الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

يوم القيامة ودخول أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النّار إلى النّار ، وعلى هذا الأساس فالآية ناظرة إلى الآخرة في حين أنّ ظاهر الآية يتعلّق بهذه الحياة الدنيا ، ولهذا فليس من البعيد أن تكون هذه الآية إشارة إلى نزول العذاب الإلهي على الكفّار المعاندين ، وقد ورد في هذا المعنى في كلام الطبرسي وغيره من المفسّرين بعنوان أحد الاحتمالات.

ويمكن أن يكون المعنى إشارة إلى انتهاء مأموريّة التبليغ وبيان الحقائق الواردة في الآية السابقة بعنوان (بيّنات) ، وبهذا يكون انتظار وتوقع هؤلاء بلا معنى ، فعلى فرض المحال إمكانيّة حضور الله تعالى والملائكة أمامهم فلا حاجة إلى ذلك كما ذكرنا ، لأنّ مستلزمات الهداية قد وضعت أمامهم بالقدر الكافي ، وبناء على هذا التفسير لا يوجد في الآية أي تقدير ، والألفاظ بعينها قد فسّرت ، وبهذا يكون الاستفهام الوارد في الآية استفهاما إنكاريّا.

وهناك من المفسّرين من لم ير الاستفهام في الآية استنكاريّا ، واعتبره نوعا من التهديد للمذنبين ولأولئك السائرين على خطى الشيطان ، سواء كان التهديد بعذاب الآخرة أو الدنيا ، ولهذا فهم يقدّرون قبل كلمة «الله» كلمة (أمر) فيكون المعنى حينئذ : (أيريد هؤلاء بأعمالهم هذه أن يؤتيهم أمر الله وملائكته لمعاقبتهم وتعذيبهم ولينالوا عذاب الدنيا أو الآخرة وينتهي أمرهم وأعمالهم).

ولكنّ التفسير المذكور أعلاه أنسب المعاني لهذه الآية ظاهرا ولا حاجة إلى التقدير.

والخلاصة أنّ لهذه الآية ثلاثة تفاسير :

١ ـ أنّ المراد هو أنّ الله تعالى قد أتمّ حجّته بمقدار كاف ، فلا ينبغي للمعاندين توقّع أن يأتيهم الله والملائكة أمامهم ويبيّنوا لهم الحقائق ، لأنّ هذا أمر محال وعلى فرض أنّه غير محال لا حاجة لذلك.

٢ ـ المراد هو أنّ هؤلاء مع عنادهم وعدم إيمانهم هل ينتظرون الأمر الإلهي

٨١

بإنزال العذاب وملائكة العذاب عليهم فيهلكوا عن آخرهم.

٣ ـ المراد أنّ هؤلاء بهذه الأعمال هل ينتظرون قيام السّاعة ليصدر الأمر إلى الملائكة بتعذيبهم وينالوا جزاءهم العادل؟ (١)

التعبير ب (ظلل من الغمام) بناء على التفسير الثاني والثالث الّذي ذهب إليه الكثير من المفسّرين إشارة إلى أنّ العذاب الإلهي يأتي فجأة كالسّحاب الّذي يظلّلهم وخاصّة أنّ الإنسان إذا رأى السّحاب يتوقّع أمطار الرّحمة ، فعند ما يأتي العذاب بصورة الصاعقة وأمثال ذلك وينزل عليهم فسيكون أقسى وأشدّ إيلاما (مع الالتفات إلى أنّ عذاب بعض الأقوام السّالفة نزل عليهم بصورة صاعقة من الغمام) (٢).

أمّا على أساس التفسير الأوّل فقد يكون إشارة إلى عقيدة الكفّار الخرافيّة حيث يظنّون أنّ الله تعالى ينزل أحيانا من السّماء والسّحاب تظلّله (٣).

وفي نهاية الآية تقول (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الأمور المتعلّقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماويّة وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلّها تعود إليه.

* * *

بحث

استحالة رؤية الله :

لا شكّ أنّ الرّؤية الحسيّة لا تكون إلّا للأجسام الّتي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ ، فعلى هذا لا معنى لرؤية الله تعالى الّذي هو فوق الزمان والمكان.

__________________

(١) لم يذكر التقدير في التفسير الأوّل ويجب أخذه بنظر الاعتبار في التفسير الثاني والثالث في كلمة «امر» قبل لفظ الجلالة «الله».

(٢) راجع الآية (١٨٩) من سورة الشعراء.

(٣) المصدر السابق.

٨٢

إنّ الذات المقدّسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، والأدلّة العقليّة على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها ، ولكن مع ذلك فإنّ طائفة من علماء أهل السّنة ومع الأسف يستندون على بعض الأحاديث الضعيفة وعدد من الآيات المتشابهة على إمكان رؤية الله تعالى يوم القيامة بهذه العين الماديّة ، وإنّه سيكون له قالب جسماني ولون ومكان ، وبعضهم يرى أنّ الآية مورد البحث ناظرة إلى هذا المعنى،فلعلّهم لم يلتفتوا إلى مدى المفاسد والمشكلات المترتّبة على هذا القول.

وطبعا لا شكّ في إمكانيّة رؤية الله تعالى بعين القلب ، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر ، ومن المسلّم أنّ ذاته المقدّسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم ممّا يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى ، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جواب من سأله : هل يمكن مشاهدة الله يوم القيامة؟ فقال : «... إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون وكيفيّة والله تعالى خالق الألوان والكيفيّة»(١).

وقد أوردنا أبحاثا في عدم إمكانيّة رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في ذيل الآيات المربوطة ، منها في ذيل آية (١٠٣) من سورة الأنعام (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وذكرنا بحثا آخر أكثر تفصيلا في المجلّد الرابع من (نفحات القرآن) فراجع.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٥٣.

٨٣

الآية

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))

التّفسير

تبديل نعمة الله بالعذاب الأليم :

تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة ، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين ، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات الله وبراهينه الواضحة ويتذرّعون بمختلف الحجج والمعاذير ، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى ، وتقول الآية : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ).

ولكنّهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهيّة والنعم الربانية في أساليب مذمومة ومنحرفة ، ثمّ تقول الآية (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

والمراد من (تبديل النعمة) هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر

٨٤

الماديّة والمعنويّة الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي وممارسة الظلم والطغيان ، فقد وهب الله سبحانه وتعالى مواهب كثيرة لبني إسرائيل من قبيل الأنبياء والقادة الشجعان والإمكانات الماديّة الكثيرة ، ولكنّهم لم ينتفعوا من أنبياءهم الإلهيّين ، ولا استفادوا من المواهب الماديّة استفادة صحيحة ، وبهذا ارتكبوا معصية تبديل النّعمة ممّا سبّب لهم أنواع العذاب الدنيوي ، كالتيه في الصحراء وكذلك العذاب الاخروي الأليم.

وعبارة (سل بني إسرائيل) في الحقيقة تستهدف كسب الاعتراف منهم بشأن النعم الإلهيّة ، ثمّ التفكير بالسّبب الّذي أدّى بهم إلى الهاوية والتمزّق مع كلّ هذه الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكلّ من لا ينتفع بالمواهب الإلهيّة بصورة سليمة.

ولا تنحصر مسألة تبديل النّعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل ، بل أنّ جميع الأقوام والشّعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي الشديد في الدنيا وفي الآخرة.

فالعالم المتطوّر صناعيّا يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى ، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفورا لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صورا شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهيّة للأنبياء،حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجلّ بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاخرى ، وبذلك جعلوا من الدنيا مكانا غير آمن ، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كلّ ناحية.

(نعمة الله) في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهيّة وتبديلها يعني تحريفها ، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كلّ الإمكانات والمواهب الإلهيّة ، والمعنى الثاني أرجح.

* * *

٨٥

الآية

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

سبب النّزول

عن ابن عبّاس المفسّر المعروف قال : إنّها نزلت في رؤساء قريش الّذين بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين الفقراء كعبد الله بن مسعود وعمّار وبلال وخباب ويقولون : لو كان محمّد نبيّا لاتّبعته أشرافنا ، فنزلت الآية لتردّ عليهم.

التّفسير

الكافرون عبيد الدّنيا :

نزول الآية طبقا للرّواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكمّلة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كليّة ، تقول الآية (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولذلك أفقدهم الغرور والتكبّر شعورهم.

٨٦

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في حين أنّ المؤمنين والمتّقين في أعلى عليّين في الجنّة،وهؤلاء في دركات الجحيم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

لأنّ المقامات المعنويّة تتّخذ صور عينيّة في ذلك العالم ، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء ، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السّماء ، وليس ذلك بعجيب (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وهذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين،وهناك احتمال آخر أيضا وهو أنّ الجملة الأخيرة تشير إلى أنّ الله تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب ، وذلك بتقدّم الإسلام واتّساعه حيث تحقّق هذا الوعد الإلهي.

وكون ذلك الرّزق الإلهي بدون حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهيّة ليست بمقدار أعمالنا إطلاقا ، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه ، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليست لهما حدود ونهاية.

* * *

ملاحظة

إنّ الحياة الماديّة في منظار الكافرين ـ الّذين لا يتّعدى أفق تفكيرهم إطار العالم المادّي ـ جميلة وجذّابة ومعيار تقويم كلّ شيء ، ومن هنا فإنّهم ينظرون بفكرهم الضيّق إلى الفقراء نظرة تحقير واستهانة واستهزاء ، ولا يقيمون وزنا للقيم المعنويّة والإنسانيّة.

ويبقى هنا سؤال عن معنى فعل المجهول (زيّن) فمن الّذي يزيّن الدنيا في أنظار الكافرين؟ الجواب على هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في تفسير الآية (١٤) من سورة آل عمران.

* * *

٨٧

الآية

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

التّفسير

طريق الوصول إلى الوحدة :

بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفّار في الآيات السّابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اصوليّ كلّي وجامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة الّتي مرّ بها.

في البداية تقول الآية (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (١).

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة وكيفيّة ظهور الدّين لإصلاح

__________________

(١) «امّة» بمعنى الجماعة التي ترتبط بنوع من الرابطة الموحدة لأفرادها سواء كانت وحدة دينية أو زمانية أو مكانية.

٨٨

المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل :

المرحلة الاولى : مرحلة حياة الإنسان الابتدائيّة حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية ، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات ، وكان يعبد الله تعالى استجابة لنداء الفطرة ويؤدّي له فرائضه البسيطة ، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح عليهما‌السلام.

المرحلة الثانية : وفيها اتّخذت حياة الإنسان شكلا اجتماعيّا ، ولا بدّ أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل ، وهذا لا يتحقّق إلّا في الحياة الاجتماعيّة.

المرحلة الثالثة : هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعيّة ، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة ، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحمل هذه الاختلافات ، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

المرحلة الرابعة : وتتميّز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس ، حيث تقول الآية (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

فمع الالتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاء على أعماله فيحس أنّ مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحل التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر،لذلك تقول الآية (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

المرحلة الخامسة : هي التمسّك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماويّة لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكريّة والعقائديّة

٨٩

والاجتماعيّة والأخلاقيّة).

المرحلة السادسة : واستمر الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشيطانيّة وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانيّة ، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء والكتب السماويّة بشكل خاطئ وتطبيقها على مرادهم ، وبذلك رفعوا علم الاختلاف مرّة ثانية. ولكن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف السابق ، لأنّ الأوّل كان ناشئا عن الجهل وعدم الاطّلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، في حين أنّ منبع الاختلافات الثانية هو العناد والانحراف عن الحقّ مع سبق الإصرار والعلم،وبكلمة : (البغي) ، وبهذا تقول الآية بعد ذلك (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

المرحلة السابعة : الآية الكريمة بعد ذلك تقسّم الناس إلى قسمين ، القسم الأوّل المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ والهداية ويتغلّبون على كلّ الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماويّة وتعليم الأنبياء ، فتقول الآية : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف.

وختام الآية تقول (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد ، فجميع الأفراد الرّاغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيويّة مع الكفّار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان،ويبيّن لهم طريق النجاة والاستقامة.

* * *

٩٠

بحوث

١ ـ الدين والمجتمع

يستفاد من الآية أعلاه ضمنيا أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الانفصال ، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة ، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلّ الاختلافات والتناقضات الاجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان ، فلا يمكنها حل الاختلافات والتناقضات في حياة البشر بشكل كامل ، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر ، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نر له نظيرا حتّى في المجتمعات المتخلّفة.

وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي.

٢ ـ بداية التشريع

ويتّضح من الآية أيضا أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي ، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل أنبياء اولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

٣ ـ الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى

ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و...) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الاخرى ، ومع الالتفات إلى

٩١

الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الاختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لا بدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات.

وعند ما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة ومدينة في تلك الأيّام ، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان ، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل ، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم ، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب.

وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان (فتأمّل بالدّقة).

٤ ـ حلّ الاختلافات من أهم أهداف الدّين

هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة ، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي ، ولكن من أهمّ الأهداف أيضا هو رفع الاختلافات ، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة والمناطق الجغرافية دائما تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة ، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة اتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي ، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود ، ويزيل تمام هذه الحدود ، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجا من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة.

وعند ما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف والنّزاع بين طوائف البشر ، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى ، وإلّا

٩٢

فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سببا للوحدة في كلّ مكان.

٥ ـ الدّليل على عصمة الأنبياء

يذكر (العلّامة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يقسّم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة أقسام:

١ ـ العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه ،

٢ ـ العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة ،

٣ ـ العصمة من الذنب وما يؤدّي إلى هتك حرمة العبوديّة لله. يقول : إنّ الآية مورد البحث دليل على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة ، لأنّ الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للنّاس وبيان العقيدة الحقّة في الإعتقاد والعمل ، وبذلك يمكنهم هداية النّاس عن هذا الطريق ، ومن الواضح أنّ هذا الهدف لا يتحقّق بدون العصمة في تلقّي الوحي وتبليغ الرّسالة.

القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضا ، لأنّه لو صدر خطأ في تبليغ الرّسالة لكان بنفسه عاملا على الاختلاف ، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيّين بارتكابهم الذنب فيكون أيضا عاملا وسببا للاختلاف ، وبهذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة (١).

* * *

__________________

(١) اقتباس من تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ١٣٤ ، في ذيل الآية (٢١٣) من سورة البقرة.

٩٣

الآية

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ الآية نزلت عند ما حوصر المسلمون واشتدّ الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب ، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم وتعدهم بالنصر.

وقيل : إنّ عبد الله بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد : إلى متى تتعرّضون للقتل ولو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر والتقتيل ، فنزلت الآية (١).

التّفسير

الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية :

يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان بالله وحده كاف لدخولهم الجنّة ، ولذلك لم يوطنوا أنفسهم على تحمّل الصعاب

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٠٨.

٩٤

والمشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

الآية تردّ على هذا الفهم الخاطئ وتشير إلى سنّة إلهية دائمة في الحياة ، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ والتحدّيات على طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم ، ومثل هذا الاختبار قانون عامّ سرى على كلّ الأمم السابقة.

ويتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل ـ مثلا ـ وما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلّط الفرعوني ، خاصّة حين حوصروا بين البحر وجيش فرعون ، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه ، لكن لطف الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.

وهذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) وهو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها. فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلى فولاذ أكثر مقاومة وأصلب عودا. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق ، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الاجتماعية.

المسألة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية : أنّ الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟!، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية ، بل هو نوع من الطلب والدعاء.

فتقول الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ....

وبما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب ، وكانوا في غاية التوكّل وتفويض الأمر إلى اللّطف الإلهي ، فلذلك تعقّب الآية (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

(بأساء) من مادّة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في

٩٥

الأصل تعني الشّدة وأمثالها ، وتطلق على كلّ نوع من العذاب والمشّقة ، ويطلق على الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوه وشدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

وكلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء ، وهي ما يسرّ الإنسان ويجلب له النفع ، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان ، سواء في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.

جملة (مَتى نَصْرُ اللهِ) قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى الشّدة والمحنة ، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهيّة ، بل هو نوع من الطلّب والدعاء ، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

وما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متى نصر الله) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين ، وجملة (ألا إنّ نصر الله قريب) قيلت من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيد جدّا.

وعلى ايّة حال ، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا،وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر والتوفيق والمواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل ، وفي الحقيقة إنّ هذه المشاكل والصّعوبات ما هي إلّا إمتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

وعبارة (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) تقول للمسلمين : أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء ، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنّهم مسّتهم البأساء والضرّاء حتّى استغاثوا منها.

وأساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشّدائد حتّى يكونوا كالفولاد الخالص وتتفتّح قابليّاتهم الداخليّة وملكاتهم النفسانيّة ويشتد إيمانهم بالله تعالى ، ويتميّز كذلك المؤمنون والصّابرون

٩٦

عن الأشخاص الانتهازيّين ، ونختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف : يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام : قال قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ؛ ثمّ قال : والله ليتمن هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه وكلّكم يستعجلون» (١).

* * *

__________________

(١) الدر المنثور : ج ١ ص ٢٤٣ ، تفسير الكبير : ج ٦ ص ٢٠.

٩٧

الآية

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

سبب النّزول

(عمرو بن الجموح) شيخ ثريّ سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا ينفق ولمن يعطي؟فنزلت الآية (١).

التّفسير

يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله ، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء ، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر ، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه ، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٠٩ ، كذلك تفسير روح المعاني : ج ٢ ص ٩١ ، والتفسير الكبير : ج ص ٢٣٢.

٩٨

وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق ، ثمّ تطرّقت أيضا إلى الأشخاص المستحقّين للنفقة ، وسبب نزول الآية كما مرّ يبيّن أنّ السؤال اتّجه إلى معرفة نوع الإنفاق ومستحقّيه.

بشأن المسألة الاولى : ذكرت الآية كلمة «خير» لتبيّن بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان ، وهو كلّ عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كلّ رأسمال مادّي ومعنوي مفيد.

وبالنسبة للمسألة الثانية : ـ أي موارد الإنفاق ـ فتذكر الآية أولا الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر ، ثم اليتامى ثم المساكين ، ثم أبناء السبيل ، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين ـ إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتّب على كلّ إنفاق ـ يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

لعلّ في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطّلاع الناس على أعمالهم ، ومن الأفضل أن يسرّوا إنفاقهم تأكيدا لإخلاصهم في العمل ، لأنّ الذي يجازي على الإحسان عليم بكلّ شيء ، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

* * *

بحث

التجانس في السؤال والجواب :

ذهب البعض إلى أنّ مورد السؤال في هذه الآية عن الأشياء التي يجب الإنفاق منها،ولكنّ الجواب كان عن مصارف هذه النفقات والصّدقات ، أي الأشخاص المستحقّين لها ، وذلك بسبب أنّ معرفة موارد الصّرف أهم وأولى ،

٩٩

ولكنّ هذا الفهم من الآية اشتباه محض ، لأنّ القرآن الكريم أجاب عن سؤالهم وكذلك بيّن موارد الإنفاق ، وهذا من فنون الفصاحة والبلاغة بحيث يجيب على السؤال ويضيف عليه بيان مسألة مهمّة ضروريّة.

وعلى أيّ حال فإنّ جملة (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) تبيّن أنّ الإنفاق أمر جميل وحسن في كلّ موضوع ومن كلّ شيء ويستوعب جميع الأمور الحسنة سواء كانت في الأموال أو الخدمات أو الموضوعات الماديّة أو المعنويّة.

ثمّ أنّ كلمة (خير) ذكرت بصورة مطلقة أيضا ، وتدلّ على أنّ المال والثروة ليست شيئا مذموما بذاته ، بل هي من أفضل وسائل الخير بشرط الاستفادة السليمة والصحيحة منها.

وكذلك فإنّ التعبير بكلمة (خير) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الإنفاق يجب أن يكون خاليا من كلّ أذى ومنّة بالنسبة إلى الأشخاص المعوزين حتّى يمكن أن يطلق عليه كلمة (خير) بشكل مطلق.

* * *

١٠٠