الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

المبارك ، وأما المسلمين الذين فروا من ساحة المعركة ، ثمّ ندموا على ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها واعتذروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه العفو.

فالآية تقول : إن العفو عنهم ، أو معاقبتهم على ما فعلوا ، أمر يعود إلى الله تعالى ، وأن النبي لن يفعل شيئا بدون إذنه سبحانه.

وهناك تفسير آخر ، وهو أن يعتبر قوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة اعتراضية، وتكون جملة (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) جملة معطوفة على (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) وتعتبر هذه الآية متصلة بالآية السابقة.

وعلى هذا يكون المراد من مجموع الآيتين ، السابقة والحاضرة هو : إن الله سيمكنكم من وسائل النصر ويصيب الكفّار بإحدى امور أربعة : إما أن يقطع طرفا من جيش المشركين، أو يردهم على أعقابهم خائبين مخزيين ، أو يتوب عليهم إذا أصلحوا ، أو يعذبهم بظلمهم ، وعلى كلّ حال فإنه سيعامل كلّ طائفة وفق ما تقتضيه الحكمة والعدالة ، وليس لك أن تتخذ أي موقف من عندك إذ كلّ ذلك إلى الله تعالى.

ولقد نقلت في سبب نزول هذه الآية روايات عديدة منها أنه لما كان من المشركين يوم «أحد» ما كان من كسر رباعية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشجه حتّى جرى الدم على وجهه الشريف ، ولحق بالمسلمين ما لحق من الخسائر في الأرواح والإصابات في الأبدان قلق النبي على مصير أولئك القوم ، وفكر في نفسه ، كيف يمكن أن تهتدي تلك الجماعة المتمادية في غيها وعنادها وقال : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم»؟ فنزلت الآية وأخبره تعالى فيها أنه ليس إليه إلّا ما امر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى ، فهو ليس مسئولا عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.

تصحيح خطأ :

لا بدّ هنا من الانتباه إلى نقطتين :

٦٨١

١ ـ إن المفسّر المعروف صاحب تفسير «المنار» يعتقد أن هذه الآية تعلم المسلمين درسا كبيرا في مجال الاستفادة من الوسائل والأسباب الطبيعية للنصر ، وإن وعد الله لهم بإنزال النصر عليهم ، ليس بمعنى أن للمسلمين أن يتجاهلوا الوسائل الحربية ، والتخطيط العسكري ، وما شاكل ذلك من الأسباب المادية اللازمة للقتال ولتحقيق الإنتصار ، وانتظار أن يدعو لهم النبي لينزل عليهم النصر الالهي ، دون الأخذ بالأسباب القتالية المتعارفة ، ولهذا جاءت الآية تخاطب النبي قائلة (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بمعنى أن أمر النصر لم يوكل إليك ، بل هو إلى الله ، وقد جعل الله لتحقيقه سننا ونواميس يجب أن يستخدمها الناس حتّى يتحقّق لهم النصر والغلبة (وبالتالي فإن دعاء النبي وإن كان مؤثرا ومفيدا ، إلّا أن له موارد استثنائية خاصّة).

وهذا الكلام وإن كان منطقيا في حد ذاته ، إلّا أنه لا يلائم ما جاء في ذيل الآية إذ يقول سبحانه : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) ولهذا لا يمكن تفسير الآية بما قاله هذا الكاتب.

٢ ـ إن هذه الآية وإن كانت تنفي أن يكون للنبي الحقّ في أن يغفر للكفار والمشركين أو يعذبهم ، إلّا أنها لا تتعارض مع ما يستفاد من الآيات الاخرى من تأثير دعائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعفوه وشفاعته ، لأن المقصود في الآية الحاضرة هو نفي أن يكون للنبي كلّ ذلك على نحو الاستقلال ، وعلى هذا لا ينافي أن يكون له كلّ ذلك (من العفو أو المجازاة) بإذن الله سبحانه.

فله بالتالي أن يعفو ـ بإذن الله ـ لمن أراد ، أو يجازي حيث تصح المجازاة ، كما أن له أن يهيئ عوامل النصر وأسباب الظفر ، بل وله ـ بإذن الله ـ أن يحيي الموتى كما كان يفعل المسيح عليه‌السلام بإذنه سبحانه.

إن الذين تمسكوا بقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) لنفي وإنكار قدرة

٦٨٢

الرسول على هذا الأمر نسوا ـ في الحقيقة ـ الآيات القرآنية الأخرى في هذا المجال.

فالقرآن الكريم يقول في سورة النساء الآية ٦٤ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

فاستغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عد ـ طبق هذه الآية ـ من العوامل المؤثرة لمغفرة الذنوب ، وسوف نوضح هذه الحقيقة في أبحاثنا القادمة عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله.

* * *

٦٨٣

الآية

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

التّفسير

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تأكيد لمفاد الآية السابقة ، فيكون المعنى هو : أن العفو أو المجازاة ليس بيد النبي ، بل هو الله الذي بيده كلّ ما في السماوات وكلّ ما في الأرض ، فهو الحاكم المطلق لأنه هو الخالق ، فله الملك وله التدبير ، وعلى هذا الأساس فإن له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين ، أو يعذّب ، حسب ما تقتضيه الحكمة ، لأن مشيئته تطابق الحكمة :(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

ثمّ إنه سبحانه يختم الآية بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تنبيها إلى أنه وإن كان شديد العذاب ، إلّا أن رحمته سبقت غضبه ، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.

وهنا يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره أحد كبار العلماء المفسّرين الإسلاميين

٦٨٤

وهو العلّامة الطبرسي من سؤال وجواب حول هذه الآية ، لكونه على اختصاره في غاية الأهمية من الناحية الاعتقادية ، فقد ذكر في ذيل هذه الآية أنه : سئل بعض العلماء : كيف يعذب الله عباده بذنوبهم مع سعة رحمته؟

فقال : «رحمته لا تغلب حكمته ، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا».

بمعنى أن الرحمة الإلهية لا تكون على أساس عاطفي كما هو الحال فينا ، بل إن رحمته ممتزجة دائما مع حكمته ، وحكمته توجب عقوبة المذنبين (إلّا في موارد خاصّة).

* * *

٦٨٥

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))

التّفسير

حول الارتباط بين الآيات القرآنية :

الآيات السابقة ـ كما عرفت ـ تحدثت حول معركة «أحد» وحوادثها ووقائعها ، والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون ، غير أن هذه الآيات الثلاث ، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الاقتصادية ، والاجتماعية ، والتربوية ، ثمّ يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع ، حديثه حول معركة «أحد» ووقائعها.

ويمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث استغراب ودهشة للبعض ، إلّا أن الانتباه إلى مبدء أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر ، ويكشف الغطاء عن سر هذا الأسلوب. وذلك المبدأ هو :

٦٨٦

إن القرآن ليس كتابا كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام الفصول والأبواب الخاصة ، بل هو كتاب نزل «نجوما» وبصورة تدريجية طوال ثلاثة وعشرين عاما ، وذلك طبقا للاحتياجات التربوية المختلفة ، وفي أماكن وأزمنة مختلفة ، فيوم حدثت معركة أحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عمّا يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية ، ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان بعض البرامج والتعاليم الاقتصادية كالموقف من الربا ، أو بعض المسائل الحقوقية كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات التي تتناول هذه الأمور.

فيستنتج من هذا أنه قد لا يوجد أي ارتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما قبلها أو ما بعدها ، وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الارتباط ـ كما يحاول بعض المفسّرين ذلك ـ أو أن نتكلف افتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله سبحانه الاتصال والارتباط بينها ، لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة ، والمناسبات المتنوعة وحسب الاحتياجات والظروف المنفصلة.

على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطة ـ على وجه ـ وهو أن جميعها تؤلف برنامجا كاملا ومنهاجا متكاملا مترابطا لصنع الإنسان وصياغته، وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها ، كما أنها بمجموعها نزلت لإيجاد مجتمع فاضل ، واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية والمعنوية.

وبما قلناه يعلل عدم ارتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة.

٦٨٧

تحريم الرّبا في مراحل :

كلنا يعرف أن أسلوب القرآن في مكافحة الانحرافات الاجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأمور خطوة فخطوة ، فهو أولا يهيئ الأرضية المناسبة ، ويطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته ، ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية (ويتبع هذا الأسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع ، وكانت رقعة انتشاره واسعة).

كما أننا نعلم أيضا أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصابا ـ بشدة ـ بداء الربا ، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحا للمرابين. وقد كان هذا الأمر مبعثا للكثير من المآسي الاجتماعية ، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أسلوب المراحل ، فحرم الربا في مراحل أربع :

١ ـ يكتفي في الآية ٣٩ من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم ، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.

٢ ـ يشير ـ ضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة ـ إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات ، إذ يقول في الآية ١٦١ من سورة النساء : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ).

٣ ـ يذكر في الآية الحاضرة ـ كما سيأتي تفسيرها المفصل ـ حكم التحريم بصراحة،ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا ، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

٦٨٨

٤ ـ وأخيرا أعلن في الآيات ٢٧٥ إلى ٢٧٩ من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا ، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.

التحريم في الآية الحاضرة :

قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله (أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

والمراد من «الربا الفاحش» هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية ، بمعنى أن تضم الزيادة المفروضة أولا على رأس المال ثمّ يصبح المجموع موردا للربا ، بمعنى أن الزيادة ثانيا تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأولى) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانيا إلى ذلك المبلغ ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع (١).

وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة ، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله.

ولهذا قال القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل ـ في الجاهلية ـ إذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر،وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.

__________________

(١) فإذا كان أصل المبلغ المدفوع إلى المديون أول مرّة هو (١٠٠) والزيادة المفروضة (١٠) فإذا تخلف عن الأداء ضمت الزيادة (١٠) إلى المبلغ (١٠٠) فيكون رأس المال (١١٠) وأضيفت إلى المجموع زيادة بنسبة (١١ خ) فإذا تخلف عن الأداء ثانيا ، ضمت الزيادة (١١) إلى (١١٠) فكان المجموع (١٢١) وهكذا فصاعدا.

٦٨٩

وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.

ولا شكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء ، فلا يمكن الارتداع عنه الّا بتقوى الله ، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ولكن هل يكفي الأمر بتقوى الله والترغيب في الفلاح في صورة ترك الربا؟ أم لا بدّ من التلويح بالعذاب الأخروي للمرابين؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مرّ في الآية السابقة.

ويوحي التعبير بـ «الكافرين» أن أخذ الربا لا يتفق أساسا مع روح الإيمان ، ولهذا ينتظر المرابين ما ينتظر الكافرين من النار والعذاب.

كما يستفاد من ذلك أن النار أعدت أساسا للكافرين ، وينال العصاة والمذنبون من هذه النار بقدر شباهتهم بالكفار ، وتعاونهم معهم.

ثم إنه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشيء من التشجيع والترغيب للمطيعين والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

* * *

٦٩٠

الآيات

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

التّفسير

السباق في مضمار السعادة :

بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم ، وبشرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأولى من هذه الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق ، والمسابقة المعنوية التي تهدف

٦٩١

الوصول إلى الرحمة الإلهية ، والنعم والعطايا الربانية الخالدة (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

(وَسارِعُوا) تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد ـ باستخدام المزيد من السرعة ـ أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة ، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة.

إن القرآن الكريم يستفيد هنا ـ في الحقيقة ـ من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده ، وكان العمل من النوع الروتيني ، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته ، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف ، ونيل تلك الجائزة.

ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو «المغفرة» في الدرجة الأولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب ، فلا بدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولا ، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي ، ونيل الزلفى لديه.

هذا هو الهدف أول.

وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو «الجنة» التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

ثمّ إن هناك تفاوتا قليلا بين هذه الآية وبين الآية ٢١ من سورة الحديد (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

ففي هذه الآية ذكرت لفظة «المسابقة» مكان «المسارعة» كما ذكرت السماء بصورة المفرد المصدّر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم.

٦٩٢

كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل سعة السماء والأرض ، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء.

ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.

وينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد ـ كما عليه اهل اللغة ـ هو السعة.

وهنا سؤالان :

أولا : هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل ، أم أنهما توجدان فيما بعد على أثر أعمال الناس؟

ثانيا : إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلا فأين تقعان ، وقد قال سبحانه بأن عرض الجنة عرض السماوات والأرض.

هل الجنة والنار موجودتان الآن؟

يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجودا خارجيا وفعليا ، وأن ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي :

١ ـ ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية اخرى لفظة «أعدت» وما شابه ذلك من مادة هذه اللفظة ، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار (١).

فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلا ، وإن كانتا تتوسعان فيما

__________________

(١) راجع الآيات التالية : التوبة : ٨٩ ، التوبة : ١٠٠ ، الفتح : ٦ ، البقرة : ٢٤ ، آل عمران : ١٣١ ، آل عمران : ١٣٣ ، الحديد : ٢١.

٦٩٣

بعد على أثر أعمال الناس. (تأمل).

٢ ـ نقرأ في الآيات ١٣ و ١٤ و ١٥ المرتبطة بالمعراج في سورة «والنجم» قوله سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) وهذا يشهد مرّة أخرى بأن الجنة موجودة فعلا.

٣ ـ يقول سبحانه في سورة «التكاثر» الآية ٥ و ٦ و ٧ (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ).

أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم ، بل لرأيتموها رأى العين.

ثمّ إن هناك روايات ترتبط بالمعراج ، وروايات أخرى تحمل شواهد على هذه المسألة(١).

أين تقع الجنة والنار؟

إذا ثبت أن الجنة والنار موجودتان بالفعل يطرح سؤال آخر هو : أين تقعان إذن؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين :

الأول : إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا ، فإننا نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا ، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في باطن هذا العالم ، ولو أننا ملكنا وسيلة اخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم أيضا ، ولو قفنا على موجودات اخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر ، ولا تدخل ضمن نطاق حواسنا الفعلية.

والآية المنقولة عن سورة «التكاثر» وهي قوله سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ

__________________

(١) لا بد من الانتباه إلى أن الجنة المبحوث عنها هنا والتي ترتبط بالعالم الآخر هي غير الجنة التي أسكن آدم وحواء فيها وكانت قبل خلقهما.

٦٩٤

الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) هي الاخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي.

كما ويستفاد من بعض الأحاديث أيضا أنه كان بين الأتقياء والأولياء من قد زودوا ببصيرة ثاقبة ، ورؤية نفاذة استطاعوا بها أن يشاهدوا الجنة والنار مشاهدة حقيقة.

ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي :

لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازا قويا للإرسال الإذاعي يبث في العالم ـ وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية ـ تلاوات شيقة لآيات القرآن الكريم. بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة بنفس القوّة.

لا شكّ أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا العادية ، ولا أن نعلم بوجودهما إلّا إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فورا أن نلتقط ما بثته كلّ واحدة من تينك الإذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء ، ودون عناء.

وهذا المثال وإن لم يكن كاملا من جميع الجهات إلّا أنه يصور لنا حقيقة هامة ، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها بحواسنا ، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة.

الثاني : إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون ، وبعبارة اخرى : إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم ، تماما كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا ، إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه ولكنه مع ذلك غير منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه ، بل يقطع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه ، وهكذا الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة.

وإذا وجدنا القرآن يقول : بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو

٦٩٥

لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئا أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة الجنة ، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات والأرض ، ولم يكن بد من هذا ، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين ـ فيما لو عقل ـ حجم الدنيا التي سينزل إليها ، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي يدركه وهو في ذلك المحيط.

ثمّ إنه تبين من ما مرّ الجواب على السؤال الآخر ، وهو إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟

لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأخرى تقع في باطن هذا العالم ، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضا (كما تبين من مثال جهازي الإرسال).

وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطا بهذا العالم الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار محيطة بهذا العالم ، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع من النار.

سيماء المتقين :

لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أعدت للمتقين ، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمسا من صفاتهم الإنسانية السامية هي :

١ ـ إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال ، في الشدّة والرخاء ، في السرّاء والضرّاء (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).

وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين ، وحب الخير الذي تغلغل في نفوسهم ، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية

٦٩٦

في جميع الظروف والأحوال.

ولا شكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال ، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.

يمكن أن يقال : وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عند ما يكون فقيرا؟

والجواب واضح تمام الوضوح :

أولا : لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه ، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.

وثانيا : لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب ، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله ، ثروة كان أو علما أو جاها أو غير ذلك من المواهب الإلهية الاخرى.

وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء ، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا ـ بذلك ـ في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من «البخل».

إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب ، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حسابا مستقلا وخاصا ، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض ، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه.

فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار ـ فقراء وأغنياء ـ قدم مبلغا صغيرا لمساعدة الآخرين من عباد الله ، ولتقدم الأهداف والمشاريع الاجتماعية ، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة ، مضافا إلى ما يجنونه من هذا العمل من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق ، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.

٦٩٧

والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأن هذه الآيات تذكر ـ في الحقيقة ـ ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافا إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.

٢ ـ أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ).

ولفظة «الكظم» تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها ، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها ، وقد استعملت كناية عمن يمتلئ غضبا ولكنه لا ينتقم.

وأما لفظة «الغيظ» فتكون بمعنى شدّة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عند ما يرى ما يكره.

وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعري الإنسان ، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله.

ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة ، ولهذا تجعل الآية «كظم الغيظ» و «كبح جماح الغضب» الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين.

قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا».

وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنويا ، وفي تقوية روح الإيمان لديه.

٣ ـ أنهم يصلحون عمن ظلمهم (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ).

إن كظم الغيظ أمر حسن جدا ، إلّا أنه غير كاف لوحده ، إذ من الممكن أن

٦٩٨

لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء ، فلا بدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم الغيظ» بخطوة أخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.

ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو ، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام ، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.

٤ ـ أنهم محسنون : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.

وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسيء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه ، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضا ، وذلك بالإحسان إليه ، وبذلك يكسب وده وحبه ، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.

وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولا ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه ، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.

إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.

ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجه ، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن الله تعالى يقول : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي. قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال : «قد عفوت وقد عفى الله

٦٩٩

عنك» قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله (١).

إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.

٥ ـ إنهم لا يصرون على ذنب : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).

و «الفاحشة» مشتقة أصلا من الفحش ، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب ، ولا يختص بالزنا خاصة ، لأن الفحش ـ في الأصل ـ يعني «تجاوز الحدّ» الذي يشمل كلّ ذنب.

هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين ، فالمتقون مضافا إلى الاتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية ، إذا اقترفوا ذنبا ، (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا).

يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب ما دام يتذكر الله ، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماما واعترته الغفلة ، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة ـ لدى المتقين ـ حتّى تزول عنهم سريعا ويذكرون الله ، فيتداركون ما فات منهم ، ويصلحون ما أفسدوه.

إن المتقين يحسون إحساسا عميقا بأنه لا ملجأ لهم إلّا الله ، فلا بدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ).

وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافا إلى «الفاحشة» «ظلم النفس» (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة ، و «ظلم النفس» إشارة إلى الذنوب الصغيرة.

ثمّ إنه سبحانه تأكيدا لهذه الصفة قال : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) راجع تفسير الدر المنثور ، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.

٧٠٠