الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-48-3
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٧٢٠

جسمي نسبي».

ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانه ـ بصراحة ـ في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظا لحقوقهنّ ، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين ، ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية ، وكسب العواطف إذ يقول : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له ، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة ، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني ، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.

الصّداق دعامة اجتماعية للمرأة :

لمّا كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلّم ـ إلى أوليائها ، فكان أولياؤها يأخذون صداقها ، ويعتبرونه حقّا مسلّما لهم لا لها ، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقا لامرأةأخرى ، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل ، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة ، واعتبر الصداق حقّا مسلّما خاصا بالمرأة ، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإسلام ، فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين ، وإن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور ، ولكن هذا لا يكون حكما إلزاميا ، بل هو أمر مستحب.

١٠١

وهاهنا ينطرح هذا السؤال ، وهو إذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو ، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلما ذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغا ـ قليلا أو كثيرا ـ إلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إساءة إلى شخصية المرأة ، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟

إنّ هذه الأمور هي التي تدفع بالبعض إلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق ، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية ، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط ، بل يعرض وضعها للخطر.

وتوضيح ذلك هو ، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج ، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة ، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضررا لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة ، وذلك :

أوّلا : إنّ الرجل ـ بحكم قابلياته الجسدية الخاصّة ـ يمتلك ـ عادة ـ سلطانا ونفوذا وفرصا أكثر في المجتمع ، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إنكارها عند الحديث حول المرأة ، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر ـ حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح ـ وكما هو مشهود للجميع ـ إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّا هي في الأغلب في أيدي الرجال.

هذا مضافا إلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات ، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإمكانيات للمرأة ، فإن النساء الثيبات ـ خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ ،

١٠٢

وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ ـ يمتلكن فرصا أقل للحصول على أزواج لهنّ.

بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإمكانات التي يفقدها الرجل بذلك ، ويكون الصداق والمهر ـ في الحقيقة ـ بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة ، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية ، هذا مضافا إلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والإفتراق.

صحيح أنّ المهر ـ في نظر القوانين الإسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة ، ويحق للمرأة المطالبة به فورا ، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدّين المتعلق في الذمّة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها ، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها ، إلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعا هناك استثناءات لهذا الموضوع ، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد).

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية ، لأن الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء ، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية ، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد ، ويعتبر أمرا إضافيا ، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعا لا بدّ من الانتباه إلى أن على الزوج ـ إذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج ـ أن يدفع إلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).

١٠٣

من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة ، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة ، لا أنّه ثمن المرأة ، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

* * *

١٠٤

الآيتان

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

التّفسير

الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى ، التي مرّت في الآيات السّابقة.

يقول الله سبحانه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) بل انتظروا رشدهم ، ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

من هو السّفيه؟ :

قال الرّاغب في المفردات : «السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الاضطراب ، واستعمل في خفّة

١٠٥

النفس لنقصان العقل في الأمور الدّنيوية ، والأخروية».

ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأمور الاقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح ، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية ، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ).

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى ، لكنّها تتضمّن حكما كليا وقانونا عامّا لجميع الموارد ، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقا أن يعطي أموال من يتولى أمره ، أو ترتبط به حياته بنوع من الارتباط ، إليه إذا كان سفيها غير رشيد ، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافا إلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة «السّفيه» روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد.

ففي رواية عن الإمام الصّادق عليه‌السلام نقرأ أنّ شخصا يدعى إبراهيم بن عبد الحميد يقول : سألت أبا عبد الله عن قول الله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : «كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه (١) فلا تعطوهم أموالكم».

وفي رواية أخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أمينا على الأموال.

وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة ، وهذا التعبير إنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي ، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإنسان ماله ، وعقله أيضا ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، في ذيل هذه الآية.

١٠٦

ويبتاع الجنون ... ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية ، ويتسبب في أضرار اجتماعية كثيرة وكبيرة.

ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه ، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليه ، فعن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : «من لا تثق به (١)».

ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعا ، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليهم ، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم ، وفي بعض الموارد الاخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة.

وهنا ينطرح سؤال وهو ، إذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلما ذا قال تعالى: (أَمْوالَكُمُ) ولم يقل «أموالهم»؟

يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة اجتماعية واقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين ، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين ، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إذ قال : «أموالكم» ولم يقل «أموالهم» ، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط،بل هي مرتبطة بكم أيضا ، فإذا لحق بها ضرّر ، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضا ، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص.

ثمّ إنّ هناك تفسيرا آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من «أموالكم» ، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى ، فيكون المعنى إذا أردتم مساعدة الأيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئا من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإشفاق

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ذيل الآية المبحوثة وهكذا في تفسير نور الثقلين.

١٠٧

ـ إليهم ، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك ، بل عليكم أن تعملوا شيئا آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي ، وهو أن تقوموا بالإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد ، فإذا بلغوا هذه المرتبة ، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم ، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال.

وهذا في الواقع درس اجتماعي كبير يعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها ، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإشفاق والعاطفة،لأن هذه الأعمال وإن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة ، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضرارا وويلات كبيرة ، فلا بدّ إذن من إدارة أمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إليهم أو تشغيلهم في أمور سهلة وصغيرة.

من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقا بهم وإشفاقا عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال ، وأكثرها بعدا عن العقل والمنطق الصحيح.

أموالكم قوام لكم :

ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) هو تعبير جميل ورائع جدا عن الأموال والثّروات ، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع ، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه ، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها ، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضرارا كبيرة بالمجتمع.

ومن هذا التعبير نعرف جيدا ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالأمور والشؤون الاقتصادية والمالية ، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر : «فقال يسوع

١٠٨

لتلاميذه : الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات» (١) في حين يرى الإسلام أنّ الأمّة الفقيرة لا تستطيع أبدا الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة ، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.

غير أنّه لا داعي للعجب ، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إلى ما وصلوا ، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة ، والتخلف.

تعليمان في شأن اليتامى :

ثمّ أن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما :

أوّلا : رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إذ يقول : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة «فيها» أي في أموال اليتامى لا «منها» أي من أموالهم إذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم ، إذ لو قال سبحانه : وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئا فشيئا ، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئا كبيرا من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إلى سن الرشد ، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة «منها» بلفظة «فيها» يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى ، ويحاولوا الإنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.

__________________

(١) إنجيل متى الإصحاح ، ١٩ ـ ٢٣.

١٠٩

ثانيا : مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعقد نفسية ، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي ، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم ، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقليا من وظائف الأولياء ومسئولياتهم أيضا.

تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم :

هاهنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم ، إذ يقول سبحانه : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) فإذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وها هنا نقاط لا بدّ من الالتفات إليها.

١ ـ إنّه يستفاد من التعبير بـ «حتى» أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح ، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإدارة الأمور المالية على الوجه الصحيح.

كما أنّه يستفاد ـ ضمنا ـ أنّ المراد من الاختبار والابتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى ، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إلى إعطائهم أموالهم ، بل لا بدّ أن تهيئوهم ـ قبل البلوغ ـ للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.

وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقدارا من المال ، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم استقلاله فإذا تبيّن أنّه قادر على الاتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن ، وجب تسليم أمواله

١١٠

إليه وإلّا فلا بدّ أن تستمر تربيته وإعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإدارة شؤونه وتدبير معيشته ، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.

٢ ـ إنّ التعبير بجملة (إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) إشارة إلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إلى درجة القدرة على الزواج ، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لا بدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة ، ولا شك أنّ الإنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إلى أهدافه ، ولهذا فإن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الاقتصادية المستقلة.

وبعبارة أخرى أنّ الثروة لا تعطى إليهم إلّا عند ما يصلون إلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إلى المال بشدّة ويصلون إلى البلوغ الفكري ، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.

٣ ـ إنّ التعبير بجملة (آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) إشارة إلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم ، لأنّ الإيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة «الإنسان» الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إنّما تتمّ بالاستعانة من إنسان العين ـ في الحقيقة ـ ولهذا عبر عن المشاهدة بالإيناس).

ثمّ أنّه سبحانه قال : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبدا.

ثمّ أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها ، وحراستها ، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأجرة ، هذا إذا كان الولي فقيرا ، أما إذا كان غنيّا فلا يأخذ من مال اليتيم شيئا أبدا.

وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إليه من

١١١

مضمون الآية.

ومن هذه الأحاديث ما روي عن الإمام الصّادق عليه‌السلام إذ قال : «فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتا كبيرا) طبعا فلا يأكل منه شيئا». (١)

ثمّ يقول سبحانه : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) لكي لا يبقى أي مجال للاتهام والتنازع ، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى ، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعا عنده لا يخفى عليه شيء أبدا ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم ، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

* * *

__________________

(١) البرهان ، ج ١ ، ص ٣٤٤ ، الحديث ٩.

١١٢

الآية

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

سبب النّزول

كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإناث ، وكانوا يعتقدون أنّه لا يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح ، ولا يذود عن الحريم والمال ، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإرث ، ويورثون الرجال الأباعد ، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم.

حتى إذا مات أنصاري يدعى «أوس بن ثابت» وقد ترك صغارا من بنات وأولاد ، فاقتسم أبناء عمومته «خالد» و «عرفجة» أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته وأولاده الصغار من تركته أبدا ، فشكت زوجته إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن في ذلك حكم إلى ذلك الحين ، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذينك الشخصين ، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري ، وأن يتركا تلك الأموال إلى ورثة الميت من الطبقة الأولى وهم زوجته وأولاده ، بانتظار أن تنزل آيات أخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.

١١٣

التّفسير

خطوة أخرى لحفظ حقوق المرأة :

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ خطوة أخرى على طريق مكافحة العادات والأعراف الخاطئة التي تؤدي إلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلّمة الطبيعية ، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة ، لأن العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإرث ، ولا يسهمون لهم من المواريث ، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطئ الظالم إذ قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

ثمّ قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع (نَصِيباً مَفْرُوضاً) حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

ثمّ أنّ الآية الحاضرة ـ كما هو ملاحظ ـ تذكر حكما عامّا ، وشاملا لجميع الموارد،ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أنّ الأنبياء لا يورثون ، أي أنّهم إذا تركوا شيئا من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم ، خلاف الآية (طبعا المقصود من الأموال التي يتركها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي تلك الأموال الخاصّة به ، وأمّا الأموال المتعلقة ببيت المال الذي هو من حق المسلمين عامّة ، فالحكم الإسلامي فيها هو صرفها في مواردها.

كما أنّه يتبيّن من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الاخرى التي تأتي في ما بعد حول الإرث أنّ القول بالتعصيب (وهو إعطاء شيء من التركة إلى عصبة الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب ، وذلك في بعض الموارد كما يذهب إليه علماء السنة) يخالف هو أيضا ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال

١١٤

الإرث ، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد ، وهذا ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات المشابهة لها.

* * *

١١٥

الآية

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

التّفسير

حكم أخلاقي :

نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث حتما إذ تقول : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).

وعلى هذا الأساس يتضمّن محتوى هذه الآية حكما أخلاقيا استحبابيا في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث ، فالآية تقول : إذا حضر مجلس تقسيم الإرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية والثالثة ، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإرث ، وبهذا تكونون قد منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك الشعور بسبب حرمانهم من الإرث ، ولا شك أنّ هذا العمل من شأنه أن يقوي أواصر القرابة الإنسانية بينكم.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية ، غير أن الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت ، لأنّ الأقرب

١١٦

يحجب ـ في قانون الإرث ـ الأبعد من الإرث ، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه الطبقات قسمة الميراث فإنّه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئا من الميراث هدية (يتوقف مقدارها على إرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار دون الصغار).

هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواء كانوا من قرابة الميت أم لا ، ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدا في النظر ، لأن الأجانب ليس لهم طريق إلى المجالس العائلية غالبا.

كما أنّه يعتقد بعض المفسّرين أن الآية تتضمن حكما وجوبيا لا استحبابيا ، بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب ، وجب تعيين وتحديد ما يلزم إعطاؤه لهاتين الطائفتين ، في حين ترك الأمر فيه إلى إرادة الورثة.

ثمّ أنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)يعني أنّه مضافا إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء أشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودّتهم ، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم ، وهذا الدستور علامة أخرى ودليل آخر على أن الأمر بإعطاء شيء من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنما هو على نحو الندب لا الوجوب.

من كل ما ذكرناه اتّضح أنّه لا مبرر أبدا لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإرث ، لعدم وجود أية منافاة وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.

* * *

١١٧

الآية

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

التّفسير

دعوة إلى العطف على اليتامى :

يشير القرآن الكريم ـ بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى ـ إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحيانا ، وتلك الحقيقة هي : إن على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم ، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم.

أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم ، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتما ، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم ، وأحزنوا لما يحزنهم.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

١١٨

وأساسا : إنّ القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن ـ من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد ، فالذين يروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإن ذلك سيكون سببا لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضا ، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط ، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضا.

لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية ، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقا للشرع والحق ، قولا ممزوجا بالعواطف الإنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أولئك من الجراح ، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

إنّ هذا التعليم الإسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى ـ جديرة بالاهتمام والرعاية ، وهي : إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء ، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم ، وهو ذو تأثير كبير جدّا في بناء مستقبلهم ، لأن الطفل اليتيم إنسان كغيره ، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية ، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأمّه. أنه ليس «حمل» يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح ، ويعود عند الغروب ، بل هو إنسان يجب ـ مضافا إلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية،والعناية العاطفية ، وإلّا نشأ قاسيا مهزوما ، عديم الشخصية ، بل وحاقدا خطيرا.

إيضاح ضروري :

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام مبتدءا : «من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه ، أو على عقبه ، أو على عقب عقبه ، قال (أي الراوي) فذكرت في

١١٩

نفسي فقلت : يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم : إن الله يقول : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ)».

إنّ السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين ، فيتساءلون :كيف يحمل البارئ تعالى جزاء شخص على شخص آخر ، بل وما ذا فعل أبناء العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم ، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟

إنّ جواب هذا السؤال يتضح من الإيضاح الذي ذكر في الحديث السابق وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئا فشيئا ، وينتقل إلى الأجيال اللاحقة ، وعلى هذا الأساس فإن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع ، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوما ما أيضا ، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل ، وأمّا نسبته إلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل خواص العلّة والمعلول منسوبة إلى الله ومستندة إليه تعالى ، ولا يظلم ربّك أحدا أبدا.

وخلاصة القول : إذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضا.

* * *

١٢٠