الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

وقد قال المفسّرون الكثير في شأن الفرق بين هذين النوعين من الذنب ، وأقرب الأقوال إلى الذهن هو أنّ الخطيئة مشتقة من الخطأ ، والذي يعني في الأصل : الزلل أو الذنب الذي يصدر دون قصد من صاحبه ، ويكون أحيانا مشمولا بالكفارة والغرامة لكن معنى الخطيئة قد توسع تدريجيا ، وأخذ يشمل كل ذنب سواء المتعمد أو غير المقصود، حيث أنّ روح الإنسان لا تحتمل الذنب ـ أكان عمدا أو عن غير عمد ـ وحين يصدر الذنب من الإنسان إنّما هو في الحقيقة نوع من الزلل والخطأ الذي لا يناسب مقامه كإنسان.

والنتيجة من هذا القول أنّ الخطيئة لها معنى واسع يشمل الذنب المتعمد والذنب الصادر عن غير عمد ، أمّا كلمة «إثم» فتطلق عادة على الذنوب الصادرة عن عمد،وتعني ـ في الأصل ـ ذلك الشيء الذي يمنع الإنسان من عمل معين ، ولما كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إلى الإنسان فقد سميت «إثما».

وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية استخدمت كناية جميلة بالنسبة للتهمة ، وهي أنّها جعلت الذنب في هذا المجال كالسهم ، وجعلت نسبته إلى الغير زورا بمثابة رمي السهم صوب الهدف، وهذه إشارة إلى أنّه في حين أن تصويب السهم نحو إنسان آخر قد يؤدي إلى القضاء عليه ، فإنّ رمي الإنسان البريء بذنب لم يقترفه يكون بمثابة رمية بسهم يقضي على سمعته التي هي بمنزلة دمه.

وبديهي أنّ وزر وعاقبة هذا العمل تكونان في النهاية ـ وإلى الأبد ـ على عاتق الشخص الذي ينسب التهمة زورا إلى غيره ، وأن عبارة «احتمل» الواردة في الآية تعني أخذ على عاتقه إنّما جاءت للدلالة على ثقل وبقاء هذه المسؤولية!

جريمة البهتان :

إنّ اتهام إنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف ، وإنّ

٤٤١

الآية المذكورة أخيرا التي وردت بهذا الشأن ـ بالإضافة إلى الروايات الإسلامية العديدة التي إلى جانبها ـ توضح رأي الإسلام الصريح عن هذا العمل.

ينقل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام عن أحد الحكماء أنّه قال : «أن البهتان على البريء أثقل من جبال راسيات» (١) ونقل عنه عليه‌السلام قوله : «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء» أي أن الإيمان يذوب ويزول من قلب المؤمن بسبب اتهامه لأخيه المؤمن ، كما يذوب الملح في الماء ويزول عن النظر (٢).

فالتهمة والبهتان ـ في الحقيقة ـ هما أقبح أنواع الكذب ، لأنّهما بالإضافة إلى احتوائهما لمفاسد الكذب ، فإنّهما أيضا يحملان أضرار الغيبة ، وهما كذلك من أسوأ أنواع الظلم والجور ولهذا السبب يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخصوص : «من بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيهما ما ليس فيهما أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج ممّا قاله» (٣).

وحقيقة الأمر أن إشاعة مثل هذا العمل الجبان ـ في أي محيط إنساني كان ـ يؤدي في النهاية إلى انهيار نظام العدالة الاجتماعية ، واختلاط الحق بالباطل ، وتورط البريء وتبرئة المذنب ، وزوال الثقة من بين الناس.

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، الجزء الأوّل ، في مادة بهت.

(٢) أصول الكافي ، الجزء الثّاني ، ص ٢٦٩ ، باب التهمة وسوء الظن.

(٣) سفينة البحار ، الجزء الأوّل ، ص ١١١.

٤٤٢

الآية

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

التّفسير

في هذه الآية الكريمة إشارة أخرى إلى حادثة «بني الأبيرق» التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إلى سبب النّزول في آيات سابقة ، وهذه تؤكد أن الله قد صان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفضله ورحمته ـ سبحانه وتعالى ـ من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحرفوه عن طريق الحق والعدل ، فكانت رحمة الله أقرب إلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين ، حيث تقول الآية : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ).

لقد سعى أولئك المنافقون ـ من خلال اتهامهم لشخص بريء وجرّ النّبي وتوريطه في هذه الحادثة ـ إلى إلحاق ضربة بشخصية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجتماعية والمعنوية أوّلا ، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم بريء ثانيا ، ولكنّ الله العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

٤٤٣

ويذكر بعض المفسّرين سببا آخر لنزول هذه الآية وهو أنّ جماعة من قبيلة «بني ثقيف» وردوا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروا له أنّهم مستعدون لمبايعته بشرطين : الأوّل هو أن يرغم أفراد هذه القبيلة على كسر أصنامهم بأيديهم ، والثّاني أن يسمح النّبي لهم بأن يواصلوا عبادة صنمهم (العزى) لسنة واحدة أخرى! فنزل أمر الله على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يبدي أية مرونة أمام هؤلاء ، حيث نزلت الآية المذكورة وأعلنت بأن فضل الله ورحمته قد شملت النّبي وصانته من تلك الوساوس.

بعد ذلك تذكر الآية أن هؤلاء القوم إنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، إذ تقول (... وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ...).

وأخيرا توضح الآية سبب عصمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخطأ والزلل والذنب ، فتذكر أنّ الله أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ...) ثمّ تردف الآية ذلك بجملة : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

مصدر عصمة الأنبياء! :

إنّ هذه الآية الأخيرة من الآيات التي تشير إلى عصمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ارتكاب الخطأ والسهو والذنب ، فتقول بأنّ العون الإلهي الذي شمل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي صانه من الخطأ والضلالة التي كان يريد المنافقون أن يوقعوه فيهما ، ولكنّهم وبفضل هذه المعونة الإلهية عجزوا عن تحقيق مآربهم ، ولم يلحق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي ضرر نتيجة كيد المنافقين.

وهكذا فقد عصم الله نبيّه وصانه من كل خطأ أو سهو أو ذنب ، كي يستطيع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبح قدوة وأسوة للامّة الإسلامية ونبراسا لها في فعل الخيرات

٤٤٤

والحسنات ، وقد صانه الله العزيز القدير من عواقب كل خطأ يحتمل أن يقع فيه أي زعيم،لكي يبعد الأمّة الإسلامية عن الحيرة في قضية إطاعة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليجنبها التناقض بين فعلي الطاعة وعدمها ، نعم لقد عصم الله نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل خطأ،لكي يضمن له ثقة المسلمين الكاملة به ، حيث تعتبر هذه الثقة من أولويات شروط الزعامة الإلهية.

وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل ، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلوم والمعارف التي يكون النّبي في ظلها مصونا من الوقوع في أي خطأ أو زلل ، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ.

فالطبيب ـ مثلا ـ لا يقدم أبدا على شرب ماء ملوث بأنواع الجراثيم الفتاكة ، بعد أن أجرى عليه الفحوصات المختبرية واكتشف تلوثه بتلك الجراثيم الخطيرة.

نستنتج من هذا المثل أنّ علم الطب الذي تعلمه هذا الطبيب ، هو السبب في حفظه ومنعه من شرب الماء الملوث بالجراثيم القاتلة ، فقد وفّر هذا العلم العصمة والمصونة للطبيب حيال ارتكاب مثل هذا الخطأ ، لكن الإنسان الذي يجهل خطورة ذلك الماء يحتمل كثيرا أن يقدم على شربه.

وهكذا يتبيّن أنّ مصدر الكثير من الأخطاء هو الجهل بمقدمات العمل أو مستلزماته أو عواقبه ، لذلك فإنّ من يحاط عن طريق الوحي الإلهي إحاطة كاملة بالقضايا المختلفة ومقدماتها ومستلزماتها وعواقبها لن يقع في خطأ ، ولن يرتكب أي زلل أبدا ، ولن يضل الطريق ، ولن يمارس ذنبا مطلقا.

ويجب أن لا نقع في الوهم هنا ، فإنّ هذا العلم الذي بحوزة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانب الله سبحانه وتعالى ليس عملا مفروضا ولا يحمل طابع القسر والإجبار ، أي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس مجبورا أبدا على أن يعمل بعلمه ، بل أنّه يمارس عمله بكامل اختياره، فكما أنّ الطبيب الذي ذكرناه في مثلنا السابق مع علمه بحالة

٤٤٥

الماء الملوث فإنّه ليس مرغما على عدم شرب هذا الماء ، بل هو بإرادته المطلقة يمتنع عن شربه.

وإذا تساءل أحد : لما ذا شمل الله نبيّه وحده بهذا الفضل الإلهي ، ولم يشمل الآخرين؟

كان الجواب : إنّ ذلك قد حدث للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي تتضمنها القيادة التي أنيطت بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمل أعبائها الثقيلة على عاتقه ، ولأن الآخرين لا يحملون مثل هذه الأعباء الثقيلة ، لذلك فإن الله اللطيف الخبير يهب لعبده من القدرة والطاقة بمقدار ما يضع على عاتق هذا العبد من مسئوليات ، ولن يكلف الله نفسا إلّا وسعها فيجب التعمق في هذا الأمر.

* * *

٤٤٦

الآية

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤))

التّفسير

النجوى أو الهمس :

لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم ، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل ، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط ، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضا ، لأنّها مشتقة من المادة «نجوه» على وزن «دفعه» أي بمعنى الأرض المرتفعة ، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها ، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى.

ويرى بعضهم أنّ كلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أي التحرر ، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل ، وإن الاجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.

٤٤٧

والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها أولئك تهدف إلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة ، إذ تقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ).

ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموما أو حراما جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي ، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى ، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس ، فتقول الآية في هذا المجال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).

فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر ، بل كان مخصصا لنيل مرضاة الله ، فإنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثوابا وأجرا عظيما ، حيث تقول الآية : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية ـ من حيث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّيطانية ، في قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ...) (١) والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالبا ما تحدث لأغراض سيئة ، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإيجابي لا يحتاج في العادة إلى أن يكون ـ أو يبقى ـ سرّيا أو مكتوما عن الناس ، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى ، أو في اجتماعات سرّية.

ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإنسان على الاستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير ، لذلك ورد الاستثناء بصورة مكررة في القرآن ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا

__________________

(١) المجادلة ، ١٠.

٤٤٨

تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ...) (١).

والنجوى إذا حصلت ابتداء في جمع من الناس ، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم ، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلّا إذا اقتضت الضرورة ذلك ، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

وبديهي أنّ سمعة الإنسان تستلزم ـ أحيانا ـ اتباع أسلوب النجوى ، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية ، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.

والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف ، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحيانا بصورة علنية لأصبح سببا في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين ، وقد يصبح سببا في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.

والحالة الأخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإصلاح بين الناس ، الذي يقتضي أن يكون سريا أحيانا لضمان تحقيقه ، إذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإصلاح ، لذلك يجب أن يتمّ الإصلاح بالتحدث إلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية ، أي بطريق النجوى.

إذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها،وكذلك في حالات مشابهة.

والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى «الصدقة» وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إنّما يدفع زكاة علمه ، ومن يسعى في إصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.

__________________

(١) المجادلة ، ٩.

٤٤٩

وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم» (١).

ونقل عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لأبي أيوب : «ألا أدلك على صدقة يحبّها الله ورسوله تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا» (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٠ ، وفي كتب أخرى للتفسير.

(٢) تفسير القرطبي ، الجزء الثّالث ص ١٩٥٥ في شرح الآية.

٤٥٠

الآية

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

سبب النّزول

لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة : إنّ بشير بن الأبيرق كان قد سرق من أحد المسلمين ، وأتهم إنسانا بريئا بهذه السرقة ، واستطاع بالأجواء المزيفة التي اختلقها أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبرئ نفسه ، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح أمره ، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته ، سار في طريق الكفر وارتد عن الإسلام بصورة علنية رسمية.

فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إشارة إلى هذا الموضوع ، بالإضافة إلى بيانها لحكم إسلامي عام وكلي.

التّفسير

حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ ، فليس أمامه سوى طريقين :

أحدهما : طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إلى أثرها في

٤٥١

غسل الذنوب عن الإنسان.

والطّريق الثّاني : هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد ، وقد أشارت الآية الأخيرة إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق ، حيث أعلنت أنّ من يواجه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له ، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإنّ الله سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق ، وسيرسله الله في يوم القيامة إلى جهنم ، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

ويجب الانتباه إلى أنّ عبارة (يُشاقِقِ) مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكّد جملة (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) هذا المعنى أيضا، وفي الحقيقة فإنّ من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيرا خيرا ممّا ذكرته الآية له ، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة ، فهو في الدنيا ـ كما تقول الآية ـ يستمر منجرفا في الطريق الأعوج الذي اختاره ، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة الحق والصواب ، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه بيده ، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.

وأمّا بالنسبة لقول الآية : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي ، لتمييز الحقّ ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة ، وقد بيّنا تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

وحين تقول الآية : (نُصْلِهِ جَهَنَّمَ) فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

وهناك تفسير آخر حول جملة (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) وهو أن هؤلاء وأمثالهم ، يوكل أمرهم إلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.

٤٥٢

حجية الإجماع :

يعتبر الإجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة ، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري الإسلام حول مسألة فقهية. وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإثبات حجية الإجماع ، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مرّ البحث في تفسيرها ، إذ يعتبرها البعض دليلا على حجية الإجماع لأنّها تقول أنّ من يختار طريقا غير طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة.

وبناء على هذه الآية ، فإنّ أي طريق يختاره المؤمنون ـ في أي مسألة كانت ـ يجب على الجميع السير في هذا الطريق.

والحقيقة أنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإجماع ، لا من قريب ولا من بعيد (وطبيعي إنّنا نقبل حجّية الإجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم ، ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإجماع ، وليس الآية المذكورة).

والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإجماع ، هو أنّها تعين أوّلا:عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النّبي صراحة وعن علم وإدراك ، ويختارون طريقا غير طريق المؤمنين ، فهذان العنصران يشكّلان باتحادهما العلّة لذلك المصير المشؤوم ، مع التأكيد بأن هذا المصير إنّما يتحقق لدى اختيار الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية. وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإجماع ، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.

والأمر الثّاني : هو أنّ المقصود بعبارة (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الواردة في الآية ، هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده ، وهو مبدأ الإسلام ، وليس معناه الفتاوى الفقهية أو الأحكام الفرعية ، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإضافة إلى ما قيل في سبب نزولها.

والحقيقة هي أنّ السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه

٤٥٣

مخالفة للنّبي ، وكلا العنصرين يعودان إلى موضوع واحد.

وينقل أنّه حين كان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في الكوفة ، جاءه جمع من الناس وطلبوا منه أن يعين لهم إماما لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح جماعة ، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلّى هذه الصّلاة جماعة) وما كان من الإمام غير أن يمتنع عمّا طلبوا منه ، ونهى عن إقامة جماعة كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم الصريح الحازم من الإمام علي عليه‌السلام أصرّت على عنادها ، وأخذت بالصراخ والعويل ، داعية الناس إلى الإحتجاج على حكم الإمام.

فجاءت جماعة أخرى إلى الإمام علي عليه‌السلام وأخبرته بما أخذ يفعله أولئك القوم وبعصيانهم لأمره ، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاؤوا ليصلّي بهم تلك الجماعة غير الشرعية (١) ثمّ تلى الإمام هذه الآية الأخيرة ، وفي هذا الخبر دليل آخر على التّفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥١.

٤٥٤

الآية

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦))

التّفسير

الشّرك ذنب لا يغتفر :

تشير هذه الآية مرة أخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنبا لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه ، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر.

ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية ، في نفس سورة النساء في الآية (٤٨) وما إعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إلا دليل على بلاغة القرآن ، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.

والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض ، فما دام المرض لم يهاجم موقعا مهما في جسم الإنسان ولم يشل أحد هذه المواقع ، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن ، ولكن لو هاجم المرض مركزا حساسا في جسم الإنسان ـ مثل الدماغ ـ وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم ، فإنّ أبواب الأمل

٤٥٥

بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.

والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزا حساسا في روح الإنسان ، وينشر الظلمة في نفسه ، وإذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإنسان ، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة ... لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإنسان الآمل في غفران ذنوبه الأخرى ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

وقد قلنا : بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة ، وما ذلك إلّا لتزيل آثار الشرك والوثنية ـ وإلى الأبد ـ من نفوس أولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة ، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.

ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافا طفيفا ، حيث تقول الآية الأخيرة : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) بينما الآية السابقة تقول : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً).

وفي الحقيقة فإنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي ، ومعرفة الله ، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها ، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية،وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية.

ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر إحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الاصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية).

* * *

٤٥٦

الآيات

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))

التّفسير

مكائد الشّيطان :

إنّ الآية الأولى ـ من مجموع الآيات الخمس الأخيرة ـ تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة ، وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم ، إذ يتركون عبادة الله خالق ومنشئ عالم الوجود الوسيع ، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود ، بل هي ـ أحيانا مضللة كالشّيطان : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً).

٤٥٧

وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و «شيطان مريد».

وكلمة «إناث» مشتقة من المصدر «أنث» على وزن «أدب» وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن ، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول : «أنث الحديد» إذا لانّ في النار،وقد سمي جنس المرأة بـ «الإناث» لأنّها أكثر رقّة ولطفا ولينا من الرجل.

لكن بعض المفسّرين يرى هنا ـ أنّ القرآن يشير في هذه الآية إلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنما من هذه الأصنام ووضعت له اسما مؤنثا. فالصنم «اللات» سمّي هكذا ليكون مؤنثا لكلمة لفظ الجلالة «الله» ، أمّا الصنم «عزى» فهو مؤنث كلمة «أعز» وكذلك أصنام أخرى مثل «مناة» و «نائله» وأمثالها.

بينما يرى بعض آخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة «إناث» الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث ، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة ، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان ، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث ، وبعبارة أوضح : أنّها موجودات لا تملك الإرادة والإختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئا أبدا.

أمّا كلمة «مريد» وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر ، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد ، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة ، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.

أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل «مرود» بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.

والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين : بعضها ضعيف

٤٥٨

الإرادة مطلقا ، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر ، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضا من خططه الدنيئة ، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته (لَعَنَهُ اللهُ).

وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله ، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين ، وبديهي أنّ من يكون بعيدا عن رحمة الله كالشيطان ، يكون خاويا من كل خير أو حسن ، ولا يمكنه أن يترك خيرا أو حسنا في حياة غيره ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فهو لن يكون غير نافع فحسب ، بل سيكون ضارا أيضا.

ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضا من خططه :

أوّلها : أن يأخذ من عباد الله نصيبا معينا ، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) فالشيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد الله ، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات ، والذين لا إيمان لهم ، أو ضعاف الإيمان.

والثّانية : خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ).

والثّالثة : اشغلهم بالامنيات العريضة وطول الأمل (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) (١).

أمّا الخطّة الرّابعة : ففيها يدعو الشيطان اتباعه إلى القيام بأعمال خرافية ، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون

__________________

(١) إنّ عبارة «ولامنّينّهم» تعود إلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشيء أو تقييمه ، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ «مني» فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

٤٥٩

المشركون ، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي ، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس : الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان ، هي ما ورد على لسانه في الآية إذ تقول : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ...) وهذه الجملة تشير إلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه ـ النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد،بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى ، ولكن وساوس الشيطان والانجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإنسان عن الطريق المستقيم الصحيح ، وتحرفه إلى الطرق المعوجة الشاذة.

والشاهد على والقول أيضا الآية (٣٠) من سورة الرّوم ، إذ تقول : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

ونقل عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله (١).

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه ، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان،لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس ، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كليا ، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه وليا من دون الله ، فقد ارتكب إثما وذنبا واضحا إذ تقول الآية : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة

__________________

(١) تفسير التبيان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٣٤.

٤٦٠