الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

يعتبرونها أعزّ عليهم من أعينهم ، فيباغتونهم بهجوم خاطف وهم في الصّلاة ويقضون عليهم.

وفي هذه الأثناء نزلت الآية بحكم صلاة الخوف التي تصون المسلمين من كل هجوم خاطف.

وهذه الآية إحدى معاجز القرآن الكريم حيث أخبرت عن وقوع هجوم قبل قيام العدو بتنفيذه وبذلك أفشلت خطة العدو ، ويقال بأنّ خالدا أعلن إسلامه حال مشاهدته لذلك المشهد بعينه.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدى في ساحة الحرب ، فتخاطب الآية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ...) فإذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الأولى من الصّلاة ، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدي الجماعة ـ سريعا ـ الركعة الثّانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو.

وتأتي بعد ذلك الجماعة الثّانية التي لم تصل بعد ، وتأخذ مكان الجماعة الأولى فتصلّي مع النّبي : (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ...) وعلى الجماعة الثّانية أن لا تضع أرضا لامة حربها ، بل تحتفظ بها معها:(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ...)

وتشير الآية إلى أنّ أداء الصّلاة بهذا الأسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم ، لأنّه يتحين الفرص دائما لتنفيذ هذا الهجوم ، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة:(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ...).

٤٢١

ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأخرى صعبا أثناء أداء الصّلاة في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال ، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح أو وسائل الدفاع الأخرى،لذلك تأمر الآية في الختام قائلة : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ).

وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع ، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض ، وذلك لحماية أنفسهم إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول الآية : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ...).

وهنا عدّة ملاحظات جديرة بالانتباه ، هي :

١ ـ واضح أنّ الهدف من وجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين في حال إقامة صلاة الخوف ، لا يعني أنّ هذه الصّلاة لا تقام إلّا بوجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل القصد والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إمام أو قائد يتقدمهم ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب ، ومن هذا المنطلق نرى الإمام علي والإمام الحسين عليهما‌السلام قد أقاما صلاة الخوف ، كما أنّ العديد من قادة الجيوش الإسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإسلامية في ساعات الضرورة (١).

٢ ـ والآية تأمر المجموعة الأولى بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة الخوف ، لكنها تقول للمجموعة الثّانية أن لا تلقي أرضا بوسائلها الدفاعية كالدروع والأسلحة الأخرى.

ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أنّ العدو قد لا يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأولى لصلاتها ، وفي

__________________

(١) كنز العرفان ، الجزء الأوّل ، ص ١٩١.

٤٢٢

هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفا ، أمّا بالنسبة للمجموعة الثانية ـ حين ـ ينتبه العدو لمراسم الصّلاة فيكون هجومه على المسلمين أكثر احتمالا.

٣ ـ إنّ القصد من الاحتفاظ بالمتاع المطلوب من المسلمين في الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأخرى الحربية والشخصية والغذائية والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم ، بالإضافة إلى الدفاع عن أنفسهم.

٤ ـ من الواضح أنّ أداء الصّلاة جماعة ليست واجبة في الإسلام ، لكنّها من المستحبات المؤكدة كثيرا ، وهذه الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإسلام ، بحيث إنّ هذه الصّلاة ـ صلاة الجماعة ـ تقام حتى في ساحة الحرب بالاستفادة من أسلوب وطريقة صلاة الخوف ، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصّلاة نفسها بالإضافة إلى أهمية إقامتها جماعة.

ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين من زاوية التنسيق في الهدف ، كما أنّ لها تأثير على العدو ـ أيضا ـ حين يرى أنّ المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.

كيفية صلاة الخوف :

لا يبدو في الآية ـ موضوع البحث ـ التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة الخوف. وهذا هو أسلوب القرآن إذ يبيّن كليات الحكم ، ويترك شرح الأحكام إلى السنّة الشريفة.

وطريقة أداء صلاة الخوف ـ كما توضحها السنّة ـ هي أن تتحول الصّلاة الرباعية إلى صلاة ثنائية ، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مثلا التي هي أربع

٤٢٣

ركعات في كل منهما إلى صلاة بركعتين ، فتصلي المجموعة الأولى ركعة واحدة مع الإمام ، ثمّ يتوقف الإمام بعد أداء الركعة الأولى فتؤدي المجموعة الأولى الركعة الثانية فرادى ، ثمّ تعود إلى جبهة القتال ، فتأتي المجموعة الثانية لتأخذ مكان المجموعة الأولى خلف الإمام ، فتؤدي الركعة الأولى جماعة مع الإمام وتؤدي الركعة الثّانية فرادى (وقد وردت طرق أخرى لأداء صلاة الخوف ، ولكن أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا).

* * *

٤٢٤

الآية

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

التّفسير

أهمية فريضة الصّلاة :

بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف ، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في جبهات الحرب ، تحث الآية (١٠٣) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصّلاة ، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر ، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين ، يحتمل أن يكون في فترات الاستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة الحرب ، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال ، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلا. (١)

__________________

(١) «قيام» تارة يأتي بمعناه المصدري ، (ويعني به حالة القيام ، وتارة يأتي للجمع أي «قائمين» ـ و «قعود» كذلك أيضا ، فيأتي بمعنى حالة القعود والجلوس ، ويأتي بمعنى «قاعدين» للجمع. وفي الآية أعلاه يحتمل كلا الأمرين.

٤٢٥

إنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إلى أمر إسلامي مهم ، يدل على أنّ أداء الصّلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر الله في الحالات الأخرى ، فالصّلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إلى الله لدى الفرد ، فيستطيع في أوقات أخرى غير وقت الصّلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه ، سواء كان في ساحة القتال أو في مكان آخر.

وقد فسّرت هذه الآية في روايات عديدة على أنّها تبيّن كيفية أداء الصّلاة بالنسبة للمرضى ، أي أنّهم إذا استطاعوا فليؤدوا الصّلاة قياما ، وإن لم يقدروا على ذلك فقعودا، وإذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم.

وهذا التّفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية ، ولو أنّها لا تخص هذا المجال (١).

وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة الخوف هم حكم استثنائي طارىء ، وعلى المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ...).

وتوضح الآية في النهاية سر التأكيد على الصّلاة بقولها إن الصّلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير : (... إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً).

إنّ عبارة «موقوت» من المصدر «وقت» ، وعلى هذا الأساس فإن الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية ، لأنّ للصّلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها (٢).

ولكن الروايات العديدة التي وردت في شرح هذه الآية تبيّن أنّ عبارة

__________________

(١) للاطلاع أكثر عن الأحاديث التي وردت في هذا المجال راجع كتاب نور الثقلين الجزء الأوّل ، ص ٥٤٥.

(٢) ويؤيد كتاب كنز العرفان ، في الجزء الأوّل ، ص ٥٩ ، هذا المعنى ، كما جاء في تفسير التبيان وفي مجمع البيان أيضا ذكر هذا الأمر.

٤٢٦

«موقوتا» تعني «ثابتا» و «واجبا» ممّا لا ينافي مفهوم الآية أيضا ، والنتيجة هي أنّهما قريبين من المعنى الأوّل.

سؤال :

يقول البعض : إنّهم لا ينكرون فلسفة واهمية الصّلاة وآثارها التربوية ، ولكنهم يسألون عن ضرورة إقامتها في أوقات محددة ، ويرون أن الأحسن أن يترك الناس أحرارا لكي يؤدي كل منهم الصّلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى ما وجد استعدادا روحيا لأداء هذه الفريضة؟

الجواب :

إنّ التّجربة قد أثبت أنّ القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة ، فإن العديد من الناس سيتجاهلون ويتركون هذه القضايا ، وسيؤدي هذا التجاهل إلى أن تتزلزل أركانها،لذلك فإن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصّة ويخصص لأدائها أوقات محددة ، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو تجاهل تلك الأوقات ، خاصّة وإنّ أداء فريضة كالصّلاة وفي وقت معين وبصورة جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه ، والصّلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإنسان وتكوين شخصيته الإنسانية.

* * *

٤٢٧

الآية

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

سبب النّزول

قرع السّلاح بسلاح يشابهه :

روي عن ابن عباس ومفسّرين آخرين أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد الأحداث الأليمة لواقعة أحد ـ صعد إلى جبل أحد وكان على الجبل أبو سفيان ، فخاطب النّبي بلهجة الفاتح بقوله: «يا محمّد يوم بيوم بدر!» وعنى أبو سفيان بذلك أن انتصارهم في أحد كان مقابل هزيمتهم في واقعة بدر.

فطلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين أن يردوا عليه فورا ، ولعل النّبي أراد أن يثبت لأبي سفيان إنّ من تربوا في ظل الرسالة الإسلامية يتمتعون بكامل الوعي ، فرد المسلمون على أبي سفيان : هيهات أن يستوي الوضع بين المؤمنين والمشركين ، فشهداء المؤمنين في الجنّة وقتلى المشركين في النّار.

فأجاب أبو سفيان ـ صارخا ومفتخرا ـ بالعبارة التالية :

«لنا العزّى ولا عزّى لكم» فردّ عليه المسلمون :

٤٢٨

«الله مولانا ولا مولى لكم» ولما عجز أبو سفيان عن الردّ على هذا الجواب والشعار الإسلامي الحي تخلى عن صنمه «العزى» وعرج على صنم آخر هو «هبل» متوسلا إليه بقوله : «أعل هبل ، أعل هبل» فردّ عليه المسلمون بجواب قوي علّمهم إياه نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو : «الله أعلى وأجل».

فما أعيت أبا سفيان الحيلة ولم تجده شعاراته الوثنية نفعا قال صارخا : «موعدنا في أرض بدر الصغرى».

عاد المسلمون من ساحة القتال مثخنين بالجراح ، وحين كان يعتصرهم الألم من أحداث أحد ، نزلت الآية المذكورة أعلاه محذرة المسلمين من الغفلة عن المشركين مطالبة إياهم بملاحقة قوى الشرك دون كلل أو ملل ، وأن لا يتأثروا بحوادث مؤلمة كحادثة أحد،فهب المسلمون وهم في تلك الحالة لملاحقة العدو ، فما أن سمع المشركون بعزم المسلمين حتى أسرعوا الخطى مبتعدين عن المدينة وعادوا إلى مكّة (١).

إنّ سبب النّزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو ، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو ، سواء الأسلوب القتالي أو النفسي بأسلوب إسلامي أقوى ، وأعنف من أسلوب العدو ، وأن يواجهوا منطق الأعداء بمنطق أقوى وأشد ، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى ، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة ، وبغير ذلك فإنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

ومن هذا المنطلق ، فإنّنا نحن المسلمين ـ بدلا من أن نجلس ونذرف الدموع على ما مر ويمر علينا من أحداث مؤلمة مريرة ، وما تشهده مجتمعاتنا من مفاسد رهيبة تحيط بهذه المجتمعات من كل جانب ، علينا أن نبادر بصورة فعالة إلى

__________________

(١) تفسير التبيان الجزء الثّالث ، ص ٣١٤ ، تفسير مجمع البيان ، الجزء الثّالث ، ص ١٠٥.

٤٢٩

العمل ، فنواجه العدوان المكتوب بكتابات تدحضه وتقمعه ، ونواجه الإعلام الضال المسموم المضلل بأسلوب إعلامي يحبطه ويقضي على أمره ، ونقابل مراكز اللهو الخليع ببناء مراكز للهو البريء السليم لشبابنا وأبنائنا ، ونقرع الأفكار والأطروحات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالفكر الإسلامي الجامع بأسلوب عصري يفهمه الجميع.

وإذا استطعنا أن نواجه أعداءنا بهذه الصورة فقد أفلحنا في الحفاظ على كياننا الإسلامي ، وفي أن نبرز للعالم بشكل مجتمع تقدمي أصيل.

التّفسير

أعقبت الآية ـ موضوع البحث هذه ـ الآيات السابقة التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود بأسلوب دفاعي ، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائما ، لأنّ هذا الأسلوب الأخير له أثر قامع للعدو ومؤكد على معنوياته.

وقد جرّب المسلمون هذا الأمر في مواجهتهم للعدو بعد واقعة أحد التي هزموا فيها،فارغموا العدو على الفرار مع أنّه كان لم يزل يتلذذ بطعم الإنتصار الذي أحرزه في أحد. إذ لما علم المشركون بقدوم المسلمين خافوا من العودة إلى ساحة القتال ، وأسرعوا مبتعدين عن المدينة.

بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به ، فتسأل المسلمين لما ذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر ، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة ، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك ، حيث تقول الآية : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ ...).

٤٣٠

وفي الختام ـ ومن أجل إعادة التأكيد ـ تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم الله بجميع الأمور ، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم،ويعلم أنّهم أحيانا يصابون بالتهاون والفتور ، فتقول الآية : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

* * *

٤٣١

الآيتان

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))

سبب النّزول

لقد نقلوا واقعة مفصلة عن سبب نزول الآيتين المذكورتين ، خلاصتها أنّ في قبيلة بني الأبيرق المعروفة نسبيا كان ثلاثة أشقاء هم «بشر» و «بشير» و «مبشر» سطا أحدهم وهو «بشير» على دار أحد المسلمين ويدعى «رفاعة» فسرق سيفه ودرعه وكمية من الغذاء،وكان ابن أخيه ويدعى «قتادة» من مجاهدي بدر فأخبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالواقعة.

ولكن الأشقاء الثّلاثة اتهموا شخصا من المسلمين اسمه «لبيد» الذي كان يسكن في دار واحد معهم ، فتألم لبيد ألما شديدا من هذه التهمة الباطلة واستل سيفه وتوجه إلى الأشقاء الثلاثة صارخا في وجوههم قائلا : «ا تتهمونني أنا بالسّرقة وأنتم أجدر بهذا العمل؟فأنتم هم أولئك المنافقون الذين كنتم تهجون النّبي وتنسبون أبيات الهجو إلى قريش،فأمّا أن تثبتوا ما تنسبونه لي من تهمة ، أو أن أهوى بسيفي على رؤسكم».

٤٣٢

فلمّا رأى أخوة السارق ذلك حاولوا استرضاء «لبيد» ولكنّهم لمّا علموا أنّ القضية قد وصلت إلى أسماع النّبي بواسطة «قتادة» لجؤوا إلى أحد متكلمي قبيلتهم فطلبوا منه أن يذهب مع جمع من الناس إلى النّبي ويتظاهر بأنّ الحق إلى جانبهم ليبرئ السارق ويتهم «قتادة» بتلفيق التهمة على شقيقهم ، وقد قبل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استنادا إلى واجب العمل بظاهر الأمور ـ شهادة تلك المجموعة وأنّب «قتادة» على عمله.

وقد تألم «قتادة» الذي كان يعرف نفسه برئيا ... تألم من هذه الواقعة وعاد إلى عمّه وأخبره بالحادث مظهرا أسفه الكبير لما حصل ، فخفف عليه عمّه وقال «لا تحزن يا قتادة إن الله في عوننا» فنزلت الآيتان المذكورتان لتعلنا براءة الرجل ، وتؤنبا مرتكبي الخيانة الحقيقيين.

ونقلوا ـ أيضا ـ واقعة أخرى في سبب نزول الآيتين ، وهي أن درعا لأحد الأنصار كانت قد سرقت في إحدى الحروب ، وكان الشك يدور على شخص من قبيلة «الأبيرق» في سرقة ذلك الدرع ، ولما علم السارق بأنّ الشكوك بدأت تدور حوله رمى بالدرع في دار أحد اليهود ، وطلب من قبيلته أن يشهدوا ببراءته أمام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستدلوا بذلك على وجود الدرع في دار اليهودي ، ولمّا رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر بتلك الصورة برأ هذا السارق بحسب ظاهر الشهادة التي جاءت لصالحه وأدين الرجل اليهودي بسرقة الدرع ، فنزلت الآيتان المذكورتان لتوضحا الحقيقة.

التّفسير

منع الدّفاع عن الخائنين :

يعرف الله سبحانه وتعالى ـ في بداية الآية (١٠٥) من سورة النساء ـ نبيّه محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادئ الحق

٤٣٣

والعدالة بين الناس ، إذ تقول الآية : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ...).

ثمّ يحذّر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حماية الخائنين أبدا بقوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

ومع أنّ الآية خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين ، وبهذا الدليل فإنّ مثل هذا الخطاب ليس المفهوم منه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبدر منه مثل هذه الأعمال ، لأن الحكم المذكور يشمل جميع الأفراد.

أمّا الآية الأخرى فهي تأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى ، إذ تقول : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وحول سبب الاستغفار المطلوب في هذه الآية توجد احتمالات عديدة ، هي :

الأوّل : إنّ الاستغفار هو لترك الأولى الذي حصل بسبب الاستعجال في الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان ، أي مع أنّ ذلك القدر من الاعتراف ، وشهادة الطرفين كان كافيا لإصدار الحكم من قبل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه كان الأحرى أن يجري تحقيق أكثر في ذلك المجال.

والثّاني : هو أنّ النّبي قد حكم في تلك القضية وفقا لقوانين القضاء الإسلامي ، وبما أنّ الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى ، لذلك أعطى الحق لهم ، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إلى صاحبه يأتي الأمر بطلب المغفرة من الله ، ليس لذنب مرتكب ، بل لتعرض حق فرد مسلم إلى خطر الزوال بسبب خيانة البعض من الأشخاص (أي أن الاستغفار بحسب الاصطلاح ـ لأجل الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري).

وقد احتمل البعض أن يكون الاستغفار مطلوبا من طرفي الدعوى اللذين

٤٣٤

ظهر منهما الخلاف في عرض ومتابعة دعواهما.

وفي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من بعض ، فأقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعة من نار» (١).

يتبيّن لنا من هذا الحديث أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّف بالحكم وفقا لظاهر القضية واستنادا إلى أدلة طرفي الدعوى ، وبديهي أن الحق في مثل هذه الحالة يصل إلى صاحبه،ويحتمل أحيانا أن لا ينطبق ظاهر الدليل وشهادة الشهود مع الحقيقة ، فيجب الانتباه هنا إلى أنّ حكم الحاكم لا يغير من الحقيقة شيئا فلا يصبح الحق باطلا ولا الباطل حقا.

* * *

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء الخامس ، ص ٣٩٤ ، نقلا عن صحيحي مسلم والبخاري.

٤٣٥

الآيات

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))

التّفسير

بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدّفاع عن الخائنين ، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين ، بالأخص أولئك الذين يخونون أنفسهم.

ويجب الانتباه هنا إلى أن الآية (١٠٧) تشير إلى الذين يخونون أنفسهم ، بينما الذي عرفنا من سبب نزول الآيات السابقة ، هو أنّها نزلت في شأن الذين يخونون الغير ، وفي هذا إشارة إلى ذلك المعنى الدقيق الذي ينبه إليه القرآن في العديد من الآيات ، وهو أن أي عمل يصدر عن الإنسان يتأثر بنتيجته ـ سواء كانت حسنة أو سيئة ـ الإنسان ذاته قبل غيره،كما جاء في الآية (٧) من سورة

٤٣٦

الإسراء ، إذ تقول (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

أو أنّ الآية المذكورة تشير إلى موضوع آخر أكّد عليه القرآن أيضا ، وهو أن جميع أفراد البشر هم جميعا كأعضاء جسد واحد ، فإذا أضر أحدهم بغيره فكأنما أضرّ بنفسه ، أي يكون بالضبط كالذي يصنع نفسه بنفسه.

والأمر الآخر في الآية أنّها لا تخص الذين يرتكبون الخيانة لمرّة واحدة ثمّ يندمون على ما فعلوا ، حيث لا ضرورة لاستعمال العنف والشدة مع هؤلاء ، بل هم بحاجة إلى الرأفة أكثر ، والشدّة يجب أن تطبق على أولئك الذين يحترفون الخيانة وتكون جزءا من حياتهم.

ويدل على هذه القرينة الواردة في الآية من خلال عبارة (يَخْتانُونَ) التي هي فعل مضارع يدل على الاستمرارية ، بالإضافة إلى القرينة الأخرى التي تفهم من عبارتي (خَوَّاناً) أي كثير الخيانة و (أَثِيماً) أي كثير الذّنب ، والكلمة الأخيرة جاءت لتأكيد عبارة «خوان» في الآية ، كما أنّ الآية السابقة جاءت بكلمة «خائن» التي هي اسم فاعل والتي لها معنى وصفي يدل على تكرار الفعل.

لقد تعرض الخائنون في الآية الأخرى إلى التوبيخ ، حيث قالت أن هؤلاء يستحيون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس ، لكنهم لا يستحيون لذلك من الله سبحانه وتعالى ، إذ تقول الآية : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ ...) فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل ، والتحدث بما لا يرضى الله الذي يراهم ويراقب أعمالهم ، أينما كانوا : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً).

بعد ذلك تتوجه الآية (١٠٩) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه ، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة ، أن من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلا ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي

٤٣٧

(الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً). ولذلك فإنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلا القليل ، لأنّهم سوف لا يجدون أبدا من يدافع عنهم أمام الله في الحياة الآخرة الخالدة.

والحقيقة هي أنّ الآيات الثلاث الأخيرة تحمل في البداية إرشادات إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى كل قاض يريد أن يحكم بالحق ، بأن ينتبهوا حتى يفوتوا الفرصة على أولئك الذين يريدون انتهاك حقوق الآخرين ، عبّر وسائل مصطنعة وشهود مزورين.

بعد ذلك تحذر الآية الخائنين ومن يدافع عنهم ، بأن ينتظروا عواقب سيئة لأعمالهم في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضا.

وفي تلك الآيات سر من أسرار البلاغة القرآنية ، حيث أنّها أحاطت جميع جوانب القضية وأعطت الإرشادات والتحذيرات اللازمة في كل مورد ، مع أنّ موضوع القضية يبدو موضوعا صغيرا بحسب الظاهر ، إذ يدور حول درع مسروقة أو مواد غذائية أو يهودي من أعداء الإسلام.

وقد تناولت الآية ـ أيضا ـ الإشارة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يعتبر إنسانا معصوما عن الخطأ ، كما أشارت إلى الأفراد الذين يحترفون الخيانة ، أو الذين يدافعون عن الخائنين اندفاعا وراء عصبيات قبلية ، إشارات تتناسب ومنزلة الأشخاص المشار إليهم في الآيات المذكورة.

* * *

٤٣٨

الآيات

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢))

التّفسير

لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث ، ثلاثة أحكام كلية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إلى مسائل خاصّة بالخيانة والتهمة.

١ ـ لقد وردت في الآية (١١٠) من الآيات الثلاث أعلاه الإشارة أوّلا إلى هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال ، فإذا ارتكب أحد ظلما بحقّ نفسه أو غيره ، وندم حقيقة على فعلته ، أو استغفر الله لذنبه ، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفورا رحيما ، حيث تقول الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

٢ ـ يجب الانتباه إلى أنّ الآية الأولى تشير إلى نوعين من الذنوب ، حيث جاءت فيها كلمة «سوء» وكلمة «الظلم» للنفس ، ولدى النظر إلى قرينة المقابلة ، وكذلك الأصل اللغوي لعبارة «سوء» التي تعني هنا الإضرار بالغير ، يفهم من الآية

٤٣٩

أنّ أي نوع من الذنوب ـ سواء كانت من نوع الإضرار بالغير ، أو الإضرار بالنفس قابلة للغفران إذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إلى التكفير عنها.

ويفهم ـ أيضا ـ من العبارة القرآنية : (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) إنّ التوبة الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه ، فمن ناحية فإنّ تأنيب الضمير الذي يخلقه ارتكاب الذّنب يزول عن المذنب التائب نظرا للغفران الذي يناله من الله الغفور ، ومن جانب آخر يحسّ الإنسان التائب بالقرب إلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب الذنب الذي ارتكبه.

٣ ـ إنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة ، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة إجمالية في الآيات السابقة ، حيث تؤكّد أنّ أي ذنب يقترفه الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه ، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه ، إذ تقول الآية : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ...)

وفي آخر الآية تأكيد على أنّ الله عالم بأعمال العباد ، وهو حكيم يجازي كل إنسان بما يستحقه : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

وبالصورة المارة الذكر فإنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر ، فإنّ اضرارها ستلحق أحيانا بالغير وتلحق أحيانا أخرى بمرتكبها ، ولكن بالتحليل النهائي ، فإنّ الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه ، وإن الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب.

٤ ـ أمّا الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة ، فهي تشير إلى خطورة خطيئة اتهام الناس الأبرياء ، إذ تقول : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

وقد قسمت هذه الآية الذنب الذي يرتكبه شخص وينسبها زورا إلى غيره ، إلى قسمين : سمت الأوّل بالخطيئة ، والثّاني بالإثم.

٤٤٠