الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

سلوك ناشز مع الزوج؟ فيه كلام بين المفسرين إلّا أنّه روي في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام التصريح بأنه كل معصية من الزوجة (١) (طبعا يستثنى من ذلك المعاصي الطفيفة لعدم دخولها في مفهوم الفاحشة التي تشير إلى أهمية المعصية وخطرها ، والذي يتأكد بكلمة «مبينة»).

٣ ـ عاشروهن بالمعاشرة الحسنة ، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، أي عاشروهن بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة ، ثمّ عقب على ذلك بقوله : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

فحتى إذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات ، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إلى الانفصال عنهن والطلاق ، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم ، إذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيرا كثيرا ، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى ، ولم تصل الأمور إلى الحدّ الذي لا يطاق ، خاصّة وإن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إلى مبرر صحيح ، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أسس واقعية إلى درجة أنّهم قد يرون الأمر الحسن سيئا والأمر السيء حسنا في حين ينكشف الأمر على حقيقة بعد مضي حين من الزمن ، وشيء من المداراة.

ثمّ إنّه لا بدّ من التذكير بأن للخير الكثير في الآية الذي يبشر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهن مفهوما واسعا ، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.

* * *

_________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٥٧.

١٦١

الآيتان

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

سبب النّزول

كان التقليد المتبع قبل الإسلام أنه إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته ، ويتزوج بأخرى أن يتّهم الزوجة الأولى بالزنا والخيانة الزوجية فرارا من دفع مهرها ، أو يعمد إلى معاملتها بقسوة حتى ترد مهرها الذي قد أخذته من قبل إلى الرجل ، ليستطيع أن يعطي ذلك المبلغ للزوجة الجديدة التي يبغي الزواج بها ، ويمهرها به.

فنزلت هذه الآيات تستنكر هذا العمل القبيح الظالم بشدّة ، وتشجبه وتقبحه وتدعو إلى إنصاف الأزواج وعدم ظلمهنّ في مهورهنّ.

التّفسير

نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسما آخر من حقوق المرأة ، فقد جاءت الآية الأولى تقول : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ

١٦٢

قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فهي تخبر المسلمين ـ إذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة أخرى ـ أنّه لا يحق لهم أبدا أن يبخسوا من صداق الزوجة الأولى شيئا أو يستردوا شيئا من الصداق إذا كانوا قد سلموه إلى الزوجة مهما كان مقداره كثيرا وثقيلا ، والذي عبّر عنه في الآية بالقنطار ، والقنطار ـ كما سبق يعني المال الكثير وقد جاء في المفردات للراغب : أنّ القنطار جمع القنطرة ، والقنطرة من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بالقنطرة (١).

لأن المفروض أن تطليق الزوجة الأولى ـ هنا ـ يتمّ لأجل مصلحة الزوج ، وليس لأجل انحراف الزوجة عن جادة العفاف والطهر ، ولهذا لا معنى لأن تهمل حقوقها القطعية.

ثمّ إنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إلى الأسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها ، إذ تقول في استفهام إنكاري : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ،واتهامهنّ بالفاحشة ، وهو إثم واضح ومعصية بيّنة ، وهذا يعني أن أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية ، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية اخرى واضحة ، وظلم آخر بيّن.

ثمّ أضاف سبحانه ـ في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين ـ وضمن استفهام إنكاري بهدف تحريك العواطف الإنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك ، وقد عشتم مع الزوجة الأولى زمنا طويلا ، وكانت لكم معهنّ حياة مشتركة ، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحا واحدة في جسمين ، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم ـ أيّها الأزواج ـ أن تبخسوا حق الزوجة الأولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله :

__________________

(١) ولمزيد التوضيح راجع الجزء الثاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (١٥) من سورة آل عمران.

١٦٣

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى) (١) (بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟

وهذا يشبه قولنا لمن عاشا صديقين حميمين زمنا طويلا ثمّ تنازعا : كيف تتنازعان وقد كنتما صديقين حميمين سنوات طويلة وأعواما عديدة؟

وفي الحقيقة أن ارتكاب مثل هذا الفعل في حق الزوجة شريكة الحياة ما هو إلّا ظلم للنفس.

ثمّ أنّه سبحانه تعالى : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي كيف تبخسون الزوجة حقّها في الصداق وقد أخذت منكم ـ لدى عقد الزواج بينكما ـ ميثاقا غليظا وعهدا موثقا بأن تؤدوا إليهنّ حقوقهنّ كاملة ، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم لها حالة العقد؟

ثمّ يجب أن نعرف أنّ الآية الحاضرة وإن وردت في مقام تطليق الزوجة الأولى لغرض إحلال زوجة أخرى مكانها إلّا أنّها لا تختصّ بهذا المورد خاصّة ، بل تعمّ كل موارد الطلاق الذي يتمّ باقتراح من جانب الزوج ولا تكون لدى الزوجة رغبة في الإفتراق ، فإنّه يجب على الزوج في هذه الحالة أن يعطي الصداق بكامله إلى الزوجة إذا أراد أن يطلقها ، وأن لا يسترد شيئا من الصداق إذا كان قد أعطاه إياها ، سواء قصد أن يتزوج بامرأة أخرى أو لا.

وعلى هذا تكون عبارة : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) ناظرة في الحقيقة إلى ما كان سائدا في العهد الجاهلي ، وليس له أي دخل في أصل الحكم ، فهو ليس قيدا.

على أنّه ينبغي التنبيه أيضا إلى أن لفظة «استبدال» تعني طلب البديل ، ولهذا يكون قد أخذ فيها قيد الإرادة ، فإذا قرنت بكلمة «أردتم» فإنما ذلك لأجل التنبيه

__________________

(١) الإفضاء أصله من الفضاء ، وهو السعة ، وبذلك يكون معنى الإفضاء إيجاد السعة ، لأن الإنسان بسبب الاتصال والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنه وسع دائرة وجوده ، ولهذا استعمل الإفضاء بمعنى الملامسة والاتصال.

١٦٤

إلى نقطة في المقام ، وهي أنكم ـ عند تهيئة المقدمات والعزم على استبدال زوجة اخرى ـ يجب أن لا تبدأوا من المقدمات الغير المشروعة الظالمة ، فتضيعوا مهر زوجتكم إذا أردتم زوجة أخرى.

* * *

١٦٥

الآية

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

سبب النّزول

كانت العادة في الجاهلية أنّه إذا مات رجل وخلف زوجة وأولادا ، وكان الأولاد من زوجة أخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله ، أي أنّه كان يحق لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد ، وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في المتاع والمال ، وقد حدث مثل هذا ـ بعد ظهور الإسلام ـ لأحد المسلمين ، فقد مات أحد الأنصار يدعى «أبو قيس» وخلف زوجة وولدا من زوجة أخرى ، فاقترح الولد عليها الزواج بها ، فقالت تلك المرأة له : إني أعتبرك مثل ابني وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأمره واستوضحه الحكم ، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ارجعي إلى بيتك» فأنزل الله هذه الآية تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدّة.

التّفسير

هذه الآية ـ كما ذكرنا في شأن النّزول ـ تبطل عادة سيئة من العادات

١٦٦

الجاهلية المقيتة فتقول : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي لا تنكحوا زوجة أبيكم.

ولكن حيث أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النّهي بقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).

ثمّ أنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إذ يقول أوّلا : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) ثمّ يضيف قائلا : (وَمَقْتاً) أي عملا منفرا لا تقبله العقول ، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة ، بل تمقته وتكرهه ، ثمّ يختم ذلك بقوله : (وَساءَ سَبِيلاً) أي أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن.

حتى أنّنا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت ، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت ، أي الأولاد المبغوضين.

ومن الواضح أنّ هذا الحكم إنّما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في المقام ، فإن الزواج بامرأة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأمّ ، لأن امرأة الأب في حكم الأمّ الثانية ، ومن ناحية أخرى اعتداء على حريم الأب وهتك له ، وتجاهل لاحترامه.

مضافا إلى أنّ هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب النزاع على نكاح زوجته ، وبسبب الاختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر (أي في من يتزوج بها).

بل إنّ هذا النوع من النكاح يوجب الاختلاف والتنافس البغيض بين الأب والولد،لأنّ هناك تنافسا وحسدا بين الزوجة الأولى والزوجة الثّانية غالبا ، فإذا تحقق هذا النكاح (أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد) في حياة الوالد (أي بعد طلاقها من الأب طبعا) كان السبب في الحسد واضحا ، لأنّ امرأة الأب

١٦٧

ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع ، ممّا يؤدي إلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة الاخرى أكثر، وأمّا إذا تحقق بعد وفاته فإنّه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعا من الحسد بالنسبة لأبيه.

هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع من النكاح إشارات إلى هذه الحكم الثلاث لتحريم نكاح امرأة الأب على وجه الترتيب.

* * *

١٦٨

الآية

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

التّفسير

تحريم الزّواج بالمحارم :

في هذه الآية أشار سبحانه إلى النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ ، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي :

١ ـ الولادة التي يعبّر عنها بالارتباط النّسبي.

٢ ـ الزّواج الذي يعبّر عنه بالارتباط السّببي.

٣ ـ الرّضاع الذي يعبّر عنه بالارتباط الرّضاعي.

وقد أشار في البداية إلى النساء المحرمات بواسطة النّسب وهنّ سبع

١٦٩

طوائف إذ يقول (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ).

ويجب التّنبيه إلى أنّ المراد من «الأمّ» ليس هي التي يتولد منها الإنسان دونما واسطة فقط ، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الأمّ وإن علون ، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة ، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن ، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الاخرى.

ومن الواضح جدّا أنّ الإنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من النسوة ، ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات (إلّا من شذ وهو قليل) ، وحتى المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية ينكرونه ويشجبونه اليوم ، وإن حاول البعض أن يردّ هذه المبغوضية إلى العادة والتقليد القديم ، ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكي ـ عادة ـ عن فطرية هذا القانون ، لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمرا عامّا ودائميا.

هذا مضافا إلى أنّ هناك حقيقة ثابتة اليوم ، وهي أنّ الزواج بين الأشخاص ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة ، ويؤدي إلى انبعاث أمراض خفية وموروثة،وتشددها وتجددها (لأنّ هذا النوع من الزواج يولد هذه الأمراض ، بل يساعدها على التشدد والتجدد والانتقال) إلى درجة أنّ البعض لا يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين (فضلا عن المحارم المذكورة هنا) مثل الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة (١) ويرون أنّه يؤدي هو الآخر أيضا إلى أخطار تصاعد الأمراض الوارثية.

__________________

(١) طبعا إنّ الإسلام لم يحرّم التزاوج بين أبناء وبنات العمومة ، لأنّ هذا النوع من التزاوج ليس مثل الزواج بالمحارم في الخطورة ، واحتمال ظهور مثل هذه الحوادث الخطيرة في هذا النوع من الزواج أقل ، وقد لا حظنا بأنفسنا موارد ونماذج عديدة من نتائج هذا النوع من الزواج حيث يكون الأولاد ـ في هذه الحالة ـ أكثر سلامة وأفضل فكرا وموهبة من غيرهم.

١٧٠

إلّا أنّ هذا النوع من الزواج إذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين (كما هو الغالب) فإنّه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين الذين تشتدّ عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه.

هذا مضافا إلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم عادة ، لأنّ المحارم ـ في الأغلب ـ يكبرون معا ، ويشبّون معا ، ولهذا لا ينطوي الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة ، لأنّهم تعودوا على التعامل فيما بينهم ، فلا يكون أحدهم جديدا على الآخر ، بل العلاقة لديهم علاقة عادية ورتيبة ، ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياسا لانتزاع القوانين الكلية العامّة أو سببا لنقض مضاداتها ، ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية، ولهذا إذا تمّ التزاوج بين المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة مهزوزة وقصيرة العمر.

(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ)

يشير الله سبحانه في هذه الآية إلى المحارم الرّضاعية والقرآن وإن اقتصر في هذا المقام على الإشارة إلى طائفتين من المحارم الرضاعية ، وهي الأم الرضاعية والأخت الرضاعية فقط،إلّا أنّ المحارم الرضاعية ـ كما يستفاد من روايات عديدة ـ لا تنحصر في من ذكر في هذه الآية ، بل تحرم بالرّضاعة كل من يحرمن من النساء بسبب «النسب» كما يصرّح بذلك الحديث المشهور المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب»(١).

على أن بيان مقدار الرّضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة فيه ، وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية.

وفلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي ، أن نشوء ونبات لحم المرتضع

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج ٢ ، ص ١٥٥ ، وغيره.

١٧١

وعظمه من لبن امرأة معينة تجعله بمثابة ابنها الحقيقي ، فالمرأة التي ترضع طفلا مقدارا معينا من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم ، فإنّ هذا النوع من الرضاع يجعل الطفل شبيها بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم جزء من بدنها ، فإذا هم جميعا (أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنّهم اخوة بالنسب.

ثمّ إنّ الله سبحانه يشير ـ في المرحلة الأخيرة ـ إلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهنّ ويذكرهنّ ضمن عدّة عناوين :

١ ـ (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) يعني أن المرأة بمجرّد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم أمها وأم أمها وإن علون على ذلك الرجل.

٢ ـ (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) يعني أنّ مجرّد العقد على امرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثّاني ، بل يشترط أن يدخل بها أيضا مضافا على العقد عليها.

إنّ وجود هذا القيد في هذا المورد (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) يؤيد كون حكم أمّ الزوجة الذي مرّ في الجملة السابقة (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) غير مشروط بهذا الشرط ، وبعبارة أخرى إن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكّد إطلاق الحكم هناك ، فتكون النتيجة أن بمجرّد العقد على امرأة تحرم أمّ تلك المرأة على الرجل وإن لم يدخل بتلك المرأة ، لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الرّبيبة.

ثمّ أنّ قيد (فِي حُجُورِكُمْ) وإن كان ظاهره يفهم منه أنّ بنت الزوجة من زوج آخر إذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه ، ولكن هذا القيد بدلالة الروايات ، وقطعية هذا الحكم ـ ليس قيدا احترازيا ـ بل هو في الحقيقة إشارة إلى نكتة التحريم ـ لأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أمّهاتها على زواج آخر ، هنّ في الأغلب في سنين متدنية من العمر، ولذلك غالبا ما يتلقين نشأتهنّ وتربيتهنّ في حجر الزوج الجديد مثل بناته ، فالآية تقول إن بنات نسائكم من غيركم

١٧٢

كبناتكم أنفسكم ، فهل يتزوج أحد بابنة نفسه؟ واختيار وصف الربائب التي هي جمع الرّبيبة (لتربية الزوج الثاني إيّاها فهي مربوبته) إنّما هو لأجل هذا.

ثمّ يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي إذا لم تدخلوا بامّ الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهنّ.

٣ ـ (وَحَلائِلُ) (١) (أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) والمراد من حلائل الأبناء زوجاتهم ، وأمّا التعبير بـ «من أصلابكم» فهو في الحقيقة لأجل أن هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية ، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصا ثمّ يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي ، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماما ، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإسلام.

٤ ـ (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يعني أنّه يحرم الجمع بين الأختين في العقد، وعلى هذا يجوز الزواج بالأختين في وقتين مختلفين وبعد الانفصال عن الأخت السابقة.

وحيث أنّ الزواج بأختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية ، وكان ثمّة من ارتكبوا هذا العمل فإن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني إنّ هذا الحكم كالأحكام الاخرى لا يشمل الحالات السابقة ، فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إحدى الأختين ، ويفارقوا الاخرى ، بعد نزول هذا الحكم.

__________________

(١) الحلائل جمع الحليلة ، وهي من مادة حل ، وهي بمعنى المحللة ، أي المرأة التي تحل للإنسان ، أو من مادة حلول معنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية ، لأن كل واحد منهما يحل مع الآخر في الفراش.

١٧٣

يبقى أن نعرف أنّ سرّ تحريم هذا النمط من الزواج (أي التزوج بأختين في وقت واحد) في الإسلام لعلّه أن بين الأختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة طبيعية ـ علاقة حبّ ومودّة ، فإذا أصبحتا متنافستين في ظل الانتماء إلى زوج واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودّة والمحبّة والعلاقة الودية بطبيعة الحال ، وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأختين يضرّ بحياتهما ، لأن كلّ واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين نفسيتين متضادتين هما دافع الحب ، وغريزة التنافس ، وهو صراع نفسي مقيت ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها.

ثمّ إن بعض المفسّرين احتمل أن تعود جملة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) إلى كل المحارم من النسوة اللاتي مرّ ذكرهنّ في مطلع الآية فيكون المعنى : إذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإحدى النساء المحرم عليه نكاحهنّ لم يشمله حكم تحريم الزواج بهنّ هذا ، وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في ما بعد من الأولاد شرعيين ، وإن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء ، ويفارقوهنّ.

وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) هذا المعنى الأخير.

* * *

١٧٤

الآية

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

التّفسير

هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ وتضيف قائلة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) أي ويحرم الزواج بالنساء ، اللاتي لهنّ أزواج.

والمحصنات جمع المحصنة وهي مشتقة من «الحصن» ، وقد أطلقت على المرأة ذات الزوج لأنّها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور ، وكذا أطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب ، أو اللاتي يعشن في كنف رجل وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهنّ ويحصنها من الفجور والزنا.

وقد تطلق هذه اللفظة على الحرائر مقابل الإماء ، لأن حريتهنّ تكون بمثابة حصن يحفظهنّ من أن يتجاوز حدوده أحد دون إذنهنّ ، إلّا أنّه من الواضح أن

١٧٥

المراد بها في الآية الحاضرة هو ذوات الأزواج.

إن هذا الحكم لا يختص بالنساء المحصنات المسلمات ، بل يشمل المحصنات حتى غير المسلمات ، أي أنّه يحرم الزواج بهنّ مهما كان دينهنّ.

نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللاتي أسرّهنّ المسلمون في الحروب ، فقد اعتبر الإسلام أسرهنّ بمثابة الطلاق من أزواجهنّ ، وأذن أن يتزوج بهنّ المسلمون بعد انقضاء عدتهنّ (١) أو يتعامل معهنّ كالإماء كما قال سبحانه : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

ولكن هذا الاستثناء (استثناء منقطع يعني أن هذه النساء المحصنات اللاتي وقعن أسيرات في أيدي المسلمين لا يعتبرن محصنات لأن علاقتهنّ بأزواجهنّ قد انقطعت بمجرد وقوعهنّ أسيرات ، تماما كما تنقطع علاقة النساء غير المسلمات بأزواجهن باعتناقهنّ الإسلام في صورة استمرار الزوج السابق على كفره ، فيكن في مصاف النساء المجردات من الأزواج (أي غير المحصنات).

ومن هنا يتّضح أنّ الإسلام لا يسمح مطلقا بأن يتزوج المسلمون بالنساء المحصنات حتى الكتابيات وغيرهنّ من أهل الديانات الاخرى ، ولهذا قرّر لهنّ العدّة ، ومنع من الزواج بهنّ في تلك الفترة.

وفلسفة هذا الحكم تتمثل في أن هذا النوع من النساء إمّا يجب أن تعاد إلى دار الكفر، أو يبقين هكذا بدون زوج بين المسلمين ، أو تقطع علاقتهنّ بالزوج السابق،ويتزوجن من جديد بزوج آخر ، وحيث أن الصورة الأولى تخالف الأسس التربوية الإسلامية ، كما أن الصورة الثانية عملية ظالمة ، ولهذا لا تبقى إلّا صورة واحدة وهي الصورة الثالثة.

ويظهر من بعض الروايات التي ينتهي إسنادها إلى أبي سعيد الخدري أنّ

__________________

(١) مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.

١٧٦

الآية نزلت في سبايا غزوة أوطاس (١) وأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمح للمسلمين بأن يتزوجوا بهن بعد التأكد من كونهنّ غير حبالى أو يعاملن كما تعامل الأمة ، وهو يؤيد الصورة الثالثة التي أشرنا إليها في ما سبق.

ثمّ أن الله سبحانه أكّد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن شابههنّ حيث قال : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه الأحكام أو العدول عنها أبدا.

ثمّ إنّه يشير سبحانه إلى حلّية الزواج بغير هذه الطوائف من المذكورات في هذه الآية والآيات السابقة إذ يقول : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه الطوائف من النساء شريطة أن يتمّ ذلك وفق القوانين الإسلامية وأن يرافق مبادئ الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.

وعلى هذا يكون معنى «محصنين» في الآية والذي هو إشارة إلى حال الرجال هو «عفيفين» ، وعبارة «غير مسافحين» تأكيد لهذا الوصف ، لأن السفاح (الذي هو وزن كتاب) يعني الزنا وأصله من السفح وهو صب الماء أو الأعمال العابثة والأفعال الطائشة وحيث أنّ القرآن يستخدم ـ في مثل هذه الموارد ـ الكنايات يكون المراد من السفاح الزنا واللقاء الجنسي الغير المشروع.

وجملة (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) إشارة إلى أنّ العلاقة الزوجية إمّا يجب أن تتمّ من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر ، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع قيمتها (٢).

كما أن عبارة «غير مسافحين» في الآية الحاضرة لعلها إشارة إلى حقيقة أنّ

__________________

(١) أوطاس منطقة وقعت فيها إحدى المعارك الإسلامية وهو واد في ديار بني هوازن.

(٢) لقد بحثنا بالتفصيل عن برنامج الإسلام حول تحرير العبيد وما هناك من تخطيط دقيق في النظام الإسلامي في هذا المجال عند تفسير الآيات المناسبة في سورة «محمّد» صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٧٧

الهدف من الزواج يجب أن لا يكون فقط إطفاء الشهوة ، وتلبية الرغبة الجنسية ، بل الزواج قضية حيوية هامّة تهدف غاية جد سامية يجب أن تكون الغريزة الجنسية في خدمتها أيضا،ألا وهو بقاء النوع البشري ، وحفظه من التلوث والانحراف.

الزّواج المؤقت في الإسلام :

يقول سبحانه : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي أنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهنّ ، وهذا القسم من الآية إشارة إلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمّى بالمتعة ، ويستفاد منها أن أصل تشريع الزواج المؤقت كان قطعيا ومسلما عند المسلمين قبل نزول هذه الآية ، ولهذا يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهنّ.

وحيث أن البحث في هذه المسألة من الأبحاث التّفسيرية والفقهية والاجتماعية المهمة جدا يجب دراستها من عدّة جهات هي :

١ ـ القرائن الموجودة في هذه الآية التي تؤكد دلالتها على الزواج المؤقت.

٢ ـ إن الزواج المؤقت كان في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينسخ.

٣ ـ الحاجة بل والضرورة الاجتماعية إلى هذا النوع من الزواج.

٤ ـ الإجابة على بعض الإشكالات.

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الأولى فلا بدّ من الالتفات إلى أمور :

أوّلا : إنّ كلمة المتعة التي اشتق منها لفظة «استمتعتم» تعني الزواج المؤقت ، وبعبارة أخرى المتعة حقيقة شرعية في هذا النوع من الزواج ، ويدل على ذلك أن هذه الكلمة استعملت في هذا المعنى نفسه في روايات النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلمات الصحابة مرارا وتكرارا(١).

__________________

(١) راجع كتاب كنز العرفان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين والبرهان ، والغدير ، ج ٦.

١٧٨

ثانيا : إنّ هذه اللفظة إذا لم تكن بالمعنى المذكور يجب أن تفسّر حتما بمعناها اللغوي وهو «الانتفاع» فيكون معنى هذا المقطع من الآية هكذا : «إذا انتفعتم بالنساء الدائمات فادفعوا إليهنّ أجورهنّ» في حين أننا نعلم إن دفع الصداق والمهر غير مقيد ولا مشروط بالانتفاع بالزوجات الدائمات بل يجب دفع تمام المهر ـ بناء على ما هو المشهور (١) بين الفقهاء ـ أو نصفه على الأقل إلى المرأة بمجرد العقد للزواج الدائم عليها.

ثالثا : إنّ كبار «الصحابة» و «التابعين» (٢) مثل ابن عباس العالم (المفسّر الإسلامي الكبير) وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وعمران بن الحصين،وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة والسدي ، وجماعة كبيرة من مفسّري أهل السنة،وجميع مفسّري أهل البيت ، فهموا من الآية الحاضرة حكم الزواج المؤقت إلى درجة أن الفخر الرازي ـ رغم ما عهد عنه من التشكيك الكثير في القضايا المرتبطة بالشيعة وعقائدهم قال بعد بحث مفصل : والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول أنّها منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلّا على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنّما الذي نقوله أن النسخ طرأ عليه (٣).

رابعا : اتفق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وهم أعلم الناس بأسرار الوحي ، على تفسير الآية المذكورة بهذا المعنى (أي بالزواج المؤقت) وقد وردت في هذا الصعيد روايات كثيرة منها.

__________________

(١) المشهور أو الأشهر وجوب تمام المهر بمجرد عقد الزواج الدائم وإن كان الطلاق قبل الدخول يوجب إعادة نصفه إلى الزوج.

(٢) التابعون هم الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يدركوا عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) التّفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ٥٣.

١٧٩

ماعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله» (١).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال في جواب سؤال أبي بصير حول المتعة : نزلت في القرآن (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا أنّه قال : في جواب عبد الله بن عمير الليثي الذي سأل عن المتعة : «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إلى يوم القيامة» (٣).

هل نسخ هذا الحكم؟ :

لقد اتفق عامّة علماء المسلمين ، بل قامت ضرورة الدين على أنّ الزواج المؤقت (المتعة) كان أمرا مشروعا في صدر الإسلام (والكلام حول دلالة الآية الحاضرة على مشروعية المتعة لا ينافي قطعية وجود أصل الحكم لأنّ المخالفين يرون ثبوت مشروعية هذا الحكم في السنة النبوية) ، بل كان المسلمون في صدر الإسلام يعملوا بهذا الحكم ، والعبارة المعروفة المروية عن عمر : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما،متعة النساء ومتعة الحج» (٤) دليل واضح على وجود هذا الحكم في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم،غاية ما في الأمر أن من خالف هذا الحكم ادعى أنّه قد نسخ في ما بعد ، وحرم هذا النوع من الزواج.

ولكن الملفت للنظر هو أنّ الروايات الناسخة لهذا الحكم التي ادعوها مضطربة اضطرابا كبيرا ، فبعضها يقول : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه هو الذي نسخ هذا الحكم ، وعلى هذا يكون الناسخ لهذا الحكم القرآني هو السنة النبوية ، وبعضها

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٦٧ ، وتفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٦٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير البرهان ذيل الآية (وقد ورد هذا الحديث والحديثان السابقان عليه في كتاب الكافي).

(٤) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ١٥٨ ، ولقد روي الحديث المذكور عن تفسير القرطبي والطبري بعبارات تشابه العبارة أعلاه ، كما أن هذا الحديث جاء في السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٧ ، كتاب النكاح.

١٨٠