الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وهكذا يعلمهم القرآن أن عليهم أن يضاعفوا الجهد في تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم لتحقيق الإنتصار في المستقبل.

ويمكن أن يكون المقصود من الذنب الذي كسبوا هو حب الدنيا وجمع الغنائم ، ومخالفة الرسول ، وتجاهل أوامره في بحبوحة المعركة ، أو ذنوب أخرى كانوا قد اقترفوها قبل معركة «أحد» أضعفت من طاقاتهم الإيمانية ، وأضرت بالجانب المعنوي فيهم.

وقد نقل العلّامة الطبرسي عن أبي القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم «أحد» إلّا ثلاث عشرة نفسا (فيكون عددهم مع النبي ١٤) خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وقد اختلف في الجميع إلّا في علي وطلحة فإنهما ثبتا ولم يفرا باتفاق الجميع.

* * *

٧٤١

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

التّفسير

استغلال المنافقين :

كانت حادثة «أحد» تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من جهتين :

أولا : لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة ، وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم ، فإصلاحها وإزالتها ، ولهذا السبب ركز القرآن على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم

٧٤٢

الاهتمام البالغ ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروسا وعبرا كثيرة وكبيرة ، في الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.

ومن جهة أخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية ، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة ، من جملتها الآيات المذكورة أعلاه.

فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أولا إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية ، وتحذير المسلمين منهم فتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ، أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا).

هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع الإشفاق ، إلّا أنهم لم يكونوا ـ في الحقيقة ـ يقصدون منها إلّا تسميم روحية المسلمين ، وإضعاف معنوياتهم ، وزعزعة إيمانهم ، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها ، وتكرروا نظائرها من العبارات.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ).

أنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية ، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضا ، وستمتنعون أيضا عن الخروج إلى ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله ، وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه ، ولكن لا تفعلوا ذلك ، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنوية عالية ، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل ، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين ، أبدا.

ثمّ إن القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم

٧٤٣

بثالث أجوبة منطقية هي :

١ ـ إن الموت والحياة بيد الله على كلّ حال ، وأن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئا ، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

٢ ـ ثمّ إنكم حتّى إذا متم أو قتلتم ، وبلغكم الموت المعجل ـ كما يحسب المنافقون ـ فإنكم لم تخسروا شيئا ، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

وأساسا لا تصحّ المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثرايا ، ولكنه أمر لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياما معدودة من الحياة الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة.

إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلّا أن يقال لهم : إن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله ، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار من طريق حياتهم الموبوءة ، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.

٣ ـ وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف ، ويستوحش منه هذا الاستيحاش ، إنه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل ، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

إن الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في أثناء السفر ، في مصاف الشهادة في سبيل الله ، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي ، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل ، ومقترنة

٧٤٤

بالمصاعب والمتاعب ، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر الأحيان إلى الموت ، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلا من القتل والشهادة في ميادين الجهاد وسوح النضال.

وأما ما احتمله بعض المفسّرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي الأسفار التجارية فهو بعيد جدا عن معنى الآية ، لأن الكفّار لم يتأسفوا قط لهذا الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها ، هذا مضافا إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد معركة أحد ، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفّار في هذا المورد لم يوجد ولم يسبب أية حسرة للكفّار ، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله ، أو لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.

* * *

٧٤٥

الآيتان

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

التّفسير

الأمر بالعفو العام :

هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية ، ولكنها من حيث النزول ترتبط بواقعة «أحد» لأنه بعد رجوع المسلمين من «أحد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم ، وطلبوا منه العفو.

٧٤٦

فأصدر الله سبحانه إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بأن يعفو عنهم ، ويتجاوز عن سيئهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب.

إذ قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ولقد أشير في هذه الآية ـ قبل أي شيء ـ إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم ، وخلوه من الفظاظة والخشونة.

«الفظّ» ـ في اللغة ـ هو الغليظ الجافي الخشن الكلام ، و «غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة ، ولا يحس منه لين.

وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة ، إلّا أن الغالب استعمال الأولى في الخشونة الكلامية ، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية ، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.

ثمّ إنه سبحانه يأمر نبيه بأن يعفو عنهم إذ يقول : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتنازل عن حقه لهم إذ تفرقوا عنه في أحلك الظروف ، وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك المعركة ، وأنه يشفع لهم لدى نبيه بأن يتجاوز عنهم ، وأن يشفع هو بدوره لهم عند الله ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه.

وبتعبير آخر أنه سبحانه يطلب من نبيه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم ، وأما ما بين الله وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم ما أمره به ربه وعفى عنهم جميعا.

ومن الواضح أن هذا المقام كان من الموارد التي تتطلب حتما العفو والمغفرة ، واللطف واللين ، ولو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل غير ذلك لكان يؤدي ذلك إلى انفضاض

٧٤٧

الناس من حوله ، وتفرقهم عنه ، إذ أن الجماعة رغم أنها أصيبت بالهزيمة النكراء ، وتحملت ما تحملت من القتلى والجرحى ، وكانوا هم السبب فى ذلك ، إلّا أنهم أحوج ما يكونون إلى العطف واللطف وإلى اللين والعفو ، وإلى البلاسم التي تبل جراحاتهم ، وإلى المراهم التي تهدئ خواطرهم ، حتّى يتهيئوا بعد شفائها واستعادة معنوياتهم إلى مواجهة أحداث المستقبل ، وتحمل المسؤوليات القادمة.

إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين ، والعصاة النادمين ، والمتمردين العائدين ، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة ، وافتقر إلى روح السماحة ، وافتقد صفة اللين ، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة ، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحقة ، تبدد جهوده ، وتذري مساعيه أدراج الرياح ، إذ يتفرق الناس من حوله ، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسئولياتها الجسمية ، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين مشيرا إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة «آلة الرياسة سعة الصدر».

الأمر بالمشاورة :

بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم ، وذلك إحياء لشخصيتهم ، ولبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث.

على أن هذا الأمر للنبي بمشاورة المسلمين إنما هو لأجل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أسلفنا ـ قد استشار المسلمين قبل الدخول في معركة «أحد» في كيفية مواجهة العدو واستقر رأي الأغلبية منهم على التعسكر عند جبل «أحد» فكان ما كان من

٧٤٨

المكروه ووقع ما وقع من البلاء ، وهنا كان كثيرون يتصورون بأن على النبي أن لا يشاور بعد ذلك أحدا ، وأن عليه أن يتصرف كما يرى هو ، ولكن القرآن الكريم جاء يرد على هذا التصور ، ويجيب على هذا النوع من التفكير ويأمر النبي بأن يعيد المشاورة إذ يقول:(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) لأن المشاورة وإن لم تنفع في بعض المواضع ، فإنها نافعة على العموم ، بل إن نتائجها المفيدة الكثيرة لو قيست إلى بعض النتائج السلبية وغير المفيدة تبدو أكثر أضعافا كما وأن أثرها في صياغة الأفراد والجماعات وإنماء شخصيتهم من الأهمية بحيث يغطي على نقاط ضعفها ، بل هو أبرز آثارها وأهم فوائدها الذي لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه.

والآن نرى في أي المواضيع كان يشاور الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه؟ صحيح أن كلمة «الأمر» في قوله تعالى (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ذات مفهوم واسع يشمل جميع الأمور ، ولكن من المسلم أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشاور الناس في الأحكام الإلهية مطلقا ، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.

وعلى هذا الأساس كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم والأحكام الإلهية على أرض الواقع.

وبعبارة أخرى : إن النبي لم يشاور أحدا في التقنين ، بل كان يشاور في كيفية التطبيق ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك.

ولهذا عند ما كان يقترح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا ـ أحيانا ـ بادره المسلمون بهذا السؤال:هل هذا حكم إلهي لا يجوز إبداء الرأي فيه ، أو أنه يرتبط بكيفية التطبيق والتنفيذ؟ فإذا كان من النوع الثاني ، أدلى الناس فيه بآرائهم ، وأما إذا كان من النوع الأول لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض.

ففي يوم بدر جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدنى ماء من بدر فنزل عنده ، فقال «الحباب ابن المنذر» : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا

٧٤٩

نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال : يا رسول الله ليس هذا بمنزل ، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه إلى آخر ما قال ... فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد أشرت بالرأي» وعمل برأيه (١).

أهمية المشاورة في نظر الإسلام :

لقد حظيت مسألة المشاورة بأهمية خاصة في نظر الإسلام ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم أنه كان يملك ـ بغض النظر عن الوحي الإلهي ـ قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير الأمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة أحد ، إلّا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيما يشعر المسلمين بأهمية المشاورة وفوائدها حتّى يتخذوها ركنا أساسيا في برامجهم وحتّى ينمي فيهم قواهم العقلية والفكرية نجده يشاور أصحابه في أمور المسلمين العامة التي تتعلق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية (لا أصل الأحكام والتشريعات التي مدارها الوحي) ويقيم لآراء مشيريه أهمية خاصة ويعطيها قيمتها اللائقة بها ، حتّى أنه كان ـ أحيانا ـ ينصرف عن الأخذ برأي نفسه احتراما لهم ولآرائهم كما فعل ذلك في «أحد» ، ويمكن القول بأن هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثرة وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا.

والحقّ أن أية أمة أقامت إدارة شؤونها على أساس من الشورى والمشاورة ، قل خطأها،وندر عثارها ، على العكس من الأفراد الذين يعانون من استبداد الرأي ، ويرون أنفسهم في غنى عن نصح الناصحين ورأي الآخرين فإنهم إلى العثار أقرب ، ومن الصواب والرشد أبعد ، مهما تمتعوا بسديد الرأي ، وقوي التفكير ، هذا مضافا إلى أن الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصية في الجمهور ،

__________________

(١) تفسير المنار : ج ٤ ص ٢٠٠.

٧٥٠

ويوقف حركة الفكر وتقدمه ، ويميت المواهب المستعدة بل يأتي عليها ، وبهذا الطريق تهدر أعظم طاقات الأمة الإنسانية.

ومضافا أيضا إلى أن الذي يشاور الآخرين في أموره وأعماله إذا حقق نجاحا قل أن يتعرض لحسد الحاسدين ، لأن الآخرين يرون أنفسهم شركاء في تحقيق ذلك الإنتصار والنجاح ، وليس من المتعارف أن يحسد الإنسان نفسه على نجاح حققه ، أو انتصار أحرزه.

وأما إذا أصابته نكسة لم تلمه ألسن الناس ، ولم يتعرض لسهام نقدهم واعتراضهم ، لأن الإنسان لا يعترض على عمل نفسه ، ولا ينقد فعل ذاته ، بل سيشاطرونه الألم ، ويتعاطفون معه ، ويشاركونه في التبعات.

كلّ ذلك لأنهم شاركوه في الرأي وشاطروه في التخطيط ، ولم يكن متفردا في العمل ، ولا مستبدا في الرأي.

ثمّ إن هناك فائده أخرى للمشاورة وهي أن المشاورة خير محك لمعرفة الآخرين ، والتعرف على ما يكنونه للمستشير من حب أو كراهية ، وولاء أو عداء ، ولا ريب في أن هذه المعرفة ممّا يمهد سبيل النجاح ، ولعلّ استشارات النبي الأكرم ـ مع ما كان يتمتع به من قوة فكرية وعقلية جبارة ـ كانت لهذه الأسباب مجتمعة.

لقد ورد حث شديد وتأكيد ليس فوقه تأكيد على سنة المشاورة ، وفي الأحاديث والأخبار الإسلامية ففي حديث منقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما شقي عبد قط بمشورة ولا سعد باستغناء رأي» (١).

كما ونقرأ في كلمات الإمام علي عليه‌السلام قوله : «من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها» (٢).

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي.

(٢) نهج البلاغة ـ الحكمة ١٦١.

٧٥١

ونقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا أنه قال : «إذا كان امراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم سمحاؤكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاؤكم ، ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» (١).

مع من تشاور؟

من المسلم أن للمشورة أهلا ، فلا يصح أن يستشار كلّ من هب ودب ، فرب مشيرين يعانون من نقاط ضعف ، توجب مشورتهم فساد الأمر ، وضياع الجهود ، وفشل العمل ، والتأخر والسقوط.

فعن علي عليه‌السلام أنه قال في هذا الصدد «لا تدخلن في مشورتك» :

١ ـ بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر.

٢ ـ ولا جبانا يضعفك عن الأمور.

٣ ـ ولا حريصا يزين لك الشره بالجور (٢).

وظيفة المشير :

كما تأكد الحث في الإسلام على المشاورة فقد أكدت النصوص على المشيرين أيضا بأن لا يألوا جهدا في النصح ، ولا يدخروا في هذا السبيل خيرا ، وتعتبر خيانة المشير للمستشير من الذنوب الكبيرة ، بل وتذهب أبعد من ذلك حيث لا تفرق في هذا الحكم بين المسلم والكافر ، يعني أنه لا يحق لمن تكفل تقديم النصح والمشورة أن يخون من استشاره ، فلا يدله على ما هو الصحيح في

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي.

(٢) نهج البلاغة كتابه عليه‌السلام وعهده لمالك الأشتر.

٧٥٢

نظره ، مسلما كان ذلك المستشير أو كافرا.

في رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه قال : «وحق المستشير إن علمت له رأيا أشرت عليه ، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم ، وحق المشير عليك أن لا تتهمه في لا يوافقك من رأيه» (١).

شورى عمر بن الخطاب

عند ما بلغ جماعة من علماء أهل السنة ومفسريهم إلى هذه الآية (آية الشورى) أشاروا إلى شورى عمر السداسية لاختيار الخليفة الثالث ، وحاولوا عبر بيان مفصل تطبيق مفاد هذه الآية وروايات المشاورة على تلك العملية والفكرة.

والكلام المفصل حول هذه المسألة وإن كان من مهمة الكتب الاعتقادية ، إلّا أنه لا بدّ من الإشارة هنا إلى بعض النقاط بصورة مختصرة وسريعة :

أولا : إن انتخاب الخليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يكون فقط من جانب الله ، لأن الخليفة يجب أن يتمتع على غرار النبي ـ بصفات ومؤهلات كالعصمة وما شاكل ذلك وهي أمور لا يمكن الوقوف والاطلاع عليها إلّا من قبل الله سبحانه.

وبتعبير آخر : كما أن تعيين النبي لا يمكن أن يكون بالمشاورة والشورى فكذلك انتخاب الإمام لا يمكن أن يكون بالشورى.

ثانيا : إن الشورى السداسية المذكورة لم تنطبق بالمرة على معايير الشورى وموازين المشاورة ، لأن الشورى التي ذهب إليها عمر إن كان المراد منها مشاورة المسلمين عامة ، فما ذا يعني تخصيصها بستة أنفار؟

وإن كان الهدف منها مشاورة العقلاء والمفكرين وأهل الرأي من الأمة فهم لا ينحصرون في هؤلاء الستة ، إذ هناك شخصيات ناضجة أمثال سلمان الذي كان

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٤٠٥.

٧٥٣

مستشارا شخصيا للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومثل أبي ذر والمقداد وابن عباس ، وغيرهم ممن قد نحوا عن هذه الشورى.

وعلى هذا الأساس فإن حصر هذه الشورى بالأنفار الستة المعينين يجعل هذا الاجتماع والشورى أقرب إلى التحزب السياسي منه إلى التجمع الشوروي.

وأمّا إذا كان المراد من حصر المشيرين في هؤلاء الستة هو جعلها في أصحاب الكلمة والنفوذ حتّى تنفذ قراراتهم ولا يخالفها أحد من الأمة ، ولا يتمرد عليها أحد من الناس فإنه لم يكن موقفا صائبا أيضا ، لأن ثمة شخصيات من أصحاب الكلمة والنفوذ أمثال سعد بن عبادة الذي كان يرأس في حينه الأنصار بدون منازع ، وأبي ذر الغفاري أكبر شخصية مسموعة الكلمة في قبيلة «غفار» ، قد أقصيت من حلبة الشورى؟

ثالثا : نحن نعلم أنه قد اشترط في هذه الشورى شروط صعبة وقاسية إلى درجة أنه هدد المخالفون والمعارضون بالموت ، في حين لا يوجد لمثل هذه الشروط في سنة الشورى التي سنها الإسلام أي مكان ، ولا أي أثر ، فكيف تنطبق على هذه الشورى؟

مرحلة القرار الأخير!

بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللين في المشورة مع مستشاريه ، يجب عليه أن يكون حاسما وحازما في اتخاذ القرار الأخير.

وعلى هذا يجب التخلص من أي تردد ، أو استماع إلى الآراء المتشتتة بعد استكمال مراحل المشاورة واتضاح نتيجتها ، ويجب اتخاذ القرار الأخير بصرامة وحسم ، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

٧٥٤

إن الجدير بالتأمل هو أن مسألة المشاورة ذكرت في الآية الحاضرة بصيغة الجمع «وشاورهم» ولكن اتخاذ القرار الأخير جعل من وظيفة الرسول الكريم خاصة إذا جاء بصيغة المفرد «عزمت».

إن الاختلاف في التعبير إشارة إلى نكتة مهمة وهي أن تقليب وجوه الأمر ، ودراسة القضية الاجتماعية من جميع جوانبها وأطرافها يجب أن تتم بصورة جماعية ، وأما عند ما يتم التصديق على شيء فإن إجراءه وإبرازه في صورة القرار القطعي يجب أن يوكل إلى إرادة واحدة ، وإلّا وقع الهرج والمرج ، ودبت الفوضى في الأمة لأن التنفيذ بوساطة قادة متعددين من دون الانطلاق من قيادة واحدة متمركزة سيواجه الاختلاف ، ويؤول إلى النكسة والهزيمة ، ولهذا تتم المشاورات في عالمنا الراهن بصورة جماعية ، ولكن إجراء نتائجها تناط إلى الدول والأجهزه التي تدار وتعمل تحت إشراف شخص واحد ، وفرد معنى لا متعددين.

والموضوع المهم الآخر الذي تشير إليه الجملة السابقة (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)هو أن اتخاذ القرار الأخير يجب أن يقترن بالتوكل على الله ، بمعنى أن عليكم أن تستمدوا العون من الله القادر المطلق ولا تنسوه في الوقت الذي تهيئون فيه الأسباب العادية والوسائل المادية للأمر.

على أن التوكل لا يعني بالمرة أن يتجاهل الإنسان الأسباب المادية والوسائل العادية للنصر والتي جعلها الله سبحانه في عالم المادة ، ومكن الإنسان الأخذ بها ، فقد روي في حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأعرابي حضر عند النبي وقد ترك ناقته سادرة في الصحراء دون أن يعقلها حتّى لا تفر أو تضل ، ظنا بأن هذا من التوكل على الله «أعقلها وتوكل».

أجل ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطئ ، بل المراد منه هو أن لا ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي ، وفي حدود قدرته الضيقة ،

٧٥٥

فلا ينطلق قدما إلى الأمام ، بل يعلّق أمله ـ إلى جانب الأخذ بالأسباب ـ على عناية الله وحمايته ولطفه ومنّه.

ولا ريب أن مثل هذه الالتفاتة تهب للإنسان استقرار نفسيا عاليا ، وطاقة روحية فعالة ، ومعنوية تتضائل أمامها كلّ الصعاب والمشاق ، وتتحطم عندها كلّ أمواج المشكلات العاتية ، أو تنزاح أمامها كلّ الأهوال (وسوف نشرح بإسهاب إن شاء الله مسألة التوكل وكيفية العلاقة بينها وبين الاستفادة من وسائل العالم المادي في ذيل قوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (١).

ثمّ إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

هذا ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور ، وبعد الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتما.

نتيجة التوكل وثمرته :

بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه ، يبين في هذه الآية ـ التي هي مكملة للآية السابقة ـ نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كلّ القدرات ، فإذا أراد بعبد خيرا وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض ـ مهما عظمت ـ أن تتغلب عليه ، فمن كان ـ هكذا ـ منبع كلّ الانتصارات ، وجب التوكل عليه ، واستمداد العون منه.

فهذه الآية تتضمن ترغيبا للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر ،

__________________

(١) الطلاق : ٣.

٧٥٦

مضافا إلى تهيئة كلّ الوسائل الظاهرية ، والأسباب العادية.

والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم : إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي ، ولهذا يختم هذه الآية بقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

ولا يخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب ، فهو يتم بناء على أهليتهم لذلك.

فمن أعرض عن تعاليم الله ، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقا ، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة ، مهيئين كلّ الوسائل اللازمة للمواجهة ، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء ، وستكون يد الله معهم حتّى تحقيق الإنتصار.

* * *

٧٥٧

الآية

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))

التّفسير

الخيانة ممنوعة مطلقا :

بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة «أحد» وبالنظر إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول ، تعتبر هذه الآية ردا على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين ، وتوضيح ذلك هو : إن بعض الرماة عند ما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم ، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها ، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم ، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا اعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية ، إذ قالوا : نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا ، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأمور وجلائل المصائب.

٧٥٨

فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (١) أي أنكم تصورهم وظننتم أن النبي يخونكم ، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحدا.

إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة ، ويقول إن هذا الأمر لا يصلح ـ أساسا ـ للأنبياء ، ولا يتناسب أساسا مع مقامهم العظيم.

يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة ، فإذا كان النبي خائنا لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.

وغير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم ، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد.

ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله ، وتبليغه وأدائه ، ثمّ يحتمل ـ والعياذ بالله ـ أن يخون النبي في غنائم الحرب ، أو يقضي بما ليس بحق ، ويحكم بما ليس بعدل ، ويحرم أهلها منها من غير سبب.

إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كلّ أحد ، نبيا كان أو غير نبي ، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول اعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولا ، ثمّ تقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن كلّ من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته ، أو يصحبه معه إلى المحشر ، وهكذا يفتضح أمام الجميع ، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.

قال بعض المفسّرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما

__________________

(١) الغلول : تعني الخيانة ، وأصله تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر ، وهو الماء الذي يتسلل ويتسرب فيما بين الشجر ويدخل فيه ، ويطلق الغليل على ما يقاسيه الإنسان في داخله من العطش ومن شدة الوجد والغيظ ، لهذا السبب.

٧٥٩

غلّ يوم القيامة ليس هو أنّه يحمل كلّ ذلك حملا أو يستصحبه استصحابا حقيقيا معه يوم القيامة ، بل المراد هو أنه يتحمل مسئولية ذلك ، ولكن بالنظر إلى مسألة «تجسم الأعمال» في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير ، بل ـ وكما يدلّ عليه ظاهر الآية ويشهد به ـ يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله،أو يستصحبها معه.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يعني أن الناس يجدون عين أعمالهم هناك ، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كلّ أحد نفس ما كسبه خيرا كان أو شرا.

ولقد أثّرت الآية السابقة ، والأحاديث التي صدرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تذم الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيرا عجيبا حتّى أنهم ـ نتيجة لهذه التربية ـ لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال العامة ، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان من السهل إخفاؤها إلى النبي ، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها ، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب.

فقد كان هؤلاء نفس أولئك العرب القساة ، الجفاة ، المغيرون ، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية ، وقد أصبحوا الآن ـ في ظل التربية الإسلامية ـ في قمة الصلاح والأمانة ، وفي ذروة الاستقامة والطهر ، والتقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم ، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة ، بل يصرفهم حتّى عن التفكير فيها.

كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن ، وجمعوا الأقباض

٧٦٠