداء الإسلام الذين انطلقوا يقولون : إن الإسلام لا يعطي وعودا قطعية بالثواب ، فوعوده مرددة غير مجزوم بها ، لأنها تبدأ ـ في أغلبها ـ بلعلّ.

الجواب :

من حسن الاتفاق أن هذا النمط من التعبير يشكّل جانبا من عظمة هذا الكتاب العزيز، وواقعيته في النظرة إلى الأمور وفي بيانها ، ذلك لأن القرآن استخدم هذه اللفظة في كل مقام يتوقف الاستنتاج فيه على شرائط ومقدمات قد أشار إليها ولوح بها إجمالا بلفظة «لعل».

فالسكوت عند الاستماع إلى القرآن والانتباه والتوجه إلى ألفاظ الآيات القرآنية مثلا لا يكفي ـ بمجرده ـ لإحراز الرحمة الإلهية ، بل لا بدّ من فهم الآيات ودرك معانيها،ومقاصدها ، وتطبيق توصياتها ، وتعاليمها وأوامرها ونواهيها ، ولهذا يعلق سبحانه شمول الرحمة بقوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١).

وعلى هذا الأساس لو كان القرآن يقول أنكم سترحمون حتما كان بعيدا عن الواقعية،لأنّ لتحقق هذا الموضوع كما قلنا شرائط أخرى أيضا ، فيكون التعبير الجازم تجاهلا لهذه الشرائط ، ولكنّه إذا قال «لعلّكم» فإنّه يكون قد أخذ تلك الشرائط بنظر الإعتبار وحسب لها حسابها.

بيد أن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة جرّ البعض إلى الاعتراض على مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية إلى درجة أن بعض علمائنا ـ أيضا ـ ذهب إلى

__________________

(١) الأعراف ، ٢٠٤.

٧٠

القول بأن «لعل» ليست مستعملة في مثل هذه الموارد في معناها الحقيقي ، وهذا كما ترى خلاف للظاهر دونما دليل.

وفي المقام نجد الآية الحاضرة مع أنها أشارت إلى أربع نقاط من أهم التعاليم الإسلامية،ولكن حتى لا يغفل المسلمون عن بقية البرامج والتعاليم الإسلامية البناءة استخدمت كلمة «لعل» للإيذان بأن هناك أيضا من الظروف والشرائط ما له دخل في تحقق هذه الرحمة ينبغي أن تؤخذ بعين الإعتبار.

وعلى كلّ حال لو أن المسلمين اليوم جعلوا الآية الحاضرة شعارهم ومنهجهم في حياتهم اليومية وطبقوا مفادها لانحل الكثير من مشاكلهم التي يعانون منها الآن بشدّة.

إن الضربات الموجعة التي يتلقاها الإسلام والمسلمون اليوم ليست ـ في الحقيقة ـ إلّا بسبب تجاهل هذه التوصيات الإسلامية الأربع أو تناسيها كلّها أو بعضها.

ولو أنّ المسلمين أعادوا إلى نفوسهم روح الثبات والاستقامة ، ولو أنّهم ضاعفوا جهودهم في مقابل مضاعفة الأعداء لجهودهم ، ولو أنّهم ـ حسب ما في هذه الآية ـ شددوا من مراقبتهم للثغور الجغرافية والفكرية والاعتقادية وحافظوا على حالة الاستعداد والتأهب الدائمة لمواجهة أي خطر داهم ، أو أي عدوّ مباغت ، ولو أنّهم ـ فوق كل هذا ـ تسلحوا بسلاح التقوى والورع ، أفرادا وجماعات ، وطهروا بيئاتهم من أدران الفساد لضمنوا النصر والظفر.

رباه ، وفقنا جميعا للأخذ بتعاليم كتابك السماوي العزيز في حياتنا ، وجد علينا برحمتك الواسعة ، ومنّ علينا بلطفك ، آمين يا أرحم الراحمين ويا ربّ العالمين.

* * *

٧١
٧٢

سورة النّساء

مدنيّة وعدد آياتها

مائة وستّ وسبعون آية

٧٣
٧٤

سورة النّساء

قبل الخوض في تفسير آيات هذه السورة يلزم أن نذكر للقارىء الكريم بعدّة نقاط هي :

١ ـ موضع نزول هذه السورة

كل آيات هذه السورة (باستثناء الآية ٥٨ حسب نقل بعض المفسرين) نزلت في المدينة المنورة ، وتقع من حيث ترتيب النّزول بعد سورة الممتحنة ، لأنّ التّرتيب الفعلي للسّور القرآنية ـ كما نعلم ـ لا يطابق ترتيبها في النزول ، بمعنى أن كثيرا من السّور التي نزلت في مكّة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن الكريم ، وكثيرا من السّور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.

على أنّنا قد نوهنا في بداية المجلد الأوّل من هذه المجموعة التّفسيرية ، بأنّ ثمّة دلائل تؤكد أن جمع السّور القرآنية على الشكل الفعلي قد تمّ في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وعلى هذا الأساس يكون النّبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بأن ترتب السّور على النحو الموجود الآن (بأن يكون أوّلها الحمد وآخرها النّاس) لأسباب مختلفة منها أهمية المواضيع التي تضمنتها السور ، والترتيب الطبيعي لهذه السور بدون أن يكون قد تغيّر من هذا الترتيب أو زيد أو نقص في الحروف والآيات والسور.

إنّ هذه السّورة تعتبر من حيث عدد الكلمات والأحرف ـ أطول السور بعد

٧٥

سورة البقرة ، وتحتوي على (١٧٦) آية ، وتسمّى بسورة النساء نظرا لتضمنها أبحاثا كثيرة وحديثا مفصلا حول أحكام «المرأة» وحقوقها.

٢ ـ محتويات هذه السورة :

هذه السّورة ـ كما قلنا ـ نزلت في المدينة ، بمعنى أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان مقبلا على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إنساني قويم ، نزلت هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع ، وإيجاد البيئة الاجتماعية الصالحة النقية.

ومن ناحية أخرى فإنّ أكثر أفراد هذا المجتمع الجديد كانوا قبل ذلك من الوثنيين بما فيهم من لوثات الجاهلية وانحرافاتها ورواسبها ، لذلك يتعين قبل أي شيء تطهير عقولهم ، وتزكية أرواحهم ونفوسهم من تلك الرّواسب ، وإحلال القوانين والبرامج اللازمة لإعادة بناء المجتمع محل تلك العادات والتقاليد الجاهلية الفاسدة.

وعلى العموم فإن المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السّورة هي عبارة عن :

١ ـ الدّعوة إلى الإيمان والعدالة ، وقطع العلاقات الودّية بالأعداء الألداء ، والخصوم المعاندين.

٢ ـ ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات غير الصالحة.

٣ ـ العناية بالمحتاجين إلى الحماية مثل الأيتام ، وبيان التعاليم اللازمة لصيانة حقوقهم.

٤ ـ قانون الإرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل في قبال الكيفية القبيحة التي كان عليها وضع التوريث في ذلك الزمان ، حيث كان يحرم الضعفاء بحجج واهية ، وأعذار غير وجيهة.

٧٦

٥ ـ القوانين المتعلقة بالزّواج والبرامج التي تصون العفاف العام.

٦ ـ القوانين العامّة لحفظ الأموال العامّة.

٧ ـ حفظ وتحسين حالة الوحدة الأساسية للمجتمع ، أي العائلة.

٨ ـ الحقوق والواجبات الفردية المتقابلة في المجتمع.

٩ ـ التعريف بأعداء المجتمع الإسلامي وتحذير المسلمين منهم.

١٠ ـ الحكومة الإسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.

١١ ـ حثّ المسلمين على مجابهة الأعداء وجهادهم.

١٢ ـ الكشف عن الأعداء والخصوم الذين قد يتوسلون بالعمل السري.

١٣ ـ أهمية الهجرة ووجوبها عند مواجهة مجتمع فاسد غير قابل للتأثير فيه وتغييره.

١٤ ـ البحث مجددا عن الإرث ونظام التوريث ، وضرورة تقسيم الثروات المكدسة بين الوارثين.

٣ ـ فضل تلاوة هذه السّورة

عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في رواية أنّه قال : «من قرأها (أي سورة النساء) فكأنّما تصدق على كلّ مؤمن ورث ميراثا ، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا» (١).

ومن البيّن أنّ المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة ، بل تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق تعاليم هذه السّورة في الحياة الفردية والاجتماعية.

ومن المسلم أن المسلمين لو استلهموا من مفاهيم هذه السورة في حياتهم لنالوا كل هذا الأجر مضافا إلى النتائج الدنيوية.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١.

٧٧

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

التّفسير

مكافحة التّمييزات والاستثناءات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) الخطاب في الآية الأولى من هذه السّورة موجه إلى كافة أفراد البشر ، لأنّ محتويات هذه السورة ـ هي في الحقيقة ـ نفس الأمور التي يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم.

ثمّ إنّ الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساسا لأيّ برنامج إصلاحي للمجتمع ، فأداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة ، وحماية الأيتام ، ورعاية الحقوق العائلية ، وما شابه ذلك كلها من الأمور التي لا تتحقق بدون التقوى ، ولهذا تفتتح هذه السورة ـ التي تحتوي على جميع هذه الأمور ـ بالدعوة إلى التزام التقوى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ).

وللتعريف بالله الذي يراقب كلّ أعمال الإنسان وتصرفاته أشير في الآية إلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساسا للوحدة الاجتماعية في عالم البشر : (الَّذِي

٧٨

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ).

وعلى هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري ، واللغوي ، والمحلي ، والعشائري وما شابه ذلك ممّا يسبب في عالمنا الرّاهن آلافا من المشاكل في المجتمعات. ولا مجال لهذه الأمور وما يترتب عليها من الأمجاد الكاذبة والتفوق الموهوم في المجتمع الإسلامي ، لأنّ كافة البشر على اختلاف ألوانهم ، ولغاتهم ، وأقطارهم يرجعون إلى أب واحد وأمّ واحدة.

وتتّضح أهمية مكافحة هذا الأمر ـ أكثر فأكثر ـ إذا لاحظنا أنّ ذلك قد تمّ في زمن كان يعاني بقايا ورواسب نظام قبلي وعشائري ظالم ، ونعني عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا وقد ورد نظير هذا التعبير في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا ، وسنشير إلى كل ذلك في موضعه.

والآن يجب أن نرى من هو المقصود من «نفس واحدة»؟

هل المراد من «نفس واحدة» هو شخص معين ، أو أنه واحد نوعي (أي جنس المذكر)؟

لا شك أنّ ظاهر هذا التعبير هو الشخص المعين ، والواحد الشخصي ، وهو إشارة إلى أوّل إنسان قد سمّاه القرآن الكريم بـ «آدم» ويعتبره أبا البشر.

كما وقد عبر عن البشر ببني آدم في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

فاحتمال أن يكون المراد من نفس واحدة هو الواحد النوعي بعيد عن ظاهر الآية جدّا.

ثمّ أنّ قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) قد فهم منها بعض المفسرين أن «حواء» قد خلقت من جسم آدم واستشهدوا لذلك بروايات وأحاديث غير معتبرة تقول : إنّ حواء خلقت من أضلاع آدم (وهو أمر قد صرّح به في سفر التكوين من التوراة أيضا).

٧٩

لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنية يرتفع كلّ إبهام حول تفسير هذه الآية، ويتضح أن المراد منها هو أن الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر) ففي الآية (٢١) من سورة الروم نقرأ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) كما نقرأ : في الآية (٧٢) من سورة النّحل (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً).

ومن الواضح أنّ معنى قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) هو أنّه خلقهم من جنسكم لا أنّه خلقهن من أعضاء جسمكم.

ووفقا لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام كما في تفسير العياشي ـ أنه كذّب بشدّة فكرة خلق حواء من ضلع آدم ، وصرح عليه‌السلام ـ بأنه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.

كيف كان زواج أبناء آدم؟ :

قال سبحانه : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم ، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط ، أي بدون أن يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك.

وبعبارة أخرى أنّ النسل البشري الموجود إنّما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى.

وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم ، لأنه إذا تمّ تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله : «منهما».

وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضا ، ولا داعي للتعجب والاستغراب إذ طبقا للاستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام إنّ هذا النوع من الزواج كان مباحا حيث لم يرد بعد حكم بحرمة

٨٠