الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

أمّا إذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية ، يعنى أن تكون أعمال «فرد نموذجي» مقياسا ومعيارا لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خاليا عن أي إشكال ، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأمّته ، إذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له ، وحيث إن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أعظم الأنبياء والرسل الإلهيين كانت صفاته وأعماله معيارا لشخصية كل الأنبياء والرسل.

نعم لا يبقى هنا إلّا سؤال واحد هو : هل جاءت الشهادة بهذا المعنى ، أم لا؟بيد أنّه مع الانتباه إلى أنّ أعمال الرجال النموذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عمليا على أنّه من الممكن أن يرقى إنسان ما إلى هذه الدرجة ، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيدا في النظر.

عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه ، أي عند ما رأوا بأمّ أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة ، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم ، إنهم يندمون ندما بالغا لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا ترابا أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).

وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

ولكن لفظة (لَوْ تُسَوَّى) تشير إلى مطلب آخر أيضا ، وهو : إنّ الكفار مضافا إلى أنّهم يتمنون أن يصيروا ترابا ، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضا وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة ، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.

إنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئا : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

٢٤١

نعم ، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأخر التي تقول : هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضا ويكذبون (١) لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إقامة الشهود وقيام الشهادة ، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان ، ولا سبيل إلى أي إنكار ، بل لا بدّ من الاعتراف بجميع الحقائق.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة «ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا». (٢)

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة ، خصوصا في ما يتعلق برسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفا على جملة (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).

ولكن هذا التّفسير لا ينجسم مع ظاهر «لا يكتمون» الذي هو فعل مضارع ، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول : «لم يكتموا».

* * *

__________________

(١) مثل الآية (٢٢) و (٢٣) من سورة الأنعام ، والآية (١٨) من سورة المجادلة.

(٢) تفسير نور الثّقلين ، ج ١ ، ص ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، نقلا عن تفسير العياشي.

٢٤٢

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

التّفسير

بعض الأحكام الفقهية :

تستفاد من الآية الحاضرة عدّة أحكام إسلامية هي :

١ ـ حرمة الصّلاة في حال السكر ، أي لا يجوز للسكارى أن يقربوا الصّلاة لبطلان صلاتهم في حالة السكر ، وفلسفة ذلك واضحة ، فإن الصلاة حديث العبد إلى ربّه ومناجاته ودعاؤه ، ولا بدّ أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل ، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

وهنا يمكن أن يطرح أحد سؤالا هو : أليس مفهوم الآية هو المنع من شرب المسكرات إذا بقي أثرها وسكرها إلى وقت الصلاة ، وهو ينطوي على دليل

٢٤٣

جوازه في سائر الحالات؟

والإجابة على هذا السؤال تأتي ـ بإذن الله ـ مفصّلة عند تفسير الآية (٩٠) من سورة المائدة ، إلّا أن الجواب الإجمالي هو : إنّ الإسلام استخدم لتطبيق الكثير من أحكامه أسلوب «التغيير التدريجي» فمثلا مسألة تحريم تعاطي الخمور هذه طبقها الإسلام في مراحل ، فهو أوّلا أعطاه صفة المشروب الغير المحبّذ في قبال «الرزق الحسن» (كما في الآية (٦٧) من سورة النحل «ورزقا حسنا») ثمّ منع من الاقتراب إلى الصلاة إذا كان السكر الناشئ منها لا يزال باقيا (كما في الآية الحاضرة) ثمّ قارن بين منافعه ومضاره ورجحان مضاره ومساوئه ، كما في سورة البقرة الآية (٢١٩) ، وفي المرحلة الأخيرة نهى عن الخمر بصورة قاطعة وصريحة ، كما في سورة المائدة الآية (٩٠).

وأساسا ليس هناك من سبيل لتطهير المجتمع من جذور مفسدة اجتماعية أو خلقية متجذرة في أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا الأسلوب ، وأجدى من هذا الطريق ، وهو أن يهيأ الأفراد تدريجا ، ثمّ يتمّ الإعلان عن الحكم النهائي.

كما أنّه لا بدّ من الالتفات إلى نقطة مهمّة ، هي أنّ الآية الحاضرة لا تجيز بأي وجه من الوجوه شرب الخمر ، بل هي تتحدث فقط عن مسألة الاقتراب إلى الصلاة في حال السكر ، بينما التزمت الصمت بالنسبة إلى حكم شرب الخمر في غير هذا المورد حتى يحين موعد المرحلة النهائية للحكم.

هذا مع الالتفات إلى أنّ أوقات الصلوات الخمس خاصّة في ذلك الزمان الذي كانت العادة فيه إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها ، بحكم أنّها كانت متقاربة كان الإتيان بالصلاة في حال الوعي يقتضي أن ينصرف الأشخاص عن تناول المسكرات في الفترات الواقعة بين أوقات الفرائض انصرافا كليا ، لأنّ السكر كان يستمر غالبا إلى حين حلول وقت الفريضة وعلى هذا كان الحكم

٢٤٤

المذكور في الآية الحاضرة أشبه بالحكم النهائي والتحريم الأبدي المطلق.

كما أنّ هناك موضوعا لا بدّ من التذكير به ، وهو أنّ الآية الحاضرة فسّرت في روايات عديدة في كتب الشيعة والسنة بسكر النوم ، يعني لا تقربوا الصلاة ما لم تطردوا النوم عن عيونكم كاملة لتعلموا ما تقولون.

ولكن يبدو للنظر أن هذا التّفسير مستفاد من مفهوم : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وإن لم يدخل في مصداق «السكارى» (١).

وبعبارة أخرى ، يستفاد من جملة : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) المنع عن الصلاة في كل حالة لا يتمتع فيها الإنسان بالوعي الكامل ، سواء كان بسبب حالة السكر ، أو بسبب ما تبقى من النوم.

كما أنّه يستفاد من هذه الجملة أيضا أنّ الأفضل عدم إقامة الصلاة عند الكسل أو قلّة التوجه ، لأنّ الحالة السابقة توجد في هذه الصورة بشكل ضعيف ، ولعلّه لهذا السبب جاء في ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام من أنّه قال : «لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ، ولا متناعسا ولا متثاقلا وقد نهى الله عزوجل المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى ...»(٢).

٢ ـ بطلان الصلاة في حال الجنابة الذي أشير إليه بعبارة (وَلا جُنُباً) ثمّ استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي إذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجيء في ذيل الآية).

غير أن هناك تفسيرا آخر جاء لهذه الآية في الروايات والأخبار (٣) ، هو أنّ المقصود من الصلاة في الآية هو محل الصلاة ـ أي المسجد ـ أي لا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة ، ثمّ استثنى العبور في المسجد بقوله : (إِلَّا عابِرِي

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٨٣ ، وتفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١١٧١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٨٣ ، وقد جاء نظير هذا المضمون في صحيح البخاري أيضا.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٨٦.

٢٤٥

سَبِيلٍ) يعني يجوز لكم العبور في المسجد وأنتم على جنابة وإن لم يجز لكم المكث واللبث فيه.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ جماعة من المسلمين ، وصحابة النّبي كانوا قد بنوا بيوتهم حول المسجد النّبوي بحيث تفتح أبوابها في المسجد ، فسمح لهم بأن يعبروا من المسجد وهم على جنابة دون أن يتوقفوا فيه.

ولكن لا بدّ أن ننتبه إلى أن هذا التّفسير يستلزم أن تكون لفظة الصلاة في الآية الحاضرة قد أتت بمعنيين : أحدهما الصلاة نفسها ، والآخر محل الصلاة ، لوجود بيان حكمين مختلفين في الآية : أحدهما المنع والنهي عن الاقتراب إلى الصلاة في حالة السكر،والآخر الاجتناب عن دخول المساجد في حالة الجنابة (طبعا لا مانع ولا ضير في استعمال لفظة واحدة في معنيين أو أكثر كما قلنا في علم الأصول ، ولكنّه خلاف الظاهر،وهو لا يجوز بدون قرينة ، نعم يمكن أن تكون الروايات المذكورة قرينة على ذلك).

٣ ـ جواز الصلاة ، أو عبور المسجد بعد الاغتسال ، هو المبين بقوله : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

٤ ـ التيمم لذوي الأعذار ، ثمّ تشير الآية إلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت ـ في الحقيقة ـ كل موارد التيمم ، فالمورد الأوّل هو ما إذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن،والمورد الآخر هو ما إذا تعذر على الإنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) إشارة إلى علل الاحتياج إلى التيمم وأسبابه ، ومعناه إذا أحدثتم حدثا أو جامعتم النساء (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

ثمّ أنّه سبحانه يبيّن طريقة التيمم بقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

٢٤٦

ثمّ أنّه في ختام الآية يشير إلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم،لأنّ الله كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً).

* * *

بحوث عند الآية :

هنا لا بدّ من التنبيه إلى نقاط عديدة :

١ ـ إنّ عبارة (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) المبدوة بفاء التفريع ترتبط بعبارة (أَوْ عَلى سَفَرٍ)يعني أنّكم إذا كنتم في سفر ولم تجدوا ماء للوضوء أو الغسل ، فتحتاجون إلى التيمم،لأنّ الإنسان قلما تتفق له هذه الحالة وهو في البلد ، ومن هنا يتبيّن بطلان ما قاله بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ من أن مجرّد السفر وحده كاف للتكليف بالتيمم بدل الوضوء حتى لو كان الشخص المسافر واجدا للماء ، فإنّ فاء التفريع في قوله (فَلَمْ تَجِدُوا) يبطل هذا الكلام ، لأنّ المفهوم منه هو أنّ السفر قد يوجب أحيانا عدم التمكن من الماء ، وهنا لا مناص من التيمم ، لا أنّ السفر بوحده يسوغ التيمم ، والعجب أنّ الكاتب المذكور تحامل على فقهاء الإسلام في هذا المجال من دون مبرر لهذا التحامل.

٢ ـ إنّ كلمة (أو) في قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هي بمعنى (الواو) لأن مجرّد المرض أو السفر لا يوجب التيمم ، بل يجب التيمم إذا تحققت موجبات التيمم أو الغسل في هذا الحال.

٣ ـ إنّ «العفة في البيان» المعهودة من القرآن دفعت بالقرآن في هذه الآية ـ كما في الآيات الكثيرة الاخرى ـ إلى أن يعبّر عن قضاء الحاجة بعبارة تفهم المراد من جانب، ولا تكون غريبة وغير مناسبة من جانب آخر إذ يقول : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ).

٢٤٧

وتوضيح ذلك أنّ «الغائط» ـ خلاف ما يفهم منه هذا اليوم ـ يعني في أصل اللغة المنخفض من الأرض الذي كان يقصده الإنسان وسكان الصحارى والمسافرون في تلك العهود لقضاء الحاجة فيه ليسترهم عن أعين الناظرين ، وعلى هذا يكون معنى هذه الجملة هو : إذا عاد أحدكم من المكان المنخفض من الأرض الذي هو في جملته كناية عن قضاء الحاجة.

والملفت للنظر أن القرآن استعمل لفظة «أحد منكم» بدل ضمير الجمع المخاطب المصدر بالفعل أي «جئتم» ليحافظ على خصيصة «عفة البيان» التي تجلى بها القرآن الكريم أكثر فأكثر.

وهكذا الحال عند ما يتحدّث عن الجماع فإنّ القرآن يشير إلى هذا الموضوع بعبارة (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ولفظة اللمس كناية جميلة عن المقاربة الجنسية.

٤ ـ سنتحدث بتفصيل حول بقية خصوصيات التيمم عند تفسير قوله تعالى : (صَعِيداً طَيِّباً) في ذيل الآية (٦) من سورة المائدة إن شاء الله.

فلسفة التيمم :

يتساءل كثيرون : ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيرا من الأتربة ملوثة ، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟

في جواب هذه الأسئلة نشير إلى نقطتين مهمتين :

الأولى : الفائدة الخلقية ، فإن التيمم إحدى العبادات ، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة ، لأن الإنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول :يا ربّي إنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إلى أبعد حدود الخضوع والتواضع ، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إلى القيام بالصلاة وسائر العبادات

٢٤٨

المشروطة بالغسل والوضوء ، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإنسان روح الخضوع لله،وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال ، ويدرّبه على العبودية له سبحانه ، والشكر لأنعمه تعالى.

الثّانية : الفائدة الصحية ، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات ، إن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة ، توجد ـ في الأغلب ـ بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الانتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر ، ولهذا عند ما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض ، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية،نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريبا وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها،ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إلى بؤرة عفونة قاتلة.

إنّ للتربة خاصّية تشبه مواد «الأنتوبيوتيك» التي لها أثر فعال جدّا في قتل وإبادة الميكروبات.

وعلى هذا لا يكون التراب عاريا عن التلوث فقط ، بل هو مطهر فعال للتلوثات،ويمكنه ـ من هذه الجهة ـ أن يحل محل الماء بفارق واحد ، هو أن الماء يحلل الميكروبات ، ويذهب بها معه ، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهرا نظيفا ، كما أشار اليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إذا يقول : (طَيِّباً).

والجدير بالانتباه أنّ التعبير بـ «الصعيد» المشتق من «الصعود» يشير إلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح الأرض ، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء

٢٤٩

والبكتريا المبيدة للميكروبات ، فإذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضا كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات. (وسنتحدث في هذا المجال أيضا عند تفسير المقطع الأخير من الآية (٦) في سورة المائدة).

* * *

٢٥٠

الآيتان

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

التّفسير

في هذه الآيات يخاطب الله سبحانه نبيّه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والاستغراب قائلا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي عجيب أمر هؤلاء الذين أتوا نصيبا من الكتاب السماوي ، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى ، فإنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أنتم أيضا.

وبهذا الطريق فإنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحول إلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم ، لأنّهم لم يكونوا أبدا بصدد الحقيقة ، بل كانوا ينظرون إلى كل شيء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.

ثمّ يقول سبحانه : إنّ هؤلاء وإن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إلّا أنّهم أعداؤكم الحقيقيون (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ).

وأية عداوة أشدّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم ، تارة

٢٥١

باللسان وتارة عن طريق إظهار النصح ، وثالثة عن طريق الذم ، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص ، وشكل معين.

ولكن لا تخافوا عداوتهم أبدا ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان،فكفاكم أنّ الله قائدكم ووليكم وناصركم : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً).

لأنّه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئا ، فإذا تجاهلتم أحاديثهم ووساوسهم لم يبق أي مجال للخوف والقلق.

ثمّ إنّه يستفاد من عبارة : (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أنّ ما كان عندهم من الكتاب لم يكن كل ما في الكتاب السماوي «التوراة» بل كان بعضه وقسما منه ، وهذا يتفق مع حقائق التاريخ المسلمة أيضا ، تلك الحقائق التي تؤكد ضياع أو تحريف أقسام من التوراة الحقيقية مع مضي الزمن.

* * *

٢٥٢

الآية

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

التّفسير

جانب آخر من أعمال اليهود :

تعقيبا على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإسلام ، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم.

فتقول أوّلا : إنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق ، وتغيير حقيقة الأوامر الإلهية : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها.

وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي ، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.

أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة ، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا

٢٥٣

وَعَصَيْنا) يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا» وهذا يشبه تماما كلام من يقول مستهزء : «منك الأمر ومنّا عدم السماع» ، هذا والعبارات الاخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.

ثمّ يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول : إنّهم يقولون : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين ، ـ مضافا إلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون ـ يتوسلون بسلاح الاستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين ، وربّما استخدموا مضافا إلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع تغييرات في معانيها تكميلا لاستهزائهم وسخريتهم ، مثل جملة «راعنا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل ، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر ، وهو ما يرجع إلى الرعونة (١) الذي يعني الحمق ، قصدا منهم إلى أن عمل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ـ والعياذ بالله ـ خداع الناس واستغلال سذاجتهم.

وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم

__________________

(١) راعنا إذا أخذت مشتقة من مادة الرعي تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة والمراقبة ، وبمعنى أمهلنا ، وإذا أخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخدعنا واجعلنا حمقاء عندك» ، يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء والسب ، ولا بدّ من الالتفات إلى أن راعنا على الوجه الأوّل تكون بدون تشديد النون ، وعلى الوجه الثاني بتشديد النون ، ويستفاد من جملة من الروايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون في راعنا ومد آخرها.

٢٥٤

والطعن في الدين الحق ، والشريعة الحقة : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ).

(واللي على وزن الحي بمعنى الفتل ، مثل فتل الحبل وما شابهه ، ويأتي أيضا بمعنى التغيير والتحريف).

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي أنّهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد ، ومعاداة الحق ، وسوء الأدب،والجرأة والقحة وقالوا : سمعنا كلام الله وأطعنا ، فاستمع إلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكا كاملا ، لكان ذلك من مصلحتهم ، وكان في ذلك منفعتهم ، وأكثر انسجاما وتوافقا مع العدل والمنطق والعدل والأدب.

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة ، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان ، وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق ، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة ، اللهم إلّا بعضهم ممن يمتلك فؤادا طاهرا وعقلا يقظا ، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق ، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.

وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإخباراته الغيبية ، لأنّه ـ كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية ـ لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإسلامي ولم يذعن للحق إلّا جماعة قليله ، وأمّا غيرهم ـ وهم الأكثرية الساحقة ـ فقد بقوا ـ وإلى الآن ـ على عدائهم الشديد ، وخصومتهم للإسلام ، ولم يزالوا يكيدون له المكائد ، ويحيكون ضده المؤامرات.

* * *

٢٥٥

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

التّفسير

مصير المعاندين :

تعقيبا على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب ، وجه الخطاب في هذه الآية إليهم أنفسهم ، إذ قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقا لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر ، ولا شك أنّكم أولى من غيركم ـ ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم ـ بالإيمان بهذا الدين الطاهر.

ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يصابوا بإحدى عقوبتين ، الأولى : أن تنمحي صورهم كاملة ، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق ، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إلى خلف كما يقول سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) (١) (وُجُوهاً فَنَرُدَّها

__________________

(١) الطمس هو إزالة الأثر بالمحو ، مثل أن نهدم بيتا ثم نزيل أثره بالمرة ـ ولكنه يطلق ـ كناية ـ على ما فقد أثره

٢٥٦

عَلى أَدْبارِها).

ولعلّنا لسنا بحاجة إلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها ، والانحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام من أنّ المراد : «نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّا لها بأنّها لا تفلح أبدا» (١).

توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب ، وبخاصّة اليهود منهم ، عند ما أعرضوا عن الإذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين ، وعاندوا تعنتا واستكبارا وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة ، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئا فشيئا ، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت ، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا ، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إلى الأمام ، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عنادا وعتوا ، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية (٦).

وعلى هذا ، فإن المراد من «الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي ، والتأخر المعنوي.

وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إذ قال : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) (٢).

وهنا يطرح سؤال وهو : ما الفرق بين هذين التهديدين ، حتى يفصل بينهما بـ «أو»؟

__________________

وخاصيته.

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥٥ ، في ذيل الآية الحاضرة.

(٢) أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصّتهم في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (١٦٣ ـ ١٦٦) وهم جماعة من اليهود كانوا قد كلفوا بتعطيل العمل والكسب في يوم السبت ، ولكنّهم اشتغلوا بالصيد في ذلك اليوم بالرغم من نهى نبيّهم ، فتجاوزوا في الطغيان الحدّ ، فابتلاهم الله بأشد العقوبات.

٢٥٧

ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي ، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي ، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية : (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) ونحن نعلم أن أصحاب السبت ـ كما يتّضح من مراجعة الأعراف ـ قد مسخوا مسخا ظاهريا وجسديا.

وذهب آخرون إلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضا على جانب معنوي بفارق واحد ، هو أنّ التهديد الأوّل إشارة إلى الانحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم،والتهديد الثّاني إشارة إلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن).

خلاصة القول : إنّ أهل الكتاب بإصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.

ثمّ إنّ هنا سؤالا آخر هو : هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء ، أم لا؟

لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم ، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم ، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإسلامية ، وذهبت شوكتهم وقدرتهم. وإنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة ، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم ، وخسروا الكثير من طاقاتهم ، ولا يزالون إلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.

ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ليؤكّد هذه التهديدات،فإنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إرادة الله ومشيئته.

* * *

٢٥٨

الآية

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

التّفسير

أرجى آيات القرآن :

الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو ، إلا «الشرك» فإنّه لا يغفر أبدا ، إلّا أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحدا ، وبعبارة أخرى : ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إزالة الإيمان ، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإنسان إذا كان مقرونا بالشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين ، كل طائفة بشكل معين ، والقرآن ينذرهم ـ بهذه الآية ـ بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران ، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (١).

__________________

(١) الافتراء ، مشتقة من مادة فرى على وزن (فرد) بمعنى القطع ، وحيث أنّ قطع بعض أجزاء الشيء السالم يفسد

٢٥٩

وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة الله ولطفه ، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك ، فهي كما جاءفي حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال : «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

وهذه الآية ـ كما قال ابن عباس «ثماني آيات نزلت في سورة النساء ، خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية» (١).

لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إلى الأبد،فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار ، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إلى هؤلاء ، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان ، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية تهدف ـ في الحقيقة ـ إلى مسألة تربوية.

فإذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين ، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال «وحشي» غلام هند وقاتل بطل الإسلام حمزة بن عبد المطلب عم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمن مع نزول هذه الآية ، وينتهي عن جرائمه وشقاوته ، فإن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين ، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه ، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية ، لما فيها من الوعد بالعفو عن «جميع الذنوب ما عدا الشرك».

ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من

__________________

ذلك الشيء ويخربه استعمل في كل مخالفة ، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥٧.

٢٦٠