الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

الآيتان

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

سبب النّزول

ورد في سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين ، أنّ جماعة من المشركين قدموا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلنوا إسلامهم لكنّهم ـ لعدم تعودهم على طقس ومناخ المدينة ـ أصيبوا ببعض الأمراض ، فنصحهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذهبوا إلى منطقة ذات مناخ جيد من الصحراء خارج المدينة ، كانت مرتعا لإبل الزكاة ، وأجاز لهم الانتفاع بلبن تلك الإبل بما يكفيهم،ففعلوا وتعافوا ممّا كانوا يعانون منه من الأمراض ، لكنّهم بدل أن يقدموا الشكر على صنيع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم ، وعمدوا إلى قتل الرعاة المسلمين والتمثيل بهم وسمل عيونهم، ونهبوا إبل الزكاة وارتدوا عن الإسلام إلى الشرك ، فأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلقاء القبض عليهم والقصاص منهم بمثل ما ارتكبوه بحق أولئك الرعاة الأبرياء ، وجزاء لهم على جرائمهم فسملت عيونهم

٦٨١

وقطعت أوصالهم وقتلوا ، لكي يصبحوا عبرة لغيرهم فلا تسول لأحد نفسه أن يرتكب مثل هذه الجرائم الوحشية البشعة ، وقد نزلت الآيتان الأخيرتان وهما تبيّنان حكم الإسلام في هذه الجماعة (١).

جزاء مرتكب العدوان :

تكمل الآية الأولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول قتل النفس ، وتبيّن جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين ، وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بارتكاب القتل ، فتقول : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

ويجدر الانتباه هنا إلى عدّة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ المراد جملة (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الواردة في الآية ـ كما تشير إليه أحاديث أهل البيت ويدل عليه سبب نزول الآية ـ هو ارتكاب العدوان ضد أرواح أو أموال الناس باستخدام السلاح والتهديد به ، سواء كان هذا العدوان من قبل قطاع الطرق خارج المدن أو داخلها ، وعلى هذا الأساس فإن الآية تشمل أيضا الأشرار الذين يعتقدون على أرواح الناس وأموالهم ونواميسهم.

والذي يلفت الانتباه في هذه الآية هو أنّها اعتبرت العدوان الممارس ضد البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد الله ورسوله ، وهذه النقطة تبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.

٢ ـ المراد بقطع اليد أو الرجل ـ المذكور في الآية ، وكما أشارت إليه كتب

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء السادس ، ص ٣٥٣ ، وتفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ٢١٤٥.

٦٨٢

الفقه ـ هو القطع بنفس المقدار الذي ينفذ بحق السارق لدى قطع يده ، أي مجرّد قطع أربعة من أصابع اليد أو الرجل (١).

٣ ـ هل أنّ العقوبات الأربع المذكورة في الآية لها طابع تخييري؟ أي هل أن الحكومة الإسلامية مخيرة في استخدام أي منهما بحق الفرد الذي تراه يستحق ذلك ، أم أن العقوبة يجب أن تتناسب ونوع الجريمة التي ارتكبها الفرد؟ أي إذ ارتكب الفرد المحارب جريمة قتل ضد أفراد أبرياء تطبق بحقّه عقوبة الإعدام ، وإن ارتكب سرقة عن طريق التهديد بالسلاح تنفذ فيه عقوبة قطع أصابع اليد أو الرجل ، وإذا ارتكب الجريمتين معا يكون عقابه الإعدام والصلب على الأعواد لفترة معينة لكي يعتبر به الناس ، وإذا شهر الفرد المحارب السلاح على الناس دون أن يراق أيّ دم أو تتم سرقة شيء يكون عقابه النفي إلى بلد آخر؟

لا شك أنّ الاحتمال الثّاني ـ وهو تطبيق العقوبة المتناسبة مع الجريمة أقرب إلى الحقيقة ، وقد أيد هذا المعنى ما ورد في أحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أيضا (٢).

وبالرغم من أنّ بعض الأحاديث أشارت إلى أنّ الحكومة الإسلامية مخيرة في انتخاب أي من العقوبات الأربع الواردة ، لكننا ـ نظرا للأحاديث التي أشرنا إليها قبل قليل ـ نرى أنّ المراد من التخيير لا يعني أن تنتخب الحكومة الإسلامية واحدا من العقوبات المذكورة انتخابا اعتباطيا دون أن تأخذ نوع الجريمة بنظر الإعتبار ، حيث من المستبعد كثيرا أن تكون عقوبتا الإعدام والصلب متساويتين مع عقوبة النفي ، أو أن تكونا بمنزلة واحدة!

ويلاحظ هذا الأمر أيضا في الكثير من القوانين الوضعية المعاصرة بصورة واضحة،حيث تعين عقوبات مختلفة لنوع واحد من الجرائم ، وعلى سبيل المثال

__________________

(١) كنز العرفان في فقه القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٥٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٢٢.

٦٨٣

نرى أن بعض الجرائم تتراوح عقوبتها بين ٣ سنين إلى ١٠ سنين من السجن ، والقاضي يتعامل في هذا المجال وفق ما يراه مناسبا لواقع الحال ، وليس وفق ما يشتهيه هو ، فتارة يكون المناسب في الجريمة أن تطبق العقوبة المشددة ، وأخرى يتناسب معها تخفيف العقوبة،نظرا للظروف المحيطة والملابسات الواردة في حالة ارتكاب الجريمة.

وهذا القانون الإسلامي الذي جاء بحق المحاربين ، يتفاوت فيه أسلوب العقاب ونوعه مع اختلاف الجريمة التي يرتكبها الفرد المحارب أو الجماعة المحاربة.

وغني عن القول أنّ العقوبات المشددة التي جاء بها الإسلام لقطاع الطريق تتوضح فلسفتها في الأهمية القصوى التي أعارها هذا الدين للدماء البريئة ، لكي يحول دون اعتداء الأفراد الأشقياء الأشرار القتلة على أرواح وأموال وأعراض الناس الأبرياء (١).

وفي الختام تشير الآية إلى أن هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا ، وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات ، بل سينالون يوم القيامة عقابا أشد وأقسى حيث تقول الآية : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أن العقوبات الإسلامية الدنيوية التي تنفذ في المجرمين لن تكون حائلا دون نيلهم لعقاب الآخرة ، ولكن طريق العودة والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم الآية إن هم عادوا إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ولكي يبقى مجال التعويض عن الأخطاء مفتوحا تقول الآية الثانية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) إن الأحكام التي تطرقنا إليها جاءت على شكل بحث تفسيري ملخص ، وتفاصيل هذه الأحكام وشروطها موجود في كتب الفقه.

٦٨٤

فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والذي يظهر من هذه الآية هو أنّ العقاب والحدّ الشرعي يرفعان عن أولئك المجرمين في حالة انصرافهم طوعا عن ارتكاب الجريمة وندمهم قبل أن يلقى القبض عليهم فقط.

وبديهي أنّ توبة هؤلاء لا تسقط العقاب عنهم إن كانوا قد ارتكبوا جريمة قتل أو سرقة، إلّا في حالة ارتكاب جريمة التهديد بالسلاح فإن العقوبة تسقط إن هم تابوا وندموا قبل إلقاء القبض عليهم.

وبعبارة أخرى فإنّ التوبة في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص الله فقط ، أمّا حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.

وهكذا فإنّ عقاب المحارب يكون أشدّ وأقسى من عقاب السارق أو القاتل العادي،فهو إن تاب نجا من العقوبة التي تشمله لكونه محاربا ، لكنه لا يتخلص من عقوبة السرقة والقتل العاديين.

وقد يطرأ هنا سؤال وهو كيف يمكن إثبات التوبة ما دامت هي عملية قلبية باطنية؟

والجواب هو : أن طرق إثبات التوبة في هذا المجال كثيرة وافرة ، وأحدها :أن يشهد عادلان على أنّهما سمعا توبة المجرم في مكان ما ، وأنّه تاب دون أن يرغمه أحد على التوبة،والآخر : أنّ يغير المجرم أسلوب حياته بشكل تظهر عليه آثار التوبة بجلاء.

* * *

٦٨٥

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(٣٥))

التّفسير

حقيقة التوسل إلى الله :

توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين ، تتضمن تكاليف ثلاثة يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح ، وهذه التكاليف هي :

١ ـ إتّباع الحيطة والتقوى ، كما تقول الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...).

٢ ـ إختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث تقول الآية : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ...).

٣ ـ الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ...).

وستكون نتيجة الالتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح ، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

إنّ أهم موضوع سنتناوله بالبحث في هذه الآية ، هو الدعوة الموجهة للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

٦٨٦

فكلمة «الوسيلة» في الأصل بمعنى نشدان التقرب أو طلب الشيء الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة ، وعلى هذا الأساس فإن كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة ، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان بالله وبنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهاد في سبيل الله،والعبادات كالصّلاة والزكاة والصوم ، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرّا وعلانية وكذلك الأعمال الصالحة ـ كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في خطبة له وردت في «نهج البلاغة» منها : «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلين إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقامة الصّلاة فإنّها الملّة (١) ، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب ، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ، ويرحضان (٢) الذنب ، وصلة الرحم فإنها مثراة (٣) في المال ومنساة (٤) في الأجل وصدقة السرّ فإنّها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان ...» (٥).

كما أن شفاعة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين تقرّب ـ أيضا ـ إلى الله وفق ما نصر عليه القرآن الكريم ، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة» ـ وكذلك إتّباع النّبي والإمام والسير على نهجهما ، كل ذلك يوجب التقرب إلى الساحة الإلهية المقدسة. وحتى عند ما نقسم على الله بمقام الأنبياء والأئمّة والصالحين فأنّه يدلّ على حبّنا لهم والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه ، هذا

__________________

(١) الملة شريعة الإسلام.

(٢) يرحضان يطهران أو يغسلان.

(٣) مثراة مكثرة.

(٤) منساة مطيلة.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ١١٠.

٦٨٧

القسم يعتبر ـ أيضا ـ واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».

والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص ، لأنّ كلمة «الوسيلة» تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلى التقرب.

والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني ـ أبدا ـ طلب شيء من شخص النّبي أو الإمام ، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن ـ عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام ـ بطلب الشفاعة منهم إلى الله ، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من الله بذلك حاجته،وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك ، كما لا يخالف الآيات القرآنية الأخرى ، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبّر».

التوسل في القرآن :

هناك آيات قرآنية أخرى تدل بوضوح على أنّ التوسل بمقام إنسان صالح عند الله،وطلب شيء من الله عن طريق التوسل بجاه هذا الإنسان عند الله ، لا يعتبر أمرا محظورا ولا ينافي التوحيد.

فنحن نقرأ في الآية (٦٤) من سورة النساء قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

كما نقرأ في الآية (٩٧) من سورة يوسف ، إنّ أخوة يوسف طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم الله ، فقبل يعقوب هذا الطلب ونفذه.

والآية (١١٤) من سورة التوبة تشير إلى موضوع استغفار إبراهيم لأبيه ، وهذا دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين.

٦٨٨

وقد ورد هذا الموضوع في آيات قرآنية أخرى أيضا.

التّوسل في الرّوايات الإسلامية :

إنّ الروايات العديدة التي وردت عن طرق الشيعة والسنة تفيد بوضوح أنّ التوسل بالمعنى الذي عرضناه لا ريب ولا شبهة فيه ، بل أنّه يعد عملا جيدا أيضا ، وهذه الرّوايات كثيرة وقد نقلتها كتب عديدة ، ونحن نورد بعضا منها مما ورد في مصادر جمهور السنّة على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ جاء في كتاب «وفاء الوفا» لمؤلّفه العالم السنّي المشهور «السمهودي» إن طلب العون والشفاعة من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التوسل إلى الله بجاه النّبي وشخصه جائز قبل أن يولدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ولادته ووفاته وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة ، ثمّ ينقل «السمهودي» في هذا المجال عن عمر بن الخطاب الرواية المعروفة التي تتحدث عن توسل آدم عليه‌السلام إلى الله بنبي الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لعلم آدم بأنّ هذا النّبي سيأتي إلى الوجود في المستقبل،ولعلمه بالمنزلة العظيمة التي يحظى بها عند الله ، فيقول آدم : «ربّ إنّي أسألك بحق محمّد لما غفرت لي» (١).

ثمّ ينقل «السمهودي» حديثا آخر عن جماعة من رواة الحديث كالنسائي والترمذي،وهما عالمان مشهوران من أهل السنّة ، كدليل على جواز التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياتهوخلاصة هذا الحديث إنّ رجلا بصيرا طلب من النّبي أن يدعو له بشفاء مريضه، فأمره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلاوة هذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد إنّي توجهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضي لي ، اللهم شفعه فيّ» (٢).

__________________

(١) وفاء الوفاء ، ج ٣ ، ص ١٣٧١ ، في كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» نقل الحديث المذكور أعلاه كواحد من دلائل النبوة ، ص ٢١٥.

(٢) كتاب (وفاء الوفاء) ، ص ١٣٧٢.

٦٨٩

وبعد هذا الحديث ينقل «السمهودي» حديثا ثالثا في جواز التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته ، فيذكر أن صاحب حاجة جاء في زمن عثمان إلى قبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فجلس بجوار القبر ودعا الله بهذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي».

ثمّ يضيف «السمهودي» إنّه لم تمض فترة حتى قضيت حاجة الرجل (١).

٢ ـ أمّا صاحب كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» الذي يعارض بشدة موضوع التوسل فهو ينقل (٢٦) حديثا من كتب ومصادر مختلفة ينعكس منها جواز التوسل ، ومع أنّه سعى في أن يطعن بإسناد تلك الأحاديث ، إلّا أنّ الواضح هو أنّه متى ما كانت الروايات كثيرة ـ في موضوع معين لدرجة التواتر ـ لا يبقى عند ذلك مجال للطعن، والتجريح في سند الحديث ، والروايات التي وردت في المصادر الإسلامية بشأن التوسل قد تجاوزت حدّ التواتر لكثرتها.

ومن هذه الأحاديث التي رواها صاحب الكتاب المذكور ، الحديث التالي : نقل «ابن حجر المكي» صاحب كتاب «الصواعق» عن الإمام «الشافعي»،وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة المشهورين ، أنّه كان يتوسل إلى أهل بيت النّبي ويقول :

آل النّبي ذريعتي

وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطى غدا

بيد اليمين صحيفتي (٢)

وينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا عن (البيهقي) أن الجفاف أصاب المسلمين في أحد الأعوام من عهد الخليفة الثّاني ، فذهب بلال ومعه عدد من الصحابة إلى قبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «يا رسول الله استسق لأمتك ... فإنّهم

__________________

(١) وفاء الوفاء ، ص ١٣٧٣.

(٢) كتاب «التوصل ...» ، ص ٣٢٩.

٦٩٠

قد هلكوا ...» (١).

ونقل أيضا عن «ابن حجر» من كتاب «الخيارات الحسان» أنّ الإمام الشافعي كان أثناء وجوده في بغداد يزور أبا حنيفة ويتوسل إليه في حوائجه (٢).

ومن صحيح «الدارمي» ينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا ، أن بعض الصحابة في المدينة اشتكوا إلى عائشة ما يعانونه من الجفاف الشديد الذي أصاب البلدة في أحد الأعوام ، فأشارت عليهم أن يفتحوا فجوة في سقف المسجد على قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ينزل الله المطر ببركة قبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففعلوا ذلك ونزل مطر غزير!

ونقل «الآلوسي» في تفسيره الكثير من الأحاديث والروايات الشبيهة بالأحاديث المارة الذكر،ولكنّه بعد إجراء تحليل ونقاش طويل حولها حتى أنّه تشدد في نقدها اضطر إلى الإذعان بها ، فذكر أنّه بعد البحث الذي أجراه لا يرى مانعا من التوسل إلى الله بمقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمسواء في حياته أو بعد وفاته ، ثمّ أطال البحث في هذا المجال، وقال بأنّ التوسل إلى الله بمقام غير النّبي لا مانع فيه ـ أيضا ـ شريطة أن يكون المتوسل به صاحب منزلة عندالله(٣).

أما مصادر الشيعة فقد تناولت هذا الموضوع بشكل واضح ، لا نرى معه أي حاجة إلى نقل الأحاديث الواردة بهذا الصدد.

* * *

ملاحظات ضرورية :

نرى من الضروري ـ هنا ـ الإشارة إلى عدّة أمور :

__________________

(١) كتاب التوصل ... ، ص ٢٥٣.

(٢) كتاب التوصل ... ، ص ٣٣١.

(٣) روح المعاني ، (ج ٤ ـ ٦) ، ص ١١٤ ـ ١١٥.

٦٩١

١ ـ لقد أسلفنا القول بأنّ التوسل ليس معناه طلب الحاجة من النّبي أو الإمام ، بل المراد منه جعل النّبي أو الإمام شفيعا إلى الله في قضاء الحاجة ، وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ توجه إلى الله ، لأن احترام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو من أجل أنّه رسول الله والسائر على هداه،والعجب هنا أن يدعي البعض أن هذا التوسل نوع من الشرك ، في حين أنّ المعروف عن الشرك هو القول بوجود من يشارك الله سبحانه في صفاته وأعماله ، والتوسل الذي تحدثنا عنه لا صلة له مطلقا ولا تشابه مع الشرك.

٢ ـ يصرّ البعض وجود الفرق بين حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وبين وفاتهم ، وكما رأيت فإنّ الكثير من الأحاديث السالفة كان يخص ما بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالإضافة إلى ذلك فإن الفرد المسلم يعتقد بأن للنّبي والصالحين بعد وفاتهم حياة برزخية أوسع من الحياة الدنيا ، وقد صرّح القرآن في هذا المجال بخصوص حياة الشهداء، حيث أكّد أنّهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربّهم (١) ....

٣ ـ وأصرّ آخرون على أنّ هناك فرقا بين طلب الدعاء من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين القسم على الله بجاه النّبي ، فهؤلاء يجيزون طلب الدعاء ولا يجيزون ما سواه ، في حين لا يوجد بين هذين الأمرين أي فرق منطقي.

٤ ـ يسعى البعض من كتاب وعلماء السنة وبالأخص «الوهابيون» منهم ، وبعناد خاص ، إلى الادعاء بضعف جميع الأحاديث الواردة في موضوع التوسل ، أو تجاهلها بشتى الحجج الواهية.

وهؤلاء يبحثون هذا الموضوع بأسلوب خاص يظهر من خلاله لكل ناظر محايد أنّهم اختاروا في البداية هذا الإعتقاد لأنفسهم ، ثمّ يحاولون ـ بعد ذلك ـ فرضه على الرّوايات الإسلامية ويعمدون بشكل من الأشكال إلى إزاحة كل من يخالف معتقدهم هذا عن طريقهم ، وهذا الأسلوب المشوب بالعصبية ومجافاة

__________________

(١) آل عمران ، ١٦٩.

٦٩٢

المنطق لا يقبل به أي باحث منصف مطلقا.

٥ ـ لقد بيّنا أنّ أحاديث التوسل قد وصلت بكثرتها إلى حد التواتر ، أي أنّها لوفرتها تغني الباحث عن التحقيق في أسانيدها ، إضافة إلى ذلك فإنّ من بين هذه الأحاديث الكثير من الروايات والأحاديث الصحيحة ، فلا يبقى بذلك لمن يريد الاعتراض على بعض الأسانيد أي مجال.

٦ ـ ويتبيّن ممّا قلناه سابقا أن لا تناقض بين الروايات التي وردت في تفسير الآية الأخيرة تلك التي تقول بأن النّبي دعا الناس إلى أن يطلبوا له الوسيلة من الله ، أو ما جاء عن الإمام علي عليه‌السلام في كتاب «الكافي» من أنّه قال : بأنّ (الوسيلة) هي أرفع وأسمى منزلة في الجنّة

فلا ينافي ما ذكرناه نحن في تفسير الآية ، لأنّ الوسيلة ـ كما أوضحنا ـ تشمل كل أنواع التقرب إلى الله ، وإن تقرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله ، وكذلك ما قيل عن أرفع منزلة في الجنّة ، هما من مصاديق الوسيلة.

* * *

٦٩٣

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

التّفسير

تعقيبا على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين ، وتؤكّدان أنّهم مهما بذلوا ـ حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه ـ في سبيل انتقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة ، فلن يقبل منهم ذلك ـ وأنّهم سينالون العذاب الشديد ، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقد وردت بنفس المضمون آية أخرى وهي الآية (٤٧) من سورة الرعد.

ويبيّن هذا الأسلوب القرآني أقصى درجات التأكيد فيما يخص العقوبات الإلهية التي لا يمكن ـ مطلقا ـ التخلص منها بأي ثروة أو قدرة مهما بلغت ، وحتى

٦٩٤

لو شملت جميع ما في الأرض أو ضعف ذلك ، وإن طريق الخلاص الوحيد يمكن ـ فقط ـ في اتّباع التقوى والجهاد في سبيل الله والقيام بالأعمال الصالحة.

بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب الله ، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك ، وإنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير ، كما تقول الآية : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).

وسنوافيكم بتفاصيل أكثر عن العقوبة الدائمة الأبدية ، وعن خلود الكفار في نار جهنم ، لدى تفسير الآية (١٠٨) من سورة هود ، بإذن الله.

* * *

٦٩٥

الآيات

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

التّفسير

عقوبة السّرقة :

لقد بيّنت آيات سابقة عقاب وحكم «المحارب» الذي يتعرض لأرواح وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح ، أمّا الآيات الثلاث الأخيرة فهي تبيّن حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات الناس ، فتقول الآية أوّلا:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُم ...).

وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة ، بينما الآية التي ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني ، ولعل هذا التفاوت ناشئ عن حقيقة أن السرقة غالبا ما تصدر عن الرجال ، بينما النساء الخليعات المستهترات يشكلن في الغالب العامل والعنصر المحفز للزنا!

٦٩٦

بعد ذلك تبيّن الآية أنّ العقوبة المذكورة هي جزاء من الله لجريمة السرقة المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة ، حيث تقول : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ ...).

والحقيقة هي أنّ هذه الجملة القرآنية تشير.

أوّلا : إلى أنّ العقوبة المذكورة نتيجة لعمل الشخص السارق أو السارقة وأنّها شيء اكتسبه هو أو هي لنفسها.

وثانيا : إلى أنّ الهدف من تنفيذ هذه العقوبة هو وقاية المجتمع وتحقيق الحق والعدل فيه لأنّ كلمة «نكال» تعني العقوبة التي تنفذ لتحقيق الوقاية وترك المعصية ، وهذه الكلمة تعني في الأصل «اللجام» وتطلق أيضا على كل عمل يحول دون حصول الانحراف.

ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة ، تؤكّد الآية ـ في آخرها ـ على أن الله عزيز ، أي قادر على كل شيء ، فلا حاجة له للانتقام من الأفراد ، وهو حكيم ـ أيضا ـ ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو حساب لذلك ، حيث تقول الآية : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أمّا الآية الثانية فهي تفتح لمن ارتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة ، فتقول : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والسؤال الوارد هنا هو : هل أنّ التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط ، أم أنّها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضا؟

إنّ المعروف لدى فقهاء الشيعة أنّ مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حدّ السرقة أيضا ، أمّا إذا شهد عادلان على سرقته فإن التوبة لا تسقط عنه الحدّ.

والحقيقة هي أنّ التوبة ـ في هذه الحالة التي تطرقت لها الآية ـ هي تلك التي تتمّ قبل ثبوت الجرم في المحكمة ، ولو لا ذلك لتظاهر كل سارق بالتوبة لدى

٦٩٧

ثبوت الجرم عليه ، بغية إنقاذ نفسه من الحدّ أو العقوبة ، فلا يبقى ـ والحالة هذه ـ مبرر لإجراء الحدّ عليه بعد التوبة!

وبعبارة أخرى : إنّ التوبة الاختيارية هي تلك التي تتمّ قبل أن يثبت الجرم في المحكمة بينما التوبة الاضطرارية هي التوبة التي تصدر من الإنسان العاصي لدى مشاهدته العذاب الإلهي، أو لدى بلوغه حالة الاحتضار ، ومثل هذه التوبة لا قيمة لها مطلقا.

ثمّ توجه الآية الأخرى الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ويجدر الانتباه هنا إلى عدّة نقاط ، وهي :

أ ـ شروط معاقبة السارق :

لقد بيّن القرآن الكريم في الآيات الأخيرة التي تطرقت لحكم السرقة أساس للقضية،على عادته بالنسبة لسائر الأحكام ، وقد ترك التفصيل في ذلك إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والذي يستدل من مجموع الروايات الإسلامية هو أن تنفيذ هذا الحد الإسلامي (أي قطع اليد) مقيد بشروط كثيرة ، لا يجوز ـ بدون تحققها ـ المباشرة بإجراء الحدّ ، ومن هذه الشروط.

١ ـ أن يكون الحدّ الأدنى لثمن الشيء المسروق مبلغ ربع دينار (١).

٢ ـ أن تتمّ السرقة من مكان محفوظ ، أي أن تكون من دار أو محل للكسب أو من جيوب ومخابئ داخلية.

٣ ـ أن لا تكون السرقة في زمن الجفاف أو المجاعة التي يعاني الناس فيها

__________________

(١) الدينار الوارد في هذا الحكم يبلغ مثقالا شرعيا من الذهب المسكوك ويعادل ثمانية عشر حبة أي ثلاثة أرباع المثقال المتعارف.

٦٩٨

من الجوع لعدم حصولهم على المواد الغذائية.

٤ ـ أن يكون السارق ـ أثناء ارتكابه لجريمة السرقة ـ بالغا عاقلا حر الإرادة.

٥ ـ لا يطبق حدّ السرقة في حالة سرقة الأب من مال ولده ، أو الشريك من مال شريكه المخصوص بالشركة.

٦ ـ وقد استثنيت الفاكهة المسروقة من البساتين من حدّ السرقة.

٧ ـ كما استثنيت من ذلك حالة اشتباه السارق بين ماله ومال غيره.

وهناك شروط أخرى تطرقت إليها كتب الفقه في باب السرقة.

ويجب هنا التأكيد على أنّ السرقة حرام سواء تحققت الشروط المذكورة أعلاه فيها أو لم تتحقق ، وأما هذه الشروط فهي مختصة بموضوع الحدّ والعقوبة الخاصّة بالسرقة.

والسّرقة بأي شكل حصلت ، ومهما كان مبلغ وثمن الشيء المسروق ، حرام في الإسلام.

ب ـ المقدار الذي يجب قطعه من يد السّارق :

لقد اشتهر لدى فقهاء الشيعة ـ استنادا على روايات أهل البيت عليهم‌السلام ـ أنّ حدّ السرقة يتحقق بقطع أربع من أصابع يد السارق اليمنى فقط دون زيادة ، بينما قال فقهاء السنّة بأكثر من ذلك.

ج ـ حدّ السرقة وأقاويل اعداء الإسلام :

كثيرا ما كرر أعداء الإسلام أو حتى بعض المسلمين من الذين يجهلون أسرار التشريع الإسلامي ، أنّ هذه العقوبة الإسلامية تتسم بالعنف الشديد ، وأنّها لو نفذت في عصرنا الحاضر للزم أن تقطع أيدي الكثير من الناس ، وإن هذا

٦٩٩

سيؤدي بالإضافة إلى حرمان أفراد من أحد أعضاء جسمهم الحساسة سيؤدي إلى فضيحة الفرد طيلة حياته بسبب الأثر البارز الذي يخلفه حد السرقة مدى العمر.

وللردّ على هذا الاعتراض يجب الانتباه إلى الحقيقة التالية :

أوّلا : لقد بيّنا فيما سبق أن حكم السرقة ـ وفق الشروط التي ذكرناها ـ لا يشمل كل سارق ، فهذا الحكم يشمل فقط تلك المجموعة من السراق الذين يشكلون خطرا على المجتمع.

ثانيا : إنّ احتمال تنفيذ عقوبة السرقة يقل نظرا للشروط الخاصّة التي يجب توفرها حتى تثبت الجريمة على المتهم بالسرقة.

ثانيا : إنّ أكثر الاعتراضات التي يوردها الأفراد الذين يجهلون أو الذين لا يعرفون الكثير عن القوانين الإسلامية ، منشؤها النظرة الآحادية الجانب التي يرون ويبحثون بها الحكم الإسلامي بعيدا عن الأحكام الأخرى ، أي أنّهم يفترضون هذا الحكم في مجتمع بعيد كل البعد عن الإسلام.

فلو علمنا أنّ الإسلام ليس حكما واحدا فقط ، بل يشتمل على مجموعة كبيرة من الأحكام لو طبقت في مجتمع معين لأدت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل ، ولأدت إلى تحقيق التعليم والتربية الصحيحين ، ولنشرت الوعي والورع والتقوى بين الناس ، وبهذا يتّضح لنا ندرة احتمال بروز حوادث تحتاج إلى تطبيق هذا الحكم أو العقوبة الإسلامية.

ويجب أن لا يجرنا هذا القول إلى الوهم بأنّ هذا الحكم الإسلامي لا يجب تطبيقه في المجتمعات المعاصرة ، بل المراد من قولنا هذا هو أن تؤخذ كل الشروط المذكورة بنظر الإعتبار أثناء إصدار الحكم في هذا المجال.

وخلاصة القول : إنّ الحكومة الإسلامية مكلّفة بأن توفر لكل أفراد الأمّة احتياجاتها الأولية وأن توفر لهم التعليم اللازم ، وتربي فيهم الملكات والخصال

٧٠٠