الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

التّفسير

قانونان إسلاميان مهمان :

الآية الحاضرة وإنّ نزلت ـ كالكثير من الآيات ـ في مورد خاص ، إلّا أن من البديهي أنّها تتضمّن حكما عامّا وشاملا للجميع ، فهي تقول بصراحة : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

ومن الواضح أنّ للأمانة معنى وسيعا يشمل كلّ شيء مادي ومعنوي ، ويجب على كل مسلم ـ بصريح هذه الآية ـ أن لا يخون أحدا في أية أمانة دون استثناء ، سواء كان صاحب الأمانة مسلما أو غير مسلم ، وهذا هو في الواقع إحدى المواد في «الميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.

والجدير بالذكر أنّ الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة مادية ، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إليه تلك الأمانة مشركا.

ثمّ إنّه سبحانه يشير ـ في القسم الثّاني من الآية ـ إلى قانون مهم آخر ، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي إنّ الله يوصيكم أيضا أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس ، فتحكموا بعدل.

ثمّ قال سبحانه تأكيدا لهذين التعليمين : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ).

ثمّ يقول مؤكدا ذلك أيضا : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.

إنّ هذا القانون هو الآخر قانون كلّي وعام ، ويشمل كل نوع من القضاء والحكومة،سواء في الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية أنّ صبين ترافعا إلى الإمام الحسن بن علي في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أيّ الخطين أجود ، فبصر به عليّ عليه‌السلام فقال : «يا بني انظر

__________________

ذكر في سبب النزول صح أم لا ، فإنّه لا يؤثر في القانون المهم المستفاد من الآية.

٢٨١

كيف تحكم فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة» (١).

إنّ هذين القانونين المهمّين (حفظ الأمانة ، والعدالة في الحكم والحكومة) يمثلان قاعدة المجتمع الإنساني السليم ، ولا يستقيم أمر مجتمع ، سواء كان ماديا أو إلهيا من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين.

فالأصل الأوّل يقول : إنّ الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهام والرساميل الإنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية ، كلها أمانات إلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع ، والجميع مكلّفون أن يحفظوا هذه الأمانات ، ويجتهدوا في تسليمها إلى أصحابها الأصليين ، ولا يخونوا فيها أبدا.

ومن جهة أخرى حيث إنّ الاجتماعات تلازم التصادمات والاحتكاكات في المصالح والمنافع ، ولهذا يتطلب الحل والفصل على أساس من الحكومة العادلة والقضاء العادل حتى يزول وينمحي كل أنواع التمييز الظالم من الحياة الاجتماعية.

وكما أسلفنا فإنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس ـ بعضهم عند بعض ـ بل العلماء في المجتمع هم أيضا مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق ، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والأمهات فلا يفرطوا في تربيتهم ، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم ، وإلّا كان ذلك خيانة في الأمانة الإلهية التي أمر الله بأدائها،بل وفوق ذلك كلّه الوجود الإنساني ، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات الله» التي يجب على الإنسان أن يجتهد في المحافظة عليها ، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه ، ويحافظ على طاقة الشباب الفياضة ، وفكره ، ولا يفرط فيها ، ولهذا لا يجوز له أن ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه ، حتى أنّه يستفاد من بعض الأحاديث والنصوص

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٤.

٢٨٢

الإسلامية إنّ علوم الإمامة وأسرارها وودائعها التي يسلمها كل إمام إلى الإمام الذي بعده داخلة في هذه الآية

أيضا (١). والجدير بالذكر ، إنّ مسألة «أداء الأمانة» قدمت في هذه الآية على مسألة «العدالة» ولعلّ ذلك لأجل أنّ مسألة العدل في القضاء والحكم مترتبة دائما على الخيانة ، لأنّ الأصل هو أن أمناء بالأصالة ، فإذا انحرف شخص أو أشخاص عن هذا الأصل وصل الدور إلى العدالة لتوفّقهم على مسئولياتهم وتعرفهم بوظائفهم.

* * *

أهميّة الأمانة والعدل في الإسلام :

لقد ورد تأكيد كبير على هذه المسألة في المصادر الإسلامية إلى درجة أنّنا قلّما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل ، والأحاديث القصيرة التالية توضيح هذه الحقيقة :

١ ـ عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(٢).

٢ ـ جاء في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «إن عليّا إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة» (٣).

٣ ـ روي في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أيضا قال لأحد أصحابه : «أعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة» (٤).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٢٨٣

٤ ـ وفي روايات مروية في مصادر الشيعة والسنة عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نلاحظ هذا الحديث السّاطع : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (١).

٥ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام: «سوي بين أخصمين في لحظك ولفظك»(٢).

* * *

__________________

(١) صحيح الترمذي والنسائي بناء على نقل المنار وقد ورد نفس هذا المضمون في سفينة البحار أيضا.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٤.

٢٨٤

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

التّفسير

هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل الإسلامية ، ألا وهي مسألة القيادة ، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين في مختلف المسائل الدينية والاجتماعية.

فهي تأمر المؤمنين ـ أوّلا ـ بأن يطيعوا الله ، ومن البديهي أنّه يجب أن تنتهي جميع الطاعات ـ عند الفرد المؤمن ـ إلى طاعة الله سبحانه ، وكل قيادة وولاية يجب أن تنبع من ولاية الله سبحانه وذاته المقدسة تعالى وتكون حسب أمره ومشيئته ، لأنّه الحاكم والمالك التكويني لهذا العالم ، وكلّ حاكمية ومالكية يجب أن تكون بإذنه وبأمره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ).

وفي المرحلة الثّانية تأمر باتّباع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإطاعته ، وهو النّبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الهوس ، والنّبي الذي هو خليفة الله بين الناس ، وكلامه كلام الله ، وقد أعطي هذا المقام من جانب الله سبحانه ، ولهذا تكون

٢٨٥

إطاعة الله ممّا تقتضيه خالقيته وحاكمية ذاته المقدسة ، ولكن إطاعة النّبي واتّباع أمره ناشئ من أمر الله. وبعبارة أخرى فإنّ الله واجب الإطاعة بالذات والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب الإطاعة بالعرض ، ولعل تكرار «أطيعوا» في هذه الآية للإشارة إلى مثل هذا الفرق بين الطاعتين (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

وفي المرحلة الثانية يأمر سبحانه بإطاعة أولي الأمر القائمين من صلب المجتمع الإسلامي ، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.

من هم أولوا الأمر؟

ثمّة كلام كثير بين المفسّرين في المقصود من أولي الأمر في هذه الآية ، ويمكن تلخيص أوجه النظر في هذا المجال في ما يلي :

١ ـ ذهب جماعة من مفسّري أهل السنّة إلى أنّ المراد من «أولى الأمر» هم الأمراء والحكام في كل زمان ومكان ، ولم يستثن من هؤلاء أحدا ، فتكون نتيجة هذا الرأي هي: إنّ على المسلمين أن يطيعوا كل حكومة وسلطة مهما كان شكلها حتى إذا كانت حكومة المغول ، ودولتهم الجائرة.

٢ ـ ذهب البعض من المفسّرين ـ مثل صاحب تفسير المنار وصاحب تفسير في ظلال القرآن وآخرون ـ إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» ممثلو كافة طبقات الأمة ، من الحكام والقادة والعلماء وأصحاب المناصب في شتى مجالات حياة الناس ، ولكن لا تجب طاعة هؤلاء بشكل مطلق وبدون قيد أو شرط ، بل هي مشروطة بأن لا تكون على خلاف الأحكام والمقررات الإسلامية.

٣ ـ ذهبت جماعة أخرى إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم القادة المعنويون والفكريون ، أي العلماء والمفكرون العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسنة معرفة كاملة.

٤ ـ وذهب بعض مفسّري أهل السنة إلى أنّ المراد من هذه الكلمة هم

٢٨٦

«الخلفاء الأربعة» الذين شغلوا دست الخلافة بعد رسول الله خاصّة ولا تشمل غيرهم ، وعلى هذا لا يكون لأولي الأمر أي وجود خارجى في الأعصر الاخرى.

٥ ـ يفسر بعض المفسّرين «أولي الأمر» بصحابة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ هناك احتمال آخر يقول ـ في تفسير أولي الأمر ـ إنّ المراد منه هم القادة العسكريون المسلمون ، وأمراء الجيش والسرايا.

٧ ـ ذهب كلّ مفسّري الشيعة بالاتفاق إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام الذين أنيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب الله سبحانه والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تشمل غيرهم ، اللهم إلّا الذي يتقلد منصبا من قبلهم ، ويتولى أمرا في إدارة المجتمع الإسلامي من جانبهم ـ فإنّه يجب طاعته أيضا إذا توفرت فيه شروط معينة ، ولا تجب طاعته لكونه من أولي الأمر ، بل لكونه نائبا لأولي الأمر ووكيلا من قبلهم.

والآن لنستعرض التفاسير المذكورة أعلاه باختصار:لا شك أنّ التّفسير الأوّل لا يناسب مفهوم الآية وروح التعاليم الإسلامية بحال ، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة كل حكومة ـ مهما كانت طبيعتها ـ ومن دون قيد أو شرط بإطاعته الله والنّبي ، ولهذا تصدى كبار علماء السنة لنفي هذا الرأي والتّفسير مضافا إلى علماء الشيعة.

وكذا التّفسير الثّاني : فإنّه لا يناسب إطلاق الآية الشريفة ، لأنّ الآية توجب إطاعة أولي الأمر من دون قيد أو شرط.

وهكذا التّفسير الثّالث ، يعني تفسير «أولي الأمر» بالعلماء والعدول والعارفين بالكتاب والسنة ، فهو لا يناسب إطلاق الآية ، لأنّ لإطاعة العلماء وإتباعهم شروطا من جملتها أن لا يكون كلامهم على خلاف الكتاب والسنة ، وعلى هذا لو ارتكبوا خطأ (لكونهم عرضة للخطأ وغير معصومين) أو انحرفوا

٢٨٧

عن جادة الحقّ لأي سبب آخر لم تجب طاعتهم ، في حين توجب الآية الحاضرة إطاعة أولي الأمر بنحو مطلق كإطاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى أنّ إطاعة العلماء إنّما هي في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنة ، وعلى هذا لا تكون إطاعتهم شيئا غير إطاعة الله وإطاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا حاجة إلى ذكرها بصورة مستقلة.

وأمّا التّفسير الرّابع (وهو حصر عنوان أولي الأمر بالخلفاء الأربعة الأوائل) فمؤداه عدم وجود مصداق لأولي الأمر بين المسلمين في هذا الزمان هذا مضافا إلى عدم وجود دليل على مثل هذا التخصيص.

والتّفسير الخامس والسّادس : يعنيان تخصيص هذا العنوان بالصحابة أو القادة العسكريين المسلمين ، ويرد عليها نفس الإشكال الوارد على التّفسير الرّابع ، يعني أنّه لا يوجد أي دليل على مثل هذا التخصيص أيضا.

وقد أراد جماعة من مفسّري السنة مثل «محمّد عبده» العالم المصري المعروف ـ تبعا لبعض ما قاله المفسّر المعروف الفخر الرازي ـ أن يقبل بالاحتمال الثّاني (القاضي بأنّ أولي الأمر هم ممثلو مختلف طبقات المجتمع الإسلامي من العلماء والحكام وغير هؤلاء من طبقات وفئات المجتمع الإسلامي) مشروطا ببعض الشروط ومقيدا ببعض القيود ، مثل أن يكونوا مسلمين (كما يستفاد من كلمة «منكم» في الآية) وأن لا يكون حكمهم على خلاف الكتاب والسنة ، وأن يحكموا عن اختيار لا جبر ولا قهر ، وأن يحكموا وفق مصالح المسلمين ، وأن يتحدثوا في مسائل يحقّ لهم التدخل فيها (لا مثل العبادات التي لها قوانين وأحكام ثابتة في الإسلام) وأن لا يكون قد ورد في الحكم الذي أصدروه نص خاص من الشرع ، وأن يكونوا ـ فوق كل هذا ـ متفقين في الرأي والحكم.

وحيث إنّ هؤلاء يعتقدون أن مجموع الأمّة أو مجموع ممثليها لا تخطأ ولا تجتمع على خطأ ، ـ وبعبارة أخرى ـ أن مجموع الأمّة معصومة (أو أنّ الأمّة

٢٨٨

بوصفها معصومة) تكون نتيجة هذه الشروط وجوب إطاعة مثل هذا الحكم بشكل مطلق ومن دون قيد أو شرط تماما مثل إطاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ومؤدى هذا الكلام هو حجّيّة الإجماع). ولكن ترد على هذا التّفسير أيضا إشكالات واعتراضات عديدة وهي :

أوّلا : إنّ الاتفاق في الرأي في المسائل الاجتماعية قلّما يتفق وقلّما يتحقق ، وعلى هذا فإن هذا الرأي يستلزم وجود حالة من الفوضى والانتظام في أغلب شؤون المسلمين وبصورة دائمة.

وأمّا إذا أراد هؤلاء قبول رأي الأكثرية فيرد عليه : إنّ الأكثرية لا تكون معصومة أبدا،ولهذا لا تجب إطاعتها بنحو مطلق.

ثانيا : لقد ثبت في علم الأصول ، أنّه ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأمّة من دون وجود الإمام المعصوم بينهم.

ثالثا : إنّ أحد الشرائط التي يذكرها أنصار هذا التّفسير هو أن لا يكون حكم هؤلاء «أي أولوا الأمر» على خلاف الكتاب والسنة ، فيجب حينئذ أن نرى من الذي يشخّص أن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة أو لا ، لا شك أن ذلك من مسئولية المجتهدين والفقهاء العارفين بالكتاب والسنة ، ويعني هذا إنّ إطاعة أولي الأمر لا يجوز بدون إجازة المجتهدين والعلماء ، بل تلزم أن تكون إطاعة العلماء أعلى من إطاعة أولي الأمر ، وهذا لا يناسب ولا يوافق ظاهر الآية الشريفة.

صحيح أن هؤلاء اعتبروا العلماء جزء من أولي الأمر «ولكن الحقيقة أن العلماء والمجتهدين ـ وفق هذا التّفسير ـ اعترف بهم على أنّهم المراقبون والمراجع العليا من بقية ممثلي مختلف فئات الأمّة ، لا أنّهم في مستوى بقية الممثلين المذكورين ، لأنّ على العلماء والفقهاء أن يشرفوا على أعمال الآخرين ويشخصوا موافقتها للكتاب والسنة ، وبهذا يكون العلماء مراجع عليا لهم ، وهذا لا

٢٨٩

يناسب التّفسير المذكور ولا يوافقه.

وعلى هذا الأساس يواجه التّفسير الحاضر (أي الثّاني) إشكالات ومآخذ من وجهات عديدة.

فيبقى تفسير واحد سليما من جميع الاعتراضات السابقة وهو التّفسير السّابع : (وهو تفسير أولي الأمر بالأئمّة المعصومين عليهم‌السلام لموافقة هذا التّفسير لإطلاق وجوب الإطاعة المستفاد من الآية المبحوثة هنا ، لأن مقام «العصمة» يحفظ الإمام من كلّ معصية ويصونه عن كل خطأ ، وبهذا الطريق يكون أمره ـ مثل أمر الرّسول ـ واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط ، وينبغي أن يوضع في مستوى إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل وإلى درجة أنها تعطف على إطاعة الرّسول من دون تكرار «أطيعوا».

والجدير بالانتباه إلى أنّ بعض العلماء المعروفين من أهل السنة ، ومنهم المفسر المعروف الفخر الرازي اعترف بهذه الحقيقة في مطلع حديثه عند تفسير هذه الآية حيث قال : «إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بإطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ أن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت إن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ».

وأضاف قائلا : «ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة ، ولا يجوز أن يكون بعض الأمّة لأن إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم ، ونحن عاجزون عن الوصول إليهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمّة ، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك

٢٩٠

المعصوم الذي هو المراد بقوله : «وأولي الأمر» هم أهل الحل والعقد ومن الأمّة (أي الأمّة كلها وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمّة حجّة) (١).

وهكذا نرى الفخر الرازي مع ما نعهد منه من كثيرة الإشكال في مختلف المسائل العلمية ، قد قبل دلالة هذه الآية على أنّ أولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين ، غاية ما في الأمر حيث أنّه لم يكن عارفا بمذهب أهل البيت النبوي عليهم‌السلام وأئمّة هذا المذهب تجاهل احتمال أن يكون «أولي الأمر» أشخاصا معنيين من الامة ، فاضطر إلى تفسير «أولي الأمر» بمجموع الامّة (أو ممثلي عموم فئات الامّة) ، في حين أن هذا الاحتمال لا يمكن القبول به ، لأن أولي الأمر ـ كما قلنا في ما سبق ـ يجب أن يكونوا قادة المجتمع الإسلامي ، وتتمّ الحكومة الإسلامية والحكم بين المسلمين بهم ، ونعلم أنه لا يمكن لا في الحكومة الجماعية (المتألفة من مجموعة الأمّة) بل ولا من ممثلي فئاتها أن يتحقق اجتماع واتفاق في الرأي مطلقا ، لأنّ الحصول على إجماع من جانب الامّة جميعا أو من جانب ممثليها في مختلف المسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية والخلقية والاقتصادية ، لا يتيسر ولا يتحقق في الأغلب ، كما أنّ إتّباع الأكثرية ـ كذلك ـ لا يعد اتّباعا لأولي الأمر ، ولهذا يلزم من كلام الرازي ومن تبعه من العلماء المعاصرين أن تتعطل مسألة إطاعة «أولي الأمر» ، أو تصير مسألة نادرة واستثنائية جدا ....

ومن كل ما قلناه نستنتج أنّ الآية الشريفة تثبت قيادة وولاية الأئمّة المعصومين الذين يشكلون نخبة من الامّة الإسلامية (تأمل).

أجوبة على أسئلة :

ثمّ إنّ هناك اعتراضات ومآخذ على هذا التّفسير (السّابع) يجدر طرحها هنا

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ١٤٤ ، طبعة مصر ، عام ١٣٥٧.

٢٩١

بتجرّد وموضوعية :

١ ـ إذا كان المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، فإنّ ذلك لا يناسب مع كلمة «أولي» التي هي بصيغة الجمع ، لأنّ الإمام المعصوم في كل عصر ، شخص واحد لا أكثر.

والجواب على هذا السؤال : أنّ الإمام المعصوم وإن كان في كل عصر شخصا واحدا لا أكثر ، إلّا أنّ الأئمة المتعددين في الأعصر المختلفة يشكلون جماعة ، ونحن نعلم أنّ الآية لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد.

٢ ـ إنّ أولي الأمر ـ بهذا المعنى ـ لم يكونوا في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف أمر القرآن الكريم بإطاعتهم؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح أيضا من الكلام السابق ، لأنّ الآية لا تنحصر (أو لا تعني) زمانا خاصا ، بل توضح وتبيّن وظيفة المسلمين وواجبهم في جميع العصور والقرون.

وبعبارة أخرى ، يمكن أن نقول أن أولي الأمر في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شخص النّبي بالذات ، لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له منصبان منصب «الرسالة» الذي أشير إليه في الآية المذكورة تحت عنوان (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) والآخر منصب «قيادة الأمّة الإسلامية» الذي ذكره القرآن الكريم تحت عنوان (أُولِي الْأَمْرِ).

وعلى هذا يكون القائد وولي الأمر المعصوم في عهد النّبي هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مضافا إلى ما له من منصب الرسالة وإبلاغ الأحكام الإسلامية ، له منصب قيادة الأمّة وولاية أمرها ، ولعل عدم تكرار جملة (وأطيعوا» بين (الرّسول» و «أولي الأمر» لا يخلو عن الإشارة إلى هذه النقطة.

وبعبارة أخرى إن منصب «الرسالة» ومنصب «أولي الأمر» منصبان مختلفان اجتمعا في شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المنصب الثّاني فقط يتوفر في كل إمام على حدة ، فللإمام منصب اولي الأمر فقط.

٢٩٢

٣ ـ إذا كان المقصود من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، فلما ذا أشار سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) فإنّنا لا نشاهد هنا أي حديث عن «أولي الأمر» بل أشير إلى الله تعالى (كتاب الله ـ القرآن) والنّبي (السنة) كمرجع يجب أن يرجع إليه المسلمون عند الاختلاف والتنازع.

في الإجابة على هذا الإشكال يجب أن نقول :

أوّلا : إنّ هذا الإشكال لا يختص بالتّفسير الشّيعي لهذه الآية ، بل يردّ على بقية التفاسير أيضا ، إذا أمعنا النظر قليلا.

وثانيا : لا شك أنّ المراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام،لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية ، لأنّه في هذه المسائل يجب إطاعة أولي الأمر(كما صرّح بذلك في الجملة الأولى من الآية المبحوثة هنا).

وعلى هذا فالمراد من الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الكلية الإسلامية التي يعود أمر تشريعها إلى الله سبحانه ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّنا نعلم أنّ الإمام مجرّد منفذ للأحكام الإلهية وليس مشرعا ، ولا ناسخا لشيء من تلك الأحكام ، وإنّما عليه فقط أن يطبق الأحكام والأوامر الإلهية والسنة النّبوية في حياة الأمة ، ولهذا جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام إنّهم قالوا : «إذا بلغكم عنّا ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه» أي يستحيل أن نقول ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى هذا فإنّ أوّل مرجع يرجع إليه المسلمون لحل خلافاتهم في الأحكام الإسلامية هو الله سبحانه والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يوحى إليه ، وإذا ما بيّن الأئمّة المعصومون أحكاما ، فإنّ تلك الأحكام ليست سوى اقتباس من كتاب الله ، أو هي

٢٩٣

من العلوم التي وصلت إليهم من النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا تتّضح علّة عدم ذكر أولي الأمر إلى جانب المرجع في حلّ الاختلاف في الأحكام المذكورة في هذا الجزء من الآية (١).

شهادة الأحاديث :

هذا وقد وردت في المصادر الإسلامية أيضا أحاديث تؤيد تفسير «أولي الأمر» بأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام منها :

١ ـ ما كتبه المفسّر الإسلامي المعروف أبو حيان الأندلسي المغربي (المتوفي عام ٧٥٦) في تفسيره البحر المحيط : من أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي عليه‌السلام وأهل بيته (٢).

٢ ـ روى العالم السني أبو بكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الإعتقاد (حسب نقل الكاشي في المناقب) عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في علي عليه‌السلام عند ما خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة (في غزوة تبوك) فقال علي عليه‌السلام : يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال أخلفني في قومي وأصلح فقال عزوجل : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

٣ ـ وروى الشيخ سليمان الحنفي القندوزي وهو من أعلام أهل السنة المشهورين في كتابه «ينابيع المودة» من كتاب «المناقب» عن «سليم بن قيس

__________________

(١) وإذا رأيناه سبحانه يرجع الأمّة في حلّ بعض اختلافاتها إلى أولي الأمر في الآية (٨٣) من هذه السورة فالمراد منه ليس هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الإسلامية الكلية ، بل هو ـ كما سيأتي في تفسير هذه الآية ـ الاختلاف في المسائل المتعلقة بطريقة تطبيق الأحكام الإسلامية ، وسيأتي شرح مفصل في هذا المجال عند تفسير الآية بإذن الله.

(٢) البحر المحيط ، ج ٣ ، طبعة مصر ، ص ٤٢٥.

(٣) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٢٥.

٢٩٤

الهلالي» قال سمعت عليا صلوات الله عليه يقول : أتاه رجل فقال أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ، وأدنى ما يكون به العبد كافرا ، وأدنى ما يكون به العبد ضالا فقال : قد سألت فافهم الجواب ... وأمّا أدنى ما يكون العبد به ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عزوجل عباده بطاعته وفرض ولايته. قلت : يا أمير المؤمنين. صفهم لي. قال : الذين قرنهم الله تعالى : بنفسه وبنبيّه فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فقلت له : جعلني الله فداك أوضح لي؟ فقال : الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عزوجل إليه : «إنّي تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما : كتاب الله عزوجل وعترتي أهل بيتي» (١).

٤ ـ وكذلك كتب نفس العالم في كتاب «ينابيع المودة» : وفي المناقب في تفسير مجاهد : إنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (٢).

٥ ـ رويت أحاديث كثيرة في مصادر الشيعة مثل كتاب الكافي وتفسير العياشي وكتب الصدوق ومصنفاته وغيرها تشهد جميعها بأنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، حتى أن بعضها ذكرت أسماء الأئمّة عليهم‌السلام واحدا واحدا (٣).

* * *

__________________

(١) ينابيع المودة طبعة النجف الأشرف (الطبعة السابعة ص ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٢) ينابيع المودة النجف ، ص ١٣٤.

(٣) راجع تفسير البرهان ، ج ١ ، تفسير الآية.

٢٩٥

الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠))

سبب النّزول

كان بين رجل من اليهود ورجل من المسلمين المنافقين خصومة واختلاف ، فعزما على أن يحتكما إلى شخص ، وحيث كان اليهودي يعرف بعدل النّبي وحياده ولأنّه علم أنّه لا يأخذ الرّشوة ولا يجور في الحكم قال : أحاكم إلى محمّد ، ولكن المنافق قال : لا، بل بيني وبينك كعب بن الأشرف ، (لأنّه يأخذ الرّشوة وهو من أقطاب اليهود) ، وبذلك رفض التحاكم إلى رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية توبّخ أمثال هذا الشخص،وتشجب بشدّة موقفهم المشين هذا (١).

وقد ذكر بعض المفسرين أسبابا أخرى لنزول هذه الآية تشهد بأنّ بعض المسلمينالحديثي العهد بالإسلام كانوا ـ على عادتهم في الجاهلية ـ يحتكمون ـ في مطلع الإسلام ـ إلى علماء اليهود أو الكهنة ، فنزلت الآية الحاضرة تنهى عن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، نقل هذا السبب عن أكثر المفسرين.

٢٩٦

هذه العادة المقيتة بشدّة (١).

التّفسير

حكومة الطّاغوت :

الآية الحاضرة ـ هي في الواقع ـ مكملة للآية السابقة ، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إلى طاعة الله والرّسول وأولي الأمر ، والتحاكم إلى الكتاب والسنة ، وهذه الآية تنهي عن التحاكم إلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه.

والطّاغوت ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ مشتقّة من الطغيان ، وهذه الكلمة مع جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود ، أو كل شيء يكون وسيلة للطغيان أو التمرّد.

وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتا ، لأنّه تجاوز حدود الله وتعدي على قوانين الحقّ والعدل ، ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «الطّاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحقّ».

والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إلى مثل هؤلاء الحكام وتقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).

ثمّ يضيف القرآن قائلا : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) أي أنّ التحاكم إلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.

وغير خفي أن الآية الحاضرة ـ شأنها شأن سائر الآيات القرآنية الاخرى ـ تتضمّن حكما عاما ، وتبيّن قانونا خالدا لجميع المسلمين في جميع العصور والدهور. وتحذرهم من مراجعة الطواغيت ، وطلب الحكم منهم ، وإنّ ذلك لا

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٢٢٢.

٢٩٧

يناسب الإيمان بالله والكتب السماوية ، هذا مضافا إلى كونه يضل الإنسان عن طريق الحقّ،ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيدا عن الحق.

إنّ مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام ، وأثرها في تحطيم كيان المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأسسه ممّا لا يخفى على أحد ، فهي أحد العوامل المؤثرة في انحطاط المجتمعات وتأخرها.

* * *

٢٩٨

الآيات

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

التّفسير

نتائج حكم الطّاغوت :

في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية ، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إلى الطّواغيت وحكام الجور والباطل.

ففي الآية الأولى يقول سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً).

وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية : إنّ التحاكم إلى الطاغوت ليس خطأ عابرا يمكن أن يعالج ببعض التذكير ، بل إنّ الإصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم ، وإلّا لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إلى رشدهم على

٢٩٩

دعوة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ويعترفوا بخطئهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً).

ثمّ في الآية الثّانية يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أن هؤلاء المنافقين عند ما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم ، ويواجهون طريقا مسدودة يعودون إليك عن اضطرار ويأس : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ ...).

ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إلى الآخرين لم يكن إلّا الإحسان والتوصل إلى الوفاق بين طرفي الدّعوي : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين :

الأولى : أن نرى ما هو المقصود من المصيبة التي تصيبهم؟

لا يبعد أن تكون المصيبة هي ما ينشأ من مضاعفات ومآسي وويلات من حكم الطواغيت ، لأنّه لا شك في أن الحكم الصادر من الأشخاص غير الصالحين والظالمين وإن كان ينطوي على منفعة آنية لأحد جانبي الدعوى ، ولكن لا يمضي زمان إلّا ويوجب هذا الحكم ظهور الفساد وانتشار الظلم والجور ، وسيادة الهرج والمرج وتبعثر الكيان الاجتماعي،ولهذا فإنّه سرعان ما تواجه هؤلاء المتحاكمين إلى الطواغيت تبعات ومفاسد عملهم هذا ، وسرعان ما يندمون على فعلهم هذا.

هذا ويحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من «المصيبة» هو الفضيحة التي تلحق بالمنافقين ، أو المصائب التي تصيبهم بأمر الله سبحانه (كالمآسي والمحن الغير المتوقعة).

النّقطة الثّانية : إنّ مقصود المنافقين من «الإحسان» هل هو الإحسان إلى طرفي الدعوى ، أو إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ يمكن أن يكون مرادهم كلا الأمرين ، فهم تذرعوا

٣٠٠