الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

ومراكز رماحها» (١).

ويقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناسبة أخرى : «اغزوا تورثوا أبناءكم مجدا» (٢).

أمّاأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فهو يقول في مستهل خطبته عن الجهاد «... فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى،ودرع الله الحصينة ، وجنّته الوثيقة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثواب الذّل وشملة البلاء ، وديث بالصغار والقماء ...» (٣).

ويجب الالتفات إلى أنّ الجهاد لا يقتصر معناه على الحرب أو القتال المسلح ، بل هو أيضا كل سعي حثيث وجهد جهيد يبذل من أجل التقدم نحو تحقيق الأهداف المقدسة ـ الإلهية ـ ومن هذا المنطلق فإنّه بالإضافة إلى الحروب الدفاعية أو الهجومية ـ أحيانا ـ فإنّ الكفاح العلمي والمنطقي والاقتصادي والثقافي والسياسي يعتبر نوعا من الجهاد.

* * *

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الجهاد ، ج ١ ، ص ٢ و ١٦.

(٢) الوسائل ، كتاب الجهاد ، ج ١ ، ص ٢ و ١٦.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

٤٠١

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

سبب النّزول

لقد أنذر رؤساء قريش قبل بدء غزوة بدر جميع الأفراد من أهالي مكّة الذين يستطيعون حمل السلاح ، أنّ عليهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين ، محذرين بأن من يخالف هذا الأمر ستهدم داره وتصادر أمواله ، وقد أدى هذا التهديد بنفر من الذين كانوا قد أسلموا في الظاهر ، ولكنّهم كانوا قد رفضوا الهجرة لشدة حبهم لموطنهم ولأموالهم ... أدى بهؤلاء إلى أن يرغموا على مشاركة الوثنيين في التحرك إلى ساحة الحرب ، وراودهم الشك في انتصار المسلمين لقلّة عددهم ، فكان أن قتلوا وهم إلى جانب المشركين.

فنزلت الآيات المذكورة وحدثت عن المصير الأسود الذي لاقاه هؤلاء بسبب إصرارهم على البقاء في موطن الشرك.

٤٠٢

التّفسير

تعقيبا للبحوث الخاصّة بالجهاد ، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إلى المصير الأسود الذي كان من نصيب أولئك الذين ادعوا الإسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإسلام في الهجرة ، فانحرفوا إلى مزالق رهيبة ، فكانت نتيجة انحرافهم أن أصابهم القتل وهم في صفوف المشركين.

فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقا من المسلمين ، فلما ذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ...) فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأن ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإلهي (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ).

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم ، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين : لما ذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم ، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض الله الواسعة ، (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).

وفي النهاية تشير الآية إلى مصير هؤلاء فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية ، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإن مكان هؤلاء سيكون في جهنم ، وإن نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً).

أمّا الآية الاخرى من الآيات الثلاث المذكورة ، فهي تستثني المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين ، فتقول : إنّ أولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجا للهجرة ، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من

٤٠٣

محيطهم الملوث ، فهم مستثنون من حكم العذاب ، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة ، وإنّ الله لا يكلف نفسا ما لا تطيق ، (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

والآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن احتمال أن يشمل الله بعفوه هؤلاء، إذ تقول : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

وقد يرد هنا سؤال وهو : لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا في الحقيقة معذورين ، فلما ذا لا تعدهم الآية بعفو إلهي حتمي ، بل تبين احتمال أن يشملهم هذا العفو إذ تأتي الآية بعبارة «عسى» لتأكيد احتمالية الأمر؟

وجواب هذا السؤال هو نفس الجواب الذي ذكرناه في ذيل الآية (٨٤) من سورة النساء والذي بيّنا من خلاله أن القصد من استخدام مثل هذه العبارات هو أن الحكم الوارد في الآية مقيد بشروط خاصّة يجب الالتفات إليها ، وهنا يكون الشرط هو أن يتبادر هؤلاء المستضعفون حقيقة إلى الهجرة ـ دون تردد ـ حتى ما سنحت لهم فرصة ذلك دون أن يقصروا في هذا الأمر فعند ذلك يشملهم العفو الإلهي.

نقاط يجب الالتفات إليها :

١ ـ استقلال الرّوح

إن الإتيان بكلمة توفى في الآية الشريفة المارة الذكر بدلا من ذكر كلمة «الموت» إنّما هو في الحقيقة إشارة إلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام ، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإنسان ، أي أن الملائكة يقبضون من الإنسان روحه التي هي جوهر وجوده ، فتؤخذ هذه الروح إلى العالم الآخر ، وإنّ الإتيان بمثل هذه العبارة بصورة متكررة في القرآن الكريم ، يعتبر من أوضح الأدلة القرآنية على قضية وجود الروح وبقائها بعد الموت ، حيث سنتطرق إلى ذلك لدى تفسير

٤٠٤

الآية الخاصّة بالروح.

وإن هذا هو جواب أولئك الذين يزعمون أنّ القرآن لم يشر مطلقا إلى قضية الروح(١).

٢ ـ ملك الموت أم ملائكة الموت

لدى البحث في موارد متعددة من القرآن الكريم (أي حوالي ١٢ موردا) والتي وردت فيها عبارة «توفى» وهي تتحدث عن الموت ، نستنتج أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون وليس ملكا واحدا ، وهؤلاء الملائكة هم المكلّفون بنقل أرواح بني آدم من هذه الدنيا إلى العالم الآخر ، ففي الآية المارة الذكر ورد اسم الملائكة بصيغة الجمع ، وهذا هو أحد الأدلة على أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون فنحن.

نقرأ في الآية (٦١) من سورة الأنعام قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ...).

وهناك من الآيات ما ينسب قبض الروح إلى ملك الموت (٢) ، وهذا الملك هو كبير ملائكة قبض الروح الذي ذكر في الأحاديث باسم «عزرائيل».

ويتّضح لنا ممّا سبق جواب من يسأل عن كيفية قيام ملك واحد بقبض أرواح أناس عديدين في آن واحد وفي مناطق مختلفة.

ومع ذلك فإننا لو افترضنا أنّ هناك ملك واحد فقط لقبض الأرواح لا العديد من الملائكة ، فعند هذا الفرض لا يرد أيضا أي معضل ، والسبب هو أنّ التجرّد الوجودي لهذا الملك يقتضى أن تكون دائرة عمله ونفوذه وسيعة مترامية الأطراف بشكل خارق للعادة، لأن أي وجود مجرّد عن المادة يمكن أن تكون إحاطته واسعة بما يخص عالم المادة ـ وقد نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ

__________________

(١) لمعرفة معنى «توفى» من الناحية اللغوية يرجى مراجعة الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.

(٢) سورة السجدة.

٤٠٥

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سأل ملك الموت عن كيفية إحاطته بما في العالم ، أجابه هذا الملك : «ما الدنيا عندي كلها فيما سخرها الله لي ومكنني عليها إلّا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء» (١).

ولكننا نرى في بعض الآيات أن قبض الروح ينسب إلى الله عزوجل : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢) ، وهذا لا يتناقض مع الآيات السابقة ، لأن في كثير من الحالات حين يتمّ عمل بوسيلة معينة ، ينسب فعل هذا العمل تارة للوسيلة ذاتها ، وأخرى للذي أوجد وصنع هذه الوسيلة ، وكلا النسبتين صحيحتان.

والطريف أنّ القرآن قد نسب فعل الكثير من أحداث العالم إلى الملائكة الذين هم مكلفون من قبل الله سبحانه وتعالى ، ونحن نعلم أن لعبارة «ملائكة» أو «ملك» معاني واسعة تدور بين معنى «الموجودات المجرّدة العاقلة» إلى معنى «الطاقات والقوى الطبيعية».

٣ ـ من هو المستضعف؟

لدى البحث في الآيات القرآنية والأحاديث والروايات يستنتج أن المستضعف هو ذلك الشخص الذي يعاني من ضعف فكري أو بدني أو اقتصادي يمنعه من التعرف على الحق والباطل ، أو أنه ذلك الذي يستطيع التعرف على العقيدة الصادقة الحقة ، إلّا أنّه ولمعاناته من عجز جسماني أو مالي أو قيود يفرضها عليه المحيط الذي يعيش فيه ، يعجز عن أداء واجباته التي كلّف بها بصورة كاملة ، كما يعجز عن القيام بالهجرة.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه قال : «ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه» (٣).

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الثاني ، ص ٣٩١ ، هامش الآية الأولى من سورة الإسراء.

(٢) من سورة الزمر الآية ٤٢.

(٣) نور الثقلين ، الجزء الأول ، ص ٥٣٦.

٤٠٦

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام أنه حين سئل : أي قوم يقال لهم المستضعفون؟فأجاب عليه‌السلام كتابة : «الضعيف من لم ترفع له حجة ، ولم يعرف الاختلاف،فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف» (١).

وواضح من الروايات المذكورة أنّ المستضعف هو ذلك الذي يعاني من ضعف فكري عقائدي ، إلّا أنّ الآية موضوع البحث والآية (٧٥) من نفس هذه السورة التي سبق وأن تحدثنا فيها تدلان على أنّ المستضعف هو ذلك الذي استضعف عمليا ، فهو يعرف الحق ويميزه ، ولكن الكبت الذي يعاني منه في المحيط الذي يعيش فيه لا يسمح له بالعمل بالحق الذي عرفه.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء الأول ، ص ٥٣٩.

٤٠٧

الآية

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

التّفسير

الهجرة حكم اسلامي بنّاء :

بعد أنّ بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذّل والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة ، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمية الهجرة في قسمين :

في القسم الأوّل : تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا ، فتقول إن الذي يهاجر في سبيل الله إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة ، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها ، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ...).

ويجب الالتفات إلى أن عبارة «مراغم» مشتقة من المصدر «رغام» على وزن «كلام» والذي يعني التراب ، والإرغام معناه التمريغ في التراب والإذلال

٤٠٨

و «مراغم» صيغة لاسم المفعول واسم مكان أيضا.

وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك ، أي أنّها المكان الذي يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به ، كما يمكن فيه إدانة المعارضين للحق وتمريغ أنفهم بالتراب.

بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إلى الجانب المعنوي الأخروي للهجرة:(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، وعلى هذا الأساس فإن المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير ، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم ، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق ، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين أجرهم من الله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّ الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر بقولها : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ...) وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب والأجر الذي يناله المهاجرون.

الإسلام والهجرة :

إنّ الإسلام ـ استنادا إلى هذه الآية وآيات كثيرة أخرى ـ يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه ـ لأسباب خاصّة ـ من عدم التمكن من أداء واجباتهم إلى محيط ومنطقة آمنة ، وسبب هذا الأمر واضح ، لأنّ الإسلام لا يحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص ، ولهذا فإن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الاخرى لا تقف في نظر الإسلام حائلا دون هجرة المسلمين.

ولذلك نرى انفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإسلام ومن أجل حماية الإسلام وتقدمه ، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين : إنّ

٤٠٩

القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء ، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إليها ، إلّا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته ، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه (فقد فصم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علاقته بقريش في سبيل الإسلام) (١).

علاوة على ما ذكر فإن من بين جميع الموجودات الحيّة ، حين تتعرض حياة أي واحدا أو مجموعة منها إلى الخطر ، نراها تضطر إلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إلى مأوى وملجأ أمن آخر ، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إلى الهجرة من مكان ولادتهم ـ بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه ـ إلى نقاط أخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة ، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة ، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة ، مثل الطيور التي تضطر أحيانا إلى الدوران حول الأرض تقريبا من أجل إيجاد مأوى تواصل فيه حياتها ، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي ، وأحيانا تقطع مسافة حوالي (١٨) ألف كيلومتر للوصول الى المكان الذي تريد العيش فيه.

وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإنسان أقل حظا من الحيوان في هذا المجال؟

وحين تتعرض ، حياته المعنوية ، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إلى الخطر ، فهل يستطيع هذا الإنسان البقاء في مكان الخطر متشبثا بالأرض والمولد وغير ذلك متحملا ألوان الذل والإهانة والحرمان وسلب الحريات ، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟! أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة ، ويترك ذلك المكان ، ويختار مكانا آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟

__________________

(١) محمّد خاتم الأنبياء ، الجزء الأول.

٤١٠

الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة ـ أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإسلامية ـ تعتبر مبدأ ـ أو بداية ـ التاريخ الإسلامي ، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والاجتماعية للمسلمين.

فلننظر لما ذا انتخبت هجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبدأ ـ أو بداية ـ للتاريخ الإسلامي؟

إنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة ، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها ، فالمسيحيون مثلا اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى عليه‌السلام ، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة ، مثل يوم ولادة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة،وفتح مكّة ، ووفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم ، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإسلامي.

إنّ التاريخ يقول أنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإسلامية ـ وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر ، اختاروا رأي علي بن أبي طالب عليه‌السلام باتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإسلامي (١).

والحقيقة أنّ هذا الإختيار كان هو المتعيّن ، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإسلام ، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإسلامي،فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ، الجزء الثاني ، ص ١١٢ ، ويجب التنبيه إلى وجود رسائل من أيّام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مذيلة بالتاريخ الهجري. راجع كتاب (مكاتيب الرّسول) للأحمدي.

٤١١

الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة ـ على ما يبدو ـ أي قدرة سياسية واجتماعية ، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة ـ في كل المجالات ـ ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة ، لما تيسر عند ذلك للإسلام أن يمتد خارج حدود مكّة ، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإسلام في مكّة ويمحى أثره.

ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكما خاصا بزمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ترك مكّة والهجرة إلى المدينة.

والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهرا لوجود الحرية والرفاه ، وقد أشارت الآية ـ موضوع البحث ـ إلى هذا الأمر ، كما أن الآية (٤١) من سورة النحل تشير من جانب آخر إلى هذه الحقيقة ، إذ تقول : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً).

وتجدر الإشارة ـ أيضا ـ إلى هذه النقطة ، وهي أنّ الهجرة في نظر الإسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية ، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه ، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإنسانية ، لكي يتيسر له بهذا السبيل إلى الهجرة المكانية ـ إذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإنسان المسلم هجرته الخارجية ـ وإذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إلى الهجرة الخارجية ، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.

والإساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إلى «النور» ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الخطأ والعصيان إلى إطاعة حكم الله ، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم ، ليسوا في درجة المهاجرين ، وعلى عكس هؤلاء فإنّ من تتحقق لديه

٤١٢

الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقا.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قوله : «ويقول الرجل هاجرت ، ولم يهاجر ، إنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها».

وعن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإبراهيم عليهما‌السلام» (١). لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء الأول ، ص ٥٤١.

٤١٣

الآية

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

التّفسير

صلاة المسافر :

بعد الآيات التي تحدثت سابقا عن الجهاد والهجرة ، تتطرق الآية (١٠١) من سورة النساء ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ إلى صلاة المسافر ، فتبيّن أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السّفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السّفر بالضرب في الأرض ، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السّفر (١).

ويرد هنا سؤال : وهو أن الآية هذه قد جعلت الخوف من العدو شرطا لقصر الصّلاة ، بينما نقرأ في البحوث الفقهية أنّ حكم صلاة القصر يعتبر حكما عاما يشمل جميع أنواع السّفر ، سواء كان فيه الخوف من الأعداء أو كان سفرا آمنا لا خوف فيه ، وقد وردت روايات عديدة عن طرق الشيعة والسنة في مجال صلاة

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة «ضرب».

٤١٤

القصر تؤيد كلّها شمولية حكم صلاة القصر لكل أنواع السّفر المباح (١).

وفي جواب هذا السؤال يجب القول : بأنّ تقييد حكم القصر في صلاة بالخوف قد يكون سببه واحدا من الموارد التالية :

أ ـ إنّ القيد جاء بسبب وضع المسلمين في بداية العصر الإسلامي ، ويصطلح على هذا القيد بـ «القيد الغالب» أي أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمن كانت مشوبة بالخوف ، وجاء في علم الأصول أنّ القيود الغالبة لا مفهوم لها مستدلا بآية (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) (٢) أي بنات نسائكم اللواتي تربونهنّ وهنّ من أزواج سابقين وهنّ حرام عليكم.

حيث نواجه في هذه الآية نفس مسألة «القيد الغالب» لأن بنات الزوجة يعتبرن محارم للزوج ـ سواء تربين في حجره أم لم يتربين لديه ـ ولكن بما أنّ أغلب النساء المطلقات اللواتي يتزوجن مرّة أخرى هنّ نساء شابات لداهنّ أطفال صغار تتمّ تربيتهم في حجر الزوج الجديد ، لذلك جاءت الآية بقيد «حجوركم».

ب ـ ويعتقد بعض المفسّرين أنّ صلاة القصر شرعت في البداية لزمن الخوف ـ كما جاء في الآية موضوع البحث ـ وإنّ هذا الحكم قد توسع فيما بعد فشمل جميع الحالات.

ج ـ ويحتمل أيضا أن يكون في هذا القيد جانب توكيدي ، أي أن صلاة القصر لازمة للمسافر أينما كان ، ولكن في حالة الخوف من العدو تكون هذه الصّلاة مؤكدة أكثر.

وعلى أي حال ، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر ـ مع الأخذ

__________________

(١) للاطلاع أكثر راجع الجزء الخامس من كتاب وسائل الشيعة ، وكتاب سنن البيهقي ، الجزء الثّالث ، ص ١٣٤ وغيرهما من الكتب.

(٢) النساء ، ٢٣.

٤١٥

بنظر الاعتبار الرّوايات المفسّرة لهذه الآية ـ لا تقتصر على حالة الخوف ، ولهذا السبب فإن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

سؤال :

وهنا يرد سؤال آخر ، وهو أنّ الآية قد أتت بعبارة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) وليس في هذه العبارة دلالة الحتمية في الحكم ، أي لا تحتم على المسافر أن يقصر صلاته ، فكيف يمكن القول أنّ صلاة القصر واجب عيني للمسافر وليس واجبا تخييريا؟

الجواب :

لقد وجّه هذان السؤالان إلى أئمّة الإسلام ، فأشاروا لدى الإجابة عليهما إلى نقطتين مهمتين :

النّقطة الأولى : هي أنّ عبارة «لا جناح» ، أي لا ذنب عليكم ، قد استخدمت في بعض الموارد في القرآن الكريم للدلالة على الوجوب ، فمثلا في آية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (١) في حين أن جميع المسلمين يعرفون أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب سواء في الحج أو العمرة.

وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام والمسلمون يؤدون السعي بعنوان الواجب ... وقد نقل عن الإمام الباقر عليه‌السلام حديث بهذا المضمون (٢).

وبعبارة أخرى فإنّ عبارة «لا جناح» ـ في الآية موضوع البحث وكذلك في آية الحج ـ جاءت لنفي التحريم ، والسبب هو أنّ بعض المسلمين في بدء الإسلام ، ولوجود أصنام على جبلي الصفا والمروة ، كانوا يظنون أنّ السعي بينهما من

__________________

(١) من سورة البقرة ، الآية ١٥٨.

(٢) نور الثقلين ، الجزء الأوّل ، ص ٥٤٢.

٤١٦

عادات وتقاليد الوثنيين ، في حين أنّه لم يكن كذلك ، فجاءت عبارة ـ «لا جناح» في الآية المذكورة لرفع الوهم الحاصل.

وكذلك في حالة المسافر ، من الممكن أن يتوهّم البعض أنّ قصر الصّلاة في السّفر قد يعتبر نوعا من المعصية ، فجاء القرآن الكريم في الآية بعبارة «لا جناح» لرفع هذا الوهم أيضا.

والنّقطة الثّانية : هي أنّ بعض الرّوايات قد أشارت إلى أنّ قصر الصّلاة في السّفر نوع من التسهيل الإلهي ، وتقتضي الأدب أن لا يرد هذا التسهيل ولا يتجاهل.

وفي روايات أهل السنّة نقل عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في موضوع قصر الصّلاة : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (١).

كما ورد مثل هذا الحديث في مصادر الشّيعة حيث ينقل الإمام الصّادق عليه‌السلام عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله بأن : الإفطار في السّفر وقصر الصّلاة فيه هديتان إلهيتان فمن انصرف عنهما أصبح رادّا لهدية الله (٢).

أمّا النّقطة الثّالثة : التي يجب الانتباه لها فهي أنّ بعض المسلمين قد تصوروا أن الآية (١٠١) من سورة النساء تبيّن حكم صلاة الخائف (أثناء الحروب وأمثال ذلك) ويستدلون لذلك بعبارة (إِنْ خِفْتُمْ) الواردة في الآية ، ولكن جملة (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فيها مفهوم عام يشمل كل أنواع السّفر سواء كان من الأسفار الاعتيادية أو كان سفرا من أجل الجهاد ، والذي تناولته الآية التالية بصورة مستقلة.

إذن فعبارة (إِنْ خِفْتُمْ) ـ وكما أسلفنا ـ تعتبر نوعا من القيود أو الشروط

__________________

(١) جاء هذا الحديث في سنن البيهقي ، الجزء الثّالث ، ص ١٣٤ نقلا عن صحيح مسلم ، كما ورد في كتب التفاسير والفقه أيضا.

(٢) وسائل الشيعة الجزء الخامس ، ص ٥٤٠.

٤١٧

الغالبة ، حيث أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمان كانت مشوبة بالخوف والخطر ـ لذلك فلا دلالة على اقتصار الآية على الصّلاة في حالة الخوف ، بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الخوف من هجوم العدو موجود أثناء الحروب وليس في محلّه أن يقال لمن في ساحة الحرب (إِنْ خِفْتُمْ) من هجوم العدو ، وهذا دليل آخر على أنّ الآية تشير إلى جميع أنواع السّفر التي يحتمل أن يوجد فيها بعض الأخطار على المسافر.

كما يجب التنبيه إلى أنّ شروط صلاة المسافر لم ترد في القرآن ، كما لم ترد شروط وأوصاف بقية الأحكام الإسلامية فيه أيضا ، بل أشارت إلى ذلك السنّة الشريفة.

ومن هذه الشروط أنّ صلاة القصر لا تجب في الأسفار التي لا تبلغ المسافة فيها ثمانية فراسخ ، لأنّ المسافر في تلك الأيّام كان يقطع في اليوم الواحد مسافة الثمانية فراسخ بصورة اعتيادية.

والشرط الآخر هو أنّ المسافر الذي يتّخذ من السّفر حرفة لنفسه أو جزءا من برنامج حياته اليومية مستثنى من القصر في الصّلاة ، لأنّ السّفر بالنسبة إلى أمثال هؤلاء أمر اعتيادي ، وليس أمرا استثنائيا.

كما أنّ من يسافر من أجل ارتكاب معصية ، لا يكون مشمولا لحكم صلاة المسافر،أي لا يجوز له القصر في الصّلاة ، والسبب هو أن حكم القصر يعتبر نوعا من التسهيل الإلهي ، ولا يمكن أن يشمل هذا التسهيل من يسير في طريق معصية الله.

كما أنّ أي مسافر لم يصل إلى حدّ الترخيص (أي إلى النقطة التي لا يمكن سماع صوت أذان المدينة فيها ، أو لا يمكن مشاهدة أسوار المدينة عندها) لا يمكنه أن يقصر صلاته ، لأنّه في هذه الحالة لا يعد خارجا عن حدود المدينة ولا يعتبر في عداد المسافرين.

٤١٨

وبالإضافة إلى ما ذكر هناك أحكام أخرى ذكرتها كتب الفقه بالتفصيل ، وقد ذكرت الأحاديث التي وردت في هذا الأمر كتب الحديث.

* * *

٤١٩

الآية

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

سبب النّزول

نزل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدد من المسلمين أرض الحديبية ـ وهم في طريقهم إلى مكّة ـ فسمعت قريش بذلك فبعثت بخالد بن الوليد على رأس زمرة من مائتي شخص لاعتراض طريق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الذين معه ومنعهم من الوصول إلى مكّة ، فاستقرّ خالد والذين رافقوه في الجبال القريبة من مكة.

ولما كان موعد صلاة الظهر ، أذن بلال ، فصلّى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين جماعة،فشاهد خالد بن الوليد صلاة المسلمين ففكر في خطّة للهجوم على المسلمين ، وأخبر جماعته أن يغتنموا فرصة أداء المسلمين لصلاة العصر التي

٤٢٠