الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وصفات الجلال والجمال.

أمّا المراد من (ذكر الله) في هذه الآية فهناك أقوال كثيرة بين المفسّرين ، ولكنّ الظاهر أنّها تشمل جميع الأذكار الإلهيّة بعد أداء مناسك الحجّ ، وفي الحقيقة أنّه يجب شكر الله تعالى على جميع نعمه وخاصّة نعمة الإيمان والهداية إلى هذه العبادة العظيمة ، فتكتمل الآثار التربويّة للحجّ بذكر الله.

بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم. مجموعة لا تفكّر إلّا بمصالحها الماديّة ولا تتجّه في الدعاء إلى الله إلّا من هذه المنطلقات الماديّة فتقول (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١).

والمجموعة الثانية تتحدّث عنهم الآية بقولها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين ، فبعض لا يفكر إلّا بالمنافع الماديّة الدنيويّة ولا يريد من الله سواها ، فمن البديهي أنّه يبقى له شيء في الآخرة.

ولكنّ الطائفة الثانية اتسعت آفاقهم الفكريّة فاتجّهوا إلى طلب السّعادة في الدنيا باعتبارها مقدّمة لتكاملهم المعنوي وطلب السّعادة في الآخرة ، فهذه الآية الكريمة توضّح في الحقيقة منطق الإسلام في المسائل الماديّة والمعنويّة وتدين الغارقين في الماديّات كما تدين المنعزلين عن الحياة.

أمّا ما المراد من (الحسنة)؟ فهناك تفاسير مختلفه لها ، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الحسنة : (إنّها السّعة في الرّزق والمعاش وحس الخلق

__________________

(١) «خلاق» كما يقول الراغب تعني الفضائل الأخلاقية التي يكتسبها ، وهنا على قول الطبرسي أنها تعني النصيب (الذي هو نتيجة الفضائل الأخلاقية).

٦١

في الدنيا ورضوان الله والجنّة في الآخرة)(١).

ولكنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّها تتضمّن معنى العلم والعبادة في الدنيا والجنّة في الآخرة ، أو المال في الدنيا والجنّة في الآخرة ، أو الزوجة الصالحة في الدنيا والجنّة في الآخرة ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المعاني (من أوتي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار)(٢).

وواضح أنّ تفسير الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب الماديّة والمعنويّة ، وما ورد في الرواية أعلاه أو في كلمات المفسّرين فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق ، فما تصوّره بعض المفسّرين من أنّ الحسنة الواردة في الآية بصورة المفرد النكرة لا تشمل على كلّ خير ، ولهذا وقع الاختلاف في مصداقها بين المفسّرين (٣)،إنّما هو اشتباه محض ، لأنّ المفرد النكرة تارة يأتي بمعنى الجنس ومورد الآية ظاهرا من هذا القبيل ، فالمؤمنون ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ يطلبون من الله تعالى أصل الحسنة بدون أن ينتخبوا لها مصداقا من المصاديق ، بل يوكلون هذا الأمر إلى مشيئته وإرادته وفضله تعالى (٤).

وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الّذين طلبوا من الله الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٨.

(٣) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٨٩.

(٤) في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٩٠.

٦٢

واحتمل البعض أنّها تتعلّق بكلا الطائفتين ، فالطائفة الاولى يتمتّعون بالنعم والمواهب الدنيويّة ، والطائفة الثانية يتمتّعون بخير الدنيا والآخرة كما ورد ما يشبه هذه الآيات في سورة الإسراء الآية ١٨ إلى ٢٠ حيث يقول : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).

ولكنّ التفسير الأوّل منسجم مع الآيات مورد البحث أكثر.

عبارة (نصيب) مع أنّها جاءت بصورة نكرة ، ولكنّ القرائن تدلّ على أنّ النكرة هنا لبيان العظمة ، والتعبير بقوله (مِمَّا كَسَبُوا) ليست إشارة إلى قلّة النصيب والثواب والجزاء ، لأنّه من الممكن أن تكون (من) ابتدائيّة لا تبعيضيّة.

أمّا التعبير بقوله (كسب) في جملة (ممّا كسبوا) فتعني ـ كما ذهب إليه كثير من المفسّرين ـ الدّعاء لطلب خير الدنيا والآخرة ، فاختيار هذا التعبير قد يكون إشارة إلى نكتة لطيفة وهو أنّ الدعاء بذاته يعتبر من أفضل العبادات والأعمال ، ومن خلال التحقيق في عشرات الآيات الواردة في القرآن المجيد في مادّة «كسب» ومشتقاتها يستفاد جيّدا أنّ هذه المفردة تستعمل أيضا لغير الأعمال الجسميّة أيضا ، أي الأعمال القلبيّة والروحيّة كما ورد في الآية ٢٢٥ من سورة البقرة (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

فلا عجب أن يكون الدّعاء إذا نوع من الكسب والاكتساب وخاصّة إذا لم يكن الدعاء باللّسان فقط بل مقترن بجميع وجود الإنسان.

أمّا جملة (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) الواردة في الفقرة الأخيرة من الآية فإنّها تشير إلى سرعة حساب الله تعالى لعباده ، فإنّه يجازي بالثواب والعقاب نقدا وبدون تأخير ، فقد ورد في الحديث الشريف (إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم

٦٣

في مقدار لمح البصر) (١).

وهذا لأنّ علم الله ليس كعلم المخلوقات المحدود حيث يشغلها موضوع عن موضوع آخر.

إضافة إلى ذلك أنّ محاسبة الله لا ينبغي أن تستلزم زمانا ، لأنّ أعمالنا ذات آثار باقية في جسم وروح الموجودات المحيطة بنا وفي الأرض وأمواج الهواء ، فالإنسان يشبه من هذه الجهة السّيارات المجهّزة بقياس السرعة والمسافة حيث تقرأ فيها كلّ لحظة مقدار عملها وسيرها ولا يحتاج بعدها إلى كتاب لحساب المسافات الّتي طوتها السيّارة طيلة عمرها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٨ ، ذيل الآية.

٦٤

الآية

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

التّفسير

آخر كلام عن الحجّ :

هذه الآية في الحقيقة آخر آية وردت في بيان مناسك الحجّ وإبطال السّنن الجاهليّة في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا الله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الأمر بقرينة الآيات السابقة ناضرة إلى الأيّام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الّتي تسمّى بلسان الروايات (أيّام التشريق) ويتّضح من اسم هذه الأيّام أنّها فترة إشراق الرّوح الإنسانية في ظل تلك المناسك العظيمة.

وفي الآية ٢٨ من سورة الحجّ ورد الأمر بذكر الله في (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهنا

٦٥

وردت عبارة في (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) فالمعروف هو أنّ الأيّام المعلومات تعني العشرة الأيّام من بداية ذي الحجّة ، وأما (أيّام معدودات) فالمراد بها أيّام التشريق المذكورة آنفا ، ولكنّ بعض المفسّرين أورد احتمالات أخرى غير ذلك في شرح الآية ٢٨ من سورة الحجّ ، وسيأتي في شرح الآية ٢٨ من سورة الحجّ (١).

أمّا المراد من (أذكار) فقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشر صلاة في هذه الأيّام (ابتداء من صلاة الظهر من يوم العيد حتّى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي (الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام).

ثمّ تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) وهذا التعبير بالحقيقة إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر الله بين يومين أو ثلاثة أيّام.

وجملة (لمن أتقى) ظاهرا قيد للتعجيل في اليومين ، أي لا إثم على من تعجّل واختار اليومين أو الثلاثة ، وهذا التعجيل يختص بمثل هؤلاء الأشخاص.

وجاء في روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من التقوى هنا هي تجنّب الصيد ، أي أنّ الأشخاص حين الإحرام يجب عليهم تجنّب الصيد أو جميع تروك الإحرام ، فيمكنهم البقاء بعد عيد الأضحى يومين في منى ولأداء مناسكهم وذكر الله تعالى ، أمّا من لم يتّق فيجب عليه البقاء ثلاثة أيّام هناك لأداء المراسم العباديّة وذكر الله تعالى.

__________________

(١) بالرغم من أن «أيام» جمع «يوم» وهو مذكر ، إلّا أنه وصف بـ «معلومات» و «معدودات» بصيغة المؤنث ، وقيل أن ذلك لأن الأيّام مركبة من ساعات ، ولعلّه إشارة إلى أنكم ينبغي أن تذكروا الله طيلة ساعات هذه الأيّام.

٦٦

وذهب البعض إلى أنّ جملة (لا إثم عليه) إشارة إلى نفي كلّ إثم وذنب عن زوّار بيت الله الحرام ، أي أنّ الحاج بعد أداء مناسكه عن ايمان وإخلاص ووعي يغفر له ما تقدّم من ذنبه وتزول رواسب المعاصي وأدران الذنوب من قلبه ونفسه ، ويخرج من هذه العبادة التربويّة خالصا طاهرا نقيّا.

فمع أنّ هذا المعنى صحيح بذاته ، إلّا أنّ ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.

وفي نهاية الآية نلاحظ أمرا كليّا بالتّقوى حيث تقول الآية (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فعلى أحد هذين التفسيرين المذكورين آنفا يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانيّة في الحجّ تطهّر الإنسان من الذنوب السّابقة كيوم ولدته امّه ، ولكن عليكم تقوى الله والحذر من الوقوع في الذنب مرّة اخرى.

* * *

٦٧

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦))

سبب النّزول

ذكر في سبب نزول هذه الآيات أمران :

١ ـ أنّ هذه الآيات نزلت في (الأخنس) بن شريف) وكان رجلا وسيما عذب البيان يتظاهر بالإسلام وحبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان كلّما جلس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسم بالله على إيمانه وحبّه للرّسول ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغدق عليه من لطفه وحبّه كما هو مأمور به ، ولكنّ هذا الشخص كان منافقا في الباطن وفي حادثة نزاع بينه وبين بعض المسلمين هجم عليهم وقتل أحشامهم وأباد زرعهم (وبهذا أظهر ما في باطنه من النّفاق)(١).

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي وغيره من التفاسير.

٦٨

٢ ـ ومن المفسّرين من نقل عن ابن عباس أنّ الآية المذكورة نزلت في سريّة (الرجيع) حيث بعث رسول الله مجموعة من الدعاة إلى القبائل المتوطّنة أطراف المدينة ، فدبّرت لهم مؤامرة لئيمة استشهدوا فيها (١).

ولكنّ سبب النّزول الأوّل أكثر انسجاما مع مضمون الآيات ، وعلى أيّ حال فالدرس الّذي تقدّمه الآية عام وشامل.

التّفسير

مصير المفسدين في الأرض :

الآية الاولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

(ألد) تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة ، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي الرقبة وكناية عن الشخص الّذي يغلب الأعداء من كلّ جانب ، و (خصام) لها معنى مصدري وهو الخصومة والعداوة.

ثمّ تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنيّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهي :

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

أجل ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم ، لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا في الأرض مطلقا ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة ، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلّا أنّهم في الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشيّة.

واحتمل كثير من المفسّرين أنّ المراد بقوله (إذا تولّى) أي إذا حكم ، لأنّ

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، قلمّا روى هذا السبب النّزول.

٦٩

التولّي من الولاية بمعنى الحكومة ، فيكون معنى الولاية حينئذ أنّ المنافقين إذا حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله ، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر (١).

(حرث) بمعنى الزّراعة ، (نسل) بمعنى الأولاد ، وتطلق أيضا على أولاد الإنسان وغير الإنسان ، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كلّ الموجودات الحيّة أعمّ من الأحياء النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة.

وذكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير اخرى منها : أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرينة الآية الشريفة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (٢) والمراد بالنسل هم الأولاد ، أو يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام المذكور في مجمع البيان).

وعلى كلّ حال فإنّ التعبير (يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كلام مختصر وجامع لكلّ المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

والآية الاخرى تضيف (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (٣) فتشتعل في قلبه نيران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.

فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة النّاصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهيّة ، بل يستمر على عناده وارتكابه للآثام والمنكرات مغرورا ، فلا يكون جزاءه إلّا النار ، ولذلك يقول في نهاية الآية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٩٦ ـ وكذلك أشير إلى هذا البحث في ذيل هذه الآية في تفسير مجمع البيان وأبو الفتوح الرازي ، ولكن هذا الرأي لا يناسب سبب النّزول ، وإن كان مفهوم الآية واسعا.

(٢) البقرة ، ٢٣٣.

(٣) العزة في مقابل الذلّة في الأصل. ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة ، (روح المعاني) والراغب يرى أنها بمعنى عدم المغلوبية في الأصل ، ومجازا تأتي بمعنى الغرور.

٧٠

وفي الحقيقة أنّ هذه هي أحد الصّفات القبيحة والذّميمة للمنافقين حيث أنّهم لا يستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب ، وهذه الصفات الذّميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلى درجات الإثم ، فمن البديهي أنّ مثل هذه الأخشاب اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلّا بنار جهنّم.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الله عزوجل وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات في الآيات المذكورة آنفا ، الاولى : أنّ كلامهم يخدع الإنسان ، الثانية : أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة ، الثالثة : أنّهم ألدّ الأعداء ، الرّابعة : أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا يرحمون أحدا من الإنسان والحيوان والزرع ، الخامسة : أنّهم وبسبب الغرور والتكبّر لا يقبلون ايّة نصيحة.

* * *

٧١

الآية

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

سبب النّزول

روى «الثعلبي» مفسّر أهل السنّة المعروف في تفسيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد الهجرة إلى المدينة خلّف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدّار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال له : اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك علي ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما:أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه.

فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي بخّ بخّ

٧٢

من مثلك يا علي يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة ، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي الآية.

ولهذا سمّيت هذه اللّيلة التاريخية بليلة المبيت ، ويقول ابن عباس نزلت الآية في علي حين هرب رسول الله من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ونام علي على فراش النبي.

ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المجلّد (٣) الصفحة (٢٧٠) «إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلّا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة» (١).

التّفسير

التضحيّة الكبرى في دولة الهجرة التاريخيّة :

بالرّغم من أنّ الآية محل البحث تتعلّق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتضحية الإمام علي ومبيته على فراش النبي ، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلّي ـ ما في سائر الآيات القرآنية ـ عامّ وشامل ، وفي الحقيقة أنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة الّتي تتحدّث عن المنافقين.

تقول الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

الطائفة السّابقة الّتي تحدّثنا عنها هي مجموعة من الأشخاص المعاندين والمغرورين والأنانيّين الّذين يحاولون أن يحقّقوا لهم بين المجتمع عزّة وكرامة

__________________

(١) ذكر صاحب الغدير : ج ٢ ص ٤٤ و ٥٥ أنّ ليلة المبيت رواها الغزالي في إحياء العلوم : ج ٣ ص ٢٣٨ ، والصفوي في نزهة المجالس : ج ٢ ص ٢٠٩ ، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة ، والسبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص : ص ٢١ ، ومسند أحمد : ج ١ ص ٤٨ وتاريخ الطبري : ج ٢ ص ٩٩ ـ ١٠١ ، وابن هشام في السيرة : ج ٢ ص ٢٩١ ، والحلبي في السيرة : ج ٢ ص ٢٩ ، وتاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٩.

٧٣

عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

أما هذه الطائفة الثّانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيله ، ولا يبتغون سوى رضاه ، ولا يطلبون عزّة ورفعة الّا بالله ، وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدّين والدنيا ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام.

ومن هنا يتّضح أنّ جملة (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) بمثابة النقطة المقابلة لما ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) وقد تكون إشارة إلى أن الله عزوجل في الوقت الّذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن الإنسان.

وممّا يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان ، والمشتري هو الله تعالى ، والبضاعة هي النفس ، وثمنها هو رضوان الله تعالى ، في حين نرى في موارد اخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنّة الخالدة والنجاة من النار ، من قبيل قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (١).

ولعلّه لهذا السبب كانت (من) في الآية مورد البحث تبعيضية (ومن الناس) ، يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضا عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى ، وأمّا في الآية (١١١) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقا رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنّة الخالدة.

__________________

(١) التوبة : ١١١.

٧٤

ويحتمل أيضا في تفسير جملة (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وتناسبها مع بداية هذه الآية أنّ المراد هو بيان هذه الحقيقة أنّ وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده ، إذ لو لم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد المضحّين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لانهدمت أركان الدّين والمجتمع ، لكنّ الله سبحانه بفضله ومنّه يدفع بهؤلاء الصّديقين الأولياء خطر أولئك الأعداء.

فعلى أيّ حال ، فهذه الآية ومع الالتفات إلى سبب النزول المذكور آنفا تعدّ أعظم الفضائل لإمام علي عليه‌السلام الواردة في اكثر المصادر الإسلامية ، وكانت في صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاويه العدو اللّدود للإمام علي عليه‌السلام أن يرشي (سمرة بن جندب) بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثا مختلطا ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبد الرحمن ابن ملجم ، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية ، ولكنّ أحدا لم يقبل منه حديثه المجعول (١).

* * *

__________________

(١) نقل قصّة هذه المعاملة «ابن أبي الحديد» في شرح «نهج البلاغة» ج ٤ ، ص ٧٣.

٧٥

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩))

التّفسير

السّلام العالمي في ظلّ الإسلام :

بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السّلم والصلح وتقول :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

(سلم) و (سلام) في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة ، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة ، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى ، ويستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلّا في ظلّ الإيمان،وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب نار الحروب في الدنيا،لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الاضطرابات والنّزاعات دائما ، فلو لا القوّة المعنويّة للايمان لكان الصّلح

٧٦

مستحيلا ، بل يمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعيّة إلى الصّلح والسّلام يستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.

واضح أنّ الاطر الماديّة الأرضيّة (من اللّغة والعنصر و...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتّصال محكمة تربط بين قلوب النّاس ، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات ، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب ، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يعتبر نموذجا بارزا إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء ، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على اعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة.

ويحتمل أيضا في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) عند ما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة ، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته (١). ثمّ تضيف الآية (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقد مرّ بنا في تفسير الآية (١٦٨) من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث

__________________

(١) تفسير الكبير ، المجلد الخامس ، ص ٢٠٧ ـ روح المعاني ، ج ٢ ، ص ٩٧ ، ولكن نظر أن «كافة» تشمل جميع المؤمنين وليس كافة تشريعات الإسلام (في الحقيقة حال لـ «الذين آمنوا» لا السلم) والتفسير الأوّل أصح في النظر.

٧٧

يسمّيها القرآن (خطوات الشيطان).

(خطوات) جمع «خطوة» وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة ، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف (إنّ بدو القتال اللّطام).

فتارة تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الاولى الاشتعال لظى المعارك والحروب.

وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة.

وذكر بعض المفسّرين أنّ (عبد الله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها ، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان (١).

ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة ، فيجب التصدّي للخطوات الاولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.

وتتضمّن جملة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) برهانا ودليلا حيّا حيث تقول إنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر ، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلّا المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان ، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.

الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فلو انحرفتم وسرتم مع

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثاني ، ص ٨٣٢.

٧٨

وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهيّة.

المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن ، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق،فلو انحرفتم فأنتم المقصّرون ، فاعلموا أنّ الله قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.

(بيّنات) بمعنى الدلائل الواضحة ، ولها مفهوم واسع يستوعب الدلائل العقليّة،وكذلك ما يتّضح للإنسان عن طريق الوحي أو المعجزات.

* * *

٧٩

الآية

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

التّفسير

توقّع غير معقول :

قد يبدو للوهلة الاولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعا من الإبهام والتعقيد ، لكنّ ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها.

الآية تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول معقبّة على الآيات السابقة : أليست كلّ هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الهلكة وانقاذه من براثين عدوّه المبين (الشيطان) ، هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في وسط الغمامة ويطرح عليهم من الآيات والدلائل أوضح ممّا سبق ، وإنّ ذلك محال ، وعلى فرض كونه غير محال فإنّه لا ضرورة لذلك : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (١).

أمّا ما هو المراد من «قضي الأمر» الوارد في الآية؟

ذهب المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان أنّ معناها انتهاء حساب البشر في

__________________

(١) «ظلل» جمع «ظلة» يقال لكلّ شيء يصنع ظلا ، و «غمام» بمعنى السحاب.

٨٠