الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا طبيعية ، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة.

وممّا يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل ، أي أنها قائمة بالأشخاص ، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عند ما يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة.

إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن يكون مصيرها مرتبطا بمصيرهم حتّى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم.

ثمّ إن جماعة كثيرة من المسلمين ارعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في أحد ـ كما أسلفنا ـ إلى درجة أنهم تركوا ساحة المعركة ، وفروا بأنفسهم من الموت وحتّى أن بعضهم فكر في الردة عن الإسلام فكان قوله سبحانه : (وَما) (كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) وهو يكرر توبيخهم ، وتنبيههم إلى أن الموت بيد الله ، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي ، فإذا صحّ أن النبي قتل في المعركة ونال الشهادة لم يكن ذلك إلّا تحقيقا لسنة إلهية ، فلما ذا خاف المسلمون وكفوا عن القتال؟؟

ومن ناحية أخرى أن الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أن مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلا ، فالفرار من ميدان الجهاد حفاظا على النفس لغو لا فائدة فيه.

وهناك بحث حول معنى الأجل ، وأن منه حتميا ، ومنه معلقا ، والفرق بين النوعين سنوافيك به في تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام بإذن الله تعالى.

وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ

٧٢١

الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها * وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي أن ما عمله الإنسان لا يضيع أبدا ، فإن كان هدفه دنيويا ماديا كما كان عليه بعض المقاتلين في «أحد» فإنه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله.

وأما إذا كان هدفه أسمى من ذلك ، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتما وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كلّ ثواب وأسمى من كلّ نتيجة ، فلما ذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده ، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي؟

وتأكيدا لهذه الحقيقة قال سبحانه : مرة أخرى (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).

والجدير بالتأمل أن الفعل في هذه العبارة جاء في الآية السابقة ، بصيغة الغائب (سَيَجْزِي) وجاء هنا في صورة المتكلم «سنجزي» وهذا يفيد غاية التأكيد للوعد الإلهي بإعطاء الثواب لهم ، فهو تدرج من الوعد العادي إلى الوعد المؤكد ، فكأنّ الله يريد أن يقول ـ وببساطة ـ أنا ضامن لجزائهم وثوابهم.

ثمّ إنه جاء في تفسير «مجمع البيان» في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : إنه أصاب عليا عليه‌السلام يوم «أحد» إحدى وستون جراحة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه ، فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان آخر ، وقد خفنا عليه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده ، ويقول : «إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر» وكان القرح الذي يمسحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتئم ، وقال علي عليه‌السلام : «الحمد لله إذ لم أفر ولم أوّل الدبر» فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) وقوله تعالى:(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).

* * *

٧٢٢

الآيات

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

التّفسير

المجاهدون السابقون :

بعد استعراض حوادث معركة «أحد» في الآيات السابقة ، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال ، وتوبخ ضمنا أولئك الذين فروا في «أحد» وحدثوا أنفسهم بما حدثوا إذ

٧٢٣

يقول سبحانه : في الآية الأولى من هذه الآيات : (وَكَأَيِّنْ) (١) (مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) (٢) (كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبدا ، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له ، ومن البديهي أن الله تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال (وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

فهؤلاء عند ما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الانضباط لم يفكروا في الاستسلام للأمر الواقع ، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الارتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى الله يطلبون منه الصبر والثبات ، والعون والمدد ويقولون (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا* وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

إنهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج ، أما في الدنيا فالنصر والفتح ، وأما في الآخرة فما أعد الله للمؤمنين المجاهدين الصادقين : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ).

ثمّ إنه سبحانه يعد هؤلاء ـ في نهاية هذه الآية ـ من المحسنين إذ يقول :(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وبهذا النحو يبين القرآن درسا حيا للمسلمين الحديثي العهد بالإسلام ، من

__________________

(١) «كأيّن» أي ما أكثر ، ويقال أنها اسم مركب ـ أصلا ـ من كاف التشبيه وأي الاستفهامية فظهرتا في صورة الكلمة الواحدة التي فقد عندها معنيا الجزئين ، واكتسبت معنى جديدا هو «ما أكثر».

(٢) «ربيون» جمع «ربى» وزان «على» يطلق على من اشتد ارتباطه بالله عزوجل ، ويكون مؤمنا عالما ، صامدا مخلصا.

٧٢٤

حياة الأمم السابقة وسلوكهم مع أنبيائهم ، وكيفية تعاملهم مع المشكلات الطارئة ، وكيفية التغلب عليها ، وهو درس من شأنه أن يربيهم ويعدّهم للحوادث المستقبلة ، والمعارك القادمة.

وقفات اخرى عند هذه الآيات

ثمّ إن هناك في هذه الآيات نقاطا هامة أخرى جديرة بالتوجه والالتفات نشير إليها فيما يلي :

١ ـ الصبر ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ يعني الثبات والصمود ، ولهذا جاء في هذه الآية في مقابل «الضعف والاستكانة» كما ويدل على ذلك كون الصابرين في رديف المحسنين إذ قال في الآية الأولى : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وقال في الآية الثالثة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهو إشعار بأن الإحسان لا يمكن إلّا بالثبات والصمود والصبر ، لأن المحسن تواجهه آلاف المشاكل ، فإذا لم يكن مزودا بالصمود والصبر والثبات والاستقامة لم يمكنه الاستمرار في عمله ، بل سرعان ما يتركه في خضم المشكلات.

٢ ـ إن المجاهدين الحقيقيين هم الذين لا ينسبون الهزيمة إلى غيرهم ، أو يسندونها إلى عوامل وأسباب خيالية ووهمية ، بل يبحثون عنها في نفوسهم وذواتهم ، ويحاولون ـ بصدق ـ التخلص منها من خلال تصحيح الأخطاء ، وترميم الثغرات ، بل لا يتلفظون بكلمة الهزيمة،إنما يعبرون عنها بالإسراف ، والإفراط غير المبرر ، تماما على العكس منا اليوم حيث نسعى غالبا لأن نتجاهل هزائمنا بالمرة ، وأن ننسبها إلى عوامل خارجية لا تمت إلى ذواتنا بصلة ، ولا ترتبط بسلوكنا وأفكارنا ، ولهذا فإننا لا نفكر في إصلاح الأخطاء ، وإزالة نقاط ضعفنا.

٣ ـ لقد عبرت الآية الثالثة عن الجزاء الدنيوي بثواب الدنيا ، ولكنها عبرت

٧٢٥

عن الجزاء الأخروي بحسن ثواب الآخرة ، وهذه إشارة إلى أن ثواب الآخرة يختلف عن ثواب الدنيا اختلافا كليا ، لأن ثواب الدنيا مهما يكن فهو ممزوج بالفناء والعدم ، ويقترن ببعض المنغصات والمكروهات الذي هو من طبيعة الحياة الدنيا ، في حين أن ثواب الآخرة حسن كلّه ، إنه خير خالص لا فناء فيه ولا عناء ، ولا انقطاع فيه ولا انتهاء ، ولا كدورات فيه ولا منغصات ، ولا متاعب ولا مزعجات.

* * *

٧٢٦

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

التّفسير

تحذيرات مكررة :

هذه الآيات ـ كسابقاتها ـ نزلت بعد معركة «أحد» وبهدف تقويم وتحليل الحوادث التي وقعت أو لا بست تلكم المعركة ، ويشهد بهذا وضع هذه الآيات والآيات السابقة.

إن ما يبدو للنظر هو أن أعداء الإسلام أخذوا ـ بعد معركة أحد ـ يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة ، والمغلفة أحيانا بلباس النصيحة ، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون ، وكانوا بالاستفادة من

٧٢٧

الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين ، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم.

ولا يستبعد أن يكون اليهود والنصارى قد ساعدوا المنافقين في هذه الخطة الحاقدة ، كما حدث في المعركة نفسها حيث كان لهم حظ في الترويج للشائعة التي أطلقت حول مقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدف إضعاف معنويات المقاتلين المسلمين.

الآية الأولى من هذه الآيات تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفّار وتقول : إن إطاعة الكفّار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.

إن إطاعة الكفّار في وساوسهم وتلقيناتهم ، والإصغاء إلى دعاياتهم تعني العودة إلى النقطة الأولى ألا وهي الكفر والفساد والسقوط في حضيض الانحطاط ، وفي هذه الصورة يكونون قد ارتكبوا إثما كبيرا ستلازمهم تبعاته ، وآثاره الشريرة ، فأية خسارة أكبر من أن يستبدل الإنسان الإيمان بالكفر ، والنور بالظلام ، والهدى بالضلال والسعادة بالشقاء؟! ثمّ إنه سبحانه يؤكد بأن لهم خير ناصر وولي وهو الله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).

إنه الناصر الذي لا يغلب ، بل لا تساوي قدرته أية قدرة ، في حين ينهزم غيره من الموالي ، ويندحر غيره من الأسياد.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف ، وأحلك المراحل إذ يقول : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

ففي هذا المنقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أحد ، وخلاصهم بأعجوبة ، وهو بذلك ـ كما أسلفنا ـ يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين

٧٢٨

وغضبه على الكفّار ، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم ، ويؤمّلهم في التأييدات الإلهية القادمة.

فالوثنيون المكيون ـ كما سبق أن قلنا في قصة معركة أحد ـ مع أنهم أحرزوا في تلك المعركة انتصارا ملفتا للنظر ، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو ظاهرا ، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة ، ويأتوا على البقية الباقية من القوّة الإسلامية ، بل ولم يترددوا مطلقا في إغارة على المدينة المنورة ، والقضاء على شخص النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك المعركة.

إلّا أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعبا عجيبا ، وخوفا بالغا صرفهم عن نيتهم تلك.

على أن هذا لخوف الذي لم يكن له ما يبره أبدا سوى أنه من خواص الكفر والوثنية والإعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كلّه حتّى أنهم ـ كما نقرأ ذلك في الأحاديث ـ كانوا عند عودتهم من «أحد» واقترابهم من مكة أشبه ما يكونون بجيش منهزم مندحر ، رغم ما قد حققوه من انتصار شبه ساحق.

وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفّار في أعقاب معركة «أحد» ورأيتم نموذجا منه بأم أعينكم ، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد ، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل،ولا تأخذكم في الله لومة لائم ، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفّار كالتالي : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).

لقد كانوا قوما أهل خرافة ، لا يتبعون دليلا ، ولا يلتمسون برهانا ، ولهذا كثيرا

٧٢٩

ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم ، فيتخذون الحجر والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم ، يضعفون أمام الحوادث ضعفا عجيبا ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم ، فإذا ما حدث حادث طفيف ـ في حياتهم ـ كما لو سمعوا مثلا بأن المسلمين المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء ، عظم ذلك في عيونهم وكبر في نظرهم ، وحسبوا له أعظم حساب ، وخافوا من ذلك أشد الخوف ، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن وعصرنا الحاضر ، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث ، فيتصورون الذرة جبلا والحبة قبة ، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق ، ولم يختاروا لأنفسهم كهفا حصينا ، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم ف : (مَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) وما أسوأه من مثوى ومآل.

الإنتصار بسبب خوف العدو :

تفيد روايات كثيرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم (١).

إن هذا الموضوع يشير ـ في نفس الوقت ـ إلى أحد عوامل الإنتصار في المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين من أهم الأمور العسكرية ، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي.

ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس

__________________

(١) راجع كتاب الخصال وتفسير مجمع البيان.

٧٣٠

للسلاح من حيث الكمية والكيفية.

من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين ، فمضى يقوي فيهم روح الإيمان والحبّ للجهاد ، والاعتزاز بالشهادة ، والاتكال على الله القادر المنان وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات ، والشجاعة والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان ، الذين لم يكونوا يعتقدون إلّا بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع ، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت ، كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة ، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين هو أحد العوامل المؤثرة لانتصار المسلمين عليهم.

* * *

٧٣١

الآيات

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤))

٧٣٢

التّفسير

الهزيمة بعد الإنتصار :

قاتل المسلمون في المرحلة الأولى من معركة «أحد» بشجاعة خاصّة ، ووقفوا وقفة رجل واحد فأحرزوا انتصارا سريعا ، وبددوا جيش العدو في أقرب وقت ، فدب السرور والفرح في المعسكر الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كما أسلفنا ، إلّا أنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية.

فقد أقدم ذلك الفريق من الرماة الذين كلّفهم النبي القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحراسة الثغر الموجود في جبل «عينين» بقيادة «عبد الله بن جبير» على ترك موقعهم المهم جدا عند ما عرفوا بهزيمة قريش ، واشتغال المسلمين بجمع الغنائم ، وفسح هذا الأمر المجال لكمين من قريش في أن يهاجموا المسلمين من الخلف فيتحمل الجيش الإسلامي ضربة نكراء.

وعند ما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه:ألم يعدنا الله سبحانه بالفتح والنصر ، فلما ذا هزمنا في هذه المعركة؟

فكانت الآيات الحاضرة جوابا على هذا السؤال ، وتوضيحا للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة ، وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها : قال سبحانه:(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) (١) (بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا) (٢) (فَشِلْتُمْ).

ففي هذه العبارة يشير القرآن الكريم بل ويصرح بأن الله قد صدق وعده وأنزل النصر على المسلمين في بداية تلك المعركة ، فقتلوا العدو ، وفرقوا جمعهم

__________________

(١) «الحس» القتل على وجه الاستئصال ، وسمي القتل حسا لأنه يبطل الحس.

(٢) «إذا» ليست هنا شرطية ، بل بمعنى «حين».

٧٣٣

ومزقوا شملهم ما داموا كانوا يتبعون تعاليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتقيدون بأوامره ، وما داموا كانوا يتحلون بالثبات والاستقامة ، فلم تلحق بهم الهزيمة إلّا عند ما وهنوا وتجاهلوا أوامر القيادة النبوية الدقيقة. وهذا يعنى أن عليهم أن لا يتوهموا بأن الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط ، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم الله بحذافيرها ، والتمسك بأهدافها.

أما متى وعد الله المسلمين بالنصر في هذه المعركة ، فهناك احتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد هو تلك الوعود العامة التي يعد الله بها المؤمنين دائما حيث يخبرهم بأنّه سبحانه ينصرهم على الكافرين والأعداء.

الآخر: ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعد المسلمين بصراحة قبل أن يخوضوا معركة «أحد» بأنهم منتصرون في تلك المعركة ، ووعد النبي هو الوعد الإلهي بلا ريب.

ثمّ إنه سبحانه يقول : بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ).

ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل «عينين» يستفاد بوضوح بأن الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم ، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أن الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النبي بالبقاء هناك).

ولهذا يقول القرآن الكريم بأنّكم عصيتم من بعد ما أراكم النصر الساحق الذي كنتم تحبون ، أي أنّكم بذلتم غاية الجهد لتحقيق النصر ، ولكنكم وهنتم في حفظه ، وتلك حقيقة ثابتة أبدا أن الحفاظ على الانتصارات أصعب بكثير من تحقيقها.

أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).

٧٣٤

ففي الوقت الذي كان البعض (وهم الأغلب كما قلنا) يفكرون في الغنائم وقد سال لعابهم لها حتّى أنهم تركوا موقعهم الخطير في الجبل ، بينما بقيت جماعة أخرى قليلة مثل «عبد الله بن جبير» وبعض الرماة ثابتين في مكانهم يذبون عنه الأعداء ويطلبون الآخرة والثواب الإلهي العظيم.

وهنا تغير مجرى الأمور ، وانعكست القضية فبدل الله الإنتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبّهكم ، ويربّيكم : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).

ثمّ إن سبحانه غفر لكم كلّ ما صدر وبدر عنكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب ، وما ذلك إلّا لأن الله لا يضن بنعمة على المؤمنين ، ولا يبخل عليهم بموهبة (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

أجل ، إنه تعالى يحب المؤمنين ، ولا يتركهم وشأنهم ولا يكلهم إلى أنفسهم إلّا في بعض الأحيان ليتنبهوا ، ويثوبوا إلى رشدهم فيزدادوا التصاقا بالشريعة ، واهتماما بالمسؤوليات، ويقظة وإحساسا.

ثمّ إنه سبحانه يذكر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة «أحد» فيقول : (إِذْ تُصْعِدُونَ) (١) (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (٢) أي تذكروا إذ فررتم من المعركة ، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل ، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلا : «إليّ عباد الله ـ إليّ عباد الله فإني رسول الله» وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبدا ، ولا تلبون نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) «تصعدون» من الإصعاد وهو ـ كما في المفردات للراغب ـ الأبعاد والمشي في الأرض سواء كان ذلك في صعود أو حدور في حين أن الصعود يعني الذهاب في المكان العالي ، ولعلّ استعمال الإصعاد في الآية بدل الصعود لأن جماعة من الفارين صعدوا الجبل ، وجماعة آخرين انتشروا في الصحراء.

(٢) «أخراكم» بمعنى «ورائكم».

٧٣٥

وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) ، لما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولما أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولما بلغكم من شائعة قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد كان كلّ ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية ، وتجاهلكم لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم.

ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب ، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ).

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعرف جيدا من ثبت منكم وأطاع ، وكان مجاهدا واقعيا ، ومن هرب وعصى ، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه ، فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة ، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق وصدق فاشكروه سبحانه ، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.

وساوس الجاهلية :

اتسمت الليلة التي تلت معركة «أحد» بالقلق والاضطراب الشديدين ، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرة أخرى لاجتياح البقية الباقية من القوّة الإسلامية ، والقضاء على من تبقى من المقاتلين المسلمين ، ولعلّ بعض الأخبار كان قد نمّ إلى المسلمين عن اعتزام المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال.

ولا شكّ أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك الموقعة.

٧٣٦

بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في «أحد» فتابوا إلى الله ، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم حول المستقبل ، قد أخذهم نوم مريح ، وغلبهم نعاس هانئ ولذيذ وهم في عدة الحرب ، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان ، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل ، ولم يذوقوا لذة النوم ، فكانوا ـ من حيث لا يشعرون ولا يقصدون ـ يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة. وإلى هذا كلّه يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) (١) (نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ).

أجل ، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفا على نفوسهم ، وعلى أرواحهم ، وجريا وراء الوساوس الشيطانية ، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان ، فيما ان المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ ، وتلك النومة الطارئة الهانئة ، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة ، فإن المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتّى في هذه الدنيا ، على العكس من غير المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان ، فإنهم محرومون من الطمأنينة والراحة اللذيذة تلك.

ثمّ إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار ، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار ، إذ يقول: (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ).

إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية ، وقبل

__________________

(١) الامنة أي الأمن والنعاس هو النوم الخفيف.

٧٣٧

أن تبزغ عليهم شمس الإسلام ، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده ، ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة ، وكان يقول بعضهم للآخر : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة ، والمحنة والبلية؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا ، أو كانوا يرون ذلك محالا.

ولكن القرآن يجيبهم قائلا (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالا والأمر كلّه بيد الله ، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلا لذلك.

على أنهم لم يظهروا كلّ ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفا من أن يعدوا في صفوف الكفار : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ).

وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في «أحد» من العلائم الدالة على بطلان الإسلام ، ولذا كانوا يقولون : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لو كنا على حق لكسبنا المعركة ، ولم نخسر كلّ هذه الأرواح والنفوس.

ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.

الأول : إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة ، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكلّ إنسان ولهذا يقول سبحانه : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) فإن الذين جاء أجلهم ، وحان حين موتهم لا بدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتّى لو كانوا في مضاجعهم.

وفي الأساس فإن كلّ أمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها ، لا بدّ أن تذوق الموت، ولا محالة يصيبها القتل ، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك ، وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة ، وتخط أسطر البسالة ، لا أن

٧٣٨

تموت خانعة ، أو تقتل ذليلة على فراشها ، وما أروع ما قاله الإمام علي إذ قال عليه‌السلام: «لألف ضربة بالسيف أحب إليّ من ميتة على فراش».

والثاني : إن هذه الحوادث لا بدّ أن تقع حتّى يبدي كلّ واحد مكنون صدره ، ومكتوم قلبه ، فتتشخص الصفوف ، وتتميز جواهر الرجال ، هذا مضافا إلى أن هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئا فشيئا ، ولتخليص نياتهم ، وتقوية إيمانهم ، وتطهير قلوبهم (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ).

ثمّ يقول سبحانه : في ختام هذه الآية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم ، ليطهرها من كلّ ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق ، والشك والتردد.

* * *

٧٣٩

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

التّفسير

الذنب ينتج ذنبا آخر :

هذه الآية ناظرة أيضا إلى وقائع معركة «أحد» ، وتقرر حقيقة أخرى للمسلمين،وهي أن الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من وساوس الشيطان ، تفرز آثاما وذنوبا اخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة،والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام أخرى وإلّا فإن القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطان ، ولا تتأثر بها ، ولهذا قال سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

٧٤٠