الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

يقول : إنّ ناسخه هو آية الطلاق إذ يقول سبحانه : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) في حين أنّ هذه الآية لا ترتبط بالمسألة المطروحة في هذا البحث لأنّ هذه الآية تبحث في الطلاق ، في حين أن الزواج المؤقت (أو المتعة) لا طلاق فيه ، والإفتراق بين الطرفين في هذا الزواج يتمّ بانتهاء المدّة المقررة.

إنّ القدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية هذا النوع من الزواج في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر قطعي ومفروغ عنه ، وليس ثمّة أي دليل يمكن الاطمئنان إليه ويثبت نسخ هذا الحكم ، ولهذا فلا بدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم ، بناء على ما هو مقرر وثابت في علم الأصول.

والعبارة المشهورة المروية عن «عمر» خير شاهد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذا الحكم لم ينسخ في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وإلخ.

ثمّ إن من البديهي أنّه لا يحق لأحد إلّا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينسخ الأحكام ، فهو وحده يحق له ـ وبأمر من الله سبحانه وإذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام ، وقد سد باب نسخ الأحكام بعد وفاة النّبي تماما ، وإلّا لاستطاع كل واحد أن ينسخ شيئا من الأحكام الإلهية حسب اجتهاده ومزاجه ، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية ، وهذا مضافا إلى أنّ الاجتهاد في مقابل النص النّبوي لا ينطوي على أية قيمة أبدا.

والملفت للنظر أننا نقرأ في صحيح الترمذي الذي هو من صحاح أهل السنة المعروفة،وكذا عن الدارقطني (١) أن رجلا من أهل الشام سأل «عبد الله بن عمر» عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فإن أباك كان ينهى عنها،فقال:ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر به أفبقول أبي آخذ ، أم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قم عنّي (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ٧٦٢ ، ذيل الآية (١٩٥) البقرة.

(٢) المراد من متعة الحج التي حرّمها عمر هو لو أننا صرفنا النظر عن حج التمتع ، فإن حج التمتع عبارة عن الأمر

١٨١

وقد ورد نظير هذا الحديث وبنفس الصورة التي قرأتها حول زواج المتعة عن «عبد الله بن عمر» في صحيح الترمذي (١).

وجاء في كتاب «المحاضرات» للراغب أنّ رجلا من المسلمين كان يفعلها (أي المتعة) فقيل له : عمّن أخذت حلّها؟ فقال : عن عمر ، فقالوا : كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال : لقوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء ، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أقبل نهيه من قبل نفسه (٢).

ثمّ إن هناك مطلبا آخر لا بدّ أن نذكر به هنا وهو أن الذين ادعوا نسخ هذا الحكم (أي انتساخه) قد واجهوا مشكلات عديدة.

أوّلا : أنّه صرّح في روايات عديدة في مصادر أهل السنة بأنّ هذا الحكم لم ينسخ في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا ، بل نهي عنه في عهد عمر ، وعلى هذا يجب على مدعي النسخ أن يجيبوا على هذه الروايات البالغة ـ عددا ـ عشرين رواية ، جمعها العلّامة الأمينيرحمه‌الله مفصلة في الجزء السادس من «الغدير» وها نحن نشير إلى نموذجين منها.

١ ـ روي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه كان يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر حتى ـ ثمّ ـ نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (٣).

٢ ـ وفي حديث آخر في كتاب «الموطأ» لمالك و «السنن الكبرى» للبيهقي

__________________

التالي : إن يحرم الشخص أوّلا ، ثمّ بعد الإتيان بمناسك «العمرة» يخرج من إحرامه (فيحلّ له كل شيء حتى الجماع) ثمّ يحرم من جديد ليؤدي مناسك الحج من تاسع ذي الحجّة ، وقد كان الناس في الجاهلية يبطلون هذا العمل ويستغربون ممن يدخل مكّة أيام الحج ثمّ يأتي بالعمرة ويخرج من إحرامه قبل أن يأتي بالحج ، ولكن الإسلام أباح هذا وقد صرّح بهذا الأمر في الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

(١) شرح اللمعة الدمشقية ، ج ٢ ، كتاب النكاح.

(٢) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ١٥٩ الهامش.

(٣) الغدير ، ج ٦ ، ص ٢٠٥ و ٢٠٦.

١٨٢

روي عن «عروة بن زبير» إنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه فقالت : إنّ ربيعة بن أميّة استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمر رضي‌الله‌عنه يجرّ رداءه فزعا فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته ، (أي أمنع منها من الآن) (١).

وفي كتاب «بداية المجتهد» تأليف «ابن رشد الأندلسي» نقرأ أيضا أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول : تمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثمّ نهى عنها عمر الناس (٢).

والمشكلة الاخرى هي أنّ الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدّا ، فبعضها يقول نسخ في خيبر وبعضها يقول : نسخ يوم فتح مكّة ، وبعض يقول : في معركة تبوك وآخر يقول : يوم أوطاس وما شابه ذلك ، ومن هنا يتبيّن إن هذه الأحاديث المشيرة إلى النسخ موضوعة برمتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح.

من كل ما قلناه اتّضح أنّ ما كتبه صاحب تفسير المنار حيث قال : «وقد كنّا قلنا في (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع : من المنار أن عمر نهى عن المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ثمّ تبيّن لنا أنّ ذلك خطأ فنستغفر الله منه» (٣).

إنّه حديث العصبية لأنّ هناك في مقابل الرّوايات المتضاربة المتناقضة التي تتحدث عن انتساخ حكم المتعة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات تصرّح باستمرار المسلمين على ممارسة هذا الأمر (أي المتعة) إلى عهد عمر ، وعلى هذا ليس المقام مقام الاعتذار ولا الاستغفار ، فالشواهد التي ذكرناها سابقا تشهد بأن

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٢) بداية المجتهد كتاب النكاح.

(٣) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٦.

١٨٣

كلامه الأوّل مقترن بالحقيقة وليس كلامه الثّاني كذلك.

ولا يخفى أنّه لا «عمر» ولا أي شخصية أخرى حتى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وهم خلفاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقادرين على نسخ أحكام ثبتت في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لا معنى للنسخ ـ أساسا ـ بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانسداد باب الوحي وانقطاعه ، وحملهم كلام «عمر» على الاجتهاد مثير للعجب ، لأنّه من «الاجتهاد» في مقابل «النص».

وأعجب من ذلك أن جماعة من فقهاء السنة اعتبروا الآيات المرتبطة بأحكام الزواج مثل الآية (٦) من سورة المؤمنين ناسخة لآية المتعة ، وكأنّهم تصوروا أن زواج المتعة ليس زواجا أصلا ، في حين أنّه أحد أقسام الزواج.

الزّواج المؤقت ضرورة اجتماعية :

إنّه قانون عام إن الغريزة البشرية الطبيعية إذا لم تلّب بصورة صحيحة سلك الإنسان لإشباعها وتلبيتها طريقا منحرفا ، لأن من الحقائق المسلمة غير القابلة للإنكار أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن يقضى عليها بالمرّة وحتى أننا إذا استطعنا أن نقضي عليها ـ افتراضا ـ لم يكن هذا العمل عملا صحيحا ، لأنّه حرب على قانون من قوانين الخلقة.

وعلى هذا فإنّ الطريق الصحيح هو أن نشبع هذه الحاجة ، ونلبي هذه الغريزة بطريقة معقولة ، وأن نستفيد منها في سبيل البناء.

على أننا لا يمكننا أن ننكر أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإنسانية إلى درجة أن بعض المحللين النفسانيين اعتبرها الغريزة الإنسانية الأصلية التي إليها ترجع بقية الغرائز الاخرى.

فإذا كان الأمر كذلك ينطرح سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه ـ وفي كثير من الظروف والأحوال ـ أن يتزوج بالزواج الدائم في سن

١٨٤

خاص ، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر في رحلة طويلة ومهمّة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء.

خاصّة وإنّ هذه المسألة قد اتّخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج ـ بسبب طول مدّة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الاجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سن مبكرة ، أي في السن التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب ـ اتّخذت صفة أكثر عنفا وضراوة ، ترى ما الذي يجب عمله في هذه الحالة؟

هل يجب حثّ الناس على أن يقمعوا هذه الغريزة (كما يفعل الرهبان والراهبات)؟أو أنّه يجب أن يفسح لهم المجال لأن يتحرروا جنسيا فيفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا،فتتكرر الصورة المقرفة؟

أو أن نسلك طريقا ثالثة تخلو عن مشاكل الزواج الدائم ، كما وتخلو عن مفاسد التحرر الجنسي أيضا؟

وخلاصة القول إن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الاحتياجات الجنسية ، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس،فنحن لذلك أمام خيارين لا ثالث لهما وهما : إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء ، وفكرة المتعة ، على هذا السؤال الملح؟

إنّ أطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية ، أو لا تتلاءم مع ظروف

١٨٥

الدراسة ، كما لا تنطوي على إضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

مؤاخذات على الزواج المؤقت :

نعم هناك مؤاخذات تؤخذ على الزواج المؤقت لا بدّ أن نذكرها هنا ، ونجيب عليها باختصار.

١ ـ ربّما يقال : ما الفرق بين «الزواج المؤقت» و «الزنا» ، أليس كلاهما بيع للجسد لقاء دفع مبلغ معين ، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا ، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إجراء ما يسمّى بالصيغة ، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

والجواب هو : إن الذين يرددون هذا الكلام كأنّهم لم يطّلعوا أصلا على مفهوم الزواج المؤقت وحقيقته ، لأنّ الزواج المؤقت ليس عبارة عن مجرّد كلمتين تقال وينتهي كل شيء، بل ثمّة مقررات نظير ما في الزواج الدائم ، يعني أن المرأة المتمتع بها تكون ـ طوال المدّة المضروبة في الزواج المؤقت خاصّة بالرجل المتمتع ، ثمّ عند ما تنتهي المدّة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد ، يعني أن تمتنع من الزواج مطلقا برجل آخر لمدّة خمسة وأربعين يوما على الأقل ، حتى يتبيّن أنّها حملت من الرجل الأوّل أو لا ، على أنّها يجب أن تعتد حتى إذا توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضا وإذا حملت من ذلك الرجل وأتت بوليد وجب أن يتكفله ذلك الرجل كما يتكفل أمر ولده من الزواج الدائم ويجري عليه من الأحكام كل ما يجري على الولد الناشئ من الزواج الدائم ، في حين أن الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود ، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟

نعم إنّ بين الزواج المؤقت والزواج الدائم بعض الفروق من حيث التوارث

١٨٦

بين الزوجتين (١) والنفقة وبعض الأحكام ، ولكن هذه الفروق لا تسبب في أن يجعل «الزواج المؤقت» في رديف البغاء ، خلاصة القول : إنّ المتعة نوع من الزواج بمقررات الزواج والنكاح.

٢ ـ إنّ «الزواج المؤقت» يتيح لبعض الأشخاص من طلاب الهوى أن يسيء استعمال هذا القانون ، وأن يرتكبوا كل فاحشة تحت هذا الستار لدرجة أن ذوي الشخصيات من الناس لا تقبل بمثل هذا الزواج ، بل وتأنف منه كما أن ذوات الشخصية من النساء يأبين ذلك أيضا.

والجواب هو : وأي قانون في عالمنا الراهن لم يسأ استعماله؟ وهل يجوز أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الاجتماعية الملحة بحجّة أن هناك من يسيء استعماله ، أم أن علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

لو أنّ البعض استغل موسم الحج لبيع المخدرات على الحجيج ـ افتراضا ـ فهل يجب أن نمنع من هذا التصرف الشائن ، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المؤتمر الإسلامي العظيم؟

وهكذا الأمر في المقام ، وإذا لا حظنا بعض الناس من ذوي الشخصيات يكره الأخذ بهذا القانون الإسلامي (أي الزواج المؤقت) لم يكشف ذلك عن عيب في القانون ، بل يكشف عن عيب في العاملين به ، أو بتعبير أصح : يكشف عن عيب في الذين يسيئون استخدام القانون.

فلو أنّ الزواج المؤقت اتّخذ في المجتمع المعاصر صورته الصحيحة ، وقامت الحكومة الإسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح ، وضمن ضوابطه ومقرراته الخاصّة به ، أمكن المنع من سوء استخدام المستغلين لهذا القانون ، كما لم يعد ذوو الشخصيات يكرهون هذا القانون ويرفضونه عند وجود ضرورة

__________________

(١) طبعا ليس هناك أي فرق بين أولاد الزواج المؤقت وأبناء الزواج الدائم من هذه النواحي.

١٨٧

اجتماعية أيضا.

٣ ـ يقولون : إنّ «الزواج المؤقت» يسبب في أن يحصل في المجتمع أطفال بلا أسر،تماما كما يحصل من البغاء من الأولاد الغير الشرعيين.

والجواب هو : إنّ الإجابة على هذه المؤاخذة تتّضح تماما ممّا قلناه ، لأنّ الأولاد غير الشرعيين غير مرتبطين بآبائهم ولا أمهاتهم من الناحية القانونية ، في حين إن الأولاد الناتجين من الزواج المؤقت لا يختلفون في أي شيء عن الأولاد الناشئين من الزواج الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الاجتماعية ، وهذا الاعتراض نشأ من عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة الساطعة في صعيد الزواج المؤقت.

«راسل» والزواج المؤقت :

في خاتمة هذا البحث من المفيد الإشارة إلى موضوع هام ذكره في هذا المجال العالم الإنجليزي المعروف «برتراندراسل» في كتابه : «الزواج والأخلاق» تحت عنوان «زواج اختياري».

لقد كتب راسل بعد أن ذكر اقتراحا لأحد قضاة محاكم الشباب يدعى «بن بن بي ليندسي» في مجال «الزواج الودّي أو الزواج الاختياري» قائلا : وفق هذا الاقتراح يجب أن يكون الشباب قادرين على أن يدخلوا في نوع جديد من الزواج يختلف عن الزواج المتعارف (الدائم) من ثلاث نواح :

أوّلا : أن لا يقصد الطرفان الحصول على أبناء ، ولهذا يجب أن يتعرفوا على أفضل السبل لمنع الحمل.

وثانيا : أن يتمّ الإفتراق بين الطرفين بأبسط الطرق وأسهلها.

وثالثا : أن لا تستحق المرأة أي نفقة من الرجل بعد وقوع الإفتراق والطلاق بينهما.

١٨٨

ثمّ إنّ راسل بعد أن يذكر خلاصة ما اقترحه «ليندسي» يقول : وإنّي لأتصور أن مثل هذا الأمر لو اعترف به القانون لأقبل جمهور كبير من الشباب وخاصّة الطلبة الجامعيين على الزواج المؤقت ولدخلوا في حياة مشتركة مؤقتة ، حياة تتمتع بالحرية ، وخالصة من كثير من التبعات والعواقب السيئة للعلاقات الجنسية الطائشة ، الراهنة» (١).

إنّ هذا الطرح ـ كما تلاحظ أيّها القارئ الكريم ـ حول الزواج المؤقت يشابه إلى حدّ كبير قانون الزواج المؤقت الإسلامي ، غاية ما هنالك إنّ الشروط التي قرّرها الإسلام في صعيد «الزواج المؤقت» أوضح وأكمل من نواحي كثيرة ممّا اعتبر في ذلك الطرح (الذي اقترحه ليندسي) ، هذا مضافا إلى أن المنع من تكون الولد في الزواج المؤقت الإسلامي غير محضور وإنّ الانفصال سهل ، كما أنّه لا تجب النفقة في هذا الزواج على الرجل.

ثمّ إنّ الله سبحانه قال : ـ بعد ذكر وجوب دفع المهر ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) وهو بذلك يشير إلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إذا تراضى طرفا العقد ، وعلى هذا الأساس يكون الصداق نوعا من الدين الذي يخضع للتغيير من زيادة أو نقصان إذا تراضيا. (ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم وإن كانت الآية الحاضرة ـ كما شرحنا ذلك سلفا ـ تدور حول الزواج المؤقت).

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في تفسير الآية أيضا وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان ـ بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدّة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين ، وهذا يعني أن مدّة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إشرافها على الانتهاء (أي قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجات أن يضيفا على المدّة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج ، مدّة أخرى معينة لقاء إضافة مقدار معين

__________________

(١) من كتاب (زناشوئي وأحلاق) ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

١٨٩

من المال إلى الصداق المتفق عليه أوّلا (وقد أشير في روايات أهل البيت عليهم‌السلام إلى هذا التّفسير أيضا).

ثمّ أنّه سبحانه قال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) يريد بذلك أن الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمّن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ الله عليم بمصالحهم ، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

* * *

١٩٠

الآية

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

التّفسير

التّزوج بالإماء :

تعقيبا على الأبحاث السابقة المتعلقة بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإماء ، فتقول أولا : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) (١) (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات ، وليس لديه ما يقدر على

__________________

(١) «الطول» على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإمكانية المالية وما شابه ذلك.

١٩١

مهرهنّ ونفقتهنّ ، فإن له أن يتزوج ممّا ملكت أيمانكم من الإماء ، فإن مهورهنّ أقل ، ومؤونتهنّ أخفّ عادة.

على أنّ المراد من الأمة هنا هي أمة الغير ، إذ لا يجوز لصاحب الأمة أن يتزوج بأمته ويتعامل معها كما يتعامل مع زوجته بشروط مذكورة في الكتب الفقهية.

كما أن التعبير بـ «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها ، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإماء الكتابيات.

ثمّ إنّ الملفت للنظر في المقام هو أنّ القرآن عبر عن الإماء بالفتيات جمع فتاة ، هو مشعر عادة بالاحترام الخاص الذي يولي للنساء ، وهي تستخدم غالبا في الشّابات من الإناث.

ثمّ إن الله سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) ويريد بذلك أنكم لستم مكلّفين ـ في تشخيص إيمان الإماء ـ إلّا بالظاهر ، وأمّا الباطن فالله هو الذي يعلم ذلك ، فهو وحده العالم بالسرائر ، والمطلع على الضمائر.

وحيث إن البعض كان يكره التزوج بالإماء ويستنكف من نكاحهنّ قال تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنّكم جميعا من أب واحد ، وأمّ واحدة ، فإذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإنسانية عنكم ، واللائي يشبهنّ غيرهنّ من ناحية القيمة المعنوية ، فقيمتهنّ تدور مدار التقوى والإيمان لا غير.

وخلاصة القول إنّ الإماء من جنسكم ، وكلّكم كأعضاء جسم واحد.

نعم لا بدّ أن يكون التزوج بالإماء بعد إذن أهلهنّ وإلّا كان باطلا ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) والتعبير عن المالك بالأهل إنّما هو للإشارة إلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإماء على أنهنّ متاع أو بضاعة ، بل يجب

١٩٢

أن يكون التعامل معهنّ على أنهنّ من أعضاء العائلة ، فلا بدّ أن يكون تعاملا إنسانيا كاملا.

ثمّ إنّه سبحانه قال : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ومن هذه الجملة يستفاد أن الصّداق الذي يعطى نهنّ يجب أن يكون متناسبا مع شأنهن ومكانتهن ، وأن يعطى المهر لهنّ ، يعني أن الامة تكون هي المالكة للصداق ، وإن ذهب بعض المفسرين إلى أن في الآية حذفا ، أي أن الأصل هو (وآتوا مالكهنّ أجورهنّ) غير أن التّفسير لا يوافق ظاهر الآية ، وإن كانت تؤيده بعض الروايات والأخبار.

هذا ويستفاد أيضا من ظاهر الآية أنه يمكن للعبيد والإماء أن يملكوا ما يحصلون عليه بالطرق المشروعة.

كما يستفاد من التعبير بـ «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإماء في تعيين مقدار المهر ، بل هو حقهنّ الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إليهنّ بالقدر المتعارف.

ثمّ إن الله سبحانه ذكر شرطا آخر من شروط هذا الزواج ، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإماء اللائي لم يرتكبن البغاء إذ قال :

(مُحْصَناتٍ) سواء بصورة علنية (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أو بصورة خفية (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (١) أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ويمكن أن يرد هنا سؤال هو أنّ النهي عن الزنا بلفظة (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) تكفي وتغني عن النهي عن اتّخاذ الأخدان ، فلما ذا الوصف الثاني أيضا؟

ويجاب على هذا : بأن البعض ـ في عهد الجاهلية ـ كان يرى أنّ المذموم فقط هو الزنا العلني والسفاح الظاهر ، وأمّا اتّخاذ الأخلاء والرفاق أو الرفيقات في

__________________

(١) الأخدان جمع «خدن» وهي بمعنى الرفيق والخل في الأصل ، ولكنها تستعمل عادة في الأشخاص الذين يقيمون علاقات جنسية غير مشروعة مع الجنس الآخر ، ولا بدّ أن نعرف أن القرآن أطلق لفظة الخدن على المرأة كما أطلقها على الرجل.

١٩٣

السرّ فلا بأس به ، وبهذا يتّضح سبب ذكر القرآن وتصريحه بكلا النوعين.

ثمّ إن الله سبحانه قال : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).

وتتضمن الآية بحثا حول عقوبة الإماء إذا خرجن عن جادة العفة والطهر ، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإماء ، وبعض الأحكام حول حقوقهنّ.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أن الإماء إذا زنين فجزاؤهنّ نصف جزاء الحرائر إذا زنين ، أي خمسون جلدة.

ثمّ إنّ هاهنا نقطة جديرة بالانتباه هي أنّ القرآن الكريم يقول في هذا المقام (فَإِذا أُحْصِنَ) فيكون معناه أنّ الجزاء المذكور إنّما يترتب على زنا الأمة إذا أحصنت ، فما ذا يعني ذلك؟

لقد احتمل المفسّرون هنا احتمالات عديدة ، فبعضهم ذهب إلى أنّ المراد هو الأمة ذات بعل (وذلك حسب الاصطلاح الفقهي المعروف والآية السابقة).

وذهب آخرون إلى أنّ المراد هي الأمة المسلمة ، بيد أن تكرار لفظة المحصنة مرتين في الآية يقضي بأن يكون المعنى واحدا في المقامين ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن جزاء النساء المحصنات هو الرجم لا الجلد ، فيتّضح أنّ التّفسير الأوّل وهو تفسير المحصنة بالأمة ذات بعل غير مقبول ، كما أنّ التّفسير الثّاني وهو كون المراد من المحصنة هو المسلمة ليس له ما يدل عليه.

فالحقّ هو أنّ مجيء لفظة (الْمُحْصَناتِ) في القرآن الكريم بمعنى المرأة العفيفة الطاهرة ـ على الأغلب ـ يجعل من القريب إلى النظر أن تكون لفظة المحصنة هنا في الآية الحاضرة مشيرة إلى هذا المعنى نفسه ، فيكون المراد أنّ الإماء اللاتي كن يرتكبن الفاحشة بضغط وإجبار من أوليائهنّ لا يجري عليهنّ

١٩٤

الحكم المذكور (أي الجلد) ، أمّا الإماء اللاتي لم يتعرضن للضغط والإجبار ، ويمكنهنّ أن يعشن عفيفات نقيات ، فإنهنّ إذا أتين بالفاحشة عوقبن كما تعاقب الحرائر وإن كانت عقوبة هذا النوع من الإماء على النصف من حدّ الحرائر في الزنا.

ثمّ قال سبحانه معقبا على الحكم السابق : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) و «العنت» (على وزن سند) يقال في الأصل للعظم المجبور ـ بعد الكسر ـ إذا أصابه ألم وكسر آخر فهضّه قد أعنته ، لأن هذا النوع من الكسر مؤلم جدّا ، ولهذا يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.

ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة أنّ الزواج بالإماء إنّما يجوز لمن يعاني من ضغط شديد بسبب شدّة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادرا على التزوج بالحرائر من النساء ، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإماء لغير هذه الطائفة.

ويمكن أن تكون فلسفة هذا الحكم في أنّ الإماء خاصّة في تلك العهود لم يحظين بتربية جيدة ، ولهذا كن يعانين من نواقص خلقية ونفسية وعاطفية ، ومن الطبيعي أن يتّخذ الأطفال المتولدون من هذا الزواج صفة الأمهات ويكتسبوا خصوصياتهنّ الخلقية ، ولهذا السبب طرح الإسلام طريقة دقيقة لتحرير العبيد تدريجا حتى لا يبتلوا بهذا المصير السيء،وفي نفس الوقت فسح للأرقاء أنفسهم أن يتزوجوا فيما بينهم.

نعم ، هذا الموضوع لا يتنافى مع وضع بعض الإماء اللائي حظين بوضع استثنائي وخاص من الناحية الخلقية والتربوية ، فالحكم المذكور أعلاه يرتبط بأغلبية الإماء ، وكون بعض أمهات الأئمّة ، من أهل البيت النبوي عليهم‌السلام من الإماء هو من هذه الجهة ، ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ ما قيل في مجال الإماء من

١٩٥

«المنع في غير الضرورة» هو الزواج بهنّ ، لا نكاحهنّ بسبب الملك ، فإنّه لا مانع منه حتى في غير الضرورة.

ثمّ عقب سبحانه على ذلك بقوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي إن صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن مصلحتكم : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يغفر الله لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة فهو رحيم بكم.

* * *

١٩٦

الآيات

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

التّفسير

هذه القيود لما ذا؟ :

بعد أن بيّن الله سبحانه في الآيات السابقة ما هناك من شروط وقيود وأحكام مختلفة في مجال الزواج ، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو : ما المقصود من كلّ هذه القيود ولما ذا الحدود القانونية؟ ألم يكن من الأفضل أن تترك للأفراد الحرية الكاملة في هذه المسائل ، ليتاح لهم أن يستفيدوا من هذا الأمر وليتعرفوا في هذا المجال كما يفعل عبدة الدنيا حيث يتوسلون بكل وسيلة في طريق اللّذة؟

إنّ الآيات الحاضرة هي في الحقيقة إجابة على هذه التساؤلات إذ يقول سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي أنّ الله يبيّن لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إلى ما فيه مصالحكم ،

١٩٧

مع العلم بأن هذه الأحكام لا تختص بكم ، فقد سار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة ، هذا مضافا إلى أنّ الله تعالى يريد أن يغفر لكم ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب انحرافكم عن جادة الحقّ ، وكل هذا إنّما يكون إذا عدتم عن طريق الانحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل الإسلام.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعلم بأسرار الأحكام ، ويشرعها لكم عن حكمة.

ثمّ إن الله سبحانه أكّد ما مرّ بقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي أنّ الله يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم ، وارتكابكم للشّهوات ، ولكن الذين يريدون الانسياق وراء الشّهوات الغارقين في الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا عن طريق السعادة ، إنّهم يريدون أن تسايروهم في اتّباع الشّهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماسا كاملا ، فهل ترون ـ والحال هذه ـ إنّ هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم ، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخلقي ، والفساد والسقوط؟

إنّ هذه الآيات في الحقيقة تجيب على تساؤل أولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضا والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية ، وتقول لهم : إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب ، وهي لا تنتج سوى الانحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإنساني ، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل ، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بأم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجريمة الجنسية البشعة ، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة ، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.

ثمّ إنّه سبحانه يقول بعد كل هذا : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ

١٩٨

ضَعِيفاً) وهذه الآية إشارة إلى أنّ النقطة التالية وهي أنّ الحكم السابق في مجال حرية التزوج بالإماء بشروط معينة ما هو ـ في الحقيقة ـ إلّا تخفيف وتوسعة ، ذلك لأنّ الإنسان خلق ضعيفا ، فلا بدّ وهو يواجه طوفان الغرائز المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة لإرضاء غرائزه ، ليتمكن من حفظ نفسه من الانحراف والسقوط.

* * *

١٩٩

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

التّفسير

سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الإقتصاد :

الآية الأولى من هاتين الآيتين تشكل ـ في الحقيقة ـ القاعدة الأساسية للقوانين الإسلامية في مجال المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» ولهذا يستدلّ بها فقهاء الإسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية.

إنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وهذا يعني أنّ أي تصرف في أموال الغير بدون حق أو بدون أي مبرر منطقي ومعقول ، ممنوع ومحرم من وجهة نظر الإسلام ، فقد أدرج الإسلام كل هذه الأمور تحت عنوان «الباطل» الذي له مفهوم واسع وكبير.

والباطل كما نعلم يقابل «الحقّ» وهو شامل لكل ما ليس بحقّ وكلّ ما لا هدف له ولا أساس.

٢٠٠