علي موسى الكعبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-49-8
الصفحات: ١١١
نجد ذكراً لذلك ، لا في خطبة أمير المؤمنين عليهالسلام المعروفة بالشقشقية ، ولا في غيرها من خُطَبهِ وكلماته وكتبه التي اعترض بها علىٰ من تقدّمه ، ولا في خطبة الزهراء عليهاالسلام المعروفة بمحضر أبي بكر ، كما لم نجد أحداً من الصحابة أو من غيرهم ، قد طالبهما بارجاع القرآن إلىٰ أصله الذي كان يُقْرَأ به في زمان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو نبّه علىٰ حدوث التحريف ومواطنه ، وفي ترك ذِكر ذلك دلالةٌ قطعيةٌ علىٰ عدم التحريف.
أمّا دعوىٰ وقوع التحريف في زمن عثمان ، فهو أمر في غاية البُعد والصعوبة ، لأنّ القرآن في زمانه كان قد انتشر وشاع في مختلف أرجاء البلاد ، وكثر حُفّاظه وقُرّاؤه ، وإنّ أقلّ مساسٍ بحرمة القرآن لسوف يُثير الناس ضدّه ، ويُوجِب الطعن عليه وإدانته بشكلٍ قويّ ومعلنٍ ، ولا سيما من الثائرين عليه الذين جاهروا بإدانته فيما هو أقلّ أهميةً وخطراً بكثير من التحريف ، لكنّنا لم نسمع أحداً طعن عليه في ذلك ، فهل خفيت هذه الآيات أو السور التي يُدّعىٰ سقوطها من القرآن ، علىٰ عامّة المسلمين ، ولم يطّلع عليها سوىٰ أفراد قلائل ؟!
ولو كان ذلك لكان علىٰ أمير
المؤمنين عليهالسلام
إظهار هذا الأمر ، وإرجاع الناس إلىٰ القرآن الحقيقي بعد أن صار خليفةً وحاكماً ، ولم يعد ثمّة ما يمنع من ذلك ، وليس عليه شيء يُنْتَقَد به ، بل ولكان ذلك أظهر لحُجّته علىٰ الثائرين بدم عثمان. فكيف صحّ منه عليهالسلام
وهو الرجل القويّ الذي فقأ عين الفتنة أن يهمل هذا الامر الخطير ، وهو الذي أصرّ علىٰ إرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبةٍ له عليهالسلام
: « والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ومُلِك به الإماء لرددته ، فانّ في العدل سَعَة ، ومن ضاق عليه العدل
فالجور عليه أضيق » (١). مع أنّ ذلك أقلّ أهمية وخطورة من أمر تحريف القرآن بكثير ؟! إذن فإمضاؤه عليهالسلام للقرآن الموجود في عصره دليلٌ قاطعٌ علىٰ عدم وقوع التحريف فيه.
١٣ ـ اهتمام أهل البيت عليهمالسلام البالغ في القرآن الكريم وحثُّ أصحابهم علىٰ تلاوة القرآن الكريم وختمه ، وبيانهم عليهمالسلام لمنزلة قارئ القرآن تارة ، وفضائل القرآن تارة أُخرىٰ ، كُلّ ذلك يدلُّ علىٰ نفي التحريف ، لعدم توجّه مثل هذه العناية إلىٰ كتاب محرّف.
١٤ ـ اعتقاد الكل بكون القرآن حجّة بالغة ينافي التحريف من كل وجه ، ولا يعقل اتخاذ ماهو محرّف حجة ، ولو فرض حصول التحريف لسقط الاستدلال به لاحتمال التحريف بالدليل ، ولا يوجد فرد واحد قط استدل بالقرآن وأشكل عليه آخر بتحريف الدليل.
١٥ ـ وأخيراً فإنّ صلاة الإمامية بمجرّدها دليلٌ علىٰ نفي التحريف في كتاب الله العزيز ؛ لأنّهم يوجبون بعد فاتحة الكتاب ـ في كلِّ من الركعة الأولىٰ والركعة الثانية من الفرائض الخمس ـ سورةً واحدةً تامّة غير الفاتحة من سائر السور التي بين الدفتين ، وفقههم صريح بذلك ، فلولا أنّ سور القرآن بأجمعها كانت في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ ما هي الآن عليه في الكيفية والكمية ما تسنّىٰ لهم هذا القول ، ولا أمكن ان يقوم لهم عليه دليل. ولو كانوا يعتقدون بوجود سورٍ ساقطة عن القرآن الكريم لنصّوا علىٰ جواز القراءة بها ، ولما اشترطوا في السورة التي بعد الفاتحة أن تكون من وراء القرآن التي بين الدفّتين.
______________________
(١) نهج البلاغة ـ صبحي الصالح : ٥٧ الخطبة ١٥.
الأئمّة من علماء الشيعة ينفون التحريف
إنّ المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، والمتسالم عليه بينهم ، هو القول بعدم التحريف في القرآن الكريم ، وقد نصّوا علىٰ أنّ الذي بين الدفّتين هو جميع القرآن المُنْزَل علىٰ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم دون زيادة أو نقصان ، ومن الواضح أنّه لا يجوز إسناد عقيدةٍ أو قولٍ إلىٰ طائفةٍ من الطوائف إلّا علىٰ ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة ، وباعتماد مصادرها المعتبرة ، وفيما يلي نقدّم نماذج من أقوال أئمة الشيعة الإمامية منذ القرون الاُولىٰ وإلىٰ الآن ، لتتّضح عقيدتهم في هذه المسألة بشكل جلي :
١ ـ يقول الإمام الشيخ الصدوق ، محمّد بن علي بن بابويه القمي ، المتوفّىٰ سنة ٣٨١ ه في كتاب ( الاعتقادات ) : « اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله علىٰ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة.. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب » (١).
٢ ـ ويقول الإمام الشيخ المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، المتوفّىٰ سنة ٤١٣ ه في ( أوائل المقالات ) : « قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كَلِمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حُذِف ما كان مثبتاً في
______________________
(١) الاعتقادات : ٩٣.
مصحف أمير المؤمنين عليهالسلام من تأويله وتفسير معانيه علىٰ حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالىٰ الذي هو القرآن المعجز ، وعندي أنّ هذا القول أشبه ـ أي أقرب في النظر ـ مِن مقال من أدّعىٰ نقصان كَلِمٍ من نفس القرآن علىٰ الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل » (١).
وفي ( أجوبة المسائل السروية ) ، قال : « فان قال قائل : كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام الله تعالىٰ علىٰ الحقيقة من غير زيادة فيه ولا نقصان ، وأنتم تروون عن الأئمّة عليهمالسلام أنّهم قرءوا « كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس » ، « وكذلك جعلناكم أئمّة وسطاً ». وقرءُوا « يسألونك الأنفال ». وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس ؟
قيل له : إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يُقْطَع علىٰ الله تعالىٰ بصحّتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر ، علىٰ ما أُمِرنا به (٢) حسب ما بيّناه مع أنّه لا يُنْكر أن تأتي القراءة علىٰ وجهين منزلين ، أحدهما : ما تضمّنه المصحف ، والثاني : ما جاء به الخبر ، كما يعترف به مخالفونا من نزول القرآن علىٰ أوجهٍ شتّىٰ » (٣).
٣ ـ ويقول الإمام الشريف المرتضىٰ ، عليّ بن الحسين الموسوي ، المتوفّىٰ سنة ٤٣٦ ه في ( المسائل الطرابلسيات ) : « إنّ العلم بصحّة نقل القرآن ، كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب
______________________
(١) أوائل المقالات : ٥٥.
(٢) روي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : « اقرءوا كما عُلّمتم ... » ، وقال عليهالسلام : « اقرءُوا كما يقرأ الناس ».
(٣) المسائل السروية : ٨٣ تحقيق الاستاذ صائب عبدالحميد.
المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فان العناية اشتدّت ، والدواعي توفرت علىٰ نقله وحراسته ، وبلغت إلىٰ حدّ لم يَبْلُغه في ما ذكرناه ؛ لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتّىٰ عرفوا كلّ شيءٍ اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ؟!
وقال أيضاً : إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرىٰ ذلك مجرىٰ ما عُلِم ضرورةً من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتّىٰ لو أنّ مُدْخِلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً ليس من الكتاب لعُرِف ومُيّز ، وعُلِم أنّه مُلْحَقٌ وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلومٌ أنّ العناية بنقل القرآن وضبطهِ أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء » (١).
وذكر : « أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لايعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضافٌ إلىٰ قومٍ من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع علىٰ صحّته » (٢).
وذكر ابن حزم أنّ الشريف المرتضىٰ كان يُنكر من زعم أنّ القرآن بُدّل ، أو زيد فيه ، أو نُقِص منه ، ويكفّر من قاله ، وكذلك صاحباه أبو يعلىٰ
______________________
(١) مجمع البيان ١ : ٨٣ ـ ٨٤.
(٢) مجمع البيان ١ : ٨٣.
الطوسي وأبو القاسم الرازي (١).
٤ ـ ويقول الإمام الشيخ الطوسي ، محمد بن الحسن ، المعروف بشيخ الطائفة ، المتوفّىٰ سنة ٤٦٠ ه في مقدمة تفسيره ( التبيان ) : « المقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه ، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمعٌ علىٰ بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضىٰ ; ، وهو الظاهر من الروايات ، غير أنّه رُويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيءٍ من موضع إلىٰ موضع ، طريقها الآحاد التي لا تُوجِب علماً ولا عملاً ، والأولىٰ الاعراض عنها وترك التشاغل بها ، لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صَحّت لما كان ذلك طعناً علىٰ ما هو موجودٌ بين الدفّتين ، فإنّ ذلك معلومٌ صحّته لا يعترضه أحدٌ من الأُمّة ولا يدفعه » (٢).
٥ ـ ويقول الإمام الشيخ الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن المتوفىٰ سنة ٥٤٨ ه ، في مقدمة تفسيره ( مجمع البيان ) : « ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فانّه لا يليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فمجمعٌ علىٰ بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روىٰ جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً ؛ والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضىٰ ، واستوفىٰ الكلام فيه غاية
______________________
(١) الفصل في الملل والنحل ٤ : ١٨٢.
(٢) التبيان ١ : ٣.
الاستيفاء » (١).
٦ ـ ويقول الإمام العلّامة الحلي ، أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهر ، المتوفّىٰ سنة ٧٢٦ ه في ( أجوبة المسائل المهناوية ) حيثُ سُئل ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز ، هل يصحّ عند أصحابنا أنه نقص منه شيءٌ ، أو زِيد فيه ، أو غُيِّر ترتيبه ، أم لم يصحّ عندهم شيءٌ من ذلك ؟
فأجاب : « الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله تعالىٰ من أن يُعْتَقَد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يُوجِب التطرّق إلىٰ معجزة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المنقولة بالتواتر » (٢).
٧ ـ ويقول الإمام الشيخ البهائي ، محمد بن الحسين الحارثي العاملي ، المتوفّىٰ سنة ١٠٣٠ ه ، كما نقل عنه البلاغي في ( آلاء الرحمن ) : « الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظٌ عن التحريف ، زيادةً كان أو نقصاناً ، ويدلّ عليه قوله تعالىٰ : ( وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين عليهالسلام منه في بعض المواضع ، مثل قوله تعالىٰ ( يا أيُّها الرسولُ بَلّغ ما أُنْزِل إليكَ ـ في عليّ ـ ) وغير ذلك ، فهو غير معتبرٍ عند العلماء » (٣).
٨ ـ ويقول الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المتوفّىٰ سنة ١٢٢٨ ه في ( كشف الغطاء ) : « لا ريب في أنّ القرآن محفوظٌ من النقصان بحفظ الملك الديّان ، كما دلّ عليه صريح الفرقان ، واجماع العلماء في جميع
______________________
(١) مجمع البيان ١ : ٨٣.
(٢) أجوبة المسائل المهناوية : ١٢١.
(٣) آلاء الرحمن ١ : ٢٦.
الأزمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد في أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ، ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن أو كثير منه ، فانّه لو كان كذلك لتواتر نقله ، لتوفّر الدواعي عليه ، ولاتّخذه غير أهل الاسلام من أعظم المطاعن علىٰ الاسلام وأهله ، ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة علىٰ ضبط آياته وحروفه » (١) ؟!.
٩ ـ ويقول الإمام المجاهد السيد محمد الطباطبائي ، المتوفّىٰ سنة ١٢٤٢ ه في ( مفاتيح الاصول ) : « لا خلاف أنّ كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه ، وأمّا في محلّه ووضعه وترتيبه فكذلك عند محقّقي أهل السنة ، للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ، لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ممّا توفّرت الدواعي علىٰ نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحاداً ولم يتواتر ، يقطع بأنّه ليس من القرآن قطعاً » (٢).
١٠ ـ ويقول الإمام الشيخ محمد جواد البلاغي ، المتوفّىٰ سنة ١٣٥٢ ه في ( آلاء الرحمن ) : « ولئن سمعت من الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه ، فلا تُقِم لتلك الروايات وزناً ، وقلَّ ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين ، وفيما جاءت به في مروياتها الواهية من الوهن ، وما ألصقته بكرامة القرآن ممّا ليس له شَبَه به » (٣).
______________________
(١) كشف الغطاء : ٢٢٩.
(٢) البرهان ـ للبروجردي : ١٢٠.
(٣) آلاء الرحمن ١ : ١٨.
١١ ـ ويقول الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، المتوفّىٰ سنة ١٣٧٣ ه في ( أصل الشيعة وأصولها ) : « إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين ، هو الكتاب الذي أنزله الله إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم للاعجاز والتحدّي ، ولتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلىٰ هذا إجماعهم ، ومن ذهب منهم ، أو من غيرهم من فرق المسلمين ، إلىٰ وجود نقصٍ فيه أو تحريفٍ ، فهو مخطىء ، يَرُدّهُ نص الكتاب العظيم ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر ١٥ : ٩ ).
والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ، ضعيفة شاذّة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فأمّا أن تُأوّل بنحوٍ من الاعتبار أو يُضْرَب بها الجدار » (١).
١٢ ـ ويقول الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي ، المتوفّىٰ سنة ١٣٧٧ ه ، في ( أجوبة مسائل جار الله ) : « إنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم ، متواترٌ من طُرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته ، تواتراً قطعياً عن أئمة الهدىٰ من أهل البيت عليهمالسلام ، لا يرتاب في ذلك إلّا معتوهٌ ، وأئمّة أهل البيت عليهمالسلام كلّهم أجمعون رفعوه إلىٰ جدّهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الله تعالىٰ ، وهذا أيضاً ممّا لا ريب فيه. وظواهر القرآن الحكيم ، فضلاً عن نصوصه ، أبلغ حجج الله تعالىٰ ، وأقوىٰ أدلّة أهل الحقّ بحكم الضرورة الأولية من مذهب الامامية ، وصحاحهم في ذلك متواترةٌ من طريق العِترة الطاهرة ، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار ولا يأبهون بها ، عملاً بأوامر أئمتهم عليهمالسلام.
______________________
(١) أصل الشيعة وأُصولها : ١٠١ ـ ١٠٢ ط ١٥.
وكان القرآن مجموعاً أيام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وسائر كلماته وحروفه ، بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ ، ولا تقديمٍ ولا تأخيرٍ ، ولا تبديلٍ ولا تغيير » (١).
١٣ ـ ويقول الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي ، المتوفّىٰ سنة ١٤١٣ ه ، في ( البيان في تفسير القرآن ) : « المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأنَّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل علىٰ النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد صرح بذلك كثير من الأعلام ، منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية » (٢).
ويقول أيضاً : « إنّ حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال ، لا يقول به إلّا من ضعف عقله ، أو من لم يتأمّل في أطرافه حقّ التأمّل ، أو من ألجأه إليه من يحبّ القول به ، والحبّ يعمي ويصمّ ، وأمّا العاقل المنصف المتدبّر فلا يشكّ في بطلانه وخرافته » (٣).
١٤ ـ يقول الإمام الخميني المتوفّى سنة ١٤٠٩ ه : «إنّ الواقف علىٰ عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءةً وكتابةً ، يقف علىٰ بطلان تلك الروايات المزعومة. وما ورد فيها من أخبار ـ حسبما تمسّكوا به ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به ، أو موضوع تلوح عليه إمارات الوضع ، أو غريب يقضي بالعجب ، أمّا الصحيح منها فيرمي إلىٰ مسألة
______________________
(١) عبدالحسين شرف الدين / أجوبة مسائل جار الله : أُنظر ص ٢٨ ـ ٣٧.
(٢) البيان في تفسير القرآن : ٢٠٠.
(٣) البيان في تفسير القرآن : ٢٥٩.
التأويل ، والتفسير ، وإنّ التحريف إنّما حصل في ذلك ، لا في لفظه وعباراته.
وتفصيل ذلك يحتاج إلىٰ تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون ، ويتلخّص في أنّ الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفّتين ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، وأنّ الاختلاف في القراءات أمر حادث ، ناشئ عن اختلاف في الاجتهادات ، من غير أن يمسّ جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين علىٰ قلب سيد المرسلين »(١).
______________________
(١) تهذيب الأُصول ٢ : ١٦٥.
روايات التحريف
يقول السيد شرف الدين العاملي المتوفّىٰ سنة ١٣٧٧ ه : « لا تخلو كتب الشيعة وكتب أهل السنة من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن ، غير أنّها ممّا لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا أجمع ، لضعف سندها ، ومعارضتها بما هو أقوىٰ منها سنداً ، وأكثر عدداً ، وأوضح دلالةً ، علىٰ أنّها من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا اقتضىٰ عملاً ، وهذه لا تقتضي ذلك ، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع به ، فليضرب بظواهرها عرض الحائط » (١).
ثلاث حقائق مهمّة !
قبل الخوض في موقف علماء الشيعة من روايات التحريف ، وعرض نماذج من هذه الروايات ، نرىٰ لزاماً علينا بيان بعض الحقائق المتعلّقة بهذا الموضوع :
١ ـ إنّ من يحتجّ علىٰ الشيعة في مسألة تحريف القرآن ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم ، فهو متحاملٌ بعيدٌ عن الانصاف ؛ لأنّه لا يوجد بين مصنّفي الشيعة من التزم الصحّة في جميع ما أورده من أحاديث في كتابه ، كما لا يوجد كتابٌ واحدٌ من بين كتب
______________________
(١) أجوبة مسائل جار الله ـ المسألة الرابعة : ٣١ ـ ٣٧.
الشيعة وُصِفت كلّ أحاديثه بالصحّة وقوبلت بالتسليم لدىٰ الفقهاء والمحدّثين.
يقول الشيخ الاستاذ محمّد جواد مغنية : « إنّ الشيعة تعتقد أنّ كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم ، ومنها ( الكافي ) و ( الاستبصار ) و ( التهذيب ) و ( من لا يحضره الفقيه ) فيها الصحيح والضعيف ، وإنّ كتب الفقه التي ألّفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب ، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأنّ كلّ ما فيه حقٌّ وصوابٌ من أوّله إلىٰ آخره غير القرآن الكريم ، فالأحاديث الموجودة في كتب الشيعة لا تكون حجةً علىٰ مذهبهم ولا علىٰ أيّ شيعي بصفته المذهبية الشيعية ، وإنّما يكون الحديث حجّةً علىٰ الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية ».
ويكفي أن نذكر هنا أنّ كتاب الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني المتوفّىٰ ٣٢٩ ه ، وهو من الكتب الأربعة التي عليها المدار في استنباط الاحكام الشرعية ، يحتوي علىٰ ستة عشر ألفاً ومئتي حديث ، صنفوا أحاديثه ـ بحسب الاصطلاح ـ إلىٰ الصحيح والحسن والموثق والقوي والضعيف.
٢ ـ لا يجوز نسبة القول بالتحريف
إلىٰ الرواة أو مصنفي كتب الحديث ، لأنّ مجرد رواية أو إخراج الحديث لا تعني أنّ الراوي أو المصنّف يعتقد بمضمون ما يرويه أو يخرجه ، فقد ترىٰ المحدث يروي في كتابه الحديثي خبرين متناقضين يخالف أحدهما مدلول الآخر بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، فالرواية إذن أعم من الاعتقاد والقبول والتصديق بالمضمون ، وإلّا لكان البخاري ومسلم وسواهما من أصحاب الصحاح
والمجاميع الحديثية ، وسائر أئمّة الحديث ، وجُلّ الفقهاء والعلماء عند فرق المسلمين ، قائلين بالتحريف ؛ لأنّهم جميعاً قد رووا أخباره في كتبهم وصحاحهم ! والأمر ليس كذلك بالتأكيد ، فلو صحّ نسبة الاعتقاد بما يرويه الرواة إليهم للزم أن يكون هؤلاء وغيرهم من المؤلّفين ونقلة الآثار يؤمنون بالمتعارضات والمتناقضات ، وبما يخالف مذاهبهم ومعتقداتهم ، ما داموا يروون ذلك كلّه في كتبهم الحديثية ، وهذا ما لم يقل به ولا أدعاه عليهم ذو مسكة إذا أراد الانصاف.
٣ ـ إنّ ذهاب بعض أهل الفرق إلىٰ القول بتحريف القرآن ، أو إلىٰ رأيٍ يتفرّد به ، لا يصحّ نسبة ذلك الرأي إلىٰ تلك الفرقة بأكملها ، لا سيما إذا كان ما ذهب إليه قد تعرّض للنقد والتجريح والانكار من قبل علماء تلك الفرقة ومحقّقيها ، فكم من كتبٍ كُتِبت وهي لا تعبّر في الحقيقة إلّا عن رأي كاتبها ومؤلّفها ، ويكون فيها الغثّ والسمين ، وفيها الحقّ والباطل ، وتحمل بين طيّاتها الخطأ والصواب ، ولا يختصّ ذلك بالشيعة دون سواهم ، فذهاب قوم من حشوية العامّة إلىٰ القول بتحريف القرآن لا يبرّر نسبة القول بالتحريف إلىٰ أهل السنة قاطبة ، وذهاب الشيخ النوري المتوفىٰ ١٣٢٠ ه إلىٰ القول بنقص القرآن لا يصلح مبرّراً لنسبة القول بالتحريف إلىٰ الشيعة كافة ، وكذا لا يصحّ نسبة أقوال ومخاريق ابن تيميّة التي جاء بها من عند نفسه وتفرّد بها إلىٰ أهل السنة بصورة عامة سيما وإنّ أغلب محققيهم قد أنكروها عليه ، فإذا صحّ ذلك فانّما هو شطط من القول وإسراف في التجنّي وإمعان في التعصّب ومتابعة الهوىٰ.
موقف علماء الشيعة من روايات التحريف
إنّ العلماء الأجلّاء والمحققين من الشيعة ، لم يلتفتوا إلىٰ ما ورد في مجاميع حديثهم من الروايات الظاهرة بنقص القرآن ، ولا اعتقدوا بمضمونها قديماً ولا حديثاً ، بل أعرضوا عنها ، وأجمعوا علىٰ عدم وقوع التحريف في الكتاب الكريم ، كما تقدّم في كلمات أعلامهم.
وروايات الشيعة في هذا الباب يمكن تقسيمها إلىٰ قسمين :
١ ـ الروايات غير المعتبرة سنداً ؛ لكونها ضعيفة أو مرسلة أو مقطوعة ، وهذا هو القسم الغالب فيها ، وهو ساقط عن درجة الاعتبار.
٢ ـ الروايات الواردة عن رجال ثقات وبأسانيد لا مجال للطعن فيها ، وهي قليلة جداً ، وقد بيّن العلماء أنّ قسماً منها محمولٌ علىٰ التأويل ، أو التفسير ، أو بيان سبب النزول ، أو القراءة ، أو تحريف المعاني لا تحريف اللفظ ، أو الوحي الذي هو ليس بقرآن ، إلىٰ غير ذلك من وجوه ذكروها في هذا المجال ، ونفس هذه المحامل تصدق علىٰ الروايات الضعيفة أيضاً لو أردنا أن ننظر إليها بنظر الاعتبار ، لكن يكفي لسقوطها عدم اعتبارها سنداً.
أمّا الروايات التي لا يمكن حملها وتوجيهها علىٰ معنىٰ صحيح ، وكانت ظاهرة أو صريحة في التحريف ، فقد اعتقدوا بكذبها وضربوا بها عرض الحائط وذلك للأسباب التالية :
١ ـ أنّها مصادمةٌ لما عُلِم ضرورةً من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً علىٰ عهد النبوّة.
٢ ـ أنّها مخالفةٌ لظاهر الكتاب الكريم حيثُ قال تعالىٰ : ( إنّا نحنُ نَزّلنا الذِّكر وإنّا لهُ لَحَافِظُون ).
٣ ـ أنّها شاذّةٌ ونادرةٌ ، والروايات الدالة علىٰ عدم التحريف مشهورةٌ أو متواترةٌ ، كما أنّها أقوىٰ منها سنداً ، وأكثر عدداً ، وأوضح دلالة.
٤ ـ أنّها أخبار آحاد ، ولا يثبت القرآن بخبر الواحد ، وإنّما يثبت بالتواتر ، كما تقدّم في أدلّة نفي التحريف ، وقد ذهب جماعة من أعلام الشيعة الإمامية إلىٰ عدم حجّية الآحاد مطلقاً ، وإنّما قيل بحجيّتها إذا اقتضت عملاً ، وهي لا تقتضي ذلك في المسائل الاعتقادية ولا يُعبأ بها.
نماذج من روايات التحريف في كتب الشيعة
سنورد هنا شطراً من الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإمامية ، والتي أدّعىٰ البعض ظهورها في النقصان أو دلالتها عليه ، ونبيّن ما ورد في تأويلها وعدم صلاحيتها للدلالة علىٰ النقصان ، وما قيل في بطلانها وردّها ، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها ، وهي علىٰ طوائف :
الطائفة الأولى : الروايات التي ورد فيها لفظ التحريف ، ومنها :
١ ـ ما رُوي في ( الكافي ) بالاسناد عن علي بن سويد ، قال : كتبتُ إلىٰ أبي الحسن موسىٰ عليهالسلام وهو في الحبس كتاباً ـ وذكر جوابه عليهالسلام ، إلىٰ أن قال : ـ « أُؤتمنوا علىٰ كتاب الله ، فحرّفوه وبدّلوه » (١).
٢ ـ ما رواه ابن شهر آشوب في ( المناقب ) من خطبة أبي عبدالله الحسين الشهيد عليهالسلام في يوم عاشوراء وفيها : « إنّما أنتم من طواغيت الأُمّة ، وشُذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب » (٢).
فمن الواضح أنّ المراد بالتحريف هنا حمل الآيات علىٰ غير معانيها ، وتحويلها عن مقاصدها الأصلية بضروبٍ من التأويلات الباطلة والوجوه الفاسدة دون دليلٍ قاطعٍ ، أو حجةٍ واضحةٍ ، أو برهان ساطع ، ومكاتبة الإمام الباقر عليهالسلام لسعد الخير صريحةٌ في الدلالة علىٰ أنّ المراد بالتحريف
______________________
(١) الكافي ٨ : ١٢٥ / ٩٥.
(٢) بحار الانوار ٤٥ : ٨.
هنا التأويل الباطل والتلاعب بالمعاني ، قال عليهالسلام : « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه... » (١) أي إنّهم حافظوا علىٰ ألفاظه وعباراته ، لكنّهم أساءوا التأويل في معاني آياته.
الطائفة الثانية : الروايات الدالّة علىٰ أنّ بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذُكِرت فيها أسماء الائمة عليهمالسلام ، ومنها :
١ ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام ، قال : « نزل جبرئيل بهذه الآية علىٰ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم هكذا : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ـ في عليّ ـ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) (٢) ( البقرة ٢ : ٢٣ ).
٢ ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليهالسلام في قول الله تعالىٰ : ( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ( الاحزاب ٣٣ : ٧١ ) هكذا نزلت (٣).
٣ ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن منخل ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : « نزل جبرئيل علىٰ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم بهذه الآية هكذا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ـ في عليّ ـ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء ٤ : ٤٧ ).
ويكفي في سقوط هذه الروايات عن درجة الاعتبار نصّ العلّامة المجلسي في ( مرآة العقول ) علىٰ تضعيفها ، ويغنينا عن النظر في
______________________
(١) الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦.
(٢) الكافي ١ : ٤١٧ / ٢٦.
(٣) الكافي ١ : ٤١٤ / ٨.