إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٣

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٣

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٧٦

وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

اللغة :

(الْأَكْمَهَ) : الأعمى المطموس البصر.

الاعراب :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جرى بينه وبين الرسل جميعا. ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، وجملة يجمع في محل جر بالاضافة ، والله فاعل ، والرسل مفعول به ، والفاء حرف عطف ، ويقول فعل مضارع معطوف على يجمع ، ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق ، أي : أيّ إجابة أجبتم ، ولك أن تعرب «ما» اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ، و «ذا» اسم موصول خبر «ما» ، وجملة أجبتم لا محل لها على كل حال ، وقد تقدمت نظائره ، وجملة ماذا أجبتم مقول القول.

(قالُوا : لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قالوا فعل وفاعل ، والجملة

٤١

مستأنفة ، ولا نافية للجنس ، وعلم اسمها المبني على الفتح ، ولنا متعلقان بمحذوف خبرها ، وجملة لا علم لنا في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، وأنت مبتدأ وعلام الغيوب خبر أنت ، والجملة في محل رفع خبر إن ، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بما تعلق به يوم لأنه بدل منه ، وجملة قال في محل جر بالإضافة ، ويا حرف نداء وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف في محل نصب ، وابن بدل أو نعت لعيسى ، ومريم مضاف إليه (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) الجملة كلها في محل نصب مقول القول ، واذكر فعل أمر ، ونعمتي مفعول به ، وعليك متعلقان بنعمتي ، وعلى والدتك عطف على «عليك» (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) الظرف بدل من نعمتي بدل اشتمال ، ويجوز أن يتعلق بنعمتي أيضا ، وجملة أيدتك في محل جر بالإضافة ، وبروح القدس متعلقان بأيدتك ، وجملة تكلم الناس في محل نصب حال من الكاف في أيدتك ، وفي المهد متعلقان بمحذوف حال ، أي : حالة كونك طفلا ، وكهلا عطف عليه ، فهو حال أيضا ، والمعنى : إلحاق حالة الطفولة بحالة الكهولة ، في كمال العقل ، وتمام الرّويّة (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الواو حرف عطف ، والظرف معطوف على إذ أيدتك ، وجملة علمتك في محل جر بالإضافة ، وهي فعل وفاعل ومفعول به أول ، والكتاب مفعول به ثان ، أي : الكتابة ، وما بعده عطف عليه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) الظرف معطوف على ما سبقه ، وجملة تخلق في محل جر بالإضافة ، ومن الطين متعلقان بتخلق ، وكهيئة الكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب مفعول به لتخلق ، وهيئة مضاف إليه وهو مضاف ، والطير مضاف إليه ، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (فَتَنْفُخُ

٤٢

فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) الفاء حرف عطف ، وتنفخ عطف على تخلق ، وفيها متعلقان بتنفخ ، فتكون عطف على فتنفخ ، وطيرا خبر تكون ، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على ما تقدم (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف أيضا (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف أيضا ، وبني إسرائيل مفعول كففت ، وعنك متعلقان بـ «كففت» (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الظرف متعلق بكففت لا باعتبار المجيء بالبينات فقط بل باعتبار ما يعقب ذلك ويترتب عليه حين همّهم بقتله ، وجملة جئتهم في محل جر بالإضافة ، وبالبينات متعلقان بجئتهم ، فقال : الفاء عاطفة ، وقال فعل ماض معطوف على جئتهم ، والذين فاعل وجملة كفروا صلة ، ومنهم متعلقان بكفروا ، وإن نافية ، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ ، وإلا أداة حصر ، وسحر خبر هذا ، ومبين صفة ، والجملة في محل نصب مقول القول.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))

٤٣

اللغة :

(مائِدَةً) المائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، وهذا هو المشهور كما نصّ عليه الثعالبي ، غير أن الراغب قال : المائدة الطبق الذي عليه الطعام. وتقال أيضا المطعام نفسه. إلا أن هذا مخالف لما هو مشهور متعالم عند علماء اللغة.

وهذه المسألة لها نظائر في اللغة : لا يقال للخوان مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان ، بتثليث الخاء. ولا يقال : كأس إلا وفيها خمر ، وإلا فهي قدح. ولا يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دلو ، ولا يقال : جراب إلا وهو مدبوغ ، وإلا فهو إهاب. ولا يقال : قلم إلا وهو مبريّ ، وإلا فهو أنبوب. ولا يقال : كوز إلا إذا كانت له عروة ، وإلا فهو كوب. ولا يقال : فرو إلا إذا كان عليه صوف. وإلا فهو جلده ولا يقال : ريطة إلا إذا كانت ذات لفقين وإلا فهي ملاءة. ولا يقال : رمح إلا إذا كان عليه سنان ، وإلا فهو قناة. ولا يقال : لطيمة إلا إذا كان عليها طيب ، وإلا فهي عير. ولا يقال : خاتم إلا إذا كان فيه فصّ ، وإلا فهو فتخة. هذا ما ذكره الثعالبي نقلا عن أبي عبيدة.

ونقل عن غير أبي عبيدة من أئمة اللغة : أنه لا يقال : نفق إلا إذا كان له منفذ ، وإلا فهو سرب. ولا يقال : عهن إلا إذا كان مصبوغا ، وإلا فهو صوف. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جارية ، وإلا فهو ستر. ولا يقال : ركيّة إلا إذا كان فيها ماء قلّ أو كثر ، وإلا فهي بئر. ولا يقال : وقود إلا إذا تقدمت فيه النار ، وإلا فهو حطب.

ولا يقال : سياع إلا إذا كان فيه تبن ، وإلا فهو طين. ولا يقال : عويل إلا إذا كان فيه رفع صوت ، وإلا فهو بكاء. ولا يقال : ثرى إلا إذا

٤٤

كان نديا ، وإلا فهو تراب. ولا يقال للعبد : آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كدّ عمل ، وإلا فهو هارب. ولا يقال لماء الفم : رضاب إلا ما دام في الفم ، وإلا فهو بزاق. ولا يقال للشجاع : كميّ إلا إذا كان شاكي السلاح ، وإلا فهو بطل. ولا يقال للمرأة ظعينه إلا ما دامت راكبة في الهودج. هذا وقد اختلف اللغويون في اشتقاق المائدة ، فقال أبو عبيدة. واختاره الزمخشريّ : هي فاعلة بمعنى مفعولة ، مشتقة من : ماده أي أعطاه ، وامتاده بمعنى استعطاه ، فهي بمعنى مفعولة كعيشة راضية.

الاعراب :

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) الواو حرف عطف ، والكلام معطوف على ما تقدم ، وجملة أوحيت في محل جر بالإضافة ، وأن مفسرة ، لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه ، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها مفسرة (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الجملة مستأنفة ، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول ، والباء حرف جر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلقان بـ «اشهد» ، ومسلمون خبر أنّ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الجملة مستأنفة لحكاية حال ماضية ، والظرف متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، وجملة قال في محل جرّ بالإضافة ، والحواريون فاعل ، ويا حرف نداء ، وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم ، وابن بدل من «عيسى» على اللفظ أو على المعنى ، فيجوز ضم النون وفتحها ، كما سيأتي في باب الفوائد ، ومريم مضاف إليه (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الجملة في

٤٥

محل نصب مقول القول ، وهل حرف استفهام ، ويستطيع ربك فعل مضارع وفاعل ، وأن ينزل أن المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يستطيع ، ومائدة مفعول ينزل ، ومن السماء جار ومجرور متعلقان بينزل ، ولا بأس بأن يتعلقان بمحذوف صفة لمائدة (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قاله لهم بصدد سؤالهم. وجملة اتقوا الله في محل نصب مقول القول ، وإن شرطية ، وكان واسمها وخبرها ، وكان فعل الشرط ، والجواب محذوف يفهم من سياق الكلام ، أي إن كنتم مؤمنين بقدرته تعالى وبصحة نبوتي فتجنبوا هذه السؤالات المتعنتة (قالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) الكلام مستأنف مسوق لبيان ما قالوه تسويفا لسؤالهم ، وجملة نريد في محل نصب مقول القول ، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول نريد ، ومنها متعلقان بنأكل ، وتطمئن قلوبنا الجملة معطوفة على «أن نأكل منها» (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة ، ونعلم عطف على نأكل وتطمئن وتكون حجة لنا أمام الذين لم يشهدوها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون رسوخا في الإيمان ، ويزول الشك من صدور الشّاكّين والمرتابين ، ويؤمن الكافرون. وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وجملة قد صدقتنا خبرها ، ونكون عطف على نعلم ، واسم نكون مستتر تقديره نحن ، ومن الشاهدين متعلقان بمحذوف خبر نكون ، وعليها متعلقان بالشاهدين.

الفوائد :

إذا كان المنادى مفردا علما متبوعا بـ «ابن» ولا فاصل بينهما

٤٦

و «ابن» مضافا الى علم جاز في المنادى وجهان : ضمه للبناء ونصبه لاتباع حركة «ابن» ، قال عمرو بن كلثوم :

بأي مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

اللغة :

(عِيداً) العيد : معروف ، وهو مشتق من العود ، لأنه يعول كل سنة. وإنما كسرت عينه لأن الواو وقعت بعد كسرة ، والأصل : عويد ، كميزان أصلها : موزان ، فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد الكسرة.

الاعراب :

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) كلام مستأنف مسوق لشروعه بالدعاء بعد أن تبيّن له صدقهم. وقال عيسى فعل وفاعل ، وابن بدل أو نعت ، ومريم مضاف إليه (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)

٤٧

اللهم أصله : يا الله ، فحذف حرف النداء وعوضت منه الميم المشددة ، وقد تقدم بحثه. وربنا نداء ثان ، وأنزل فعل أمر للدعاء ، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ، وعلينا متعلقان بأنزل ، ومائدة مفعول به ومن السماء متعلقان بمحذوف صفة لمائدة ، أو متعلقان بأنزل أيضا.

(تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) جملة تكون صفة ثانية لمائدة ، أي : يكون يوم نزولها عيدا ، واسم تكون مستتر تقديره هي ، وعيدا خبر تكون ، ولنا متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة تقدمت على موصوفها ، وهو قوله : «عيدا» ، ولأولنا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من «لنا» بتكرير العامل ، وآخرنا عطف على «أولنا» ، وآية عطف على «عيدا» ، ومنك متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو حرف عطف ، وارزقنا فعل أمر للدعاء ، وفاعله مستتر ، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، والواو استئنافية أو حالية ، وأنت مبتدأ ، وخير الرازقين خبر ، والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة أو في محل نصب على الحال (قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان استجابة الله لدعائه. وإني وما في حيزها في محل نصب مقول القول ، وإن واسمها ، ومنزلها خبر ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمنزلها لأنه اسم فاعل (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية ، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ، ويكفر فعل الشرط ، وبعد ظرف قطع عن الإضافة لفظا لا معنى فبني على الضمّ وهو متعلق بيكفر ، ومنكم متعلقان بمحذوف حال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الفاء رابطة للجواب ، وإن واسمها ، وجملة أعذبه خبرها ، وجملة إني أعذبه في محل جزم جواب الشرط ، وعذابا مفعول مطلق وهو اسم مصدر بمعنى التعذيب ،

٤٨

ولا نافية ، وأعذبه فعل مضارع ، والضمير في «أعذبه» الثانية ناب عن المفعول المطلق لأنه يعود عليه ، والتقدير فإني أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أحدا ، وأحدا مفعول به ، والجملة المنفية صفة لـ «عذابا» ، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صفة لـ «أحدا».

وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ «من».

الفوائد :

ينوب عن المصدر ثلاثة عشر شيئا فتعطى حكمه وهي :

١ ـ اسم المصدر : أعطيتك عطاء.

٢ ـ صفته : اذكروا الله كثيرا.

٣ ـ ضميره العائد اليه : كالآية المتقدمة.

٤ ـ مرادفه : فرح جذلا.

٥ ـ مصدر يلاقيه في الاشتقاق : أنبتكم نباتا.

٦ ـ ما يدل على نوعه : رجع القهقرى ، وقول الأعشى :

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل

٧ ـ ما يدل على آلته : ضربت اللص سوطا.

٨ ـ أيّ الاستفهامية وكم الاستفهامية أو الخبرية نحو : «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» ، وقول المتنبي :

٤٩

كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم

ثم انتفضت فزال القبر والكفن

٩ ـ ما يدل على عدده : «فاجلدوا كلّ واحد منهما مئة جلدة».

١٠ ـ ما ومهما وأي الشرطيات : ما تفعل أفعل ، ومهما تقف أقف وأي عمل تعمله تجاز عليه.

١١ ـ لفظا كل وبعض مضافين إلى المصدر : «فلا تميلوا كل الميل» واجتهد بعض الاجتهاد.

١٢ ـ اسم الاشارة مشارا به إلى المصدر : اجتهدت ذلك الاجتهاد.

١٣ ـ أيّ الكمالية : وهي التي تدل على معنى الكمال إذا وقعت مضافة للمصدر ، نحو : اجتهدت أي اجتهاد. وإذا وقعت بعد النكرة كانت صفة لها ، كقول أبي العتاهية :

إنّ الشّباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده

ف «أي» صفة لـ «مفسدة» ، وإذا وقعت بعد المعرفة كانت حالا ، نحو : مررت بعبد الله أيّ رجل.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ

٥٠

لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

الاعراب :

(وَإِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الواو حرف عطف ، والكلام منسوق على «إذ قال الحواريون» فالظرف متعلق بمحذوف تقديره :اذكر ، وجملة قال الله في محل جر بالإضافة وجملة يا عيسى بن مريم في محل نصب مقول القول (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي

٥١

إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) الهمزة للاستفهام ، وأنت مبتدأ ، وجملة قلت للناس خبر ، والجملة الاستفهامة مقول القول ، وجملة اتخذوني من فعل الأمر والفاعل والمفعول به في محل نصب مقول القول ، وأمي الواو للمعية أو العطف ، وأمي مفعول معه أو معطوف على الياء ، وإلهين مفعول به ثان لاتخذوني ، ومن دون الله متعلقان بمحذوف صفة لإلهين ، أي :كائنين من دونه تعالى ، ولا مانع من تعليقهما بمحذوف حال من فاعل اتخذوني ، أي : متجاوزين (قالَ : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) الجملة مستأنفة مسوقة للتبرؤ مما نسب إليه.

وقال فعل ماض ، وسبحانك مفعول مطلق والجملة مقول القول ، وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ، ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر اسم يكون المؤخر ، وجملة ما يكون لي استئنافية ، وجملة ليس لا محل لها لأنها صلة الموصول ، واسم ليس مستتر تقديره هو ، وبحق الباء حرف جر زائد ، وحق خبر ليس ، ولي متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه ، وما اسم موصول مفعول أقول لأنها متضمنة معنى الجملة وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) الجملة مستأنفة ، وإن شرطية ، وكنت فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها ، والفعل الناقص هو فعل الشرط ، وجملة «قلته» خبر كنت ، والفاء رابطة ، وجملة قد علمته في محل جزم جواب الشرط الجازم ، وعلمته فعل وفاعل ومفعول به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الجملة مستأنفة ، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وفي نفسي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وجملة ولا أعلم ما في نفسك عطف على ما تقدم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها ، وأنت

٥٢

مبتدأ وعلام الغيوب خبر ، والجملة خبر «إن» ، أو «أنت» ضمير فعل ، وعلام خبر «إن» ، والجملة الاسمية خبر إن وجملة إنك وما بعدها لا محل لها لأنها تعليلية (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما نافية ، وقلت فعل وفاعل ، ولهم متعلقان بقلت ، وإلا أداة حصر ، وما اسم موصول مفعول قلت ، وجملة أمرتني به صلة الموصول (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) المصدر المؤول بدل من «ما» ، أو من الهاء في «به» ، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هو» ، وجعلها بعضهم مفسرة ، وأكد أن عيسى عليه السلام نقل معنى كلام الله بهذه العبارة ، كأنه قال : ما قلت لهم شيئا سوى قولك لي : قل لهم أن اعبدوا الله ربي وربكم. وربي بدل من الله أو صفة ، وسيأتي في باب الفوائد مزيد من إعراب هذا الكلام (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) الواو حرف عطف ، وكان واسمها ، وشهيدا خبرها ، وعليهم متعلقان بـ «شهيدا» وما دمت فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها ، وفيهم متعلقان بمحذوف خبرها ، والظرف المنسبك من ما دمت متعلقان بـ «شهيدا» ، أي مدة دوامي مستقرا فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الفاء استئنافية ، ولما حينية أو رابطة ، فهي ظرف أو حرف متضمن معنى الشرط ، وجملة توفيتني في محل جرّ بالإضافة أو لا محل لها ، وتوفيتني فعل وفاعل ومفعول به ، أي :أخذتني أخذا وافيا بالرفع إلى السماء ، وهو الأصل في معنى الوفاة ، وجملة كنت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ، وكان واسمها ، وأنت ضمير منفصل في محل رفع تأكيد للضمير في كنت ، ولك أن تعربه ضمير منفصل لا محل له ، والرقيب خبر كنت ، وعليهم متعلقان بالرقيب ، والواو استئنافية أو حالية ، وأنت مبتدأ ، وشهيد خبر ،

٥٣

وعلى كل شيء متعلقان بشهيد (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن شرطية وتعذبهم فعل الشرط والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وإن واسمها وخبرها والجملة الشرطية مستأنفة مسوقة على وجه الاستعطاف ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام ما بدأ الحديث به عند ما قال : يوم يجمع الله الرسل ، وجملة الاشارة في محل نصب مقول القول وهذا مبتدأ ويوم خبر وجملة ينفع في محل جر بالاضافة ، والصادقين مفعول به مقدم ، وصدقهم فاعل مؤخر (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان النفع المذكور ، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وجنات مبتدأ مؤخر ، وجملة تجري صفة لجنات ، ومن تحتها متعلقان بتجري ، والأنهار فاعل ، وخالدين حال ، وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة دعائية معترضة لا محل لها ، وجملة ورضوا عنه عطف عليها ، وذلك مبتدأ ، والفوز خبر ، والعظيم صفة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق ، والله متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وملك السماوات والأرض مبتدأ مؤخر ، والواو عاطفة ، وما اسم موصول معطوف على الملك ، وفيهن متعلقان بمحذوف صلة الموصول ، وأتى بـ «ما» تغليبا لغير العاقل لأنه أدل على العظمة ، وهو مبتدأ ، وقدير خبره ، وعلى كل شيء متعلقان بقدير.

البلاغة :

في قوله : «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت

٥٤

العزيز الحكيم» فن من فنون البلاغة ، منقطع النظير ، صعب الإدراك ، يحتاج المتأمل فيه الى الكثير من رهافة الحسّ ، وشعوف الطبع ، ويسمى فن التخيير. وحدّده علماء البلاغة بأن يأتي الشاعر أو الناثر بفصل من الكلام أو بيت من الشعر يسوغ أن يقفّى بقواف شتى فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها ، ويستدل بإيثاره إياها على حسن اختياره وصدق حسه ، وقد تقضي البداهة الأولى بأن تكون غير ما اختاره ، ولكنه عزف عن ذلك لسرّ دقيق كقول أحدهم :

إنّ الغريب الطويل الذيل ممتهن

فكيف حال غريب ما له قوت

فإنه يسوغ أن يقول : ما له نشب ، أو ما له سيد ، أو ما له أحد.

وإذا نظرت الى ما قاله وهو : «ماله قوت» وجدتها أبلغ من الجميع ، وأدلّ على الفاقة والعوز ، وأمسّ بذكر الحاجة ، وأشجى للقلوب ، وأدعى للاستعطاف. فذلك رجحت على ما سواها.

القول في الآية :

ونعود بعد هذا التعريف السريع لهذا الفن الى الآية التي نحن بصددها فنقول : إن البداهة البدائية تقضي بأن تكون الفاصلة :«إنك أنت الغفور الرحيم» لملاءمتها لقوله : «إن تغفر» ولمناسبته ما بين الغفران والغفور ، ولكنّ هذا الوهم الناجم عن هذه البداهة سرعان ما يزول أثره عند ما يذكر المتوهم أن هؤلاء قد استحقوا العذاب دون الغفران ، فيجب أن تكون الفاصلة : «العزيز الحكيم» إذ لو

٥٥

جاءت «الغفور الرحيم» بعد ذكر الغفران ـ وهو لا يغفر لهم ـ فوجب أن تكون الفاصلة كما وردت ، لأن الله سبحانه ممتنع عن القهر والمعارضة ، والعزيز هو الممتنع ، ولا بد من أن يصف نفسه بعد وصفه بالعزة بالحكمة ، لأنه الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه.

طرفة الأصمعي :

وقد مرت معنا في السابق طرفة الأصمعي ، وهي ما ذكره أنه كان يقرأ يوما فقرأ : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم» وكان يسمعه أعرابي ، فاعترضه وغلّطه ، فراجع الأصمعي الآية ، فإذا بها «والله عزيز حكيم» ، فقال للأعرابيّ : كيف عرفت ذلك؟ فقال : يا هذا عزّ فحكم فقطع ، ولو غفر ورحم لما قطع. فدهش الأصمعي وأفحم.

وخفي هذا السر على أبي حيان :

وقد خفي سر هذا الفن على أبي حيان ـ على جلالة قدره ـ فقال في «البحر» محاولا تعليل الاعتراض ما نصه : «وقال أبو بكر ابن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : «فإنك أنت العزيز الحكيم» لا يناسب قوله : «وإن تغفر لهم» لأن المناسب «فإنك أنت الغفور الرحيم». والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ، ومتى نقل إلى ما قاله هذا الطاعن ضعف معناه ، فإن ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلّق.

وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون». ونقول : ولو

٥٦

عرف أبو حيّان هذا الفنّ لأجاب بما قدّمناه ، ولم يتكلّف الأجوبة البعيدة.

الفوائد :

بين ابن هشام والزمخشريّ :

ذكر ابن هشام في مغني اللبيب ما يلي : «وذكر الزمخشري في قوله تعالى : «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله» أنه يجوز أن تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر ، أي : ما أمرتهم إلا بما أمرتني أن اعبدوا الله ، وهو حسن. وعلى هذا فيقال في الضابط : أن يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره ، ولا يجوز في الآية أن تكون مفسرة لأمرتني ، لأنه لا يصح أن يقال : اعبدوا الله ربي وربكم مقولا لله تعالى ، فلا يصح أن تكون مفسرة لأمره لأن المفسر عين تفسيره.

عبارة ابن يعيش :

وعبارة ابن يعيش : فـ «أن» بمعنى «أي» ، وهو تفسير «ما أمرتني به» ، لأن الأمر في معنى القول ، ولأن هذه إذا كانت تفسيرا ثلاث شرائط :

١ ـ أولها أن يكون الفعل الذي تفسره وتعبر عنه فيه معنى القول وليس بقول.

٥٧

٢ ـ والثاني أن لا يتصل بـ «أن» شيء من صلة الفعل الذي تفسره ، لأنه إذا اتصل بها شيء من ذلك صارت جملته ، ولم تكن تفسيرا له ، وذلك نحو : أوعزت إليه بأن قم ، وكتبت إليه بأن قم ، لأن الباء هاهنا متعلقة بالفعل ، وإذا كانت متعلقة به صارت من جملته ، والتفسير إنما يكون بجملة غير الأولى.

٣ ـ والثالث أن يكون ما قبلها كلاما تاما لما ذكرناه من أنها وما بعدها جملة مفسرة جملة قبلها ، ولذلك قالوا في قوله تعالى :«أن الحمد لله رب العالمين» أنّ «أن» فيه مخففة من الثقيلة ، والمعنى :أنه الحمد لله ، ولا يكون تفسيرا لأنه ليس ما قبلها جملة تامة ، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله : «وآخر دعواهم» لم يكن كلاما».

قلت : ولهذا جنحنا الى ما اخترناه في إعرابها مصدرية تفاديا للوقوع في هذه المزالق.

٢ ـ إذا وقعت «ما» قبل «ليس» أو «لم» أو «لا» أو بعد «إلّا» فهي موصولة ، وإذا وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية ، وإذا وقعت بعد الباء فهي تحتملهما ، وإذا وقعت بين فعلين والأول علم أو دراية أو نظر احتملت الموصولية والاستفهامية.

٣ ـ كل ما كان من أسماء الزمان مبهما لما مضى تجوز إضافته الى الجملة ، فإن كان ما بعده مبنيا فالبناء على الفتح أرجح للتناسب ، قال النابغة :

٥٨

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت : ألمّا أصح والشيب وازع

يروى «على حين» بالجر على الإعراب ، و «على حين» بالبناء على الفتح ، وهو الأرجح. وإن كان ما بعده فعلا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح كما ورد في الآية : «هذا يوم ينفع».

٥٩

سورة الأنعام

مكيّة وآياتها خمس وستون ومائة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

اللغة :

(جَعَلَ) : تكون بمعنى أنشأ وأحدث فتنصب مفعولا واحدا ، وتكون بمعنى صيّر فتتعدى الى مفعولين. وقال ابن جنّي في الخصائص : «إن العرب قد تتسع فتوقع أحد الفعلين موقع الآخر إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر». والفرق بين الجعل والخلق دقيق يلتقطه الخاطر المرهف ، وهو أن الخلق فيه معنى التقدير ، والجعل فيه معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان الى مكان آخر.

٦٠