الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وقد نقل عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «الإصرار : أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ، ولا يحدث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار» (١).

وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال : «لما نزلت هذه الآية (إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته ، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا؟

قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين.

فقال : أنا لها بكذا وكذا.

قال : لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.

فقال : لست لها.

فقال : الوساوس الخناس أنا لها.

قال : بماذا؟ قال : أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار.

فقال : أنت لها ، فوكله بها إلى يوم القيامة» (٢).

ومن الواضح أن النسيان ناشئ من التساهل ، والوساوس الشيطانية ، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها ، وخضع لتأثيرها ، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.

ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس ، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب ، بادروا ـ في أقرب فرصة ـ إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية ، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.

__________________

(١ ، ٢) ـ تفسير العياشي في ذيل الآية.

٧٠١

هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم ، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.

والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.

وكان ذلك إذ قال سبحانه : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ* وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها).

لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم ، وهذا الجزاء عبارة عن : مغفرة ربانية ، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون انقطاع أبدا.

والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولا ، ثمّ إلى المواهب المادية.

ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعالمين لا للكسالى ، الذين يتهربون من مسئولياتهم ، ويتملصون من التزاماتهم.

* * *

٧٠٢

الآيتان

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨))

التّفسير

النظر في تاريخ الماضين وآثارهم :

يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمرا ضروريا لفهم الحقائق ، لأن الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسئولية الأجيال القادمة ، ويوقفها على واجبها ، ولهذا قال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

وهذا يعني أن لله في الأمم سننا لا تختص بهم ، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء ، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والاندحار ، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين ، والتدهور والاندحار للأمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

٧٠٣

أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأمم ، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة ، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها ، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة.

وبكلمة واحدة : إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الأمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ* فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

إن آثار الماضين خير عبرة للقادمين ، وبالنظر فيها والإعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.

السياحة والسير في الأرض :

إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأمم والعهود السابقة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا وثائق التاريخ الحية والناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون.

إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأمم البائدة من روح وفكر ، وثقافات ومبادئ ، وعظمة أو صغار،في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة وسوى صور خاوية عنها.

أجل ، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام ، وبرج بابل ، وقصور كسرى ، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ ، ومئات من نظائرها الاخرى

٧٠٤

من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي ـ رغم صمتها ـ على ألف حديث وحديث ، وألف كلمة وكلمة.

ولهذا عمد كبار الشعراء إلى الاستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا منها الدروس والعبر والعظات ، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش في صدورهم،وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة ، تجاه ما تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات.

ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال :

ان آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل ـ في الحقيقة ـ مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس والروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم.

ذلك لأننا عند ما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد استعادت حياتها ، ودب فيها الروح ، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية ، وكأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأولى ، وكأن جميع الأشياء تنطق وتتحدث ، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية ، وهذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم ، وأفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة ، واللذائذ الخاطفة.

ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض ، والنظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم ، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر.

أجل ، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض ، ويوليها أهمية كبرى ، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى ، بل الدراسة آثار الأمم

٧٠٥

الماضية والتدبر فيها ، والإعتبار بها ، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض ، والذي تأمر به الآيات العديدة ومن ذلك :

١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (١).

٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٢) وآيات اخرى ...

٣ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٣).

إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة ، ويخلص الإنسان من الجمود والركود.

وقد أشار الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلامإلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله : «فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر ...

واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم ، ومدت العافية به عليهم ، وانقادت النعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة واللزوم للألفة والتحاض عليها ، والتواصي بها ، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم ، من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصدور

__________________

(١) النمل : ٧١.

(٢) الحج : ٤٦.

(٣) العنكبوت : ٢٠.

٧٠٦

وتدابر النفوس ، وتخاذل الأيدي ...» (١).

ولكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي ـ مع الأسف ـ كبقية التعاليم الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون ، بل إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين حصروا الزمان والمكان في فكرهم ، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا ، وبقوا في معزل عن التحولات الاجتماعية ، وأشغلوا أنفسهم بأمور حقيرة وقضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية.

ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والانقطاع عن الحياة الاجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض ، ويقيمون الجسور والعلاقات مع الأمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر ، ويقفوا على متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة ، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا التعليم الإسلامي الصريح ، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتّى يتحقق التحول المطلوب في حياة الأمة الإسلامية ، وتحل الحركة الصاعدة محل الجمود والتقهقر ، والتقدّم المطرد مكان التخلّف والتراجع.

ولما كان التعليم الإلهي العظيم ـ رغم كونه موجها إلى عامة المخاطبين ـ لا ينتفع به ولا يستلهمه إلّا المتقون قال سبحانه تعقيبا على الآية السابقة (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

أجل ، إن المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الأمور لأنهم يبحثون عن كلّ ما يعمق روح التقوى في نفوسهم ، ويزيد بصيرتهم بالحقّ.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢.

٧٠٧

الآيات

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

سبب النّزول

لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة ، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة «أحد». وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلا ودراسة لنتائج غزوة «أحد» وأسبابها

٧٠٨

لكونها تمثل دروسا كبيرة للمسلمين ، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم ، لأن هذه الغزوة ـ كما أسلفنا ـ انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة ، بنكسة المسلمين ، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين ، ومن جملتهم «حمزة» عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة ، عند القتلى ، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له ، ثمّ دفن جميع الشهداء عند «أحد» في جو من الحزن العميق ، فكان المسلمون بحاجة ـ في هذه اللحظات ـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الانكسار ، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درسا في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها ـ فنزلت الآيات المذكورة هنا.

التّفسير

دراسة نتائج غزوة أحد :

في الآية الأولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة ، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي ، قال سبحانه:(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أجل ، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث ، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم ، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة ، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية ، هو ـ كما في

٧٠٩

اللغة ـ كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.

على أن عبارة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها ، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم ، ولم يلحقكم ما لحقكم ، ولكن لا تحزنوا مع ذلك ، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم ، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

ثمّ إنه سبحانه يقول : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) وبذلك يعطي للمسلمين درسا آخر للوصول إلى النصر النهائي. و «القرح» جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.

فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء ، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال ـ في بدر ـ حيث قتل منهم سبعون ، وجرح وأسر كثير ، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم ، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم ، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم ، وتداركوا هزيمتهم ، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم ف (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ، فلما ذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟

ويذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين ، هذا أولا ، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانيا ، ألا وهي قوله سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ).

ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث

٧١٠

في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقا ، فالانتصارات والهزائم ، والغالبية والمغلوبية ، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول ، وكلّ ذلك يزول ويتبدل ، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها ، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة فى معركة واحدة وما يتبعها من الآثار امور دائمة ثابتة باقية ، بل لا بدّ من الانتفاع بسنة التحول ، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها ، وتحويل الهزيمة إلى انتصار ، فالحياة صعود ونزول ، وأحداثها في تحول مستمر ، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) (١) (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّا عن أدعياء الإيمان.

وبعبارة أخرى : إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أمة من الأمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب ، لأن الانتصارات وحدها تخدع وتغري ، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين ، وتوجب ظهور القيم،وتعرف بها حقائق الرجال.

ثمّ إنه في قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة،بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة ، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن ، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.

إن الأمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة ، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي

__________________

(١) «الأيام» جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يطلق على فترات الانتصارات الكبرى في حياة الشعوب ، و «نداولها» من المداولة بمعنى إذا صار الشيء من بعض القوم إلى البعض الآخر.

٧١١

وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.

ويمكن أن يكون المراد من «الشهداء» هنا هم الذين يشهدون ، فيكون معنى قوله (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـ شهودا ـ لتعرفوا كيف أن عدم الانضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة ، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.

وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الإنتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء ، ولا تقع حوادث مشابهة.

ثمّ إنه تعالى يختم هذا الاستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم ، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.

الحوادث المرة ميدان تربية :

أجل ، إن لمعركة «أحد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثارا ، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها ، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات ، ولهذا قال سبحانه : (وَلِيُمَحِّصَ) (١) (اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي أن الله أراد ـ في هذه الواقعة ـ أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الانتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الاختبار ، ويزنوا فيها أنفسهم كما ـ قال الإمام علي عليه‌السلام: «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال».

__________________

(١) «التمحيص» والمحص أصله : تخليص الشيء ممّا فيه من عيب.

٧١٢

ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية.

والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن استاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال له : «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة ١٣٢٠) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول : «لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة» أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر (١).

وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحرا ساحقا وكاملا. وإلى هذا أشار بقوله : (وَيَمْحَقَ) (٢) (الْكافِرِينَ).

فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا ـ في دوامة الحوادث ـ من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر ، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب ، وهذا يعني أنه لا بدّ أولا من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير. أي التطهر ثمّ التطهير.

وفي الحقيقة كما أن القمر ـ مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به ـ يفقد نوره شيئا فشيئا أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلّا عند ما تنسحب الشمس من الأفق ، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين ، وخلصوا من رواسب الضعف والاعوجاج والانحراف.

__________________

(١) المنار : ج ٤ ص ٤٦.

(٢) المحق : النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.

٧١٣

فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر ، ومراتب الصفاء والتقوى ، وبين انزياح الكفر والشرك واندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الاجتماعية.

هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأولى منها المقدمة والثانية النتيجة.

ثمّ إنه يفيدنا القرآن درسا من واقعة «أحد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد اختياركم لاسم المسلم ، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟

لو كان الأمر كذلك لكان هينا جدا ، ولكن ليس كذلك حتما ، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات ، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئا.

وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف ، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.

مزاعم جوفاء

ثمّ إنه كان هناك جماعة من المسلمين ـ بعد معركة «بدر» واستشهاد فريق من أبطال الإسلام ـ يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون : ليتنا نلنا الشهادة في «بدر» ، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية ، أو يجهلون حقيقة أنفسهم ، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلا ، فسرعان ما وقعت معركة أحد الرهيبة المؤلمة ،

٧١٤

فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة ، وحققوا أمانيهم ، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذبا وتظاهرا ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتّى فروا خوفا وجبنا ، وظنا بنفوسهم وأرواحهم ، تاركين الساحة للعدو الغاشم ، فنزلت هذه الآية توبخهم وتعاتبهم إذ تقول : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فلما ذا فررتم وهربتم من الشيء الذي كنتم تتمنونه طويلا وكيف يفر المرء من محبوبه ، وهو يراه وينظر إليه؟

دراسة سريعة لعلل الهزيمة في «أحد» :

لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أحد ، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة ، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت ، وهذه العوامل هي :

١ ـ الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه ، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الإنتصار ، وإن الله ـ لذلك سينزل عليهم نصره ، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين ، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للانتصار من إختيار الخطة الصحيحة ، والإعداد القوى اللازمة ، واليقظة القتالية.

٢ ـ عدم الانضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل ، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.

٣ ـ حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي

٧١٥

العهد بالإسلام إلى الانصراف إلى جمع الغنائم ، وترك ملاحقة العدو ، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم ، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.

٤ ـ الغرور الناشئ عن الإنتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو ، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته ، ويستصغرون شأنه.

هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.

* * *

٧١٦

الآيتان

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥))

سبب النّزول

إن الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضا إلى حادثة أخرى من حوادث معركة «أحد» وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أن محمّدا قد قتل.

ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها «عمرو بن قمئة الحارثي» النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه ، فسأل الدم ، وغطى

٧١٧

وجهه الشريف (١) فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله ، ولكن «مصعب بن عمير» وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه حتّى قتل دون النبي ، فتوهم العدو أن النبي قد قتل ، ولهذا صاح : إلّا أن محمّدا قد قتل ، ليخبر الناس بذلك الأمر.

وقد كان لانتشار هذا الخبر أثره الإيجابي في معنويات الوثنيين بقدر ما ترك من الأثر السيء في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالا شديدا ، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي ، وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال ، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين ، بينما كان هناك أقلية من المسلمين مثل الإمام علي عليه‌السلام وأبو دجانة وطلحة وآخرون ، يصرون على الثبات والمقاومة ويدعون الناس إليه.

فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم : «يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموتوا على ما مات عليه» ثمّ شد بسيفه وحمل على الكفّار وقاتل حتّى قتل ، ثمّ لم يمض وقت طويل حتّى تبين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قيد الحياة ، وتبين على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه ، فنزلت الآية الأولى ـ من الآيتين الحاضرتين ـ توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة.

التّفسير

لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد :

تعلّم الآية الأولى من هاتين الآيتين حقيقة أخرى للمسلمين استلهاما من

__________________

(١) ولقد جاء في بعض كتب التاريخ أن هذه الإصابات لحقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جراء هجمات أفراد عديدين من العدو.

٧١٨

أحداث معركة «أحد» إذ تقول : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونال الشهادة في هذه المعركة ـ افتراضا ـ ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين ، بل إن هذا الواجب مستمر ، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده ، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالدا إلى الأبد.

إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والانتهاء ، فإن ارتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتّى لو كان ذلك هو النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معناه توقف كلّ الفعاليات وكلّ تقدّم بفقدانه وغيابه عن الساحة ، وهذا النوع من الارتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الاجتماعي.

إنّ تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية اخرى من آيات صدقه ، ودليلا آخر يدل على حقانيته ، لأن قيامه ودعوته لو كان لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه الفكرة ، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كلّ شيء ، ولكن القادة الصادقين كالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفعلون مثل هذا أبدا ، ولا يشجعون على مثل هذه الأفكار ، بل يكافحونها بقوة ، ويقولون : إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا تنتهي بموتنا وبغيابنا ، ولهذا يقول القرآن الكريم : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)؟ وهو بذلك يستنكر ما دار في خلد البعض أو قد يدور من أن كلّ شيء في هذا الدين ينتهي بغياب النبي ـ القائد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧١٩

والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) و «الأعقاب» جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم ، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والارتداد الواقعي ، وهو أكثر إيحاء وأقوى تصويرا من لفظة الردة والرجوع والعودة ، لأنه بمعنى السير القهقري.

ثمّ إنه سبحانه يقول : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) يعني أن العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون الله سبحانه ، لأن أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة ، بل فقدان كلّ ما حصلتموه من العزّة والكرامة والمجد بسرعة.

ثمّ إنه لما كان هناك ـ في معركة أحد ـ أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات،وانتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول ، كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق ، ولهذا قال سبحانه : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم ، ووصفهم بالشاكرين لأنهم أحسنوا الاستفادة والانتفاع بالنعم في سبيل الله ، وهذا أفضل مصاديق الشكر.

إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة ، فعليهم جميعا أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الإستراتيجية والأهداف العليا والمصيرية بالأشخاص ، بل لا بدّ أن يلتفوا حول الأسس والمبادئ الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير ، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو القتل حتّى لو كان ذلك هو النبيّ الأكرم ، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة ، ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران ، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ وحركة أساسا.

٧٢٠