الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

الجاهلي ، ودعى المسلمين إلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط ، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.

والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي «البر» و «التقوى» معا وعلى التوالي في الآية،حيث أنّ الكلمة الأولى تحمل طابعا إيجابيا وتشير الى الأعمال النافعة ، والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إلى الامتناع عن الأعمال المنكرة ـ وعلى هذا الأساس ـ أيضا ـ فإن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إلى عمل الخير ، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.

وقد استخدم الفقه الإسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية ، حيث حرّم قسما من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإعانة على المعاصي أو المنكرات ، كبيع الأعناب إلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إلى أعداء الإسلام وأعداء الحق والعدالة ، أو تأجير محل للاكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطا تناولتها كتب الفقه الإسلامي بالتوضيح).

إنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإسلامية ، وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الاهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية ، والامتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان ، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة ، كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الاجتماعية.

أمّا في العلاقات الدولية ، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتدية ـ أيّا كانت ـ لقضي بذلك على جذور العدوان والاستعمار والاستغلال في العالم ، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك ، فلا يمكن توقع الخير أبدا من وضع كالذي يسود العالم اليوم.

لقد تناولت الأحاديث والروايات الإسلامية هذه القضية بتأكيد كبير،

٥٨١

ونورد ـ هنا ـ بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ نقل عن النّبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال قوله : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برىء لهم قلما ولاق لهم دواة؟قال:فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» (١).

٢ ـ نقل عن صفوان الجمال ، وهو أحد أنصار الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ، بأنّه تشرف بلقاء الإمام عليه‌السلام فقال له الكاظم عليه‌السلام : يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا.

قلت : جعلت فداك ، أي شيء؟

قال : اكراؤك جمالك من هذا الرجل ، يعني هارون.

قال : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.

فقال لي : يا صفوان ، أيقع كراؤك عليهم؟

قلت : نعم.

قال : من أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار ... إلى آخر الحديث (٢).

وفي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب به عليّا عليه‌السلام قائلا : «يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأمّة عشرة ... وبائع السلاح لأهل الحرب» (٣).

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٣١.

(٢) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٣١ ـ ١٣٢.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٧١.

٥٨٢

الآية

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

التّفسير

لقد تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي ، وورد ـ أيضا ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي ، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر موردا تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أخرى على سبيل التأكيد.

والمحرمات التي وردت في هذه الآية ، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي :

أوّلا : الميتة.

٥٨٣

ثانيا : الدم.

ثالثا : لحم الخنزير.

رابعا : الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام ، أو باسم غير اسم الله ، كما كان يفعل الجاهليّون ، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

خامسا : الحيوانات المخنوقة ، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها ، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانا للانتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم «المنخنقة».

وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها ، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضا (١).

سادسا : الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب ، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة» (٢).

ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إكراما لأصنامهم وتقربا لها.

سابعا : الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع ، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».

ثامنا : الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر ، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».

تاسعا : الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه ، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».

وقد يكون جزءا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات ، هو عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٧٣.

(٢) الموقوذة المضروبة بعنف حتى الموت.

٥٨٤

نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل ، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف ، ولما كان الدم محيطا مناسبا جدا لنمو مختلف أنواع الجراثيم ، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الأخرى من الجسد ، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة ، وغالبا ما يحصل هذا التسمم عند ما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.

من جانب آخر فإنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات،أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.

لقد ذكرت الآية شرطا واحدا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا،وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية ، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه ، ولذلك جاءت عبارة (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) بعد موارد التحريم مباشرة.

ويرى بعض المفسّرين أن هذا الاستثناء يخص القسم الأخير فقط ، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الاستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة ، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.

وهنا قد يسأل البعض : لما ذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية ، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟

والجواب هو : إنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي ، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إطار مفهوم الميتة ، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية

٥٨٥

ضمن مفهوم الميتة ، وهي محتاجة إلى البيان والتوضيح.

عاشرا : كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورا حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة ، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام ، وقد حرم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب ، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعا معنويا وليس ماديا. وفي الحقيقة فإن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وقد ذكر تشخيصا في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.

أحد عشر : وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة ، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار ، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيوانا ويذبحونه ، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» ، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر» ، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الاقتراع ، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسما من اللحم دون أن يدفعوا ثمنا لما أخذوه من اللحم ، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي ، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم ، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم ، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار ، ويجب القول هنا أن تحريم

٥٨٦

القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط ، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.

ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام : (ذلِكُمْ فِسْقٌ). (١)

الاعتدال في تناول اللحوم :

إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الأخرى ، هو أنّ الإسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أسلوبا معتدلا تمام الاعتدال جريا على طريقته الخاصّة في أحكامه الأخرى.

ويختلف أسلوبه هذا اختلافا كبيرا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك ، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية ، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإسلام شروطا أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الاستفادة منها ، وهي : ـ

١ ـ لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب ، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالبا ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة ، وبذلك قد تكون سببا في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها ، بينما الحيوانات التي تأكل

__________________

(١) بالرغم من أنّ «ذلكم» ، اشارة لمفرد ، إلّا أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع ، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد ، فلا اشكال في هذا الاستعمال.

٥٨٧

العشب يكون غذاؤها سليما وخاليا من الأمراض.

وقد تقدم أيضا في تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضا ، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف ، وبناء على هذا الدليل ـ أيضا ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلّالة ، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.

٢ ـ أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإنسانية.

٣ ـ أن لا يترك لحم الحيوان أثرا سيئا أو ضارا على جسم أو نفس الإنسان.

٤ ـ لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام ، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.

٥ ـ لقد بيّن الإسلام أحكاما خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإنسان.

* * *

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقا :الأولى منهما تقول : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

والثّانية هي : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

متى أكمل الله الدين للمسلمين :

إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

فأيّ يوم يا ترى هو ذلك «اليوم» الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة

٥٨٨

المصيرية ، وهي يأس الكفار ، وإكمال الدين ، وإتمام النعمة ، وقبول الله لدين الإسلام دينا ختاميا لكل البشرية؟

لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال ، وممّا لا شك فيه ولا ريب أن يوما عظيما في تاريخ حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كهذا اليوم ـ لا يمكن أن يكون يوما عاديا كسائر الأيّام ، ولو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية.

وقيل أنّ بعضا من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لاتّخذوه عيدا لأنفسهم ولاهتموا به اهتماما عظيما (١).

ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلامية عديدة ، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟

ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللحوم؟

بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إعطاء تلك الأهمية العظيمة،ولا يمكن أن يكون سببا لإكمال الدين ، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها ، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار ، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإسلام ، وبعبارة أخرى فإنّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا يترك أثرا في نفوس الكفار ، فما ذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا وبعضها الآخر حراما؟!

فهل المراد من ذلك «اليوم» هو يوم عرفة من حجّة الوداع ، آخر حجّة قام بها

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ١٥٥.

٥٨٩

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما احتمله بعض المفسّرين)؟

وجواب هذا السؤال هو النفي أيضا ، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم عرفة ، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل هذا اليوم أيضا ، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم ، فلم تكن الأحكام تلك شيئا مهمّا مخيفا بالنسبة للكفار.

ثمّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ومن المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة!

أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة ، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.

والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام وبعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقا وبينهما فارق زمني بعيد جدّا.

وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّا من الاحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.

ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة ، وهذا الاحتمال يتناسب تماما مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم غدير خم» أي اليوم الذي نصب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام بصورة رسمية وعلنية خليفة له،حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس ، وقد كانوا يتوهمون أن دين الإسلام سينتهي بوفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية ، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريدا بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته ، وهو علي

٥٩٠

بن أبي طالب عليه‌السلام ، ورأوا النّبي وهو يأخذ البيعة لعلي عليه‌السلام أحاط بهم اليأس من كل جانب ، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإسلام وأدركوا أن هذا الدين باق راسخ.

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا ، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأمّة الإسلامية ، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

نعم في يوم غدير خم أكمل الله وأتمّ نعمته بتعيين علي عليه‌السلام ، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ ، قائدا وزعيما للأمة بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي هذا اليوم ـ أيضا ـ رضي الله بالإسلام دينا ، بل خاتما للأديان ، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين ، واجتمعت فيه الجهات الأربع.

وفيما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا التّفسير :

أ ـ لقد ذكرت تفاسير «الرازي» و «روح المعاني» و «المنار» في تفسير هذه الآية أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوما بعد نزول هذه الآية ، وهذا أمر يثير الانتباه في حد ذاته ، إذ حين نرى أنّ وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة ، وحتى في بعض روايات الشيعة ، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام ، وهو يوم غدير خم (١).

ب ـ ذكرت روايات كثيرة ـ نقلتها مصادر السنّة والشيعة ـ أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم ، وبعد أن أبلغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بولاية علي

__________________

(١) إنّ هذا الحساب يكون صحيحا إذا لم ندخل يوم وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوم غدير خم في الحساب ، وأن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (٢٩) يوما ، ونظرا لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل وبعد يوم غدير خم ، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.

٥٩١

بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن هذه الروايات :

١ ـ ما نقله العالم السنّي المشهور «ابن جرير الطبري» في كتاب «الولاية» عن «زيد بن أرقم» الصحابي المعروف ، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢ ـ ونقل الحافظ «أبو نعيم الأصفهاني» في كتاب «ما نزل من القرآن بحق عليعليه‌السلام» عن «أبي سعيد الخدري» وهو صحابي معروف ـ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى في «يوم غدير خم» عليا منصب الولاية ... وإنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُ ...) فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي تلك اللحظة «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي عليه‌السلام من بعدي» ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم:«من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».

٣ ـ وروى «الخطيب البغدادي» في «تاريخه» عن «أبي هريرة» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) نزلت عقيب حادثة «غدير خم» والعهد بالولاية لعليعليه‌السلام وقول عمر بن الخطاب : «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب،أصبحت مولاي ومولى كل مسلم» (١).

وجاء في كتاب «الغدير» إضافة إلى الروايات الثلاث المذكورة ، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.

ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير «ابن كثير» من الصفحة ١٤ وعن كتاب «مقتل الخوارزمي» في الصفحة ٤٧عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غدير خم.

__________________

(١) لقد أورد العلّامة الأميني رحمه‌الله هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأوّل من كتابه «الغدير» في الصفحات ٢٣٠ و ٢٣١ و ٢٣٢ كما ورد في كتاب «إحقاق الحق» في الجزء السادس والصفحة ٣٥٣ أن نزول الآية كان في حادثة غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين ، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.

٥٩٢

ونرى في تفسير «البرهان» وتفسير «نور الثقلين» عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي عليه‌السلام أو في يوم غدير خم ، ونقل كل هذه الروايات يحتاج إلى رسالة منفردة (١).

وقد ذكر العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «المراجعات» أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر والصّادق عليهما‌السلام تقول بنزول هذه الآية في «يوم غدير خم» وإنّ جمهور السنّة أيضا قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم (٢).

يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات والأخبار التي أكّدت نزول الآية ـ موضوع البحث ـ في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يمكن تجاهلها ، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها ، بل هي أخبار إن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإسلامية المشهورة.

ومع ذلك فإنّنا نرى بعضا من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير «روح المعاني» الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها،وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة ، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية ، وقد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام ولم يلمح إليها بشيء ، كما في تفسير المنار ، ولعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل والإنصاف ، وإن قبلها عمل شيئا خلافا لميله وذوقه.

وقد وردت في الآية (٥٥) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالانتباه ـ فالآية تقول:(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الجزء الأول من تفسير البرهان والجزء الأول من تفسير «نور الثقلين».

(٢) راجع كتاب «المراجعات» الطبعة الرابعة ، ص ٣٨.

٥٩٣

الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ...) والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعدا على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين ، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة ، ونظرا إلى جملة (رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الواردة في الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية ، لأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه ، وبعبارة أوضح أن الإسلام إذا أريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيتعليهم‌السلام.

أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن ، فهو أن الآية الأولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة :

أوّلها : الخلافة على الأرض.

والثّاني : تحقق الأمن والاستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.

والثّالث : استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه‌السلام الذي نصب وصيّا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلت عبارة (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ...) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين ، كما بيّنت عبارة : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) إنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه ، وأقرّه بين عباده المسلمين.

وهذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، وذلك لأنّ عبارة (آمَنُوا مِنْكُمْ) لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في «يوم غدير خم» وسيتحقق

٥٩٤

على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية ، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها).

ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة «الأرض» في القرآن الكريم،حيث وردت أحيانا لتعني جزءا من الأرض ، وأخرى لتعني الأرض كلها ، (فأمعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر).

سؤال يفرض نفسه :

وأخيرا بقي سؤال ملح وهو :

أوّلا : إن الأدلة المذكورة في الآية ـ موضوع البحث ـ والأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (٦٧) من سورة المائدة والتي تقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة ، فلما ذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟

وثانيا : لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة «غدير خم» وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من اللحوم ، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟ (١)

الجواب :

أوّلا : نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية ـ وكذلك سور القرآن الكريم ـ لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني ، بل نشاهد كثيرا من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة ، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضا.

وبناء على هذه الحقيقة ، فلا عجب ـ إذن ـ من وجود هذا الفاصل في القرآن

__________________

(١) لقد أورد هذا الاعتراض تلميحا صاحب تفسير «المنار» لدى الحديث عن هذه الآية ، ج ٦ ، ص ٢٦٦.

٥٩٥

بين الآيتين المذكورتين (ويجب الاعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض واردا في هذا المجال.

ثانيا : هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة «غدير خم» في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقا ، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللحوم،إنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.

إنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكتابة وصيته ، إلى حدّ وصفوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإسلامية المعروفة ، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة ، وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها لإنكار هذا الأمر (١).

فلا يستبعد ـ والحالة هذه ـ أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف ، ومن هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة ـ المهم جدّا ـ في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإبعاد عيون وأيدي المعارضين والعابثين عنها.

إضافة إلى ذلك ـ وكما أسلفنا في حديثنا ـ فإنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية :

__________________

(١) نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنّة وهو كتاب «صحيح البخاري» وفي عدّة أبواب منها باب «كتاب المرضى» في الجزء الرابع ، وباب «كتاب العلم» في الجزء الأوّل ، ص ٢٢ وفي باب «جوائز وفد» من كتاب الجهاد ، ص ١١٨ ، ج ٢ كما وردت في كتاب «صحيح مسلم» في آخر الوصايا بالإضافة إلى كتب أخرى ذكرها المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه‌الله في كتابه «المراجعات» تحت عنوان «رزية يوم الخميس».

٥٩٦

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) الواردة في واقعة «غدير خم» حول قضية الخلافة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها ، بل تناقلها ـ أيضا ـ الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.

لقد أعادت الآية ـ في نهايتها ـ الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك ، مشيرة إلى غفران الله ورحمته في عدم إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة والمشقة ، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدي إلى انخماص البطن ، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة ، أو كان ناتجا عن الحرمان الخاص.

أمّا عبارة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) فمعناها غير مائل إلى ارتكاب الذنب ، وقد يكون الإتيان بها تأكيدا لمفهوم الاضطرار ، أو أنّ الهدف منها هو المنع من الإفراط في أكل اللحم الحرام أثناء الضرورة ، توهما من الشخص بأن ذلك حلال في مثل هذه الحالة ، ومنعا من أن يحاول الشخص بنفسه إعداد مقدمات الاضطرار أو أن يحصل الاضطرار أثناء قيام الشخص بسفر من أجل ارتكاب الحرام فيه.

هذه المعاني كلها يحتمل ورودها ضمن العبارة الأخيرة الماضية «ولأجل الاطلاع على توضيحات أكثر في هذا المجال ، راجع الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا».

* * *

٥٩٧

الآية

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

سبب النّزول

ذكر المفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية ، وأكثر هذه الأسباب ملاءمة مع فحوى الآية هو : أنّ «زيد الخير» و «عدي بن حاتم» اللذين كانا من الصحابة المقرّبين،قدما على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبراه بأنّ قومهما يصيدون بواسطة كلاب وصقور الصيد ، وإنّ هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم الحلال ، وتأتي بالحيوان المصيد حيا في بعض الأحيان فيذبح ، وأحيانا أخرى تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه ، وسألا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة وحراما أم لا؟ ... فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما. (١)

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٣ ، تفسر الآية موضوع البحث.

٥٩٨

التّفسير

الحلال من الصيد :

أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاما عن الحلال والحرام عن اللحوم،وقد بيّنت هذه الآية نوعا آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإنسان تناولها، وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ...).

فتأمر الآية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوّلا ـ بأن يخبرهم إنّ كل ما كان طيبا وطاهرا فهو حلال لهم، حيث تقول : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ...) دالة على أنّ كل ما حرمه الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة ، وإن القوانين الإلهية لا تحرم ـ مطلقا ـ الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر ، وإن الجهاز التشريعي يعمل دائما بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان.

ثمّ تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال ، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد ، فتؤكد بأنّه حلال ، بقولها : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) (١).

وعبارة جوارح مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحيانا «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن ، ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد،سواء كانت من الطيور أو من غيرها ، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده ، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه ، وأمّا إطلاق لفظة «الجوارح» على أعضاء الجسم فلأن الإنسان يستطيع بواسطتها إنجاز الأعمال أو الاكتساب.

وجملة (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) تشمل كل الحيوانات المدرّبة على

__________________

(١) هناك محذوف مقدر في بداية هذه الجملة القرآنية ، حيث إن الأصل يفترض أن يكون «وصيد ما علمتم» وذلك استدلالا بالقرينة الواردة في جملة (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ... (فليلاحظ ذلك).

٥٩٩

الصيد ، ولكن كلمة «مكلبين» التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد ، والمشتقة من مادة «كلب» أي الكلب ، تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب الصيد ، ولذلك فإنّها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد.

ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل كلاب الصيد ، لكن جمعا من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إلى جواز الكل وأعطوا تفسيرا واسعا لعبارة «مكلبين» ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.

إلّا أنّنا نرى أنّ المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إنما يدل على أنّها مخصصة بكلاب الصيد فقط ، وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة أخرى ، يعتبر حلالا في حالة جلبه حيّا وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

أمّا عبارة (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) فإنّها تشير إلى عدّة أمور هي

١ ـ إنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر ، فلو نسيت ما تعلمته وقتلت حيوانا كما تفعله بعض الكلاب السائبة ، فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيدا ، ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة ، والدليل على هذا القول هو كون فعل «تعلمونهن» فعلا مضارعا ، والفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال.

٢ ـ يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية (مِمَّا عَلَّمَكُمُ ...).

إنّ العلوم كلها ـ سواء كانت بسيطة أم معقدة ـ مصدرها هو الله ، وإنّ الإنسان لا يملك بنفسه شيئا ما لم يعلمه الله.

إضافة إلى ما ذكر فإنّ كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر صاحبها ، أي تتحرك بأمره وتعود إليه بأمره أيضا.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد ، يجب أن يذبح وفق الطريقة

٦٠٠