الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

ذكر أسرار المسلمين عندهم ، وبهذا كان اليهود الذين يتظاهرون بالمودة للمسلمين ـ وهم ألدّ أعداء الإسلام في باطنهم ـ يطلعون على أسرار المسلمين ، فنزلت هذه الآيات تحذر أولئك الرجال من المسلمين من مغبة هذه الصداقات والعلاقات ، وتوصيهم بأن لا يتخذوا اليهود بطانة يسرون إليهم بأسرارهم ، لأنهم لا يتورعون عن استخدام كلّ وسيلة ممكنة ـ حتّى هذه الأسرار ـ لإلحاق الأذى والضرر بكم ، لأنهم يهمهم ـ دائما ـ أن تكونوا في نصب وتعب ومحن ومشاكل ، وعناء وشقاء.

التّفسير

لا تتخذوا الأعداء بطانة :

هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار ، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية ، وتحذر المؤمنين ـ ضمن تمثيل لطيف ـ بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم ، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) (١) (مِنْ دُونِكُمْ) ....

وهذا يعني أن الكفّار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم ، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم ، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا:(لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) (٢).

__________________

(١) «البطانة» مأخوذة من بطانة الثوب ، وهي الوجه الذي يلي البدن لقربه منه ، ونقيضها «الظهارة» والبطانة في المقام كناية عن خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويطلعون على أسراره.

(٢) «الخبال» في الأصل بمعنى ذهاب شيء ، وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

٦٦١

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع أولئك الكفّار ـ بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك ـ من إضمار الشر للمسلمين ، وتمني الشقاء والعناء لهم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنهم ـ لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم ـ يحاولون دائما أن يراقبوا تصرفاتهم ، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم ، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحيانا في أحاديثهم وكلماتهم ، عند ما تقفز منهم كلمة أو أخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ).

وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في إحدى كلماته إذ يقول : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» (١).

إنه لا بدّ أن يرشح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل ، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر ، وتبدو الدخائل.

وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم ، ثمّ إنّه سبحانه يقول : (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلّا شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثمّ إنه تعالى يضيف قائلا : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه ، فهو يوقفكم على وسيلة جدا فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم ، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الحكمة ٢٦.

٦٦٢

البغض في مقابل الحبّ :

يحسب بعض المسلمين أن في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم ، وهو خطأ فظيع ، وتصور باطل ، يقول سبحانه : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ).

إنه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم : إنكم تحبون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار ، وتظهرون لهم المودة والمحبة ، والحال أنهم لا يحبونكم أبدا ، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء ـ على السواء ـ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنه منزل من السماء.

إن هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).

ولا شكّ أن هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع ، إذن فقل لهم يا رسول الله:(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) واستمروا على هذا الحنق فإنه لن يفارقكم حتّى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها ، ولم يغفل عنها سبحانه : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

ثمّ إنّ الله يذكر علامة اخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها).

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

وعلى هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين ، وسلامة حوزتهم من

٦٦٣

كيد الأعداء ، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم ، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.

تحذير إلى المسلمين :

حذر الله سبحانه المسلمين في هذه الآية من أن يتخذوا أعداءهم بطانة يسرون إليهم بأسرارهم وأمورهم وهو تحذير عام لا يختص بزمان دون زمان ، ولا بمكان دون مكان ، ولا بطائفة من المسلمين دون طائفة.

فلا بدّ أن يحذر المسلمون من هذا العمل في جميع الأزمنة والأمكنة ، حفاظا على أمن المسلمين وكيانهم.

ولكننا مع الأسف نجد الكثيرين من أتباع القرآن قد غفلوا عن هذا التحذير الإلهي المهم ، فتعرضوا لتبعات هذا العمل وآثاره السلبية.

فها نحن نجد أعداء كثيرين يحيطون بالمسلمين من كلّ جانب ، يتظاهرون بمحبة المسلمين وصداقتهم ، وربّما أعلنوا تأييدهم في بعض الأمور ، ولكنهم بما يظهرون ـ في بعض الأحيان ـ من مواقف عدائية يكشفون عن كذبهم ، ومع ذلك ينخدع المسلمون بما يتظاهر هؤلاء الأعداء به من صداقة وحب وتأييد ، ويعتمدون عليهم أكثر ممّا يعتمدون على إخوانهم من المسلمين المشاركين لهم في العقيدة والمصير. في حين أن الأعداء والأجانب لا يريدون للأمة الإسلامية إلّا الشقاء والتأخر ، وإلّا الهلاك والدمار ، ولا يألون جهدا في إثارة المشاكل في وجه المسلمين وإيجاد الصعوبات في حياتهم.

ولا نذهب بعيدا ، فإن الأعوام الأخيرة شهدت حربين بين المسلمين وأعدائهم الصهاينة ، ففي الحرب الاولى (حرب حزيران) تحمل المسلمون هزيمة ساحقة ونكسة قاطمة، في حين أنهم في حربهم الثانية (حرب رمضان) استطاعوا

٦٦٤

تحقيق انتصارات باهرة على الأعداء وتغيّرت الخارطة السياسية لصالحهم.

وتمكنوا من دفن اسطورة الجيش الإسرائيلي والرعب والخوف في صحراء «سيناء» وهضبة «الجولان» منذ الأيّام الاولى للحرب ، وذاق المسلمون أخيرا طعم النصر لأول مرّة في العقود الأخيرة.

ماذا حصل في هذه المدّة القصيرة التي شهدت هذا التحول الكبير؟ الجواب بحاجة إلى بحث طويل ، ولكن من المتيقّن أن أحد الأسباب المؤثرة في تلك الهزيمة وهذا النصر هو أن الأجانب والذين كانوا يظهرون الود والصداقة للمسلمين كانوا على علم بأمر الحرب وتفاصيلها. ولكن في الحرب الثانية لم يطلع على أسرار الحرب سوى اثنان أو ثلاثة من رؤساء البلدان الإسلامية ، وهذا هو أحد عوامل النصر ، وشاهد حيّ على عظمة هذا الدستور السماوي والقرآني.

* * *

٦٦٥

الآيتان

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

التّفسير

من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة «أحد» لأن القرائن التي توجد في الآيتين الحاضرتين يستفاد منها أن هاتين الآيتين نزلتا بعد معركة أحد ، وتشير إلى بعض وقائعها المرعبة ، وعلى هذا أكثر المفسّرين.

في البدء تشير الآية الأولى إلى خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة لاختيار المحل الذي يعسكر فيه عند «أحد» وتقول (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ).

أي واذكر عند ما خرجت غدوة من المدينة تهيئ للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة «أحد».

٦٦٦

ولقد كانت بين المسلمين في ذلك اليوم آراء مختلفة وكثيرة ـ كما ستعرفها قريبا ـ حول الموطن الذي ينبغي أن يعسكر فيه المسلمون ، بل وكيفية مقابلة الأعداء القادمين ، وأنه يتعيّن عليهم أن يتحصنوا بالمدينة ، أم يخرجوا إليهم ويحاربوهم خارجها.

ولقد كان هناك خلاف شديد في الرأي بين المسلمين في هذه الأمور ، فاختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد المشاورة رأي الأغلبية ، والتي كانت تتألف ـ في الأكثر من الشباب المتحمسين ، وهو الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها ، بعد الاستقرار عند جبل «أحد».

ومن الطبيعي أن يكون هناك بين المسلمين من كان يخفي أشياء وأمورا يحجم عن الإفصاح بها لعلل خاصة ، ومن الممكن أن تكون عبارة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ناظرة إلى هذه الأمور المكنونة ، فهو سبحانه سميع لما يقولون ، عليم بما يضمرون.

ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى زاوية أخرى من هذا الحدث إذ تقول : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما «بنو سلمة» من الأوس و «بنو حارثة» من الخزرج.

فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة ، وهمتا بذلك.

وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممّن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها ، وقد خالف النبي هذا الرأي ، مضافا إلى أن «عبد الله بن أبي سلول» الذي التحق بالمسلمين

٦٦٧

على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة ، لأن النبي عارض بقاءهم في عسكر المسلمين ، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.

ولكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار ، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين ، ولهذا قال سبحانه (وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.

ثمّ لا بدّ من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة «أحد» بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفّار ، إشارة إلى نموذج واحد من هذه الحقيقة ، لأن النبي ـ كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله ـ لم يسمح ببقاء اليهود ـ الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين ـ فى المعسكر الإسلامي ، لأنهم كانوا أجانب على كلّ حال ، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة ، وأن يكونوا موضع اعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة.

غزوة أحد

سبب هذه الغزوة :

هنا لا بدّ من الإشارة ـ قبل أي شيء ـ إلى مجموعة الحوادث التي وقعت في هذه الغزوة ، فإنه يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية ، أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنه قتل منهم سبعون شخصا وأسر سبعون شخصا ، وقال أبو سفيان يا معشر قريش لا تدعوا

٦٦٨

نساءكم يبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم ينتقم لقتلى بدر.

وهكذا ألبت قريش الناس على المسلمين وحركتهم لمقاتلتهم وسرت نداءات «الانتقام الانتقام» في كلّ نواحي مكّة.

وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي ، وخرجوا من مكّة في ثلاث آلاف فارس وألفي راجل ، مجهزين بكلّ ما يحتاجه القتال الحاسم ، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام ، ليثبتوا في ساحات القتال.

العباس يرفع تقريرا إلى النبي :

لم يكن العباس عمّ النبي قد أسلم إلى تلك الساعة ، بل كان باقيا على دين قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب ، ولهذا فإنه عند ما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي ، بادر إلى إخبار النبي ، محمّلا غفاريا (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكّة وعزم قريش. وكان الغفاري يسرع نحو المدينة ، حتّى أبلغ النبي رسالة عمه العباس ، ولما عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر التقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه ، وطلب منه أن يكتم ذلك بعض الوقت.

النبي يشاور المسلمين

عمد النبي ـ بعد أن بلغته رسالة عمه العباس ـ إلى بعث رجلين من المسلمين إلى طرق مكّة والمدينة للتجسس على قريش ، وتحصيل المعلومات الممكنة عن تحركاتها.

٦٦٩

ولم يمض وقت طويل حتّى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول قوات قريش وأن هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.

وبعد أيّام استدعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف ، وما يمكن أو يجب اتخاذه للدفاع ، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها ، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها. فاقترح جماعة قائلين «لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلّا كان الظفر لهم علينا ، وكان هذا هو ما قاله «عبد الله بن أبي».

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يميل إلى هذا الرأي نظرا لوضع المدينة يومذاك ، فهو كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها ، إلّا أن فريقا من الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبوا لقاء العدو ، خالفوا هذا الرأي الذي كان عليه الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : اخرج بنا إلى عدونا ، وقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا ، لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا ، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله ، وقال مثلها الآخرون.

وهكذا تزايدت الطلبات بالخروج من المدينة ومقابلة العدو خارجها حتّى أصبح المقترحون بالبقاء أقلية.

فوافقهم النبي ـ رغم أنه كان يمل إلى البقاء في المدينة ـ احتراما لمشورتهم ، ثمّ خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين خارج المدينة واختار الشعب من «أحد» لاستقرار الجيش الإسلامي باعتباره

٦٧٠

أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.

المسلمون يتهيئون للدفاع :

لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة ، ولذلك فإنه بعد انتهاء المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد الله والثناء عليه : «انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه ، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم».

ثمّ تولى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه قيادة المقاتلين وقد أمر بأن تعقد ثلاث ألوية ، دفع واحد منها للمهاجرين ، واثنين منها للأنصار ، ثمّ إن النبي قطع المسافة بين المدينة و «أحد» مشيا على الأقدام ، وكان يستعرض جيشه طوال الطريق ، ويرتب صفوفهم ، يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته : وسار إلى أن وصل «رأس الثنية» وعندها وجد كتيبة كبيرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا؟ قالوا : هؤلاء خلفاء عبد الله بن أبي اليهودي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسلموا؟ فقيل : لا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا لا تنتصر بأهل الكفر على أهل الشرك» فردهم ، ورجع عبد الله بن أبي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثة مائة رجل (١).

ولكن المفسّرين كتبوا أن «عبد الله بن أبي» رجع من أثناء الطريق مع جماعة من أعوانه ، يبلغون ثلاثمائة رجل ، لأنه لم يؤخذ برأيه في الشورى.

وعلى أي حال فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشكّ والنفاق استقر عند الشعب من «أحد» في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل «أحدا» خلف ظهره واستقبل المدينة. وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح صف صفوفهم وتعبأ للقتال.

فأمّر على الرمّاة «عبد الله بن جبير» والرماة خمسون رجلا جعلهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على

__________________

(١) السيرة الحلبية المجلد الثاني الصفحة ٢٣٣.

٦٧١

الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلا :

«إن رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتّى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم».

ومن جانب آخر ، وضع أبو سفيان «خالد بن الوليد» في مأتي فارس كمينا يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا : «إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتّى تكونوا وراءهم».

بدء القتال :

ثمّ اصطف الجيشان للحرب ، وراح كلّ واحد منهما يشجع رجاله على القتال بشكل من الأشكال ويحرضهم على الجلاد بما لديه من وسيلة.

وقد كان أبو سفيان يحرض رجاله باسم الأصنام ويغريهم بالنساء الجميلات.

وأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان يحث المسلمين على الصمود والاستقامة ، مذكرا إياهم بالنصر الإلهي والتأييدات الربانية.

ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات «الله أكبر ، الله أكبر» تدوي في جنبات ذلك المكان ، وتملأ شعاب «أحد» وسهولها ، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.

وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة ، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلو لهم.

ولما علم «خالد» بهزيمة المشركين وأراد أن يتسلل من خلف الجبل ليهجم على المسلمين من الخلف شقه الرماة بنبالهم ، وحالوا بينه وبين نيته.

هذه الهزيمة القبيحة التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب ، بظن أن

٦٧٢

المشركين هزموا هزيمة كاملة ، حتّى أن بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم «عبد الله بن جبير» إياهم بما أوصاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبق معه إلّا قليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على المسلمين.

فتنبه «خالد بن الوليد» إلى قلة الرماة في ذلك المكان ، فكر راجعا بالخيل (وعددهم مائتا رجل كانوا معه في الكمين) فحملوا على «عبد الله بن جبير» ومن بقي معه من الرماة وقتلوهم بأجمعهم ، ثمّ هجموا على المسلمين من خلفهم.

وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم ، وداخلهم الرعب، فاختل نظامهم ، وأكثر المشركون من قتل المسلمين فاستشهد ـ في هذه الكرة ـ «حمزة» سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان ، وفر بعضهم خوفا ، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل جدا يدافعون عنه ويردون عنه عادية الأعداء ، وكان أكثرهم دفاعا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورد الهجمات العدو ، وفداء بنفسه هو «الإمام علي بن أبي طالب» عليه‌السلام الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة النظير ، حتّى أنه تكسر سيفه فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيفه المسمى بذي الفقار ، ثمّ تترس النبي بمكان ، وبقي علي عليه‌السلام يدفع عنه حتّى لحقه ـ حسب ما ذكره المؤرخون ـ ما يزيد عن ستين جراحة في رأسه ووجهه ، ويديه وكلّ جسمه المبارك ، وفي هذه اللحظة قال جبرائيل «إن هذه لهي المواساة يا محمّد» فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنه مني وأنا منه» فقال جبرائيل : «وأنا منكما».

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبرائيل بين السماء والأرض وهو يقول : «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي» (١). وفي هذه اللحظة صاح صائح: قتل محمّد.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان المجلد الأول الصفحة ٤٩٧.

٦٧٣

من الصائح : قتل محمّد؟

يذهب بعض المؤرخين إلى أن «ابن قمئة» الذي قتل الجندي الإسلامي البطل «مصعب بن عمير» وهو يظن أنه النبي ، هو الذي صاح «واللات والعزى : لقد قتل محمّد».

وسواء كانت هذه الشائعة من جانب المسلمين ، أو العدو فإنها ـ ولا ريب ـ كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكّة بظنّه أن النبي قد قتل وانتهى الأمر ، ولو لا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتّى يأتي على آخرهم لما كانوا يحملونه من غيظ وحنق على النبي ، بل ولما كانوا يتركون ساحة القتال حتّى يقتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم لم يجيئوا إلى «أحد» إلّا لهذه الغاية.

لم يرد ذلك الجيش الذي كان قوامه ما يقارب خمسة آلاف ـ وبعد تلك الانتصارات ـ أن يبقى ولو لحظة واحدة في ساحة القتال ، ولذلك غادرها في نفس الليلة إلى مكّة ، وقبل أن يندلع لسان الصباح.

إلّا أن شائعة مقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجدت زلزالا كبيرا في نفوس بعض المسلمين ، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.

وأما من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا ـ بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم ـ إلى أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشعب من «أحد» ليطلع المسلمون على وجوده الشريف ويطمئّنوا إلى حياته ، وهكذا كان ، فإنهم لما عرفوا رسول الله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول ولا مهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فرارهم في تلك الساعة الخطيرة ، فقالوا يا رسول الله أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين.

وهكذا لحقت بالمسلمين ـ في معركة أحد ـ خسائر كبيرة في الأموال

٦٧٤

والنفوس ، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال ، كما جرح جماعة كبيرة ، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درسا كبيرا ضمن انتصاراتهم في المعارك القادمة ، وسوف نعرض بتفصيل عند دراسة الآيات القادمة لآثار هذه الحادثة الكبرى بإذن الله سبحانه.

* * *

٦٧٥

الآيات

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧))

التّفسير

المرحلة الخطيرة من الحرب :

بعد انتهاء معركة «أحد» عاد المشركون المنتصرون إلى مكّة بسرعة ، ولكنّهم بدا لهم في أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الإنتصار دون أن يكملوه ويجعلوه ساحقا ، أليس من الأحسن أن يعودوا إلى المدينة ، وينهبوها ويلحقوا بالمسلمين

٦٧٦

مزيدا من الضربات القاضية وأن يقتلوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان لا يزال حيّا ليتخلصوا من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرّة.

لهذا صدر قرار بالعودة إلى المدينة ، ولا ريب أنه كان أخطر مراحل معركة «أحد» بالنظر إلى ما كان قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر ، الذي كان قد سلب منهم كلّ طاقة للدخول في معركة جديدة أو لاستئناف القتال ، فيما كان العدو في ذروة القوّة والروحية العسكرية التي كانت تمكن العدو من تحقيق انتصارات جديدة ، وإحراز النتيجة لصالحه ، فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت معروفة سلفا.

وقد بلغ خبر العودة هذه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا شهامته البالغة ، وقدرته المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لانتهى تاريخ الإسلام وحياته عند تلك النقطة.

في هذه المرحلة الحساسة بالذات نزلت الآيات الحاضرة لتقوي روحية المسلمين وتصعد من معنوياتهم ، وفي أعقاب ذلك صدر أمر من النبي إلى المسلمين بالتهيؤ لمقابلة المشركين ، فاستعد جميع المسلمين حتّى المجروحين (ومنهم الإمام علي عليه‌السلام الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة) لمقابلة المشركين ، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك.

فبلغ هذا الخبر مسامع زعماء قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتع بها المسلمون وظنوا أن عناصر جديدة التحقت بالمسلمين وإن هذا يمكن أن يغير نتائج المواجهة الجديدة لصالح المسلمين ، ولذلك فكروا في العدول عن قرارهم بمهاجمة المدينة ، حفاظا على قواهم ، وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة ، وانتهت القضية عند هذا الحدّ.

وإليك شرحا للآيات التي نزلت لتقوّي روحية المسلمين ، وتجبر ما نزل بهم من هزيمة في هذه المعركة.

٦٧٧

فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد الله لهم في «بدر» (١) إذ قال سبحانه (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والاطمئنان إلى قدراتهم ، والأمل بالمستقبل ، فقد نصرهم الله وهم على درجة كبيرة من الضعف ، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم ٣١٣ مع امكانيات بسيطة قليلة ، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع امكانيات كبيرة).

فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا الله ، وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ثمّ تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في «بدر» إذ قالت :(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) أي اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟

نعم أيها المسلمون لقد تحقّق لكم ذلك في «بدر» نتيجة صبركم واستقامتكم، واليوم يتحقّق لكم ذلك أيضا إذا أطعتم أوامر النبي ، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) (٢) (هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

على أن نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الإنتصار لكم بل النصر من عند الله ، وليس نزول الملائكة إلّا لتطمئن قلوبكم (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ

__________________

(١) «بدر» سميت بدر لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين).

وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ : بدرا.

(٢) «الفور» السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.

٦٧٨

الْحَكِيمِ) فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر ، وهو القادر على تحقيقه.

ثمّ إنه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ).

وهذه الآية وإن ذهب المفسّرون في تفسيرها مذاهب مختلفة ، إلّا أنها ـ في ضوء ما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة بمعونة الآيات نفسها وبمعونة الشواهد التاريخية ـ واضحة المراد بيّنة المقصود كذلك. فهي تقصد أن تأييد الله للمسلمين بإنزال الملائكة عليهم إنما هو لأجل القضاء على جانب من قوّة العدو العسكرية ، وإلحاق الذلة بهم.

يبقى أن نعرف أن «طرف» الشيء يعني جانبه وقطعة منه. وأمّا «يكبتهم» فيعني الرد بعنف وإذلال.

ثمّ إن هاهنا أسئلة تطرح نفسها حول كيفية نصرة الملائكة للمسلمين ومساعدتهم على تحقيق الإنتصار فسنجيب عليها ـ بإذن الله ـ لدى تفسير الآيات ٧ ـ ١٢ من سورة الأنفال.

* * *

٦٧٩

الآية

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨))

التّفسير

وقع بين المفسّرين في تفسير هذه الآية كلام كثير ، إلّا أن ما هو مسلّم تقريبا هو أن الآية الحاضرة نزلت بعد «معركة أحد» وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة ، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضا.

ثمّ إنّ هناك معنيين يلفتان النظر من بين المعاني المذكورة في تفسير هذه الآية وهما :

أولا : إن هذه الآية تشكل جملة مستقلة ، وعلى هذا تكون جملة (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بمعنى «إلّا أن يتوب عليهم» ويكون معنى مجموع الآية كالتالي : ليس لك حول مصيرهم شيء ، فإنهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه ، بل ذلك إلى الله ، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم ، والمراد بالضمير «هم» إمّا الكفّار الذين ألحقوا بالمسلمين ضربات مؤلمة ، حتّى أنهم كسروا رباعية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشجوا جبينه

٦٨٠